نفحات القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-97-0
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٠٨

ولا شكّ في أنّ الآية دليل على انحصار (الخلق) و (الأمر) في الله عزوجل (١) ، وعليه فإنّ الآية تبيّن (توحيد الخالقية) بوضوح.

ولكن وقع بين المفسّرين كلام حول المراد من (الأمر) ، فبعض فسّره بمعنى تدبير العالم والأنظمة والقوانين الجارية وذلك بقرينة الآيات الكثيرةالتي ورد فيها هذا المعنى نظير (فَالْمُدَبِّراتِ أَمراً). (النازعات / ٥)

والآية : (اللهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجرِىَ الْفُلكُ فِيهِ بِأَمرِهِ). (الجاثية / ١٢)

الآية : (النُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِامرِهِ). (النحل / ١٢)

وآيات عديدة اخرى.

أمّا بعضهم الآخر فقد اعتبرها بمعنى الأمر التشريعي والدستور الإلهي المقابل للنهي ، فيكون معنى الآية : أنّ الخلق خاصّ بالله والأمر والدستور التشريعي يصدر عنه أيضاً ، مثل : (فَليَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن امرِهِ). (النور / ٦٣)

وفي تفسير ثالث فُسّر (الأمر) بمعنى الإرادة مثل : (انَّ اللهَ بِالِغُ امرِهِ). (الطلاق / ٣)

وفي تفسير رابع فسّر عالم (الخلق) بعالم المادّة ، وعالم (الأمر) بعالم المجرّدات وذلك بقرينة قوله تعالى : (يَسالُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن امرِ رَبِّى). (الاسراء / ٨٥)

والواضح أنّ التفسير الأوّل من بين هذه التفاسير أكثر انسجاماً مع الآيات القرآنية الاخرى ومع آية البحث أيضاً ، لأنّ القرآن الكريم يريد أن يذكّر المشركين بهذه الحقيقة ، وهي أنّ الخلق وتدبير المخلوقات مختصّ بالله والشاهد على ذلك قوله : (رَبُّ الْعَالَمِينَ) في ذيل الآية ، وعليه فإنّ الأصنام لا دور لها لا في الخلق ولا في التدبير والربوبية ، فلماذا تعبد إذن؟!

* * *

__________________

(١) تقديم (له) على الخلق والأمر دليل على الحصر.

٢٤١

توضيحان

١ ـ الخطوة الاولى نحو الشرك في الخالقية

لعلّ المجوس ليسوا أوّل من جعل لله شريكاً في الخالقية ، ولكنّهم أكثر شهرة من غيرهم على الأقل.

إنّهم قسّموا الموجودات إلى مجموعتين : حسنة وسيّئة (خير وشرّ) وافترضوا لكلّ مجموعة إلهاً (يزدان وأهريمن) أو النور والظلمة ، ودليلهم هو أنّ مخلوق الإله تكون له سنخية معه ، وعليه لا يمكن أن يكون إله الخير وإله الشرّ واحداً ، فإله الخير خير ، وإله الشرّ شرّ!

لو كانت موجودات العالم مقسّمة على هذا النحو لأمكن أن يكون الاستدلال صحيحاً ، لكن الحقيقة هي أنّه لا يوجد في عالم الوجود إلّاالخير ، وما يطلق عليه (الشرّ) أمر عدمي أو أنّه ذو جهة نسبية ، فمثلاً نقول : الفقر شرّ ، في حين أنّ الشرّ ليس إلّاالفقدان لمستلزمات الحياة ، والفقدان أمر عدمي والعدم ليس شيئاً ليكون له خالق.

أو نقول : إنّ لسعةَ النحل ومخالب الحيوان المفترس شرّ وذلك عندما نجعل أنفسنا محوراً ثمّ نحكم بهذا النحو ، في حين لو نظرنا إلى النحل نجد أنّ الابرة فيه وسيلة للدفاع وطرد المهاجمين ، والأنياب والمخالب في الحيوانات المفترسة وسيلة للصيد والتغذّي ولها جانب حيوي بالنسبة إليها فهي إذن خير ، وعليه فإنّ الكثير من الموجودات تتّخذ صورة (شرّيرة) نتيجة لأفكارنا.

وقد يكون جهلنا هو السبب في اعتبار الأشياء شرّاً وذلك لعدم علمنا بفوائدها ، فمثلاً من الممكن أن نعتبر وجود الجراثيم شرّاً لأنّها تسبّب الأمراض ولكن إذا لاحظنا نظرية بعض العلماء في أنّ الجراثيم المسبّبة للأمراض تدعو خلايا الإنسان إلى معركة دائمة وفيها تكون أكثر نشاطاً ونمواً ورشداً ، ولولا الجراثيم لكان معدّل طول الإنسان لا يتجاوز الثمانين سنتمتراً ، ولأصبح ذا جسم ضعيف وعاجز ، سنذعن عندما ندرك ذلك أنّ إطلاق الشرّ عليها ناشىء من جهلنا ، وبخاصّة أنّ الذي خلق الجراثيم قد أوجد طرق معالجتها في حالة استفحالها أيضاً.

٢٤٢

ونعلم كذلك أنّ بعض الأدوية في عصرنا الراهن تستخرج من سموم الحيوانات ولهذا الغرض يُربّى كثير من الأفاعي والحيوانات السامّة الاخرى ، وعلى هذا فإنّ ابرها وسمومها ليست شرّاً مطلقاً ، وستأتي تفاصيل أكثر حول هذا الموضوع في بحث العدل ، بإذن الله.

* * *

٢ ـ خطوة اخرى على طريق الشرك

في هذا الموضوع انحرفت مجموعتان إسلاميتان هما (الأشاعرة) و (المعتزلة) أي المفوّضة ، المجموعة الاولى تتبع «أبا الحسن الأشعري» المتوفّى عام ٣٢٤ ه‍ وقد أنكرت التأثير والعلّة والمعلول في عالم الخلق إنكاراً تامّاً وتقول : إذا كانت النار محرقة فانّه مجرّد تصوّر ولا غير! فالمحرق الأصلي هو الله ، ولكن إرادته حكمت بشكل إذا مسّت النار ـ مثلاً ـ يد الإنسان فإنّ الله يوجد الإحتراق مباشرة في يده! وبهذا النحو أنكروا عالم العلّة والمعلول تماماً واعتبروا الله تعالى علّة لكلّ شيء مباشرة دون واسطة.

إنّهم أنكروا هذه القضيّة المحسوسة بل والأكثر من المحسوسة (١) بسبب إيمانهم بأنّ الإعتقاد بوجود عالم الأسباب يخلّ في توحيد الخالقية.

بسبب هذا الخطأ الكبير تعرّضت مجموعة الأشاعرة إلى انحراف كبير آخر وهو أنّها تعتبر أفعال الإنسان وأعماله مخلوقة لله أيضاً ، وهذا أسوء أنواع الجبر!

وبعبارة اخرى أنّه شيء أعلى من الجبر لأنّ الأشاعرة يقولون : لسنا نحن الفاعلين للأعمال الصالحة والسيّئة بل إنّ الخالق لها كلّها هو الله سبحانه ، فهي في الحقيقة أعماله المباشرة لا أعمالنا الجبرية (فتأمّل جيّداً) ، وفي النقطة المقابلة يقف المعتزلة الذين لا يعتقدون بوجود تأثير للأسباب والعلل فحسب بل يعتبرونها مستقلّة في تأثيراتها ، فمثلاً أنّ الله خلق بعض الأنبياء والأولياء وأوكل إليهم أمر الخلق ، كما يعتقدون أنّ الإنسان مستقلّ

__________________

(١) ليس لقانون العلّية بعد حسّي فقط بل يمكن التوصّل إليه عن طريق الوجدان والعلم الحضوري ، لأنّ كلّ شخص يرى بوضوح أنّ روحه توجد الإرادة والتفكير.

٢٤٣

في أعماله تماماً ، وبهذا يعتبرون الإنسان خالقاً صغيراً والله عزوجل خالقاً كبيراً!

ولا شكّ في أنّ المجموعتين على خطأ ، وقد وقعا في لون من الشرك ، شرك جلي وصريح ، وشرك خفي ، فالقائلون ب (التفويض) ابتلوا بشرك جلي لأنّهم اعتقدوا بأنّ الإنسان مستقلّ في أفعاله أو اعتقدوا بأنّ الله قد أوكل إلى أوليائه خلق السماء والأرض وتنحّى جانباً! وهذا ما يعارض صريح الآيات القرآنية التي تعتبر الله خالقاً لكلّ شيء وربّاً ومدبّراً لجميع الامور ، ومن العجيب أنّ الإنسان المسلم المرتبط بالقرآن كيف يتّبع مثل هذه الأبحاث المنحرفة؟!

أمّا الأشاعرة فقد ابتلوا بلون آخر من الانحراف والشرك ، لأنّهم أنكروا أوّلاً : أصل العلّية في عالم الخلق خلافاً للوجدان والحسّ ، وثانياً : إذا كان الإعتراف بأصل العلّية شركاً فإنّ الإعتقاد بأصل وجود الإنسان شرك أيضاً ، إنّ الإنسان مختار وحرّ في فعله ولكن يجب أن لا ننسى أنّ قدرته وقوّته كلّها وحتّى حرية إرادته هي من الله تعالى ، فهو الذي أودع كلّ هذه القوى في الإنسان وهو الذي شاء أن يكون الإنسان حرّاً ، وعلى هذا فإنّ أعمال الإنسان في الوقت الذي تستند فيه إلى الإنسان فانّها تكون مستندة إلى الله أيضاً ، ولا تخرج عن دائرة خلقه ، كالإعتقاد بأصل وجود الإنسان فانّه وجود تابع ومتعلّق بغيره ، ولذلك لا يستوجب الشرك.

وبملاحظة المثال الآتي يمكن أن تتّضح الحقيقة : إنّ كثيراً من القطارات تعمل بالطاقة الكهربائية ، وهذه الطاقة تجري في شبكة على طول الطريق ويرتبط القطار بها عن طريق حلقة ، السائق في مثل هذا القطار حرّ في عمله ولكن في الوقت ذاته يكون عمله مرتبطاً بيد شخص آخر وهو الذي يراقب الطاقة الكهربائية على طول السلك ، فبإمكانه أن يقطع التيار الكهربائي بإرادته في أيّة لحظة شاء وذلك بالضغط على زرٍ معين فيتوقّف القطار في مكانه.

وبإمكانه ـ إذن ـ أن يقول إنّي حرّكت القطار بإرادتي ، كما يمكن لسائق القطار أن يقول ذلك ويصدق الإثنان ، إلّاأنّهما فاعلان طوليان الأوّل في المرحلة الاولى والعليا والثاني في المرحلة الثانية والسفلى التابعة ، فالفعل ينسب إذن إلى الإثنين ومع ذلك فإنّ سائق القطار

٢٤٤

مسؤول عن عمله وليس بمجبر.

وعليه لا يكون الإعتقاد بحرية إرادة الإنسان شركاً في الخالقية.

وبعبارة أوضح : مثلما يرتبط أصل وجود الإنسان بالله تعالى والإيمان بوجود الإنسان لا يستلزم الشرك فأفعاله كذلك.

والأشاعرة كأنّهم يرون أصل وجود الإنسان مستقلاً في حين أنّ هذا نوع من الشرك ، وإلّا فإنّ الوجود التابع إن لم يتعارض مع التوحيد فإنّ الأفعال التابعة للإنسان لا تكون معارضة للتوحيد أيضاً.

ولا بأس أن يتوضّح هذا البحث بضرب مثال :

جاء إنكار الأشاعرة للعلّية والسببية نتيجة لتوهّم وقوع الشرك ، أي إذا اعتبرنا الإحراق من النار فانّهم يقولون : إنّ هذا شرك! في حين يبقى هذا السؤال : أليس الإعتقاد بوجود أصل النار أمام وجود الله شركاً؟

سيقولون : لا حتماً ، لأنّ هذا الوجود تابع لذاته المقدّسة (كالضوء المنبعث من المصباح المتوقّف على ارتباطه بالطاقة الكهربائية ويطفأ عند انقطاعها) ، ونذكر هذا الكلام ذاته في تأثير الأسباب ونقول : إنّها تكون في النهاية تابعة لله تعالى ، وقدوة الإنسان واختياره تابع له أيضاً ، وعليه فإنّ التوحيد يحتفظ بمعناه تماماً في هذا المجال ، فالله خالق كلّ شيء مع ثبوت أصل العلّية والحرية في إرادة الإنسان.

وستأتي إيضاحات أكثر بهذا الشأن في بحث الجبر والإختيار ، بإذن الله.

* * *

٢٤٥
٢٤٦

ب) توحيد الربوبيّة

تمهيد :

إنَّ توحيد الربوبية يعني أنّ المدير والمدبّر والمربّي والمنظّم لعالم الوجود هو ذات الله المقدّسة فقط.

وكلمة (ربّ) التي هي من صفات الله عزوجل قد تكرّرت في القرآن الكريم أكثر من غيرها حتّى بلغت ٩٠٠ مرّة بألفاظ : (ربّ ، ربّك ، ربّكم ، ربّنا ، ربّي وأمثالها) ، والعديد من الآيت القرآنية تعرّف الله ب (ربّ العالمين) ويدلّل ذلك على أنّ القرآن يولي اهتماماً خاصّاً بتوحيد الربوبية ، حيث كان أغلب المشركين يجعلون مع الله تعالى موجودات اخرى تشاركه في تدبير العالم ، وأغلبهم ـ كما أسلفنا ـ آمنوا بتوحيد الخالقية ولكنّهم تورّطوا بالشرك في الربوبية ، ولذا يقوم القرآن بدفع هذا الانحراف العقائدي الكبير لدى أقوام مختلفة مكرّراً وباستمرار ، والشرك في الربوبية طبعاً يكون مصدراً لانحرافات خطيرة اخرى سنتعرض لها في بحوث مقبلة.

بهذا التمهيد نمعن خاشعين في آيات قرآنية تمثّل نماذج من آيات توحيد الربوبية في القرآن الكريم :

١ ـ (الْحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ) (الفاتحة / ٢)

٢ ـ (قُلْ أَغَيرَ اللهِ أَبْغِى رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىءٍ). (الأنعام / ١٦٤)

٣ ـ (قُلْ مَنْ رَّبُّ السَّماوَاتِ والْأَرْضِ قُلِ اللهُ). (الرعد / ١٦)

٤ ـ (فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لَاالَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرشِ الْكَرِيمِ). (المؤمنون / ١١٦)

٥ ـ (اللهَ رَبَّكُم وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ). (الصافات / ١٢٦)

٦ ـ (قُلْ مَنْ يَرزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ والْأَرْضِ أَمَّنْ يَملِكُ السَّمْعَ والْأَبْصَارَ وَمَن يُخرِجُ الْحَىَ

٢٤٧

مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَىِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (يونس / ٣١)

شرح المفردات :

«ربّ» : له أصل واحد وفروع وشعب كثيرة وموارد استعمال كثيرة.

والأصل كما يقول الراغب في المفردات يعني التربية وسَوْق الشيء إلى الكمال ، وفي (مقاييس اللغة) ذكر عدداً من الاصول له هي : المصلح والقائم على الإصلاح الملازم والمقيم على الشيء ، الإدغام بين الشيئين ولكن كما ورد في (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) فإنّ هذه ترجع جميعها إلى أصل واحد وهو عبارة عن سوق الشيء إلى الكمال ورفع النقائص في أبعاد مختلفة : ماديّة ومعنوية ، ذاتية وعرضية ، وفي الإعتقاد والصفات والأخلاق.

وبما أنّ أداء هذا العمل يقترن بمفاهيم اخرى نظير : الإصلاح ، التدبير ، الحكومة ، المالكية ، الصحبة ، السيادة ، الإجتماع ، التعليم ، والتغذية فانّه يطلق على هذه المعاني أيضاً.

من هنا ذكرت له كتب اللغة معاني متعدّدة ، فقد جاء في (لسان العرب) مثلاً : إنّ (ربّ) إضافة إلى إطلاقه على ذات الله المقدّسة فانّه يعني المالك والسيّد والمدبّر والمربّي والقيّم والمنعم أيضاً ، وجوهر الكلام هو أنّ هذه الكلمة تعني في الأصل التربية والسوق إلى الكمال ثمّ اطلقت على المعاني الملازمة له (١).

ولكن كما يستفاد من أقوال اللغويين إذا استعملت هذه الكلمة مطلقة فانّها تستعمل فيما يخصّ الله تعالى فقط لأنّه المالك الحقيقي والمربّي والمصلح لكلّ شيء ، وإذا استعملت في سوى الله تعالى فالواجب هو أن تكون مضافة مثل (ربّ الدار) (ربّ الإبل) و (ربّ الصبي) (٢).

__________________

(١) ينبغي ملاحظة أنّ «ربّ» مشتقّة من «ربب» في حين أنّ «التربية» مشتقّة من «ربو» ويستفاد من التفاسير التي وردت حول كلمة ربّ في كتب اللغة أنّ (ربو) و (ربب) لهما تشابه شديد في المعنى وقد اعتبر الطبرسي رحمه‌الله في مجمع البيان ج ١ ، ص ٢٢ ، هاتين الكلمتين بمعنى واحد.

(٢) راجع ، لسان العرب ؛ مفردات الراغب ؛ وقاموس اللغة مادّة (ربّ).

٢٤٨

إنّ هذه الكلمة عندما تطلق على الله عزوجل يمكن أن تكون فيها إشارة إلى أبعاد الربوبية المختلفة أي المالكية والتدبير والإصلاح والتربية والقيمومة والإنعام.

«تدبير» : من (دبْر) ويعني المجيء خلف شيء ، والتدبير يعني جعل الشيء ذا عاقبة حسنة ونتيجة مرغوبة ، العمل الذي لا يمكن إنجازه إلّابالعلم والوعي وبهذا فإنّ لفظ (مدبّر) يطلق على أشخاص يتدبّرون عواقب الأعمال ويوصلونها إلى نهاياتها المطلوبة ويمتلكون رؤية ثاقبة ووعياً كافياً (١).

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

الله سبحانه وتعالى ربّ العالمين :

إنَّ الآية الاولى التي نردّدها صباحاً ومساءً تقول : (الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) قد تكرّرت في سور قرآنية عديدة من قبل العباد أو من قبل الله تعالى ، وتكون تارة مرتبطة بالدنيا ، واخرى بيوم القيامة (٢).

هذه الآية تتضمّن في الحقيقة استدلالاً لطيفاً على أنّ الله عزوجل أهل لكلّ حمدٍ وثناء ، لأنّه المربّي الحقيقي للعالمين أجمعين ، فهو الخالق وهو الرازق وهو المالك وهو المربّي وهو المدير والمدبّر وهو المرشد والمعلّم والهادي ، والملاحظ أنّ (الحمد) استعمل كجنس يشمل كلّ أنواع الثناء ، و (العالمين) كذلك ، فانّه جاء على هيئة الجمع المحلّى بالألف واللام فانّه يشمل موجودات العالم كلّها من عقلاء وغير عقلاء ماديّة وغير مادّية (واستعمالها بصورة الجمع العاقل فانّه من باب التغليب) (٣).

__________________

(١) مقاييس اللغة والتحقيق في كلمات القرآن الكريم ومفردات الراغب.

(٢) الأنعام ، ١٠.

(٣) لهذا فانّه حينما وصف موسى عليه‌السلام الله تعالى أمام فرعون بأنّه (ربّ العالمين) سأل فرعون : ومن ربّ العالمين؟ فأجاب موسى : ربّ السماوات والأرض وما بينهما.

٢٤٩

وعليه إنّ ما يقوم به الآخرون من تعليم وتربية وإنعام في زاوية من العالم فإنّ ذلك قبس من فيضه سبحانه ، ومن كان مالكاً فإنّ ذلك شعاع من مالكيته المطلقة ، ولذا علينا قبل أن نشكر عباده ونحمدهم ونثني عليهم يجب أن نحمد الله ونشكر ذاته المقدّسة.

والفخر الرازي يقدّم شرحاً إجمالياً لِنِعَم الله نظراً إلى أنّ الحمد والثناء يكون إزاء النعمة ويقول : «... ثمّ أنّ أصحاب التشريح وجدوا قريباً من ٥ آلاف نوع من المنافع والمصالح التي ذكرها الله عزوجل بحكمته في تخليق بدن الإنسان ثمّ إنّ من وقف على هذه الأصناف المذكورة في كتب التشريح عرف أنّ نسبة هذا القدر المعلوم المذكور إلى ما لم يعلم وما لم يذكر كالقطرة في البحر المحيط» ثمّ يذكر آثار الربوبية في بقيّة أنحاء العالم ، ويقول : «إنّ هذا المجموع «مجموع نعم الله» مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقلّ ، ثمّ إنّه تعالى نبّه على أنّ أكثرها مخلوق لمنفعة الإنسان أو كما قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ). (الجاثية / ١٣)

وحينئذ يظهر أنّ قوله جلّ جلاله «الحمد لله» مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقلّ» (١).

المفسِّر المذكور تحدّث طبعاً في إطار العلوم السائدة في عصره ، وبملاحظة الإكتشافات الحاصلة في عصرنا في المجالات العلمية المختلفة يتّضح صغر وتفاهة هذه الأرقام والأعداد ، ففي جسم الإنسان وحده ١٠ ملايين مليار خليّة! كلّ خليّة منها تعدّ من خَدَمه ومشمولة بربوبية الخالق سبحانه وتستلزم الشكر والحمد ، ولو أراد الإنسان أن يعدّ هذه الخلايا ليلاً ونهاراً فضلاً عن حمدها والثناء عليها لاحتاج إلى ٣٠٠ ألف سنة!

* * *

الآية الثانية التي تخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تقول : (قُلْ أَغَيَرَ اللهِ أَبْغِى رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىءٍ).

كيف تريدون الإستقلال لأنفسكم عن النظام العامّ لعالم الخلق؟ فالله ربّ الموجودات كلّها فكيف لا نعتقد بأنّه (ربّنا)؟ فهل من الممكن أن نجعل شيئاً تحت ربوبية الله شريكاً له

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ١ ، ص ٦.

٢٥٠

ونعتبر المربوب ربّاً والمخلوق شريكاً للخالق ، والعبد في عرض المولى؟ فأي حكم هذا؟!

وبملاحظة سعة مفهوم (شيء) الذي يشمل كلّ ما سوى الله سبحانه فإنّ توحيد الربوبية في هذه الآية ظاهر بصورة كاملة فالله سبحانه يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ضمن آيتين سابقتين بأن يخاطب المشركين بصراحة : (قُلْ انَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحيَاىَ وَمَمَاتِى للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). (انعام / ١٦٢)

لماذا أعبد غيره؟ ولماذا أسجد لغيره؟ وكيف أبقى حيّاً بذكر غيره؟ أو أموت فداءً لغيره؟ في حين أنّه وحده هو الخالق والمالك والمربّي لي.

ونرى هنا التلاحم والتآلف بين (توحيد العبادة) و (توحيد الربوبية) حيث أوجدا خليطاً مربّياً للروح (١).

* * *

في الآية الثالثة خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً ولكن الكلام هنا جاء عن ربّ السماء والأرض والذي لا يختلف في الحقيقة عن (ربّ العالمين) و (ربّ كلّ شيء) كثيراً ، وإن ذكر بعبارات مختلفة فتقول الآية : (قُلْ مَن رَّبُّ السَّماوَاتِ والْأَرْضِ) ، ولأنّهم ليس بوسعهم الإدّعاء بأنّ الأصنام أو المعبودات البشرية وأمثالها مدبّرة ومربّية ومنظّمة للسماء والأرض فإنّ الآية تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة : أجب عن هذا السؤال و «قُلِ اللهُ».

ينبغي لك أن تهجر كلّ ما سواه وتُعرض عن غيره وتعتمد على ذاته المقدّسة فقط ، واجعل قلبك مرتبطاً به وعفّر خدّك له ، لأنّ جميع الموجودات لا تملك لنفسها ضرّاً ولا نفعاً فضلاً عن غيرها : (لَايَملِكُونَ لِانفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَانَفْعاً). (الفرقان / ٣)

* * *

__________________

(١) «نسك» مفرد وفسّره الكثير من اللغويين بمعنى كلّ عبادة في حين فسّره البعض بمعنى الهدي ولكن لا توجد آية قرينة عليها بل إنّ ظاهر الآية يدلّ على أنّ المراد هو كلّ العبادات وعليه يكون ذكره بعد الصلاة من قبل العام بعد الخاصّ.

٢٥١

الآية الرابعة تتحدّث عن ربوبية الله للعرش ولكنّها تبدأ بحاكمية الله وتقول : (فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ).

وهذه جملة تكمّل ما ورد في الآية السابقة لها وفيها : (أَفَحَسِبْتُم انَّمَا خَلَقنَاكُم عَبَثاً وَانَّكُم الَينَا لَاتُرجَعُونَ). (المؤمنون / ١١٥)

ويستفاد منها بأنّه لولا المعاد والقيامة فإنّ خلق الإنسان يكون عبثاً ، لأنّ الحياة لعدّة أيّام في الدنيا ليست هدفاً سامياً للخلق وهذا من الدلائل المهمّة للمعاد ، سيكون لنا حديث مفصّل عنها في بحث المعاد بإذن الله.

ثمّ تضيف الآية : (لَاالهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرشِ الْكَرِيمِ).

«ملك» : يعني الحاكم والمالك ، ولا يصدق ذلك بمعناه الحقيقي إلّافي الله سبحانه لأنّه من شؤون الخالقية ومستلزماتها ولعدم وجود خالق سواه فانّه لا مالك ومَلك غيره.

ولذا تصفه الآية بعبارة (الحقّ) ، ثمّ تحصر المعبود فيه لأنّ العبادة تليق بالملك الحقّ وتكمل ذلك بوصفه بـ (رَبُّ العَرشِ الْكَرِيمِ) ، هذه الصفات الأربع جاءت لدعم عقيدة المعاد والقيامة الواردة في الآيات السابقة.

«العرش الكريم» : إشارة إلى عالم الوجود كلّه ، لأنّ العرش يعني كرسي السلاطين العالي ، وكرسي الحكومة الإلهيّة كناية عن مجموعة عالم الخلق وعلى هذا ينسجم مع جملة : (رَبُّ كُلِّ شَيءٍ) التي جاءت في الآيات السابقة ، واتّصاف العرش ب (الكريم) الذي يعني الشريف والمفيد والجيّد بسبب أنّ كرسي الحكومة الإلهيّة مصداق كامل لهذه الصفات.

ولكن بعضاً اعتقد أنّ (الكريم) يعني الصاحب الكريم ، ولأنّ هذا المعنى لا يصدق في العرش فإنّ هذه الصفة تكون لذات الله المقدّسة لا العرش ، في حين أنّ كريم يمكن أن يكون وصفاً لغير الموجودات العاقلة أيضاً مثل : (لَهُم مَّغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ). (الحج / ٥٠) أي كثير الفائدة والشريف (١).

* * *

__________________

(١) هنا أبحاث مفصّلة في معنى «العرش» في اللغة والقرآن الكريم ومنها في تفسير الأمثل ، ذيل الآية ٥٤ من سورة الأعراف وذيل الآية ٣ من سورة يونس.

٢٥٢

الآية الخامسة تتحدّث عن ربوبية الله للبشر وتنقل عن النبي العظيم «إلياس عليه‌السلام» خطابه لقومه ، وفيه وبخّهم على عبادة صنمهم المعروف بـ (بعلْ) وقال لهم : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وتَذَرُونَ احسَنَ الْخَالِقِينَ) وأضاف : (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (١).

وهذا في الواقع لجميع الوثنيين الذين كانوا يبرّرون عبادة الأصنام حينما يسألون عنها بقولهم : إنّ هذه سنّة آبائنا ولا نتركها ، وفي المقابل استند النبي إلياس عليه‌السلام إلى هذا المعنى وهو : أنّ اللائق للعبودية هو ربّ العالم ومدبّره والمربّي الحقيقي للإنسان ، والله ربّكم وربّ آبائكم وأجدادكم فإذا كان اولئك على خطأ في معرفة المعبود الحقيقي وربّهم فلماذا تسلكون نفس الطريق الخاطىء؟

* * *

هو المدبّر للُامور :

تتحدّث الآية السادسة والأخيرة عن تدبير الأمر بدلاً من استخدام كلمة (الربّ) وهو مفهوم شبيه بالربوبية ، وليس عينه تماماً ، فتخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ مَن يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ).

مَن الذي سخّر لكم نور الشمس الضروري لوجودكم والأمطار التي تنزل من السماء لتهب الحياة في كلّ مكان والهواء الذي تتنفسونه فيمنحكم طراوة ولطافة؟

وهكذا النباتات التي تنبت في الأرض ، وتوفّر المواد الغذائية والفواكه اللذيذة والمعادن الثمينة التي تستخرجونها من باطن الأرض ، من الذي أعطاها لكم؟ هل هذه الأرزاق من الأصنام؟!

ثمّ تذكر الآية جسم الإنسان وتشير إلى مجموعيتن من أهمّ أعضائه بعنوان الطريق الأصلي في ارتباط الإنسان مع العالم الخارجي والمبدأ الأساس للعلوم والأفكار حيث تقول : (أَمَّن يَملِكُ السَّمعَ والابصَارَ) ، ثمّ تتناول أهمّ ظاهرة في عالم الخلقة وهي قضيّة

__________________

(١) «الله» منصوب لأنّه بدل من (أحسن الخالقين) في الآية السابقة وقال بعض إنّه عطف بيان.

٢٥٣

الحياة والموت وتقول : (وَمَن يُخرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَىِّ) ، فهل هذا من فعل الأصنام أيضاً؟!

والآية في آخرها بعد ذكر المسائل المهمّة الثلاث (الأرزاق السماوية والأرضية ، السمع والبصر ، الحياة والموت) تذكر القضيّة بصورة كليّة وجامعة وتقول : (ومَنْ يُدَبِّرُ الْامرَ).

ومن المسلّم به أنّهم لو راجعوا عقولهم وضمائرهم لم يكن لهم جواب إلّاأنْ يقولوا الله : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ).

ثمّ تقول الآية خذ من هذا الجواب مستمسكاً وقل : (أَفَلَا تَتَّقُونَ).

إنّ جميع الأرزاق المعنوية والماديّة للإنسان وتدبير العالم كلّه قد اجتمعت في الحقيقة في هذه الآية ، فإنّ الأرزاق الماديّة إمّا تكون من السماء أو من الأرض ، والأرزاق المعنوية عادةً تكون عن طريق البصر والسمع اللذين ينقلان العلوم الحسّية والعقلية والنقلية إلى الإنسان ، وتدبير العالم يشمل هذه كلّها وغيرها ، فمن يستطيع أن يدّعي أنّ العباد الضعفاء أو الموجودات الحقيرة كالأصنام هي الخالقة لهذه الأرزاق والمدبّرة لهذه الامور؟ إنَّ توحيد الربوبية ليس قضيّة معقّدة حتّى بالنسبة لعبّاد الأصنام فيما لو فكّروا قليلاً.

والتعبير ب (يملك السمع والأبصار) يمكن أن يكون إشارة إلى خلقها أو حفظ نظامها وتدبيرها أو هذه الامور كلّها.

* * *

من مجموع الآيات المذكورة والآيات المشابهة لها في القرآن الكريم وهي كثيرة وواسعة نحصل على هذه الحقيقة ، وهي أنّ القرآن الكريم يعرّف الله القادر المتعال بأنّه هو المالك والمربّي والمدير والمدبّر لعالم الوجود كلّه وكلّ شيء ، وكلّ موجود في السماء والأرض والعرش والكرسي والبشر في الزمان الحاضر والماضي ، ونقول بصراحة لا ربّ لعالم الوجود غيره.

٢٥٤

توضيحات

١ ـ التوحيد يعني حذف الوسائط!

من خلال مطالعة دقيقة للآيات القرآنية نستنتج أنّ القرآن يصرّ مؤكّداً بأن لا يضيع الناس بين الوسائط وعليهم أن يتوجّهوا إلى ذات الله المقدّسة مباشرةً ، ويتحدّثوا معه ولتتعلّق قلوبهم به وحده ولا يعبدوا غيره ، والتعبير بـ (ربّ العالمين) في سورة الحمد والسور القرآنية الاخرى إشارة إلى هذه الحقيقة ، وتكرار ذكر الركوع والسجود (سبحان ربّي العظيم) و (سبحان ربّي الأعلى) كلّه لبيان هذه الحقيقة وهي : ليس خلقنا بيده فحسب بل وبقاؤنا وتربيتنا وتكاملنا وتدبير امورنا.

وقد أوضح القرآن الكريم ذلك بدقّة وهو أنّ ، (الخالق) و (الربّ) لا يمكن أن ينفصلا ، ولو دقّقنا جيّداً في الإنسان لوجدنا له خلقاً جديداً في كلّ لحظة ، وكلّ ذلك منه سبحانه.

إنَّ موجودات العالم بأسرها محتاجة وفقيرة وهو الغني المطلق من كلّ جهة.

وتاريخ الديانات يشير إلى أنّ البشرية بسبب التيه في الوسائط والخرافات التي ابتُليت بها ، وكم من الموجودات المنحطّة التي جعلتها آلهة تتحكم بمصائرها ، وهذا التعدّد في الأرباب والآلهة قد جلب للبشرية كلّ هذا التفرّق والاختلافات والشقاء.

ولكن عندما نهجر هذه الوسائط ونعتبر أنّ الله هو الربّ المطلق كما تقول الدلائل والبراهين العقلية ، نعرف أنّ كلّ شيء محتاج إليه فإنّا سنصل إلى مبدأ النور والعظمة والوحدة والوحدانية.

ولذا فإنّ صفة (ربّ) تكرّرت أكثر من ٩٠٠ مرّة في الآيات القرآنية ولم تتأكّد صفة اخرى من الصفات الإلهيّة إلى هذه الدرجة.

وفي الحقيقة يجب معرفة ومطالعة الإخلاص في توحيد الإسلام قبل كلّ شيء في هذا التوحيد الربوبي.

٢ ـ تاريخ الديانات وخرافة الوسائط

كلّما تعمّقنا في دراسة تاريخ المذاهب والديانات تتجلّى أمامنا هذه الحقيقة أكثر فأكثر

٢٥٥

وهي شيوع الشرك وتعدّد الآلهة (الإله بمعنى الربّ) بين المجتمعات البشرية المختلفة منذ أقدم العصور بشكل أوسع ، ولو قمنا بجمع أسماء هذه الآلهة وعقائد المجتمعات البشرية المختلفة لحصلنا على كتاب مفصّل مليء بالعقائد العجيبة والغريبة والخرافية ، ولا بأس في الإشارة إليها بصورة مختصرة ، ليطّلع القرّاء على تلك القصّة الطويلة من خلال هذه المقدّمة المتواضعة.

أ) آلهة الروم

كَتَبَ أحد المؤرّخين الغربيين بهذا الصدد : «لم تكن الديانة الرومية تشابه ما نصطلح عليه «دين» أبداً ، ولم تتضمّن أي تشريع لمعتقديها ، ولم تكن بصدد إصلاح التفسّخ الأخلاقي بين الناس ، بل كانت تعلّمهم أفضل السبل لاكتساب رضا الآلهة وعونها.

... وكانت آلهة الروم كثيرة جدّاً ممّا جعل كلّ إله يحظى باتجاه معين! وله دور في قضيّة معيّنة ، فلم يكن لأبواب البيوت إله فحسب ، بل والعتبة منها وقواعدها كانت لها أرباب ، كما أنّ هناك آلهة مستقلّة تتولّى أمر المحافظة على كلّ فرد من أفراد البشر ، فوجود رب النوع الخاص الذي يعلّم الطفل أوّل صرخة ، وآخر يعلّمه شرب الماء ، وآخر يعلّمه الخروج من البيت وآخر يعلّمه كيف يرجع! وهناك إله خاص لحراثة الأرض وإله آخر خاص بالزراعة وآخر لبذر البذور و (أعداد كبيرة من الآلهة) ، ولا عجب في أن يكون للروم (٣٠) ألف إله! حتّى أنّ أحد شخصياتهم مازح بقوله : إنّ آلهة بلادنا في الشوارع والمجتمعات هي أكثر من أفراد شعبنا!» (١).

ب) آلهة اليونان

ويكتب ذلك المؤرّخ أيضاً : (لقد اعتقد المجتمع اليوناني ـ كالكثير من الامم ـ بالوهية الظواهر الطبيعية كلّها نظير الشمس والرعد والمحيطات والأعاصير والأنهار والعيون

__________________

(١) تاريخ آلبرمالة ، تاريخ الروم ، ج ١ ، ص ٢٩ و ٣٠ ، (علامة التعجّب منّا).

٢٥٦

والرياح والأمطار ، وقام بعبادتها واعتقد أنّ هذه الآثار تنشأ من وجود خفي ، واعتقد أنّها منشأ الخير والشرّ ومن هنا قام بعبادتها كي يحصل على كرمها أو يدفع الشرّ بها.

ثمّ يذكر إله اليونان المعروف وهو (زيوس) ابن (كرونوس) وهو المتصوّر لديهم على شكل إنسان ، له الهيمنة التامّة والجبروت وذو جبهة عريضة وشعر كثيف ولحية كثّة طويلة على شكل حلقات!

كان زيوس ربّ الأرباب وإله البشر في اليونان ويحيطه عدد كبير من الآلهة وأرباب الأنواع ، وكانت زوجة زيوس (هيرا) تعيش في السماء.

ويعتقدون أنّ لزيوس أبناء ثلاثة هم : (هرمس) و (آرتميس) و (آپولون) وهم على التوالي مظاهر المطر وربّ النوع للقمر والشمس!

كما اعتقدوا بآلهة عديدة اخرى نظير آلهة البحر وآلهة الأرض وآلهة جوف الأرض وآلهة العمل (١).

ج) آلهة مصر

أغلب المصريين القدماء اعتقدوا بديانة تؤمن بتعدد الآلهة ، واعتقدوا أنّ إلهاً واحداً هو أعلى من الآخرين عرف بـ (إله الآلهة).

في مصر القديمة كان للناس في كلّ منطقة آلهة ومعبد خاصّ تجاوزت ال ٢٠٠٠ معبود! تسعة منهم يحظون بذكر أكبر ، أحدهم إله الشمس ، ثمّ إله الهواء ، وإله الفضاء والفرا غ ، وإله الأرض وهكذا هناك إله الصحراء والأراضي الخصبة والموات (٢).

يقول المؤرّخ الشهير ويل ديورانت في (قصّة الحضارة) :

«لم تكن في العالم منطقة تناظر مصر في تعدّد الآلهة ، وكان المصري يعتقد أنّ الخلق ابتدأ من السماء ، وكانت سماء نهر النيل أعظم ربّ الأنواع.

__________________

(١) تاريخ آلبرمالة ، تاريخ امم الشرق ، ج ٢ ، من ص ١٧١ إلى ص ١٧٩ (باختصار).

(٢) الإسلام والعقائد والآراء البشرية ، ص ٤٦.

٢٥٧

وقد اعتقد المصريون بأنّ كواكب السماء ليست أجساماً فحسب بل إنّها تعكس الصورة الخارجية لأرواح الآلهة الكبيرة مثل آلهة السماء والحيوان والنبات ، وقد بلغت حداً أصبحت فيه المعابد المصرية معارض للحيوانات المختلفة» (١).

د) آلهة ايران

إعتقد الإيرانيون قديماً بالثنوية ثمّ بتعدّد الآلهة وشاع بينهم بصورة تدريجية عبادة (امشاسبندان) أو الآلهة الستّة ، آلهة الحيوانات الأليفة والبيضاء ، إله النار ، إله المعادن ، إله الأرض ، وإله المياه والحيوانات وإله الثوابت والسيارات السماوية (٢).

ه) آلهة الصين

إعتقد الصينيون القدماء أيضاً بأنّ العالم يحكمه أصلان أحدهما (المذكر) أو (الموجَب) أو (النور) والآخر (الأُنثى) أو (السالب) أو (الظلام) وتبعه التفكير بالثنوية (شانكتي) وهو فحل مظهر لأصل الذكورة وكان يدعى إله الأفلاك ، واعتقدوا أنّه هو الذي يجازي الإنسان على أعماله الصالحة والسيّئة في هذه الدنيا وينزل البلاء الشديد عند العصيان العامّ.

وكانت (هاتن) إلهاً مؤنثاً ويثنى عليه ، ثمّ ظهرت آلهة اخرى تدريجاً وتبدّلت الثنوية إلى تعدّد الآلهة : إله الخصوبة ، إله المطر ، إله الرياح ، إله الثلج ، إله النار ، إله الجبل و...(٣).

و) مشركو العرب

يؤكّد بعض المؤرّخين والمفسّرين بأنّ العرب كانوا يعتقدون بأنّ الخالق والرزّاق والربّ والمدبّر للعالم إله واحد ويستشهدون بآيات قرآنية تتحدّث عن إقرارهم في قضيّة خالقية الله ورازقيته ، وعليه فإنّ عبادة الأصنام بينهم لم تنشأ من الإعتقاد بتعدّد الآلهة ، بل من

__________________

(١) تاريخ الحضارة ، ويل دورانت ، ج ١ ، ص ٢٩٨ و ٣٠٠ (بإختصار).

(٢) الإسلام والعقائد والآراء البشرية ، ص ٣٤ (بإختصار).

(٣) المصدر السابق ، ص ١٥٧.

٢٥٨

اعتبارهم الأصنام ذات مقام ومكانة عند الله يرجون منها الشفاعة والقرب من الله ، حتّى اعتقد البعض منهم أنّ إلى جانب كلّ صنم شيطان موكول به من قبل الله ، وكلّ من يعبد الصنم حقّ عبادته فإنّ ذلك الشيطان يبادر بقضاء حوائجه بأمر من الله!! (١)

ولا يمكن إنكار أنّ طائفة من العرب كانت ترجّح عبادة النجوم ، وتعتقد أنّ كواكب خاصّة حين الغروب والشروق تقوم بإنزال المطر وقد عبّروا عنها بـ (الأنواء) وهو جمع نوء ويعني النجم الذي يميل إلى الغروب ، وقد اعتقدوا بارتباط الحركة والسكون والسفر والإقامة بهذه النجوم (واعتقدوا بتأثيرها على مصائرهم) وقد شيّدوا معابد كبيرة للشمس والقمر والزهرة وسائر الكواكب (٢).

وفي اليمن كان من بين القبائل العربية من يعبد الكواكب السماوية ، فكانت طائفة منها تعبد الشمس وقد أشار القرآن الكريم إليها في قصّة ملكة سبأ ، وطائفة اخرى عبدت القمر ، واخرى عبدت نجمة الشعراء ، كما عبدت قبائل اخرى نجوماً اخرى (٣).

ز) آلهة بلدان أخرى

في بلدان اخرى مثل الهند واليابان وغيرها ساد الإعتقاد بأرباب الأنواع والآلهة المتعدّدة ، كما اعتقد الصابئة (عبّاد النجوم) بأنّ السيّارات السبع هي التي تحرس الأقاليم السبعة وتحافظ عليها (حيث قسّموا الأرض قديماً إلى سبعة أقسام أُطلق على كلّ قسم منها اقليم) (٤) واعتقدوا أنّها مبدأ الخيرات ودافعة للأضرار عن أهل الأرض.

والإعتقاد بـ (توتم) الذي ساد في مناطق شاسعة من العالم كان مشابهاً للاعتقاد بربّ الأنواع أيضاً ، حيث كان لكلّ قبيلة (توتم) بمثابة الأب وروح القبيلة واعتقد بأنّه على صورة الحيوانات أو ما شاكله.

__________________

(١) بلوغ الأرب ، ج ٢ ، ص ١٩٧.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٢٣.

(٣) الإسلام والجاهلية ، ص ٢٩٥.

(٤) يمكن مراجعة معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٢٧ للمعرفة التفصيلية بالأقاليم السبعة وحدودها.

٢٥٩

ح) الإعتقاد بالمثل الأفلاطونية

إفترض افلاطون لكلّ نوع من أنواع عالم الطبيعة فرداً مجرّداً عقليّاً ، واعتقد أنّه قائم بالذات وبما أنّ هذه الأفراد المجرّدة اعتبرت أمثالاً ومظاهر لأسماء وصفات الله وشبيهة للأنواع الطبيعية فقد اطلق عليها عنوان (مثال) وجمعه مُثُل على وزن رُسُل.

إعتقد افلاطون أنّ ما له الحقيقة هو المثال وهو المطلق الذي لا يتغيّر ومجرّد من الزمان والمكان وأبدي وكلّي ، وأمّا هذه الأجسام الجسمانية والمادّية التي نشاهدها متعدّدة وذات زمان ومكان وفانية فإنّها إنعكاس لتلك ، وعليه تكون نسبة الإنسان الجسماني لمثاله هو نسبة الظلّ إلى ذي الظلّ.

ولأفراد الإنسان قسط من الحقيقة ما يناسب قربها من المثال ، ومن هنا اعتبر افلاطون العالم المحسوس مجازاً وعالم المعقولات حقيقة (١).

إنّ الإعتقاد بالمثل اليونانية وإن تغاير مع الإعتقاد بأرباب الأنواع لكنّه لا يخلو من تشابه من عدّة جهات ويعتبر شكلاً فلسفياً من أرباب الأنواع اليوناني.

كما أنّ الإعتقاد بالعقول الفلكية المجرّدة له تشابه مع أرباب الأنواع من جهة.

وإيضاحه : أنّ جماعة من الفلاسفة اعتقدوا بأنّ الله ـ بسبب بساطته من كلّ جهة ـ له مخلوق واحد لا أكثر ، وهو مخلوق مجرّد أطلقوا عليه (العقل الأوّل) ثمّ اعتقدوا بأنّ العقل الأوّل لتركّبه من وجود وماهية فهو الخالق للعقل الثاني والفلك الأوّل ، وبهذا الترتيب اعتقدوا بخلق عشرة عقول وتسعة أفلاك!

وقد اعتقد البعض منهم أنّ عدد العقول لا حصر لها ، كما اعتقدوا ب (العقول العرضية) إلى جانب العقول الطولية (العقول العشرة التي يكون أحدها مخلوقاً للآخر) ، واعتبروها وسائط لفيض الصور النوعية والمرتبة العليا للموجودات الجسمية (مثل أرباب الأنواع والمثل الافلاطونية) ، ولكلّ مفردة من هذه المسائل بحوث مطوّلة ننصرف عنها لأنّها خارجة عن موضوع بحثنا.

__________________

(١) كليّات الفلسفة الإسلامية وسير الحكمة في اوربا وكتب اخرى.

٢٦٠