نفحات القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-97-0
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٠٨

الخطوط المنحرفة بينهما ، فخطّ التوحيد واحد وكلّ ما سواه فهو شرك وعبادة أصنام.

(مستقيم) من (الإستقامة) ومشتقّة في الأصل من (القيام) ، وبما أنّ الإنسان يقف مستوياً في قيامه فإنّ هذه الكلمة استعملت بمعنى كلّ طريق ومنهج معتدل ومستوٍ وخالٍ من الانحراف.

والملاحظ أنّ القرآن وفي سورة الحمد قد جعل النقطة المقابلة للصراط المستقيم هو طريق المغضوب عليهم و (الضالّين) ، والطائفة الاولى هم الضالّون من أهل العناد واللجاجة والذين يصرّون على مسيرتهم ومسيرة غيرهم المنحرفة ، والطائفة الثانية هم الضالّون البسطاء.

إن عجزتم عن عبادة الله فهاجروا :

نواجه في الآية التاسعة نقطة جديدة حيث يتوجّه الأمر إلى المؤمنين ، وذلك عندما يكون البقاء في مكان ـ حتّى أوطانهم الخاصّة ـ مانعاً من عبادة الله ومزعزعاً لتوحيد عبادته فعليهم أن يهجروا ذلك المكان تقول الآية : (يَاعِبادِىَ الَّذينَ آمَنُوا انَّ ارضِى وَاسِعةٌ فَإِيّاىَ فَاعبُدُونِ)

أجل ، أنّ أرض الله واسعة ولا يمكن أبداً الإذعان لذلّ الشرك وأسر الكفر وعبادة الأصنام من أجل امور من قبيل القوم والقبيلة والبيت والوطن الحبيب ، بل إنّ واجب كلّ مؤمن موحّد هو أن يهجَر وطنه في مثل هذه الظروف ويحلّ في وطن مناسب ويُبقي شمعة التوحيد مضيئة في روحة ، وقد يُوفَّق ـ كالمهاجرين في صدر الإسلام ـ لإعداد القوّة اللازمة ويرجع إلى وطنه ويزيل آثار الشرك وعبادة الأصنام من ربوعه.

والتعبير بـ (ياعبادي) ، و (أرضي) ، و (إيّاي فاعبدون) في الآية مقرون بالرحمة واللطف الإلهي وإشارة إلى نصره المستمر للموحّدين أينما كانوا وفي كلّ زمان (١).

والملاحظ أنّ المخاطب في الآية هم (العباد) ، ومع ذلك فالآية تأمرهم بعبادة الله الواحد ،

__________________

(١) لاحظوا أن «إيّاي فاعبدون» بسبب تقدّم المفعول على الفعل تدلّ على الحصر وتبيّن انحصار العبادة في الله.

٢٢١

وفي ذلك إشارة إلى أنّ العباد ينبغي أن يواصلوا مسيرة التوحيد إلى آخر العمر ولا ينحرفوا لحظة واحدة ، وهذا نظير تكرار الجملة : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) ، لدى المؤمنين ، حيث يطلبون فيها استمرار هذه النعمة إلى جانب الهداية ، على أيّة حال ، فإنّ الآية دليل على وجوب الهجرة من أرض الشرك وعبادة الأصنام إلى دار الإيمان ، إلّاأن يُوفَّق الإنسان لتغيير الأوضاع السائدة على تلك الأرض.

آية البحث هي من آيات سورة العنكبوت التي يقول عنها المفسّرون : إنّ الآيات الإحدى عشرة الاولى منها نزلت في المدينة بصدد الذين كانوا في مكّة وأظهروا الإسلام ولكنّهم لم يعزموا على الهجرة إلى المدينة ، والآية التي بعدها تقول : (كُلُّ نَفسٍ ذَائقَةُ المَوْتِ) وفيها إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ الجميع سيموتون وينفصلون عن الوطن والزوج والمال ، فلا تظنّوا أنّكم إن بقيتم في أجواء ملوّثة بالشرك فإنّكم سوف تبقون إلى جنب أحبّائكم أبداً (١).

* * *

وتستند الآية العاشرة إلى نقطة جديدة اخرى في هذا المجال ، وتعد المؤمنين جميعاً بأنّهم سيكونون مالكين وحكّاماً للأرض كلّها ، كما أنّ التوحيد سينتشر في العالم بأسره وسوف لن يعبد إلّاالله ، وعلى هذا فإنّها تبشّر بتوحيد العبادة الخالصة كبشارة كبرى لكلّ المؤمنين وتقول : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِم) ، وهناك بحث بين المفسّرين في تحديد ماهيّة هذه الطائفة التي ورثت الأرض وعاشت في عصور قديمة ، والمناسب أن يقال : إنّها إشارة إلى بني إسرائيل الذين أصبحوا ملوكاً وحكّاماً على مساحة واسعة من الأرض بعد نهضة موسى عليه‌السلام وانهيار حكومة الفراعنة ، وكما يقول القرآن الكريم في قوله تعالى : (واورَثْنَا القَومَ الَّذِينَ كَانُوا يُستَضعَفُونَ مَشَارِقَ الارضِ ومَغارِبَها الَّتِى بَارَكنَا فِيهَا) (٢). (الأعراف / ١٣٧)

__________________

(١) راجع تفسير روح البيان ؛ وروح المعاني ؛ والقرطبي في ذيل آية البحث.

(٢) هناك بحث مفصّل آخر في هذا المجال قد ورد في تفسير الأمثل ، ذيل الآية ٥٥ من سورة النور ، تحت عنوان ـ

٢٢٢

وتتضمَّنُ الآية الحادية عشرة إشارة إلى نقطة جديدة في هذا المجال حيث تؤكّد أنّ الأنبياء العظام والملائكة المقرّبين لا يستحقّون العبادة فضلاً عن الأصنام ، فالعبادة مختصّة بالله عزوجل وتقول : (وَلَا يَأْمُرَكُمْ انْ تَتَّخِذُوا المَلَائِكَةَ والنَّبِيِّينَ ارْبَاباً) (١).

ولمزيد من التأكيد تضيف الآية : (أَيَأمُركُم بِالكُفْرِ بَعدَ اذْ أَنتُم مُّسلِمُونَ).

«أرباب» : جمع (ربّ) ويعني في الأصل المالك المصلح ، أي المالك الذي يسعى في تدبير ملكه وتربيته وإصلاحه ، ولذا فإنّ (ربّ الدار) و (ربّ الإبل) جاء بمعنى المالك والمدبّر للبيت أو الإبل ، وقد ندر استعمال كلمة «ربّ» في القرآن الكريم في غير الله ، منها الآية ٤٢ و ٥٠ من سورة يوسف حيث استعملت كلمة (ربّ) في نعت ملك مصر ، ويستفاد من عبارات هذه السورة بأنّ هذه الكلمة كانت كثيرة الاستعمال كسمةٍ للشخصيات المصرية الكبيرة.

وفي المقابل استعملت هذه الكلمة التي وردت مئات المرّات في القرآن الكريم ـ في كلّ المواطن تقريباً ـ كصفةٍ لله عزوجل ، لأنّه هو المالك الأصلي ـ في الواقع ـ والمدبّر والمربّي لموجودات الكون كلّه ، المهمّ أنّ الكثير من الأقوام كانوا يعتقدون بآلهة صغيرة ويطلقون عليها (ربّ) أو (ربّ النوع) ويطلقون على الله (ربّ الأرباب) وكانت هذه العقيدة لدى بعض الأقوام تجاه الملائكة أو بعض الأنبياء ، وآية البحث تنفي بصراحة هذه العقائد الباطلة وتعرّف الله وحده ربّاً وليس ربّ الأرباب ، لأنّها تعتبر انتخاب أي ربّ سواه كفراً والإسلام على طرف نقيض معه.

* * *

__________________

ـ الحكومة العالمية للمستضعفين وكان لها نموذج صغير بعد فتح مكّة والإنتصارات الواسعة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والنموذج الأتمّ والكامل سيتحقّق عند قيام الإمام المهدي (عج).

(١) لاحظ أن «يأمر» منصوب لأنّه معطوف على (أن يؤتيه الله).

٢٢٣

آية البحث الثانية عشرة والأخيرة تشير إلى الكلام الأخير في هذا البحث وهو أنّ التوحيد في العبادة لا يختصّ بالبشر بل : (وَللهِ يَسجُدُ مَنْ فِى السَّماوَاتِ وَالارضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلَالُهُم بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ).

«مَنْ» : وان كانت إشارة إلى العقلاء عادةً ولذا يعتقد جمع من المفسّرين بأنّ آية البحث تقصد بني الإنسان والملائكة وأمثالهم ، إلّاأنّ في الآية قرائن تدلّ على أنّ هذه الكلمة تشير إلى الموجودات كلّها وتعمّ العاقل وغير العاقل والنبات والجماد ، والمراد من السجدة ما يعمّ السجدة التكوينية (غاية الخضوع والتسليم في الموجودات تجاه قانون الخلق) والسجدة التشريعية (السجود والعبادة الإعتيادية) لأنّ :

أوّلاً : التعبير بـ (طوعاً وكرهاً) دليل على عمومية الآية.

ثانياً : إشتراك (ظلال) في هذه السجدة والعبادة العامّة دليل آخر على هذا المعنى.

ثالثاً : ورد هذا المعنى بجلاء في آيات قرآنية اخرى : (وَللهِ يَسجُدُ مَا فِى السّماوَاتِ وَمَا فِى الارضِ). (النحل / ٤٩)

وهكذا في الآية : (وَالنَّجمُ والشَّجَرُ يَسجُدَانِ). (الرحمن / ٦)

وعلى هذا فإنّ موجودات الكون كلّها وبدون استثناء لها سجود تكويني وتسليم للأوامر الإلهيّة ، ومن بينها المؤمنون حيث لهم ـ مضافاً إلى السجود التكويني الذي لا يتّصف بالإختيار ـ سجود اختياري تشريعي أيضاً.

وتعميم هذا الحكم إلى (ظلال) تعبير كبير المعنى ، لأنّ الظلال تتّصف بالعدم في الواقع (لأنّ الظلّ هو المكان الذي لا يسقط الضوء عليه) ولكن بما أنّ الظلال تابعة للأجسام في وجود النور فإنّ لها قسطاً ضعيفاً من الوجود ، ويقول القرآن : إنّ هذه الأعدام الشبيهة بالوجود تسجد لله أيضاً فكيف بالموجودات الحقيقية؟ وهذا يشابه العبارة التي نقولها وهي أنّ عداوته لفلان بلغت إلى حدّ أنّه يرمي ظلّه بالسهم.

ثمّ إنّ الظلال تسقط عادة على الأرض والتعبير بالسجود أليق بها.

وما تقوله الآية : (بالغُدُوِّ وَالْآصَالِ) فانّه من الممكن أن يكون وصفاً خاصّاً للظلال ،

٢٢٤

واختيار هذين الزمنين هو لأنّ كلّ شيء في هذين الوقتين يكون ذا ظلّ ، ظلّ طويل وممتدّ على العكس من منتصف النهار إذ يكون له ظلّ أو له ظلّ قصير.

ويحتمل أيضاً أن يكون هذان الوصفان لكلّ الموجودات في السماء والأرض والمراد هو الإشارة إلى استمرار هذا السجود ، كما نقول في عباراتنا اليومية : يجب أن نلقى فلاناً صباحاً ومساءً ، أي ، دائماً وباستمرار (١).

* * *

أخيراً وبمراجعة عامّة لما تقدم نصل إلى أنّ مسألة (التوحيد في العبادة) لها من الأهمّية ما جعلها في صدارة دعوة الأنبياء والرسل عليهم‌السلام ، ومن أهمّ الفقرات في تعليماتهم ، وقد أقام جميع الأنبياء اولي العزم دعوتهم عليها ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة عمره الشريف يدعو للتوحيد بعبارات مختلفة ، وصراط الهداية المستقيم يمرّ عبر هذا الطريق ، ولتحقيق هذا المنهج الإسلامي المهمّ ينبغي ـ عند الحاجة ـ ترك الأوطان وهجر أجواء الشرك وعبادة الأصنام.

ومن الخصائص المهمّة لذلك اليوم الذي تهيمن فيه حكومة العدل الإلهي في العالم بأسره هو ظهور عقيدة التوحيد في العبادة هذه والتي تسود العالم كلّه ، وليس البشر فقط بل وكلّ الموجودات في الأرض والسماء تسجد لله وفي كلّ الأحوال ، وإذا لم تسجد باختيارها فانّها تسجد من حيث تكوينها وبلسان حالها وتسبّح له.

توضيحات

١ ـ شجرة توحيد العبادة المثمرة

لابدّ من ملاحظة هذه النقطة قبل كلّ شيء وهي : أنّ الإحترام والتواضع والخضوع

__________________

(١) على الصورة الاولى يكون الجار والمجرور متعلّقاً بالفعل أو الوصف المقدّر (وفيه امتياز أنّه يعود للأقرب) وفي الصورة الثانية يكون الجار والمجرور متعلّقاً بالفعل يسجد وفيه امتياز أنّه مذكور.

٢٢٥

والثناء صفاتٌ لها مراتب ودرجات آخرها وذروتها العبادة والعبودية.

ومن البديهي أن يخضع الإنسان لأوامر من يحترمه إلى هذه الدرجة وينقاد له بكلّ وجوده انقياداً تامّاً ويهوي إلى الأرض ويسجد له.

هل من الممكن أن ينفصل الخضوع الذي يصل حدّ العبودية والثناء والإحترام اللامحدود عن الطاعة والتسليم للأمر؟

ومن هنا نقول : إنّ الإنسان إذا استوعب روح العبادة الخالصة فإنّه يكون قد خطا خطوة كبيرة في طريق الطاعة لأمر الله والعمل بالصالحات والإبتعاد عن السيّئات ، ومثل هذه العبادة ـ خاصّة إذا كانت دائمة ومستمرّة ـ تكون رمزاً لتربية الإنسان وتكامله.

مثل هذه العبادة الخالصة المقرونة بعشق المحبوب ، الذي يشكّل عاملاً مهمّاً للحركة إليه ، وكما أنّ التحرّك نحو ذلك الكمال المطلق عامل على ترك القبائح والدنيّات والتلوّث بالمعاصي.

ولهذا حازت مسألة العبادة الخالصة على هذه الدرجة من الأهمّية إلى الحدّ الذي يقول القرآن فيها : (إِنَّ الَّذينَ يَستَكبِرُونَ عَنْ عِبادَتِى سَيَدخُلُون جَهَنَّمَ دَاخِرينَ) (المؤمن / ٦٠)

إنَّ العابد بدافع من خضوعه اللامحدود بين يدي الله يسعى إلى نَيْلِ رضاه والتقرّب إليه ولأنّه يعلم أنّ تحصيل رضاه يتمّ عن طريق طاعة أمره فإنّه يسعى في هذا الطريق ويتقبّل أوامره بطيب نفس تامّ.

العابد الحقيقي يسعى للتشبّه وتقليد صفات معبوده ومعشوقه الحقيقي ويعكس في هذا الطريق قبساً من صفات جماله وجلاله في نفسه ، ولا ينكر ما لهذه الامور من تأثيرات على تكامل الإنسان وتربيته.

٢ ـ روح العبادة والإحتراز من الإفراط والتفريط

هناك إفراط وتفريط عجيبان في معنى العبادة كما هو الحال في الكثير من القضايا الاخرى حتّى أنّ بعضاً أفرط إلى حدّ جوّز فيه السجود لغير الله (مع عدم الاعتقاد بمالكية

٢٢٦

وربوبية المسجود له) ، وذكر سجود الملائكة لآدم وسجود اخوة يوسف بين يديه كشاهدين على ذلك.

وفي المقابل اعتبر بعض آخر أنَّ الاستغاثة والتوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام وطلب الشفاعة وأداء الاحترام لهم ، شركاً ، واعتقدوا بأنّ فاعله مشرك.

وفي الحقيقة أنّه لا يمكن التوفيق بين هاتين العقيدتين.

وللإيضاح نقول : إنّ حقيقة العبادة كما نقلنا عن اللغويين في بداية البحث في شرح المفردات هي : الخضوع المطلق وغاية التواضع والتذلّل أمام المعبود ، وهذا العمل مختصّ بالله من وجهة نظر إسلامية ويكون شركاً في العبادة إن كان موجّهاً إلى معبود آخر.

وبعبارة اخرى إنّ للخضوع والتواضع درجات ، درجة منها تحدث أمام الأصدقاء ويقابلها التكبّر عليهم ، ودرجة اخرى تكون أمام أفراد محترمين كالوالدين كما يقول القرآن : (واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ). (الاسراء / ٢٤)

والدرجة الأكمل تكون أمام الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام حتّى أنّ المسلمين لم يحقّ لهم رفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بدليل قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَرفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلَا تَجهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهرِ بَعضِكُم لِبَعضٍ) (الحجرات / ٢) ولكن آخر مرحلة من الخضوع والتواضع والتذلّل التي نطلق عليها كلمة العبادة والعبودية هو (السجود).

وعليه فإنّ الخضوع المطلق وغاية التذلّل (وإن لم يقترن الإعتقاد بالربوبية والمملوكية) يكون عبادة ومختّصاً بالله ولهذا لا يجوز السجود لغيره.

ولصاحب تفسير (المنار) في تفسير سورة الحمد كلام في معنى العبادة ملخّصه : أنَّ العبادة ضربٌ من الخضوع بالغٌ حدَّ النهاية ، ناشىء عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشأها ، واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيّتها ، وقصارى ما يعرفه منها أنّها محيطة به ولكنّها فوق إدراكه ، فمن ينتهي إلى أقصى الذلّ لملك من الملوك لا يقال أنّه عبده وإن قبَّل موطىء أقدامه ، ما دام سبب الذلّ والخضوع معروفاً وهو الخوف من ظلمه المعهود،

٢٢٧

أو رجاء كرمه المحدود ، اللهم إلّابالنسبة إلى الذين يعتقدون أنّ الملك قوّة غيبية سماوية افيضت على الملوك من الملأ الأعلى ، واختارتهم للإستعلاء على سائر أهل الدنيا ، لأنّهم أطيب الناس عنصراً وأكرمهم جوهراً ، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الإعتقاد إلى الكفر والإلحاد فاتّخذوا الملوك آلهة وأرباباً وعبدوهم عبادة حقيقية (١).

وللمفسّر الكبير العلّامة الطباطبائي رحمه‌الله كلام قريب منه في تفسير سورة الحمد في تفسير (الميزان) حيث يقول : «الربّ مقصور في المالكية والعبد مقصور في العبودية».

قد عرفت من سورة الفاتحة أنّ العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام العبودية وإتيان ما يثبت ويستثبت به ذلك ، فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولوية المولى ، أو عبودية العبد كالسجود والركوع والقيام أمامه حينما يقعد والمشي خلفه حينما يمشي وغير ذلك ، وكلّما زادت الصلاحية ازدادت العبادة تعيّناً للعبودية وأوضح الأفعال في الدلالة على عزّ المولوية وذلّ العبودية ، السجدة ... لكن الذوق الديني المتّخذ من الإستيناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى ، والمنع عن استعماله في غير هذا المورد (٢).

وبناءً على ذلك يستفاد من التدبّر في موارد استعمال كلمة العبادة في القرآن والسنّة والاستعمالات اليومية وشهادة اللغويين أنّ المفهوم اللغوي لهذه الكلمة هو نهاية الخضوع لا الإعتقاد بربوبية المعبود ومالكيته ، ولذا إذا سجد شخص للشمس أو القمر أو النار بسبب بركاتها ، أطلق على فعله هذا عبادة الشمس والقمر والنار ، وهكذا إذا سجد إنسان لتماثيل الأسلاف أوالملوك والسلاطين وأعلى منه إذا للأئمّة عليهم‌السلام لمقامهم الرفيع فإنّ تلك العبادة غير جائزة.

ولهذا ينهى القرآن الكريم بصراحة في آية السجدة بقوله تعالى : (لَاتَسجُدُوا لِلشَّمسِ وَلَا لِلْقَمَرِ). (فصلت / ٣٧)

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٥٦ و ٥٧.

(٢) تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ٢٢ و ١٢٤.

٢٢٨

ولهذا أيضاً تكرّر النهى في الروايات الإسلامية عن السجود لغير الله ومنها :

الروايات السبع التي وردت في (وسائل الشيعة) في أبواب السجود الباب ٢٧ حيث نقرأ في إحدى الروايات أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خاطب مشركي العرب : «اخبروني عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد الله فسجدتم له أو صلّيتم ووضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود بها فما الذي بَقَّيْتُم لربّ العالمين؟ أما علمتم أنّ من حقّ من يلزم تعظيمه وعبادته أن لا يساوي عبيده؟» (١).

وهناك روايات عديدة تتضمّن الإجابة على السؤال حول كيفية سجود يعقوب وأبنائه بين يدي يوسف ، أو كيفية جواز سجود الملائكة لآدم.

١ ـ عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «أمّا سجود يعقوب وولده فإنّه لم يكن ليوسف إنّما كان ذلك منهم طاعةً لله وتحيّةً ليوسف ، كما كان السجود من الملائكة لآدم ، ولم يكن لآدم إنّما كان ذلك منهم طاعةً لله وتحيّةً لآدم فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكراً لله لاجتماع شملهم ألا ترى إنّه يقول في شكره في ذلك الوقت : ربِّ قَد آتَيتنى من المُلك الآية.

٢ ـ عن الإمام العسكري عليه‌السلام قال : «لم يكن له سجودهم ـ يعني الملائكة لآدم إنّما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه لله عزوجل ، وكان بذلك معظّماً مبجّلاً له ، ولا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله يخضع له كخضوعه لله ويعظّمه بالسجود له كتعظيمه لله ، ولو أمرت أحداً أن يسجد هكذا لغير الله لأمرت ضعفاء شيعتنا وسائر المكلّفين من متّبعينا أن يسجدوا لمن توسّط في علوم علي عليه‌السلام وحي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومحض وداد خير خلق الله علي عليه‌السلام بعد محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ...» الحديث.

والنتيجة من هذه الروايات واحدة تقريباً وهي نفي السجود لغير الله ، وقد نقل العلّامة المجلسي في (بحار الأنوار) روايات عديدة في هذا الباب (٢).

وقد ورد في القصّة المعروفة حول هجرة المسلمين إلى الحبشة ، إنّهم حينما دخلوا على

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٣٨٦ ، ح ٣.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ١٣٨ و ١٣٩ ، ح ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٦.

٢٢٩

النجاشي أمرهم الرهبان المسيحيون بأن يسجدوا للملك ، فقال لهم جعفر بن أبي طالب : لا نسجدُ إلّالله (١).

إنَّ هذه الروايات تؤكّد عدم جواز السجود لغير الله وتفسّر حقيقة العبادة.

* * *

٣ ـ توحيد الوهّابيين المشوب بالشرك

«الوهّابيون» : جماعة لا تزال تحكم الحجاز وهم أتباع (محمّد بن عبدالوهّاب) الذي استمدّ أفكاره من (ابن تيمية ، أحمد بن عبد الحميد الدمشقي) المتوفّى عام ٧٢٨ ه‍.

استطاع محمّد بن عبدالوهاب خلال السنوات ما بين عام ١١٦٠ إلى ١٢٠٦ ه‍ التي مات فيها وبتعاون مع الحكّام المحلّيين وإثارة نيران العصبية القاسية بين القبائل التي تجوب صحارى الجزيرة أن يدمّر معارضيه ويستلم زمام الحكم بصورة مباشرة وغير مباشرة وقد أريقت دماء كثير من المسلمين في الجزيرة وغيرها.

وبعد موته هاجم أتباعه العراق عن طرق صحراء الجزيرة ودخلوا كربلاء واستغلّوا عطلة عيد الغدير وسفر الكثير من أهاليها إلى النجف فاقتحموا سور المدينة ونفذوا إلى داخلها وشرعوا بهدم صحن الإمام الحسين عليه‌السلام والأماكن المقدّسة الاخرى ونهبوا الأبواب الثمينة والهدايا النفيسة من المرقد الحسيني وأموال الناس!

لقد قام اولئك بهدم قبور عظماء الإسلام في الحجاز عام ١٣٤٤ ه‍ بحيث استوت مع الأرض باستثناء قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خوفاً من سخط المسلمين!

ويمتاز الوهّابيون بالتعصّب والقسوة والفظاظة وعدم الرحمة والتحجّر والسطحيّة ويعتقدون بأنّهم المدافعون عن التوحيد الخالص في هذا المجال ، وينكرون الشفاعة وزيارة القبور والتوسّل بالقادة العظام ويصبّون جلّ اهتماماتهم تقريباً في هذا السبيل ، وقد رفض

__________________

(١) بحارالانوار ، ج ١٨ ، ص ٤٢٠ ، ح ٨ (نقلاً عن خرائج الراوندي).

٢٣٠

المسلمون قاطبة (سنّة وشيعة) أفكار هذه المجموعة بل وكفّرهم بعض العلماء (١).

ولم يختص البحث هنا عن هذه المجموعة وعقائدها وقبائحها وسيكون لنا كلام مختصر هنا بمقدار ما يرتبط ببحث عقائدهم في التوحيد في العبادة.

إنّهم يقولون : لا يحقّ لأحد أن يطلب الشفاعة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ الله تعالى يقول : (لا تَدعُوا مَع اللهِ احَداً).

ويقول مؤلّف كتاب (الهدية السنّية) وهو من الوهّابيين : من جعل الملائكة والأنبياء وسائط بينه وبين الله لما لهم من قرب إلهي فهو كافر ومشرك ويباح دمه وماله وإن نطق بالشهادتين وصلّى وصام! (٢)

وله منطق مشابه في التوسّل وزيارة قبور الأنبياء والأئمّة والصالحين.

إنَّ الخطأ الكبير الذي يرتكبه الوهّابيون القشريون هو أنّهم تصوّروا أنّ موجودات هذا العالم لها تأثير مستقل ولذا اعتقدوا أنّها تزاحم توحيد الأفعال والتوحيد العبادي لله في حين أنّ هذا المعتقد هو نوع من الشرك!

وللإيضاح نقول : الموحّد الكامل يرى أنّ الوجود المستقلّ القائم بذاته في الكون واحد فقط وهو الله عزوجل ، وسائر عالم الوجود ممكن ومرتبط بوجوده ، فكلّه انعكاس لشمس وجوده وليس له استقلالية من نفسه فكما كان محتاجاً في حدوثه فإنّه محتاج إليه ومتعلّق به في بقائه أيضاً ، فكلّ ما يملكه الموجود فإنّه منه ، وتأثير الأسباب منه فهو مسبّب الأسباب ، وهذا هو معنى جملة (لا مؤثّر في الوجود إلّاالله) ، لا أن نسقط الأسباب من سببيتها أو نعتقد أنّها مستقلّة فكلاهما خطأ وغير صحيح وبعيد عن حقيقة التوحيد.

بناءً على ذلك إذا كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مالكاً للشفاعة فإنّ ذلك بإذنه كما يقول القرآن :

__________________

(١) كتب أحد العلماء السنّة وهو (إحسان عبداللطيف البكري) رسالة بإسم (الوهّابية في نظر علماء المسلمين) أوضح فيها آراء علماء الإسلام العظام حول الوهّابية ومحمّد بن عبدالوهّاب ودوّن الوثائق كلّها بدقّة في آخر الكتاب وقائمة بعناوين الكتب التي تردّهم حيث تبلغ ٥٠ كتاباً لمحقّقي البلدان الإسلامية المختلفة ، وهذا الكتاب دليل واضح على تنفّر المسلمين عموماً من هذه المجموعة المنحرفة.

(٢) الهدية السنّية ، ص ٦٦.

٢٣١

(مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعدِ اذْنِهِ). (يونس / ٣)

وعندما يحيي السيّد المسيح عليه‌السلام الموتى ويُبرىء الأعمى والمبتلين بالأمراض المستعصية فإنّ ذلك بإذن الله أيضاً : (وابرِئُ الْاكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَاحْىِ الْمَوْتى بِإِذنِ اللهِ). (آل عمران / ٤٩)

وعندما يستطيع (آصف بن برخيا) وهو وزير سليمان ومَن وصفه القرآن بـ : (الَّذِى عِنْدَهُ عِلمٌ مِنَ الْكِتَابِ) أن يأتي بعرش بلقيس في طرفة عين ـ كما يصرّح به القرآن ـ من بلاد سبأ إلى سليمان في الشام فإنّه كما قال : (مِن فَضلِ رَبِّي) (النمل / ٤٠)

ولكن الوهّابيين الغرباء عن القرآن وقعوا في خلط كبير وتصوّروا أنّ هذه الأعمال التي تصدر عن هؤلاء العظماء تصدر منهم بالإستقلال ، ولذا قاموا من أجل حلّ المشكل بإنكار بعض الضرورات في الدين مثل مسألة الشفاعة.

وعليه فإنّ هؤلاء ومن أجل تثبيت قواعد التوحيد كما يزعمون سقطوا في وادي الشرك ووادي إنكار ضرورات الدين والقرآن ، وللشهيد المطهّري رحمه‌الله كلام جميل في هذا المجال ننقل خلاصته حيث قال تحت عنوان (حدود التوحيد والشرك) :

١ ـ الإعتقاد بموجود غير الله سبحانه ليس شركاً ذاتياً كما يعتقد أنصار الوحدة النوعية للوجود ، لأنّ هذه الموجودات مخلوقة ومرتبطة به لا أنّها نظيرة له.

٢ ـ لا يعتبر الإعتقاد بتأثير المخلوقات شركاً في الخالقية (كما يعتقد الأشاعرة والجبريون) لأنّ المخلوقات كما أنّها ليست مستقلّة ذاتياً فإنّها غير مستقلّة في تأثيراتها أيضاً ، بل أنّها تابعة له.

٣ ـ لو اعتقدنا بالتأثّر المستقلّ للمخلوقات وقلنا أنّ عالم الخلق أمام الله كالماكنة والساعة التي يصنعها الصانع فهي بحاجة إليه في حدوثها ولا تحتاجه بعد صناعتها لأنّها تعمل حتّى لو ارتحل صانعها من الدنيا ، فهذا هو الإعتقاد بالتفويض وهو لون من الشرك (إعتقاد المعتزلة).

٤ ـ الإعتقاد بقدرة الموجودات التي تفوق الطبيعة وتأثيراتها في العالم بإذن الله وأمره

٢٣٢

ليس شركاً كما يظنّ الوهّابيون ، بل إنّ اعتقادهم يمثّل أسوء ألوان الشرك ، لأنّنا لو اعتبرنا ذلك شركاً لكان الإعتقاد بأصل وجود الموجودات شركاً أيضاً.

وهكذا فإنّ الإعتقاد بقدرة الإنسان وتأثيره بعد رحيله من الدنيا لا يعدّ شركاً ، لأنّ الإنسان لا يكون جماداً بعد موته.

ثمّ إنّ اعتقاد الوهّابيين يتّسم باللاإنسانية حيث ينزلون الإنسان منزلة الحيوان الطبيعي وهو الذي اعتبره الله خليفة له وأعلى منزلة من الملائكة الذين سجدوا له.

وهنا نصل إلى حقيقة الحديث الشهير الوارد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول فيه ما نصّه : «إنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء ، في ليلة ظلماء» (١).

والطريف أنّ الردّ على الوهّابيين موجود في الآية التي يستدلّون بها على إنكار الشفاعة و (التوسّل) ، لأنّ القرآن الكريم يقول : (فَلَا تَدعُوا مَعَ اللهِ احَداً). (الجن / ١٨)

ويعني المثيل الذي يكون في عرضه وعلى هيئة الموجود المستقلّ كذاته المقدّسة ، ولكن إذا كان تأثيره بإذنه وأمره لا في عرضه فإنّ ذلك ليس شركاً فحسب بل فيه تأكيد جديد على أصل التوحيد الذي ينتهي كلّ شيء إليه.

وهذا يشابه ما طلبه اخوة يوسف من أبيهم يعقوب وكان نبيّاً عظيماً وقد تقبّل ذلك منهم حيث قالوا : (يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا). (يوسف / ٩٧)

فاستجاب لهم وقال : (سَوفَ أَسْتَغفِرُ لَكُم رَبِّى). (يوسف / ٩٨)

هذه هي حقيقة التوحيد في العبادة ، وتوحيد الأفعال التي ستتمّ الإشارة إليها وليس كما يظنّه الوهّابيون المتحجّرون.

__________________

(١) مقدمة في الرؤية الكونية للشهيد المطهري ، ص ١١٣ (مع الإختصار).

٢٣٣
٢٣٤

٤ ـ توحيد الأفعال

أ) توحيد الخالقية

تمهيد :

إنَّ مفهوم (توحيد الأفعال) في تفسير مبسط وواضح يعني أنّ الكون بأسره هو فعل الله ، وكلّ الأفعال ، والحركات ، والتأثيرات ، والتأثّرات تنتهي إلى ذاته المقدّسة ، وفي الحقيقة (لا مؤثّر في الوجود إلّاالله) ، فالسيف حينما يقطع والنار حينما تحرق والماء حينما يروي الناس والنباتات كل ذلك بإرادته وأمره ، وباختصار فإنّ أثر كلّ موجود يكون مصدره الله سبحانه.

وبعبارة اخرى : إنّ الموجودات كما أنّها تابعة في أصل وجودها إلى ذاته فإنّها كذلك في تأثيرها وفعلها.

ولكن هذا المعنى لا ينفي عالم الأسباب وحاكمية قانون العلّية ، وطبقاً للحديث المعروف عن الإمام الصادق عليه‌السلام (أبى الله أَن يُجري الأشياءَ إلّابأسبابٍ) (١).

كما أنّ الإعتقاد بتوحيد الأفعال لا يستوجب الإعتقاد بأصل الجبر وسلب الحريّة من إرادة الإنسان ، كما ستتمّ الإشارة إلى ذلك لاحقاً بإذن الله.

بهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم ونبحث عن فروع توحيد الأفعال ونذهب أوّلاً إلى توحيد الخالقية فنتأمل خاشعين في الآيات الآتية :

١ ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُم لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَىءٍ فَاعْبُدُوهُ وهُوَ عَلى كُلِّ شَىءٍ وَكِيلٌ). (انعام / ١٠٢)

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٨٣ ، باب معرفة الإمام ، ح ٧.

٢٣٥

٢ ـ (قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَىءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ). (رعد / ١٦)

٣ ـ (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللهِ يَرزُقُكُم مِّنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ لَاالهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ). (فاطر / ٣)

٤ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالْأَرضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ). (عنكبوت / ٦١)

٥ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعْمَلُونَ). (صافات / ٩٦)

٦ ـ (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ). (اعراف / ٥٤)

شرح المفردات :

(خلق) في الأصل كما يقول الراغب في المفردات يعني التقدير المباشر ويستعمل عادةً في الإيجاد والإبداع لشيء من دون أن يكون له سابق ومثيل ، وعلى ما ورد في (مقاييس اللغة) فإنّ (خلق) لها معنيان أصليان : الأوّل هو التقدير ، والثاني هو استواء الشيء ، ولذا يطلق على الحجر المستوي (خَلقاء) وعلى الصفات الباطنة (أخلاق) لأنّه يحكي عن نوع من الخلق ، وعلى كلّ حال بما أنّ الخلق يعني التقدير والتنظيم والتسوية فإنّ هذه الكلمة استعملت في خلق الله الإبداعي.

جمع الآيات وتفسيرها

هو الخالق لكلّ شيء :

تقول آية البحث الاولى بعد تبيان صفات الله الجلالية والجمالية :

(ذلِكُم اللهُ ربُّكُم) ، لا الأصنام التافهة ولا المعبودات من الملائكة والجنّ التي هي من المخلوقات والمربوبات ، والله عزوجل هو ربّ الجميع (١).

__________________

(١) جملة «ذلكم الله ربّكم» فيها (ذلكم) وهو إسم إشارة إلى البعيد وفي مثل هذه الموارد يكون كناية عن العظمة غير الإعتيادية لمقامه الخارج عن حدود الأفكار.

٢٣٦

وتضيف : (لَاالهَ إِلَّا هُوَ).

لأنّ اللائق للعبادة هو الذي يكون (ربّاً) أي مالكاً ومربّياً ومدبّراً لكلّ شيء ، وللمزيد من التأكيد وإقامة دليل آخر على إنحصار المعبود فيه تضيف الآية : (خَالِقُ كُلِّ شىءٍ) ، ثمّ تستنتج لتقول : (فَاعْبُدُوهُ).

ولقطع كلّ أمل بغير الله وصدّ البشر عن التعلّق بعالم الأسباب وإجتثاث جذور الشرك تقول الآية : (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ وَكِيلٌ).

كلمة (شيء) كما يقول اللغويون : تعني كلّ أمر يمكن أن يناله علم الإنسان (١) ، إلّاأنّها في آية البحث تعني كلّ الموجودات ما سوى الله سبحانه.

وعلى أيّة حال فإنّ لهذه الكلمة مفهوماً واسعاً يشمل كلّ الموجودات المادّية والمجرّدة والذهنية والخارجية والجوهر والعرض ، وباختصار : إنّها تشمل كلّ شيء ، وهذه الآية دليل واضح على عمومية الخلق الإلهي بالنسبة لكلّ شيء.

وقد وقع هنا نزاع معروف بسبب شمول (شيء) لأعمال الإنسان بين جماعة تقول بالجبر ـ كالفخر الرازي ـ حيث يقول : (إنّ أعمالنا داخلة في كلمة (شيء) أيضاً ، فالله إذن هو خالقها) ، وهذه الآية دليل على الجبر عندهم ، ولكن المؤيّدين لحريّة الإرادة لهم إجابة واضحة ومستدلّة وستأتي في الإيضاحات.

وقد استدلّت جماعة بهذه الآية على نفي الصفات الزائدة على الذات في مواجهة الأشاعرة القائلين بأنّ الله ذو صفات منفصلة عن ذاته ، فلو كان الأمر كذلك فإنّ كلمة (شيء) تشملها ويجب ـ حينئذ ـ أن تكون مخلوقة لله ، ولا معنى لأن يخلق الله صفاته كالقدرة والعلم و... ولا ينسجم هذا مع وجوب الوجود أساساً.

فأجاب بعض الأشاعرة بتخصيص عموم الآية بأن نقول : إنّ (خالق كلّ شيء) لا يشمل صفات الله! ولكن الآية تأبى الإستثناء ولم يرد عليها أي تخصيص كما سنبيّن ذلك بإذن الله.

* * *

__________________

(١) هذه الكلمة مصدر (شاء) وتكون تارةً بمعنى اسم الفاعل وتارةً بمعنى اسم المفعول (فتأمّل جيدّاً).

٢٣٧

الآية الثانية تبيّن محتوى الآية السابقة إضافة إلى تأكيدها على وحدانية الله وقهّاريته حيث جاء فيها : (امْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلقُ عَلَيهِم قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَىءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).

«قهّار» : من (قهر) ويعني في الأصل الغلبة المقرونة بتحقير الطرف المقابل ولذا ، تستعمل في هذين المعنيين كليهما ، ونظراً لاستعمالها هنا بصيغة المبالغة فانّها تعني غلبة الله والنصر المطلق ـ دون قيد أو شرط ـ على كلّ شيء وكلّ فعل حتّى معبوداتهم وأصنامهم غير مستثناة ، وعليه كيف تكون شريكاً لله؟!

* * *

الآية الثالثة تطرح الموضوع بصورة اخرى وهي صورة الإستفهام الإستنكاري حيث تقول : (هَلْ مِن خَالِقٍ غَيرُ اللهِ يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ والْأَرضِ) ، كلّا ، فهو الذي بدأ خلقكم ، وبقاؤكم مستند إلى رزقه المتواصل.

فبأمره تشرقُ الشمسُ عليكم من السماء ، وينزل المطر لاحياء الأرض ويسخّر الرياح ، وهو الذي يتفضّل عليكم بالنباتات والثمار والغذاء والمعادن والثروات الثمينة.

وعليه عندما لا يوجد خالق ورازق سواه فبداية الجميع ونهايتهم إذن بيده : (لَاالهَ إِلَّا هُوَ فَانَّى تُؤْفَكُونَ).

خالقية الله للكون :

لا ينكر حتّى المشركون أنّ الله هو الخالق للكون ، والآية الرابعة تطرح مسألة التوحيد في إطار آخر وهو أنّ المشركين أنفسهم يُقرّون أنّ الأصنام ليست خالقة للسماء والأرض والشمس والقمر أبداً وتقول : (وَلَئِنْ سَأَلتَهُم مَّن خَلَقَ السَّماوَاتِ والْأَرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ).

فقد كان المشركون يعتقدون أنّ الأصنام شريكة لله في العبادة أو لها التأثير على مصير

٢٣٨

الإنسان في الخالقية ، فلا يصدق عاقل بأنّ كتلة من الحجر والخشب مصنوعة بيد الإنسان على هيئة الصنم تكون خالقاً للسماء والأرض وحتّى أنّهم لم يعتقدوا أنّ للأنبياء والأولياء هذا المقام أيضاً.

يحتمل أن تكون هذه الآية إشارة إلى نفوذ هذه العقيدة في أعماق الفطرة الإنسانية ، وعلى أيّة حال فإنّ الفصل بين (توحيد الخالقية) و (توحيد العبادة) تناقض صريح ، لأنّ الخالق والرازق هو اللائق بالعبودية فهو الذي سخّر الشمس والقمر لينعم بهما الإنسان وجعلهما في خدمته.

بناءً على ذلك لا تنفصل (الخالقية) عن (الربوبية) ولا (الربوبية) عن (الالوهية) ، وبعبارة أوضح : هو الخالق وهو المدبّر للعالم وهو أهل لعبودية العباد.

وقد حاول بعض المفسّرين مثل مؤلف تفسير (في ظلال القرآن) أن يعتبر التفات مشركي العرب إلى (توحيد الخالقية) ناشىء من تعليمات الأنبياء كالنبي إبراهيم عليه‌السلام (١).

إلّا أنّه لا ضرورة لهذا الإصرار ، حيث يقرّ كلّ إنسان بهذه الحقيقة عند مراجعته للعقل والوجدان ، كما اشير إلى هذا المضمون في تفسير روح البيان (٢).

إنّ الإستناد إلى مسألة الخلق ثمّ التسخير إشارة إلى مسألتي (الخلق) و (التدبير) حيث يكون الجميع بأمره والمراد من (التسخير) في هذه الآية ـ بقرينة آيات التسخير الاخرى الواردة في القرآن الكريم ـ هو استخدامها في سبيل المصالح البشرية.

وعبارة (فَأَنّى يُؤْفَكُونَ) مع ملاحظة اشتقاقه من (افك) بمعنى (إرجاع الشيء عن مسيره الأصلي) يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ المسار الصحيح والمنطقي هو أنّهم بعد الإقرار بخالقية الله وتدبيره في عالم الوجود «أن لا يعبدوا سواه» ، إلّاأنّهم انحرفوا عن الطريق فتعرّضوا إلى العواصف العاتية للشيطان والنفس التي رمت بهم ـ كالقشّة ـ من الطريق المستقيم إلى التيه والضلالة (لاحظ أنّ المؤتفكات تعني الرياح المضادّة).

* * *

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٦ ، ص ٤٢٨.

(٢) تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٨٨.

٢٣٩

في الآية الخامسة استناد خاصّ إلى كون الأصنام مصنوعة باليد حيث تقول : (وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ) وذلك لما ورد في الآية السابقة لها عن قول إبراهيم عليه‌السلام ـ رمز التوحيد ـ للمشركين : (اتَعْبُدُونَ مَا تَنحِتُونَ)؟ ويقول في هذه الآية : (واللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ) فلا تستحقّ أي منها العبادة ، بل إنّ أصنامكم موجودات أحطّ منكم لأنّها مصنوعة بأيديكم.

و «ما» : في جملة (وما تعملون) في هذه الحالة تكون موصولة.

وقد احتمل بعض أو أصرّوا على أنّ اعتبار (ما) هنا مصدرية فيكون معنى الآية : إنّ الله خلقكم وخلق أعمالكم ، في حين لا يتناسب هذا المعنى لأنّه :

أوّلاً : إنّ الله يوبّخ الكفّار في الآية على عبادتهم للأصنام فلو كان الله خالقاً لأعمالهم فلماذا التوبيخ؟!

ثانياً : إنّ جملة (ما تعملون) دليل على أنّهم خلقوا أعمالهم ، وعليه لا تنسجم مع الخلق الإلهي.

ثالثاً : في الآية السابقة ورد حديث عن الأصنام التي كانوا يصنعونها بأيديهم فالمناسب أن تكون (ما) هي المراد هنا ، وإلّا فإنّ الآيات تفقد ترابطها ، ولذا اختار كثير من المفسّرين التفسير الأوّل أمثال الزمخشري ، في الكشّاف والآلوسي في روح المعاني ، والعلّامة الطباطبائي في الميزان وغيرهم.

وهنا سؤال يطرح نفسه وهو : كيف يمكن أن تكون الأصنام مصنوعة لله والبشر في الوقت ذاته؟!

يقول الزمخشري : إنّ موادها مخلوقة لله وصورتها مخلوقة لصانعي الأصنام (١).

إلّا أنّ الصورة والشكل مخلوقة لله من إحدى الجهات ، لأنّ الله سبحانه أعطى الإنسان القدرة وخلق فيه هذا العلم والمهارة وإن نهاه عن سوء الاستفادة منها.

وأخيراً نواجه في الآية السادسة والأخيرة عبارة جديدة في باب توحيد الخالقية حيث تقول : (الَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمرُ) و (تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).

__________________

(١) تفسير الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٥١.

٢٤٠