نفحات القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-97-0
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٠٨

التقسيمات الأساسية :

قرأنا في البحوث السابقة أنّ الأساس في دعوة جميع الأنبياء والكتب السماوية كما يشهد بذلك القرآن الكريم ـ هو التوحيد ـ وقد شرحنا الأدلّة عليه من القرآن والمنطق العقلي ، وقد آن الأوان هنا لمراجعة الأبعاد المختلفة والفروع المتنوّعة والغنية للتوحيد ، ومن هنا تتجلّى أهميّة هذه المسألة.

ومن المعروف لدى علماء العقائد أنّ التوحيد ذو اقسام أساسية أربعة :

١ ـ توحيد الذات (ذات الله واحدة ولا مثيل لها).

٢ ـ توحيد الصفات (صفات الله عزوجل ترجع كلّها إلى حقيقة واحدة هي ذاته).

٣ ـ توحيد العبادة (تليق العبادة بذاته المقدّسة فقط).

٤ ـ توحيد الأفعال (هو المبدىء لكلّ خلق ونظام الكون وكلّ حركة وفعل في هذا العالم ولا مؤثّر في الوجود إلّاالله سبحانه ولا يتنافى هذا مع اختيار الإنسان أبداً وتوحيد الأفعال له فروع اخرى أهمّها :

١ ـ توحيد الخالقية (الخلق منه فقط).

٢ ـ توحيد الربوبية (تدبير الكون إليه فقط).

٣ ـ توحيد المالكية والحاكمية التكوينية.

٤ ـ توحيد الحاكمية التشريعية والتقنينية.

٥ ـ توحيد الطاعة (تجب طاعة أوامره فقط أو أوامر الذين أمر بطاعتهم) ولا شكّ في أنّ أفعال الله لا تنحصر في ما ذكر ، ولذا فإنّ فروع توحيد الأفعال لا تنحصر فيما ذكر ولكن هذه الفروع الخمسة هي الفروع الرئيسة.

٢٠١

وضروري أن نذكر بأنّ التوحيد يمكن تقسيمه من جهة إلى قسمين : التوحيد (الخاص) والتوحيد (العام).

التوحيد الخاصّ : هو فروع التوحيد التي اشير إليها بصورة إجمالية.

أمّا التوحيد العام فهو عبارة عن :

١ ـ التوحيد في النبوّة (فجميع الأنبياء : تابعوا هدفاً واحداً وكان لهم منهج أساسي واحد ، ولذا لا نفرّق بينهم من حيث الدعوة والمهمّة) : (لا نُفرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِّنْ رُسُلِهِ).

٢ ـ التوحيد في المعاد (يحشر جميع البشر في يوم واحد ويحضرون محكمة واحدة).

٣ ـ التوحيد في الإمامة (مبدأ الأئمّة واحد ويسعون وراء حقيقة واحدة وهم نور واحد).

٤ ـ التوحيد في النظم والعدل (القانون الإلهي واحد بالنسبة لجميع البشر).

٥ ـ التوحيد في المجتمع البشري (الجميع عباد الله ومن أب واحد وامّ واحدة لا يختلفون باختلاف اللون والعنصر واللسان وأمثالها ويشكّلون مجتمعاً واحداً).

وبهذه المقدّمة نراجع الآيات القرآنية ونبحث حول كلّ فرع من هذه الفروع بصورة مستقلّة.

* * *

٢٠٢

١ و ٢ ـ توحيد الذات والصفات

تمهيد :

المراد من توحيد الذات ـ حيثما كان الحديث عنه ـ هو أنّ ذات الله المقدّسة لا شبيه ولا نظير لها ، وهي واحدة لا مثيل لها من أيّ جهة.

وبما أنّ الأبحاث السابقة كانت تدور ـ عادةً ـ حول محور توحيد الذات وقد اقيمت أدلّة مختلفة لإثبات التوحيد والآيات القرآنية التي تمّ تفسيرها كانت تقصد التوحيد بهذا المضمون ، لذا ننصرف عن تكرار البحث بصددها ونتابع التفسير الدقيق لمعنى توحيد الذات ، فنتأمل خاشعين أوّلاً في الآيات الآتية :

١ ـ (لَيسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ). (الشورى / ١١)

٢ ـ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ومَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا الَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). (المائدة / ٧٣)

٣ ـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَم يَلِدْ وَلَم يُولَدْ* وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ). (التوحيد / ١ ـ ٤)

جمع الآيات وتفسيرها

يامن تعالى عن الخيال والقياس والظنّ والوهم :

تفسّر الآية الاولى توحيد الذات في جملة واحدة تفسيراً بليغاً ورصيناً غني المعنى حيث تقول «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ».

٢٠٣

ومثل هذا الشيء ـ بالتأكيد ـ يكون أعلى من الخيال والقياس والظنّ والوهم ، وليس بمقدورنا تصوّر ذاته ، لأنّ الأشياء الممكن تصوّرها هي التي لاحظنا أمثالها أو تحصّلت بعد التركّب والتجزئة ، أمّا الشيء الذي ليس له أي مثيل فلا يتناوله الوهم والعقل أبداً ، ومعرفتنا تكون بمقدار أنّه موجود ونرى أفعاله وآثاره في عالم الوجود الواسع ، ومن هذه الأوصاف ندرك صفاته إجمالياً ، ولكن ليس بمقدور حتّى الأنبياء المرسلين والملائكة المقرّبين أن يدركوا حقيقة ذاته.

والإقرار بهذه الحقيقة هو آخر مرحلة في سلّم معرفة الإنسان لله عزوجل والحديث المعروف : «ما عرفناك حقّ معرفتك» (١) المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بيان لذروة العرفان البشري بالله عزوجل.

والدليل على ذلك واضح لأنّه كما ذكر في بحث أدلّة التوحيد هو وجود لا متناهٍ ولا نهاية له من كلّ جهة ، وكلّ ما سواه محدود ومتناهٍ من كلّ جهة ، ولذا لا يمكن قياسه إلى غيره ، وبما أنّ وجودنا وعقولنا وأفكارنا محدودة فإنّا لا نصل إلى كُنه تلك الحقيقة اللامحدودة أبداً.

استناداً إلى هذا التفسير فإنّ (الكاف) في (ليس كمثله شيء) تكون زائدة وللتأكيد (٢) ، أي لا يوجد شيء شبيه له أبداً ، نعم يمكن أن يفيض سبحانه من وجوده وعلمه وقدرته في عالم الممكنات ولكن مخلوقاته الممكنة ليست مثله أبداً.

ولكن بعض المفسّرين لم يعتبر (الكاف) زائدة وقالوا : مفهوم الآية هو (لا يوجد مثيل لله) أي أنّ (مثل) هنا تعني (الذات) كما نقول : مثلك لا يسلك هذا الطريق المعوج ، أي لا ينبغي لك أن تفعل هذا.

وقال البعض أيضاً : إنّ (مثل) هنا بمعنى الصفات ، أي لا يوجد موجود يتّصف بأوصاف الله.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ١٤.

(٢) جاء في تفسير روح المعاني : إنّ بعض المفسّرين اعتبر (مثل) زائدة ولكن أشكل عليه أبو حيّان وقال : الإسم لايكون زائداً في اللغة العربية أبداً.

٢٠٤

وواضح أنّ نتيجة هذه التفاسير الثلاثة في بحثنا تكون واحدة وإن كانت تبحث الموضوع من طرق متباينة.

والجدير ذكره هو أنّنا نقرأ في حديث أنّ رجلاً جاء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسأل : ما رأسُ العلمِ؟ فأجابَ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «معرفة اللهِ حقَّ معرفته وأضاف : أن تعرفه بلا مثال ولا شبه وتعرفه إلهاً واحداً خالقاً قادراً أوّلاً وآخِراً وظاهراً وباطناً ، لا كفو له ولا مثل له فذاك معرفة الله حقّ معرفته» (١) ومن الواضح أنّ (حقّ معرفته) هذه نسبية وإلّا ـ كما قلنا ـ لا يعرفه على ما هو عليه أحد.

* * *

في الآية الثانية يعتبر القرآن الكريم القائلين بأنّ الله ثالث أقنوم من الأقانيم الثلاثة (٢) كفّاراً : (لَقَد كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا انَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ).

وينبغي الإلتفات إلى أنّ الآية لم تقل : إنّ الذين يعتقدون بالآلهة الثلاثة كفّار ، بل قالت : (إنّ الذين يعتبرون الله أقنوماً ثالثاً أو ذاتاً ثالثة كفّار) ، وقد سلك المفسّرون في فهم مضمون الآية مسالك مختلفة.

فقال بعضهم : إنّ المراد هم الذين يعتقدون أنّ الله جوهر واحد في الذوات الثلاثة (الأب) و (الإبن) و (روح القدس) ، ويقولون : إنّه واحد في عين تعدّده ، كما أنّ لفظ الشمس يشمل قرص الشمس ونورها وحرارتها والثلاثة واحدة (٣).

وبعبارة اخرى : المراد هو عقيدة (التوحيد في التثليث) القائلة بأنّ الله في عين كونه ثلاثة يكون واحداً (وهذا كلام غير معقول طبعاً لأنّ العدد «ثلاثة» لا يساوي «واحداً» أبداً ، إلّاأن يكون أحدهما مجازياً والآخر حقيقيّاً).

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ١٤.

(٢) «الأقنوم» بمعنى الأصل والذات وجمعه أقانيم ، وهو تعبير يطلقه النصارى على الآلهة الثلاثة في مسألة التثليث.

(٣) تفسير الكبير ، ج ١٢ ، ص ٦٠.

٢٠٥

وقد جاء في تفسير القرطبي : إن الآية تشير إلى فرق النصارى من الملكية (أو الملكانية) والنسطورية واليعقوبية لأنّهم يقولون : أب وابن وروح القدس إله واحد (١).

ولكن الظاهر أنّه خطأ لأنّهم نسبوا هذه العقيدة إلى جميع النصارى في القول بالتثليث والتوحيد معاً.

والعلّامة الطباطبائي رحمه‌الله يقول : إنّ ثالث ثلاثة يعني أنّ كل واحد من هذه الثلاثة : (الأب والإبن وروح القدس ، هو إله ينطبق على كلّ واحد منها وهي ثلاث ذوات وفي الوقت نفسه ذات واحدة) (٢).

ولكن الآية تتحدّث في الظاهر عن غير هذا كلّه ، فالكلام يدور حول الاعتقاد بأنّ الله ذات ثالثة كفر ، أي ليس الإعتقاد بالآلهة الثلاثة موجباً للكفر بل جعل الله تعالى في عرض الموجودات الاخرى واعتباره الثالث من الذوات الثلاثة ، وبعبارة اخرى اعتبار (الوحدة العددية) له موجب للكفر (فتأمّل جيّداً).

وقد ورد بيان هذا المعنى بشكل لطيف في حديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث نقرأ بأنّ أعرابياً جاء إلى أمير المؤمنين في يوم حرب الجمل فقال : ياأمير المؤمنين أتقول : إنّ الله واحد؟

فحمل الناس عليه وقالوا : ياأعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ؛ ثمّ قال : «ياأعرابي إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام ، فوجهان منها لا يجوزان على الله عزوجل ، ووجهان يثبتان فيه ، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد أما ترى أنّه كفر من قال إنّه ثالث ثلاثة ؛ وقول القائل : هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٤٤ ، ص ٢٢٤٦ ، وقد جاء هذا المعنى أيضاً في تفاسير اخرى مثل روح البيان والمنار في ذيل آية البحث.

(٢) تفسير الميزان ، ج ٦ ، ص ٧٣.

٢٠٦

يجوز لأنّه تشبيه وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا ؛ وقول القائل : إنّه عزوجل أحديُّ المعنى يعنى به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربّنا عزوجل» (١).

القسم الثالث والأخير عبارة عن سورة التوحيد التي ترسم وحدانية الله بأروع الصور وتتضمّن كلاماً جامعاً ينفي تثليث النصارى والثنوية (عبادة الإثنين) لدى المجوس وشرك المشركين ، فتقول أوّلاً : (قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، وهو تعبير يدلّ على أنّ أسئلة مختلفة قد طُرحت على نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله حول المعبود الذي يدعوهم إليه ، فامر أن يشرح لهم جميعاً حقيقة التوحيد بهذه الجمل القصيرة المركّزة المعنى.

«أحد» : وأصلها (وَحَد) من (وحدة) إستبدلت الواو فيها بالهمزة ولذا يعتبر الكثير أنّ (أحد) و (واحد) بمعنى واحد ، وقد اشير إلى هذا المضمون في بعض الروايات وكلاهما إشارة إلى الذات التي لا مثيل لها (٢).

وقد فرّق البعض بين (أحد) و (واحد) ، فقالوا تارةً : إنّ (أحد) من الصفات المختصّة بالله لأنّه لا يطلق على الإنسان وغيره ، أمّا (واحد) فانّه ليس كذلك.

وقالوا تارة اخرى : إنّ (واحد) يستعمل في الإثبات والنفي ولكن (أحد) يستعمل في النفي فقط.

وقالوا تارةً ثالثة : إنّ (أحد) إشارة إلى وحدة الذات و (واحد) إشارة إلى وحدة الصفات.

وقالوا رابعة : إنّ (أحد) يطلق على الذات التي لا تتقبّل الكثرة لا في الخارج ولا في الذهن ، ولذا لا يمكن عدّه بعكس الواحد الذي يتصوّر له الثاني والثالث.

وقالوا خامسة : إنّ (أحد) إشارة إلى بساطة ذات الله عزوجل ونفي أي جزء عنه ، في حين أنّ (واحد) فيه إشارة إلى وحدانية ذاته قبالة أن يكون له مثيل ، غير أنّ تلك التفاسير الخمسة لا تمتلك دليلاً واضحاً ، فمثلاً يقال : يوم الأحد ، ويطلق الواحد على الله في القرآن : (إِلَهٌ وَاحِدٌ). (البقرة / ١٦٣)

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٢٠٦ ، ح ١.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٢٢.

٢٠٧

وكما أنّ «أحد» استعمل في جملة ثبوتية كما في سورة البحث وآيات قرآنية اخرى(١).

فالصحيح هو أن نقول بأنّ الإثنين يشيران إلى معنى واحد.

على كلّ حال ، يعتقد بعض المفسّرين أنّ جملة (الله أحد) هي أكمل وصف لمعرفة الله يمكن أن يستقرّ في عقل الإنسان ، لأنّ كلمة (الله) تشير إلى الذات التي لها صفات الكمال كلّها وفي (أحد) إشارة إلى نفي الصفات السلبية كلّها (٢).

والقرآن الكريم في إكمال هذه الآيات يقول : (اللهُ الصَّمَدُ) فهو إله قائم بالذات وغني ويقصده كلّ المحتاجين ويتوجّهون إليه.

وكلمة «صمد» كما في (مقاييس اللغة) لها أصلان : أحدهما يعني القصد ، والثاني الصلابة والإستحكام ، وعندما تستعمل بصدد الله تعالى فإنّ معناها هو الغني المطلق الذي يتوجّه إليه كلّ المحتاجين ، وتعني أيضاً الذات الواجبة الوجود والقائمة بذاتها.

ومن الممكن أن يرجع الأصلان إلى أصل واحد ، لأنّ الذات المستحكمة والصلبة والقائمة بذاتها تكون غنيّة ـ طبعاً ـ وموضعاً لتوجّه جميع المحتاجين ، وعليه فإنّ (صمد) يمكن أن يكون إشارة إجمالية إلى جميع الصفات الثبوتية والسلبية لله تعالى ، ولعلّه لهذا الدليل ذُكرت معانٍ كثيرة ل (صمد) في الروايات الإسلامية حيث يشير كلّ واحد منها إلى إحدى صفات الله (٣).

على أيّة حال ، لا تخفى العلاقة بين هذه الآية والآية السابقة لها التي تتحدّث عن وحدانية الله ، لأنّ واجب الوجود والغني وحاجة جميع الموجودات إليه تستلزم أن يكون واحداً وأحداً.

وفي الآية اللاحقة تأكيد آخر على حقيقة التوحيد حيث ترد عقيدة النصارى في الآلهة الثلاثة (الأب ، والإبن ، والواسطة بينهما) ، وتبطل عقيدة اليهود بأنّ عزير ابن الله ، كما تبطل

__________________

(١) الآيات : التوبة ، ٦ ؛ النساء ، ٤٣ ؛ مريم ، ٢٦ ؛ البقرة ، ١٨٠ ؛ الكهف ، ١٩ ؛ وآيات كثيرة اخرى.

(٢) تفسير الكبير ، ج ٣٢ ، ص ١٨٠.

(٣) راجع التفسير الأمثل ، ذيل الآية ٢ من سورة الاخلاص.

٢٠٨

عقيدة المشركين العرب في أنّ الملائكة بنات الله ، أجل ، إنّها ومن أجل نفي هذه الامور كلّها وأمثالها تقول : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ).

ومن المسلّم به أن يكون للوجود الذي له ولد أو والد شبيه ومثيل ، لعدم إمكانية إنكار الشبه بين الأب والإبن ، وعليه لا يمكن أن يكون واحداً ولا مثيل له.

ولذا يقول بعد هذه الآية : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أَحَدٌ).

وعليه فإنّ الآيات الثلاثة من هذه السورة تؤكّد على أحدية الله المقدّسة ووحدانيته وعدم الشبيه والمثيل له ، وبعبارة اخرى تكون كلّ آية في هذه السورة تفسيراً للآية السابقة لها ، وبمجموعها أوضحت مسألة التوحيد بشكل جامع وتامّ وتجسّدت شجرة التوحيد الطيّبة بكلّ أغصانها وأوراقها.

* * *

توضيحات

١ ـ المفهوم الدقيق لتوحيد الذات

يذهب الكثير إلى أنّ : معنى توحيد الذات هو أنّ الله واحد وليس إثنين ، وهذه العبارة غير صحيحة وغير مطابقة لما ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في تفسير هذه الآيات ، لأنّ مفهومها الواحد العددي (أي أن يتصوّر الثاني لله عزوجل ولكن لا وجود خارجي له) ومن المسلّم أنّ هذا كلام غير صحيح ، والصحيح هو أن يقال : إنّ توحيد الذات هو أنّ الله واحد ولا يتصوّر له الثاني ، وبعبارة اخرى : إنّ الله لا شبيه له ولا نظير ولا مثيل ، فلا يشبهه شيء ولا هو يشبه شيئاً لأنّ هذا الوجود اللامتناهي الكامل هو الذي يتّصف بهذه الصفة.

ولذا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام حينما سأل أحد أصحابه : أي شيء أكبر من الله؟ فأجاب : «الله أكبر من كلّ شيء» ، ثمّ قال الإمام عليه‌السلام : «فكان ثَمَّ شيء فيكون أكبر منه؟!» ، فقال : فما هو (ما المراد من هذه الكلمة)؟ فأجابعليه‌السلام : «الله أكبر من أن يوصف» (١).

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق ، ص ٧ ، ح ١.

٢٠٩

٢ ـ مفهوم توحيد الصفات

حينما نقول : إنّ توحيد الصفات هو فرع من فروع التوحيد فإنّ مفهومه هو : كما أنّ ذات الله عزوجل أزلية وأبدية فإنّ صفاته كالعلم والقدرة وأمثالها أزلية وأبدية أيضاً ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ، هذه الصفات ليست زائدة على ذاته فلا يوجد فيها عارض ومعروض بل هي عين ذاته.

ومن جهة ثالثة لا تفصل الصفات عن بعضها ، أي أنّ علمه وقدرته شيء واحد والإثنان عين ذاته!

بيان : عندما نراجع أنفسنا نرى أنّنا كنّا نفقد الكثير من الصفات ، فلم نملك حين الولادة علماً ولا قدرة ، ولكن هذه الصفات نمت فينا تدريجيّاً ، ولذا نقول : إنّ هذه امور زائدة على ذواتنا ، ولذا يمكن أن يمرّ بنا اليوم الذي نفقد فيه القوّة العضلية والعلوم والأفكار التي نملكها ونرى بوضوح أيضاً إنّ علمنا وقدرتنا منفصلتان ، فالقدرة الجسمية في عضلاتنا ولكن العلم موجود في الروح!

ولا يتصوّر في الله أي معنى من هذه المعاني ، فذاته كلّها علم وقدرة وكلّ شيء في ذاته واحد ، ونسلّم طبعاً بأنّ تصوّر هذه المعاني ـ بالنسبة لنا نظراً لفقداننا لهذه الصفة ـ معقّد وغير مألوف ولا سبيل إليه إلّاقوّة المنطق والاستدلال الدقيق واللطيف.

* * *

٣ ـ الدليل على توحيد الصفات

إنّ الخوض في صفات المخلوقات وعدم القدرة على استيعاب مفهوم توحيد الصفات هو السبب في انحراف بعض المتكلّمين وعلماء العقيدة عن المسير الصحيح في موضوع صفات الله ، أمثال طائفة (الكرامية) وهم أتباع محمّد بن كرام السيستاني الذين اعتقدوا بأنّ صفات الله حادثة ، وكذلك كانوا يعتقدون أنّ الله لم يكن مالكاً لهذه الصفات ابتداءً ثمّ امتلكها!

وهذا الكلام في غاية القبح! ولا يمكن لأحدٍ أن يصدّقه ، مَنْ يصدّق بأنّ الله كان عاجزاً في البداية ثمّ اقتدر؟ فمن الذي أعطاه القدرة! ومن الذي وهبه العلم؟!

٢١٠

ولذا يحتمل أن يكون مرادهم هو صفات الفعل كالخالقية والرازقية ، لأنّ الله قبل أن يخلق موجوداً ويرزقه لا معنى للخالقية أو الرازقية بالنسبة إليه (طبعاً كان قادراً على الخلق والرزق ولكن القدرة على شيء غير إيجاده) إلّاأنّ البحث في توحيد الصفات لا يرتبط بصفات الفعل والكلام هو في صفات الذات كالعلم والقدرة ، وكما سيأتي مفصّلاً بأنَّ صفات الفعل مستقلّة عن صفات ذات الله ، فصفات الفعل شيء ينتزعه العقل بعد مشاهدة أفعال الله وينسبها إلى الله (سنقرأ تفصيل ذلك لاحقاً).

وأوضح إشارة في باب إثبات وحدة الصفات في الآيات القرآنية هي الآية القائلة : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ...) التي تقدّم تفسيرها وتدلّ على أنّ ذاته المقدّسة لا تتّصف بأيّة إثنينية.

ويمكن في الاستدلالات العقلية الاستناد إلى بعض النقاط :

١ ـ ثبت في الأبحاث السابقة أنّ الله غير متناهٍ من جمع الجهات ولذا لا توجد خارج ذاته أيّة صفة كمال ، فكلّ ما يوجد مجموع في ذاته ، وعندما نرى أنّ صفاتنا حادثة أو أنّها غير ذاتها فإنّ السبب هو أنّنا موجودات محدودة ، ولهذه المحدودية تكون الأوصاف والكمالات خارج ذواتنا وهي ممّا نكتسبها أحياناً ، أمّا ذات الله وهو الكمال المطلق فأي صفة يمكن تصوّرها خارج ذاته المقدّسة؟

٢ ـ لو قلنا بأنّ صفاته مضافة إلى ذاته أو إعتقدنا بأنّ صفاته كالعلم والقدرة منفصلة عنه فإنّ النتيجة هي التركيب (تركيب من الجوهر والعرض بل عوارض متعدّدة) في حين ثبت مسبقاً أنّه لا سبيل لأي تركيب في ذاته خارجياً أو عقليّاً.

وقد أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى هذا المضمون في الخطبة الاولى من نهج البلاغة بعبارة جميلة جدّاً في باب توحيد الصفات :

«وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله».

* * *

٢١١
٢١٢

٣ ـ التوحيد في العبادة

تمهيد :

إنَّ التوحيد في العبادة هو من أكثر فروع التوحيد حساسية ويعني أن لا نعبد غيره ولا نركع لغيره ولا نسجد إلّاله.

ويمكن القول : إنّ عنوان دعوة الأنبياء عليهم‌السلام والقاعدة الاولى لشرائعهم هو قضيّة التوحيد في العبادة ، وغالباً ما كانت مواجهاتهم مع المشركين تنشأ من هذه النقطة.

صحيح أنّ (التوحيد في العبادة) يلازم (توحيد الذات والصفات) حيث تقرّر أنّ واجب الوجود كلّ ما سواه ممكن ومحتاج إليه فلا سبيل إلّاأن تكون العبادة مختّصة به.

إنّه هو الكمال المطلق ، ولا يوجد كمال مطلق سواه ، والعبادة تعتبر طريقاً للوصول إليه ، فلابدّ أن تكون مختّصة به.

والملاحظ أنّ الآيات القرآنية مليئة بالدعوة إلى التوحيد في العبادة ونحن نذكر هنا أقسامها الحسّاسة بغية الوصول إلى هذا النداء القرآني المهمّ ونهتمّ بالبقيّة ضمن إشارات بليغة.

بهذا التمهيد نمعن خاشعين في الآيات القرآنية الآتية :

١ ـ (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ). (النحل / ٣٦)

٢ ـ (وَمَا أَرسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِىَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). (الأنبياء / ٢٥)

٢١٣

٣ ـ (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَومِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِّن إِلهٍ غَيرُهُ إِنِّى أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ). (الأعراف / ٥٩)

٤ ـ (... وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشركُونَ). (التوبة / ٣١)

٥ ـ (قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لَّاأَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُم قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنا مِنَ المُهتَدِينَ). (الأنعام / ٥٦)

٦ ـ (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ). (حجر / ٩٩)

٧ ـ (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ ويُؤتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ). (بيّنة / ٥)

٨ ـ (وَإِنَّ اللهَ رَبِّى وَرَبُّكُم فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّستَقِيمٌ). (مريم / ٣٦)

٩ ـ (يَاعِبَادِىَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيّاىَ فَاعْبُدُونِ). (عنكبوت / ٥٦)

١٠ ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخلِفَنَّهُم فِى الأَرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِم). (نور / ٥٥)

١١ ـ (وَلَا يَأمُرَكُم أَنْ تَتَّخِذُوا المَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَربَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُم مُّسْلِمُونَ). (آل عمران / ٨٠)

١٢ ـ (وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلَالُهُم بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ). (رعد / ١٥)

شرح المفردات :

المفهوم الدقيق للعبادة :

«العبادة» : و (العبودية) كلمتان تعنيان إبراز الخضوع ، وعلى ما يذهب إليه الراغب في المفردات ، فإنّ للعبادة مفهوماً أعمق وتعني غاية الخضوع بين يدي من له غاية الإنعام والإكرام وهو الله عزوجل.

٢١٤

ويبدو أنّ الأصل في هذا اللفظ مشتقّ من (عبد) إلّاأنّ (عبد) كما في (لسان العرب) و (كتاب العين) يطلق على كلّ إنسان عبداً كان أم حرّاً (لأنّ البشر كلّهم عبيد الله) ويطلق تارةً على العبيد خاصّة.

ويضيف الراغب : العبد أربعة أضرب :

١ ـ عبدٌ بحكم الشرع وهو الإنسان الذي يصحّ بيعه وشراؤه.

٢ ـ عبدٌ بمعنى مخلوق.

٣ ـ عبدٌ بالعبادة والخدمة ، والناس في هذا ضربان : عباد الله وعباد الدنيا (وعباد الرحمن) و (عبيد الدنيا).

وفي مجمع البحرين إنّ هذه الكلمة تستعمل تارةً بمعنى (الحزب والفئة) والآية : (فَادْخُلِى فِى عِبَادِى). (الفجر / ٢٩)

فيها إشارة إلى ذلك.

وهذه النقطة جديرة بالإهتمام وهي أنّهم قسّموا العبادة إلى نوعين :

العبادة الإختيارية التي أمرت بها الآيات القرآنية ، والعبادة غير الإختيارية ، كما يقول القرآن الكريم : (وَإِنْ مِّنْ شَىءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ). (الاسراء / ٤٤)

ويقول الطريحي في (مجمع البحرين) : إنّ الحكماء قسّموا العبادة إلى ثلاثة أقسام وهي :

الأوّل : ما يجب على الأبدان كالصلاة والصيام والسعي في المواقف الشريفة لمناجاته جلّ ذكره (عبادة جسمانية).

الثاني : ما يجب على النفوس كالإعتقادات الصحيحة من العلم بتوحيد الله وما يستحقّه من الثناء والتمجيد والتفكّر فيما أفاضه الله سبحانه على العالم من وجوده وحكمته ثمّ الإتّساع في هذه المعارف (عبادة روحانية).

الثالث : ما يجب عند مشاركات الناس في المدن وهي في المعاملات والمزارعات والمناكح وتأدية الأمانات ونصح بعض لبعض بضروب المعاونات وجهاد الأعداء وحماية الحوزة (١) (عبادة اجتماعية).

__________________

(١) مجمع البحرين للطريحي ، ج ٣ ، ص ١٠٨.

٢١٥

«طاغوت» : صيغة مبالغة من (الطغيان) (١) ، والطغيان كما نعلم هو : تجاوز كلّ حدّ ، ولذا تطلق كلمة طاغوت على كلّ موجود متمرّد ومعتدٍ كالشيطان ، والسحرة ، والجبّارين ، والحكّام الظالمين ، والتيارات التي تنتهي بغير الحقّ.

وتأتي هذه الكلمة بمعنى المفرد والجمع.

وذكر (الطبرسي) في (مجمع البيان) في تفسير آية الكرسي خمسة معانٍ للطاغوت هي : الشيطان ، الكاهن ، الساحر ، الإنس والجنّ المتمرّدون والأصنام (ومن الواضح أنّ هذه الأقوال ترجع كلّها إلى معنى جامع واحد اشير إليه).

جمع الآيات وتفسيرها

هو المعبود وحده :

إنَّ آية البحث الاولى تعتبر الدعوة إلى التوحيد هي المنهج الأساسي لرسل الله أجمعين حيث تقول : (ولَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ امَّةٍ رَّسُولاً انِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).

وهذه الكلمات تُطرح في مواجهة الذين تنقل عنهم (هذه الآية) تبريراتهم في عبادة الأصنام : (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِن شَىءٍ ...). (النحل / ٣٥) والقرآن يقول في ردّهم : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ امَةٍ رَسُولاً انِ اعبُدُوا اللهَ واجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فقد دعا الأنبياء عليهم‌السلام جميعاً إلى التوحيد في العبادة وعارضوا عبادة أي موجود غير الله ، فما هذه الفرية التي تنسبونها إلى الله؟!

وتضيف : إنّ الناس انقسموا إلى طائفتين تجاه دعوة الأنبياء عليهم‌السلام ، طائفة استعدّت للهداية وكانت تطلبها فهداها الله ، (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) ، وطائفة خالفت : (ومِنْهُمْ مَّن حَقَّتْ عَلَيهِ الضَّلَالَةُ) ، ثمّ تأمر الآية : (فَسِيرُوا فِى الأَرضِ فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ) ، أجل ، إنّهم وبسبب انحرافهم عن جادّة التوحيد وبسبب الطغاة وقعوا في وحل الفساد والشقاء ، فنزل عليهم العذاب الإلهي.

__________________

(١) قال البعض : إنّ الأصل هو «طغووت» ثمّ جاء لام الفعل بدلاً عن عين الفعل وانقلبت الواو المفتوحة قبلها إلى الف وصارت (طاغوت).

٢١٦

والملاحظ أنّ الآية تنسب الهداية إلى الله عزوجل ، فلولا التوفيق والإمداد الإلهي لما كان لأحد أن يبلغ الهدف بقدرته ، في حين تنسب الضلالة لهم لأنّها نتيجة أعمالهم.

* * *

الآية الثانية توافق الآية الاولى بعبارة اخرى وتقول كقضيّة عامّة وخالدة : (وَمَا ارسَلنَا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِىَ الَيهِ انَّهُ لَاالَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

والملفت أنّ (نوحي) فعل مضارع ويدلّ على الاستمرار ، أي إنّنا أوحينا التوحيد في العبادة إلى كلّ نبي وقد أُمِر جميع الأنبياء بإبلاغ ذلك طيلة دعوتهم.

وعليه فإنّ هذه المسألة استمرّت أصلاً أساسياً في تاريخ الأنبياء عليهم‌السلام.

* * *

الآية الثالثة تنقل كلاماً عن أوّل نبي من اولي العزم وهو شيخ الأنبياء نوح عليه‌السلام الذي لم تتضمّن دعوته منذ بدايتها نداء سوى نداء التوحيد في العبادة ونبذ عبادة الأصنام حيث يقول : (لَقَدْ ارسَلْنَا نُوحاً الَى قَومِهِ فَقَالَ يَاقَومِ اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِنْ الهٍ غَيرُه).

ويستفاد من هذه الجملة بأنّ الشرك وعبادة الاصنام كان ولا يزال أسوأ شوكة في طريق سعادة البشرية ، والأنبياء الذين يمثّلون الرعاة لبستان التوحيد كانوا يهتّمون قبل كلّ شيء بزرع وبرعاية زهور الفضيلة في روح البشر ويقتلعون الأشواك التي تعترض طريقهم بسلاح التوحيد ، وخاصّة في عصر نوح عليه‌السلام ، كما يستفاد من الآية ٢٣ من سورة نوح حيث كانت هناك أصنام عديدة ومتنوّعة بإسم (ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر).

وكانت على هيئة رجل ، وامرأة ، وأسد ، وفرس ، ونِسر على التوالي ، وكانوا يعبدونها بجميع وجودهم ، ولمّا رأى نوح منهم العناد والإصرار هدّدهم بعذاب الله ، كما نقرأ في ذيل الآية : (انِّى اخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ) ، أي إنّي أخاف عليكم عاقبة الشرك.

والظاهر أنّ المراد من اليوم العظيم هو يوم الطوفان الذي لم يحدث نظيره في تأريخ

٢١٧

العقوبات التي نزلت على الأقوام السابقة ، كما احتمل أنّ (يوم عظيم) إشارة إلى يوم القيامة (١).

وقد جاء في تفسير الميزان بأنّ هذه الآية قد جمعت أصلين من اصول الدين في جملة قصيرة هما : (التوحيد والمعاد) كما جاء الأصل الثالث وهو (النبوّة) في آية ، (يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ) (٢).

* * *

الآية الرابعة تتحدّث عن اليهود والنصارى الذين انحرفوا عن جادّة التوحيد ، فقد اعتبر اليهود أحبارهم (علماء الدين اليهود) واعتبر النصارى رهبانهم والسيّد المسيح معبودات لهم!

ثمّ تقول : (وَمَا امِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) وتؤكّد :

(لَااله إِلَّا هُو) وللتأكيد تضيف : (سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وبهذا فإنّ الدين الذي أقام النبي نوح عليه‌السلام قواعده واصل طريقهُ في دعوة موسى عليه‌السلام والسيّد المسيح عليه‌السلام بكلّ قوّة وثبات.

صحيح أنّ النصارى كانوا يعبدون السيّد المسيح وما زالوا ولكن اليهود لم يعبدوا الأحبار ، والنصارى لم يعبدوا الرهبان ، بل لإطاعتهم المطلقة لهم واستسلامهم لتحريفهم وتغييرهم الأحكام الإلهيّة أطلق على ذلك عنوان الشرك ، ولذا جاء في الأحاديث : «أما والله ما صاموا لهم ولا صلّوا ولكنّهم أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فاتّبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون» (٣) وسيأتي تفصيل هذا الموضوع في بحث (توحيد الطاعة) بإذن الله.

__________________

(١) هذان التفسيران قد صرّح بهما في كلمات المفسّرين السابقين ومنها ما أشار إليها الفخر الرازي في التفسيرالكبير ، ج ١٤ ، ص ١٤٩ في ذيل آيات البحث.

(٢) تفسير الميزان ، ج ٨ ، ص ١٨٠.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٠٩.

٢١٨

لا أعبد غير الله :

في الآية الخامسة يصل الدور إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يأمره الله عزوجل : (قُلْ إِنِّى نُهِيتُ انْ اعْبُدَ الَّذِينَ تَدعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ).

والاستفادة من لفظ (الذين) الذي يستعمل لجمع المذكّر العاقل في معبوداتهم هو إمّا لتصوّرهم في عالم وهمهم وخيالهم أنّ الأصنام ذات روح وعقل وشعور ، وأمّا لوجود أشخاص كالمسيح أو الملائكة والجنّ بين هذه المعبودات.

ولتبيان الدليل على هذا المنع والنهي الإلهي تضيف الآية : (قُلْ لَّااتَّبِعُ اهوَاءَكُم قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ المُهتَدِينَ).

ويعني هذا أنّ جذور الشرك كلّها ترجع إلى عبادة الهوى والظنّ والوهم ، ومن المسلّم به أنّ اتباع الهوى يستتبع الضلال ولا ينتهي بالسعادة والهداية أبداً.

* * *

الآية السادسة توجّه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتأمره بأن يثبت ويواصل عبادة الله الواحد واجتناب كلّ شرك وعبادة للأصنام حيث تقول : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيكَ اليَقينُ).

وقد فسّر المفسّرون (اليقين) هنا بمعنى الموت ، واعتبروه نظير قول السيّد المسيح عليه‌السلام : (واوْصَانِى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً). (مريم / ٣١)

ونقرأ في موضع آخر من القرآن على لسان أهل النار : (وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ* حَتّى أَتَانَا اليَقِينُ). (المدثر / ٤٦ ـ ٤٧)

كما جاء التعبير عن (الموت) بـ (اليقين) في الروايات الإسلامية ، ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام نقرأ قوله عن الموت : «لم يخلق الله يقيناً لا شكّ فيه أشبه بشكّ لا يقين فيه من الموت» (١) ، (لأنّ الناس لا يكترثون به وكأنّهم لا يصدقون أنّهم سيموتون)!

والتعبير عن (الموت) بـ (اليقين) إمّا لما اشير إليه في الحديث المذكور أي هو مسألة يقطع

__________________

(١) تحف العقول ، ص ٢٧١.

٢١٩

بها جميع الناس ولا اختلاف بين المذاهب والعقائد المتباينة في هذه المسألة ، وإمّا أنّ الإنسان يتيقّن بالكثير من القضايا التي يتردّد فيها وذلك عند زوال الحجب عنه عند الموت وظهور الحقائق (من الممكن طبعاً الجمع بين هذين المعنيين).

والتعبير بـ (يأتيك) أيضاً إشارة لطيفة إلى هذا الموضوع وهو أنّ الموت سيقع على الإنسان شاء أم أبى!

* * *

في الآية السابعة يلاحظ هذا المضمون نفسه مع إضافات اخرى ، وفيها إشارة إلى طائفة من أهل الكتاب الذين انحرفوا عن التوحيد وجعلوا لله أنداداً في العبودية حيث تقول : (ومَا امِرُوا إِلَّا ليَعبُدوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (١).

والملاحظ أنّ الآية تحصر الأوامر الإلهيّة كلّها في العبادة المخلصة ثمّ في إقامة الصلاة وأدائها : (ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ ويُؤتُوا الزَّكَاةَ) ، وهذا يدلّ على أنّ الأصل في التعاليم الدينية يرجع إلى الإخلاص في العبودية ، والملاحظ أيضاً أنّ الآية تضيف في ذيلها : (وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ) (٢).

* * *

الآية الثامنة تنقل نكتة وردت في قول السيّد المسيح عليه‌السلام حيث قال : (وانَّ اللهَ رَبِّى وَرَبُّكُم فَاعبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُّستَقِيمٌ).

ونعلم أنّ الخطّ المستقيم الذي يصل بين نقطتين واحد لا أكثر ، في حين توجد آلاف

__________________

(١) يقول الراغب في المفردات : «حنف» على وزن «كنف» تعني الميل من الضلال إلى الصراط المستقيم وإنّما يقال للإسلام (الدين الحنيف) لأنّه يمنع المسلمين عن أي إنحراف عن الصراط السوي.

(٢) «قيّمة» مشتقة من القيام بمعنى القائم والثابت والمستقيم وكما يقول الراغب في المفردات : إنّ معناها هي الامّة التي تقوم بالقسط والعدل كما جاء في الآية .. (كونوا قوّامين بالقسط).

٢٢٠