نفحات القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-97-0
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٠٨

الأصنام بواسطة هذه الطلاسم «والطلسم : نوع من السحر ، ويقول بعض المفسرين أنّ «الطلسم» عبارة عن أشكال ورسومات يعتقدون بأنّها تُمثل سلطات سماوية اختلطت مع الأرض ، وأصبحت مصدراً لآثار عجيبة وغريبة! وهذه النقوش مفضلة على أشياء مختلفة ، حيث يعتقدون بأنّها وسيلة لدفع الموجودات المؤذية وإبعاد أذاها عنهم» (١)

٤ ـ والبعض منهم صنعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم وزعموا أنّهم متى ما اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإنّ اولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند الله تعالى.

٥ ـ وآخرون اعتقدوا أنّ الإله نور عظيم وأنّ الملائكة أنوار فوضعوا على صور الإله الأكبر الصنم الأكبر وعلى صور الملائكة صوراً اخرى.

٦ ـ لعلّ من بين عبدة الاصنام طائفة من الحلولية حيث يعتقدون أنّ الله يحل في الأجسام الشريفة ولذلك فانّهم دأبوا على عبادة هذه الاجسام (٢).

ويقول مفسّر آخر : إنّ أوّل ما عُبِدت الأصنام في قوم نوح عليه‌السلام وذلك أنّ آدم كان له خمسة أولاد صلحاء وهم «ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر» فمات «ود» فحزن الناس عليه حزناً شديداً فاجتمعوا حول قبره في أرض بابل لا يكادون يفارقونه فلمّا رأى إبليس ذلك جاء إليهم في صورة إنسان وقال لهم : هل تريدون أن أصنع لكم ما إن نظرتم إليه ذكرتموه؟ قالوا : نعم ، فصنع لهم تمثالاً.

وهكذا كلّما مات واحد من أبناء آدم صنعوا له تمثالاً وسمّوه بإسمه ، وبتقادم الزمان وبنسيان الأجيال أعاد الشيطان قائلاً : إنّ أجدادكم كانوا يعبدون هذه الأصنام فاعبدوها ، فأرسل الله إليهم نوحاً عليه‌السلام فنهاهم عن عبادتهم فلم يجيبوه لذلك ... (٣).

* * *

__________________

(١) دائرة المعارف دهخدا ج ٣٢ ، ودائرة المعارف مصاحب ، ج ٢ ، مادة (طلسم).

(٢) التفسير الكبير ، ج ١٧ ، ص ٦٠٠ (مع الإختصار اليسير).

(٣) تفسير روح البيان ، ج ٤ ، ص ٢٦ (باختصار).

١٨١

٢ ـ تاريخ عبادة الأصنام والأوثان

إنّ أوّل من أقام عبادة الأصنام بين العرب هو عمرو بن لُحَي من قبيلة خزاعة ، فقد خرج من مكّة إلى الشام في بعض اموره فلمّا قدم مآب من أرض البلقاء رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم : ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له : هذه أصنام نعبدها ، نستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا ؛ فقال لهم : أفلا تعطونني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنماً يقال له (هُبل) ، فقدم به مكّة فنصبه ، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه وكانت هناك صخرة يلي عليها السويق للحجّاج رجل من ثقيف وكانت تسمّى صخرة اللات ، مات الرجل فقال لهم عمرو : إنّه لم يمت ولكن دخل في الصخرة وأمرهم بعبادتها ... (١).

ونقل بعض آخر ، إنّ ظهور عبادة الأصنام ابتدأته جماعة كانت تنزّه الله إلى درجة لم تسمح لهم بعبادته ولذا صنعت صنماً أجلّ للتقرّب إليه! أو أنّها اعتقدت إنّ الإله عندما يخفى عن الحسّ والعقل فعبادته غير ممكنة ، ولذا يجب التقرّب إليه من خلال المحسوسات!

وقال بعض المؤرّخين :

«ويزعمون أن أوّل ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل إنّه كان لا يظعن من مكّة ظاعن منهم ، حتّى ضاقت عليهم ، والتمسوا الفسح في البلاد إلّاحمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتّى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم (٢) حتّى خلق الخُلوف ...».

كما ورد في تفسير الميزان :

وقد كان عبدة الأصنام يعبدون الأصنام ليتقرّبوا بعبادتها إلى أربابها وبأربابها إلى ربّ

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٤ ، ص ٢٦ (مع اختصار يسير) وقد ذكر العلّامة المجلسي في بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٢٤٨ بعد الروايات : ١ ، ٧ ، ٨ قصّة ظهور الشرك في قوم نوح هذا وقد ورد في (بلوغ الإرب ج ٢ ، ص ٢٠٠) قصّة عمرو بن لحي وهديته الخبيثة التي جاء بها من الشام كما نقل ابن هشام في السيرة النبوية ج ١ ، ص ٧٨. موضوعاً قريباً من هذا المضمون.

(٢) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٧٩.

١٨٢

الأرباب وهو الله سبحانه ويقولون : «إنّنا على ما بنا من ألواث البشرية الماديّة وقذارات الذنوب والآثام لا سبيل إلى ربّ الأرباب لطهارة ساحته وقدسها ولا نسبة بينها وبينه.

فمن الواجب أن نتقرّب إليه بأحبّ خلائقه إليه وهم أرباب الأصنام الذين فوّض الله إليهم أمر تدبير خلقه ، ونتقرّب إليهم بأصنامهم وتماثيلهم وإنّما نعبد الأصنام لتكون شفعاء لنا عند الله لتجلب إلينا الخير وتدفع عنا الشرّ فتقع العبادة للأصنام حقيقة ، والشفاعة لأربابها وربّما نسبت إليها» (١).

وبهذا ألبسوا معتقداتهم الخاطئة والخرافية ثوباً منطقياً في الظاهر ، وظهر الضلال على صورة الهدى واحتلّت وساوس الشيطان مواقع المنطق والبرهان.

* * *

٣ ـ عوامل اخرى للشرك وعبادة الأصنام

في الحقيقة أنّ الشرك وعبادة الأصنام قضيّة معقّدة وليس وراءها عامل واحد كسائر القضايا الاجتماعية المعقّدة ، بل هناك عوامل مختلفة تعاضدت على حدوثها.

فمثلاً نجد أنّ أقواماً عبدوا الشمس والقمر والكواكب وهناك جماعة عبدت النار ، وجماعات عبدت الأنهار الكبيرة كالنيل في مصر ، والكنج في الهند ، ويعني ذلك أنّ كلّ ما فيه الخير والبركة ، يكون مقدّساً ، وكانت تتضاعف قدسيتها تدريجياً إلى حدّ اعتبارها آلهة!

وبتعبير آخر : كانوا يتيهون في عالم الأسباب وينسون الله وهو (مسبّب الأسباب) ، لافتقادهم البصيرة النافذة التي تجتاز الأسباب لتصل إلى خالق الأسباب وانتهى هذا بهم إلى عبادة الأصنام.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٠ ، ص ٢٧ ذيل الآية ١٨ من سورة يونس.

١٨٣
١٨٤

٤ و ٥ ـ عاملي التقليد والاستعمار

تمهيد :

لا شكّ في أنّ عامل التقليد من العوامل المؤثّرة في توارث عبادة الأصنام جيلاً بعد جيل بل وانتشارها في العالم ، ويستند القرآن الكريم إلى ذلك مراراً ويطرحه تحت عنوان الدليل الوحيد الذي يتمسّك به مشركو العرب.

إنّ العيش في أجواء الشرك واحترام الأجداد والأسلاف والتأثّر بالتلقين في مرحلة الطفولة قد تعاضدت فيما بينها على إبراز عمل خرافي وخاوٍ تماماً وهو عبادة مجموعة من الأحجار والأخشاب الفاقدة لكلّ شيء بشكل منطقي ووجيه بل ومقدّس.

وبهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثارِهِم مُّهْتَدُونَ* وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِى قَريَةٍ مِّنْ نَّذيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آباءَنَا عَلَى امَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّقتَدُونَ). (الزخرف / ٢٢ ـ ٢٣)

٢ ـ (قَالُوا نَعبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ* قَالَ هَلْ يَسمَعُونَكُمْ إِذ تَدعُونَ* أَو يَنْفَعُونَكُم أو يَضُرُّونَ* قَالُوا بَلْ وجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ). (الشعراء / ٧١ ـ ٧٤)

٣ ـ (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا وَتكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِى الأَرْضِ ومَا نَحنُ لَكُمَا بِمُؤمِنِينَ). (يونس / ٧٨)

٤ ـ (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا أَوَلوْ كَانَ آباؤُهُمْ لَايَعقِلُونَ شَيئاً ولَا يَهتَدُونَ). (البقرة / ١٧٠)

١٨٥

٥ ـ (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُم عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ) (١). (سورة سبأ / ٤٣)

شرح المفردات :

«صنم» : كما يقول الراغب في المفردات : تمثال من فضّة أو نحاس أو خشب يعبدونه ويتقرّبون به إلى الله ، وفي (لسان العرب) : هذا اللفظ أخذ في أصله من (شَمَنْ) وهي كلمة فارسية أو آرامية أو عبرية (٢).

وتعتقد جماعة من اللغويين أنّ الفرق بين (الصنم) و (الوثن) هو أنّ صنم يطلق على أصنام لها شكل وصورة خاصّة ولو لم يكن لها شكل وصورة خاصّة اطلق عليه (وثن).

«أب» : ويعني الوالد ويطلق أحياناً على السبب في حدوث شيء أو (يقوم باصلاحه أو إظهاره) إلّاأنّ هذه المعاني لها خصائص كنائية في الظاهر ، وقد جاء في (مقاييس اللغة) : إنّ هذا اللفظ يدلّ في أصله على التربية والتغذية وبما أنّ الوالد يغذّي الإبن فقد أطلق عليه هذا اللفظ.

ونقرأ في «كلّيات أبي اللقاء» إنّ أصحاب الشرائع السابقة كانوا يطلقون (أب) على الله لأنّه السبب الأوّل للخلق ، ثمّ اعتقد الجهلاء والغافلون بأنّ (أب) هنا تعني الولادة (وبذلك سلكوا طريق الكفر).

وفي كتاب (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) وبعد اعتبار الأصل في هذه المادّة هو التربية والتغذية ورد : بلحاظ هذا المفهوم أنّ للأب مصاديق كثيرة مثل الله المتعالي ، الوالد ، النبي ، المعلّم ، الجدّ ، العم وغيرها (ولذا فإنّ «أب» له مفهوم أوسع من معنى الوالد).

* * *

__________________

(١) وهناك آيات عديدة تتضمّن مضمون هذه الآيات نشير إلى مواضعها : الأعراف ، ٧٠ و ١٧٣ ؛ إبراهيم ، ١٠.

(٢) ورد لفظ «شمن» في المصادر الفارسية بمعنى عابد الصنم (راجع دائرة معارف دهخدا وقاموس معين وغياث اللغة).

١٨٦

جمع الآيات وتفسيرها

عبادة الأصنام دين أجدادنا!

إعتقدت طائفة من مشركي العرب أنّ الملائكة بنات الله وعكفت على عبادتها ، والآية الاولى في هذا البحث تردّ على هذا الفكر الجاهلي من جوانب مختلفة فتخاطبهم تارةً : إنّكم تفرحون بالوليد إذا كان ذكراً ولكن تحزنون إذا كان أُنثى فكيف تنسبون إلى الله البنات؟ (هذا الجواب يناسب طبعاً ـ درجة فهمهم وأفكارهم) وتذكر تارةً اخرى حججهم الواهية لهذه العبادة وتردّهم وتصل إلى هذا الدليل أخيراً : (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى امَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثارِهِم مُّهتَدُونَ) (١) ولكن القرآن يخاطب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرةً ويقول : إنّ التقليد الأعمى هذا والإتّباع اللامشروط واللامقيّد يمثّل عقيدة سلفية وهذه الأعذار الواهية التي لا أساس لها لا تنحصر في مشركي العرب فحسب بل : (وَكَذَلِكَ مَا أَرسَلْنَا مِنْ قَبلِكَ فِى قَريَةٍ مِّن نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُترَفُوهَا إِنَّا وَجَدنَا آبَاءَنَا عَلَى امَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقتَدُونَ).

وبذلك أشاروا إلى أنّ أحد العوامل الرئيسة في إنتشار خرافة الشرك جيلاً بعد جيل هو التقليد الأعمى واللامشروط واللامقيّد والتحجير على العقل والإدراك وعدم بذل جهود في التحقيق والتدبّر والإستسلام أمام خرافات الأسلاف.

والاستناد إلى عنوان (مترفون) كما يقول بعض المفسّرين فيه إشارة إلى أنّ التشبّث بالدنيا والإستمتاع باللذائذ المادّية والمتنوّعة والكسل أو الجزع من جهود التحقيق والاستدلال هو السبب لهذا التقليد الأعمى القبيح ، فلو أنّهم تخلّصوا من هذا الحجاب المظلم لم يصعب عليهم رؤية وجه الحقيقة ، ولهذا يقول النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» (٢).

__________________

(١) «امّة» في الآية ـ كما يعتقد جمع من المفسّرين ـ عبارة عن المنهج المتّفق عليه لدى طائفة وقد فسّرها بعض المفسّرين بمعنى الجماعة والفئة ، والمعنى الأوّل هو المشهور وإن وردت (امّة) في آيات اخرى بمعنى الجماعة وقد تأتي بمعنى المدّة الزمنية.

(٢) التفسير الكبير ، ج ٢٧ ، ص ٢٠٦ ، كما توجد إشارة إلى هذا الأمر في تفسير روح البيان وتفسير الميزان في ذيل آية البحث.

١٨٧

والجدير ذكره أنّ ذيل الآية الاولى تنقل عنهم قولهم : (إِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهتَدُونَ) وقولهم في ذيل الآية الثانية (إِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقتَدُونَ) وهذا الاختلاف في التعبير قد يكون من قبيل (العلّة والمعلول) بمعنى أنّهم ادّعوا إنّنا إنّما نقتدي بأسلافنا لأنّ ذلك هو طريق الهدى والوصول إلى الحقّ!

على كلّ حال فإنّ القرآن الكريم في طول هذه الآيات يرد على هذا الفكر الباطل بشكل منطقي جميل ومحكم وينقل عن الأنبياء السابقين قولهم للمشركين المقلّدين الخرافيين : (قَالَ أَوَلَو جِئتُكُم بِأَهدَى مِمَّا وَجَدتُّم عَلَيهِ آبَاءَكُم قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلتُم بِهِ كَافِرُونَ). (الزخرف / ٢٤)

وللتقليد ـ كما سنبيّن ـ أنواع وأقسام ، فبعضه منطقي ويكون سبباً لانتقال العلوم من جيل إلى جيل آخر ، وبعضه خرافة وحمق وسبب لانتقال الخرافات والقبائح ولكلّ ذلك علامات سوف نشير إليها لاحقاً.

* * *

الآية الثانية من مجموعة الآيات المتعلّقة بمواجهة إبراهيم عليه‌السلام مع عبدة الأصنام في بابل حيث سألهم بمنطقه الرصين الصريح : ما تعبدون؟ فكان جوابهم : (قَالُوا نَعبُدُ أَصنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ).

وبهذه الكلمات لم يقرّوا بالشرك فحسب بل راحوا يتفاخرون ويتباهون به ، وقد سدّ إبراهيم عليه‌السلام الطريق عليهم من خلال سؤال واحد : (قَالَ هَلْ يَسمَعُونَكُم إذْ تَدعُونَ أَو يَنفَعُونَكُم أَو يَضُرُّونَ) ، أي أنّها (الأصنام) إن لم تنفع ولم تضرّ فلابدّ من أن تسمع نداء عبّادها على الأقل وإلّا لا معنى لعبادتها.

ولكن اولئك الذين لم يجرأوا على الادّعاء بأنّ الأصنام الحجرية والخشبية تسمع دعاءهم وتضرّعهم ، كما أنّهم لم يمتلكوا دليلاً على إثبات ضرّها ونفعها لتبرير عملهم ، اضطرّوا للتمسّك بأسلافهم والتشبّث بالتقليد الأعمى وقالوا : (بَلْ وَجَدْنَا آباءَنَا كَذَلِكَ يَفعَلُونَ).

١٨٨

وهذا الجواب وإن كان مخجلاً إلّاأنّهم لم يملكوا شيئاً ليقدّموه.

وفي طول هذه الآيات يردّهم إبراهيم عليه‌السلام بمنطق رصين : (قَالَ أَفَرَأَيتُم مَّا كُنتُم تَعبُدُونَ* أَنتُم وآباؤكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُم عَدُوٌ لِّى إِلَّا رَبَّ العَالَمِينَ* الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِى هُوَ يُطعِمُنِى ويَسقِينِ* وَاذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشفِينِ* وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحيِينِ* وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَومَ الدِّينِ). (الشعراء / ٧٥ ـ ٨٢)

أي أنّه أهل للعبادة فهو المبدىء لكلّ الخيرات والبركات ، لا تلك الموجودات الخاوية والفاقدة للقيمة.

* * *

وتنقلُ الآية الثالثة كلاماً لقوم فرعون وفيها انعكاس لهذا المضمون بشكل آخر حيث تقول : (قَالُوا اجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا وَتَكونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِى الْأَرْضِ) (١) وعليه (وَمَا نَحنُ لَكُمَا بِمُؤمِنِينَ).

انّهم استندوا ـ في الحقيقة ـ إلى هذه النقطة فقط لإثبات صحّة مسلكهم وقداسته وهي أنّ هذا هو طريق الأسلاف ودينهم وعادتهم ، ولكي يتّهموا موسى وهارون بأنّهما يتآمران قالوا : إنّكما تبغيان الحكومة عن طريق الدعوة إلى التوحيد وهدم الشرك وعبادة الأصنام من أساسها ولا نسمح بذلك! ويبدو أنّ هذا الكلام القي من قبل زبانية فرعون حيث عارضوا دعوة موسى وهارون للتوحيد بطريقين شيطانيين :

أحدهما : هو إثارة العواطف لدى عامّة الناس الجاهلين وذلك بالتحذير من أنّ دين أسلافهم في خطر، والآخر : هو إثارة سوء الظنّ فيهم بوصف دعوة موسى وهارون أنّها تجري وفق مخطّط مسبق للوصول إلى الحكم وإلّا فإنّها لا واقعية لها.

وقد استخدم هؤلاء الجبابرة والطغاة هذين الطريقين لاستغفال الناس ومواصلة حكمهم

__________________

(١) «لتلفتنا» من «لفت» وهو الصرف عن الشيء أو الإلفات إلى الشيء لو تعدّت ب (من) فإنّها تعني الإنصراف وب (إلى) فإنّها تعني (التوجّه).

١٨٩

الاستبدادي ، كما يلاحظ في الآية حيث جاء التعبير أكثر صراحة : (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخرِجَاكُم مِّنْ أَرضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثلَى). (طه / ٦٣)

* * *

الجواب الدائم للمشركين :

إنّ الآية الرابعة تنقل هذا المضمون على صورة إجابة دائمة من قبل مشركي مكّة حيث تقول : (وَاذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما انزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلفَينَا عَلَيهِ آبَاءَنَا).

وهذا في الحقيقة هو منطق كلّ معاند لجوج حيث يتوسّل بالتقليد حينما يعجز عن كلّ شيء ، التقليد الأعمى للأسلاف الضالّين والجاهلين والتفاخر بذلك دون امتلاك أي جواب تجاه الأدلّة المحكمة التي أقامها الأنبياء لإثبات حقّانية دعوتهم وبطلان الشرك وعبادة الأصنام.

والقرآن الكريم يردّ هذا المنطق بجملة قصيرة واحدة حيث تقول في طول هذه الآية بشكل سؤال : (أَوَلَو كَانَ آباؤُهُم لَايعقِلُونَ شَيئاً ولَا يَهتَدُونَ) (١).

أي أنّ تقليدهم لو كان كتقليد الجاهل للعالم لكان مقبولاً ، ولكنّه ليس كذلك بل هو تقليد جاهلٍ لجاهلٍ آخر ، واتّباع ضالٍ لضالٍ آخر ، فمثلهم كالأعمى الذي يقوده أعمى آخر.

إنّ هذه الآية وما سبقها من آيات تتحدّث ـ كما يفهم من سياقها ـ عن مشركي العرب ، وما احتمله بعض المفسّرين من انّها تقصد اليهود وما ورد عن ابن عباس بشأن سبب نزولها يُعد أمراً بعيداً.

* * *

__________________

(١) في الآية جملة مقدّرة معناها : «أيتّبعون ما ألفوا عليه آباءهم في كلّ حال وفي كلّ شيء ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون».

١٩٠

تحدّثت الآية الخامسة والأخيرة عن مشركي العرب أيضاً حيث كانوا : (وإِذَا تُتْلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُم عَمَّا كَانَ يَعبُدُ آبَاؤُكُمْ).

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول : إنّهم كانوا يواجهون (الآيات البيّنات) بمنطق (التقليد) والاستهزاء بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فكانو يدعونه بكلمة «رجل» ولكي يستميلوا عامّة الناس إليهم يخاطبونهم ب (أسلافكم) بدلاً من (أسلافنا) ليثيروا عصبيتهم في مواجهة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

ومن مجموع هذه الآيات نستنتج أنّ ظاهرة التقليد الأعمى تعدّ من العوامل المؤثّرة في تناقل الإعتقاد بالصنم في العصور والقرون السالفة ، ولم يكن الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله الوحيد من الأنبياء الذي تعرض لهذا الاسلوب عندما صدع بدعوته ونهض لمقارعة الشرك وعبادة الأصنام ، فقد واجهه قومه بحجة تقليد الآباء والأجداد ومن سلفوا ، وقد جاء هذا المعنى في الآية ٤٣ من سورة سبأ والآية ٢٢ من سورة الزخرف بل إنّ أنبياءً ورسلاً أمثال موسى عليه‌السلام ، كما ورد في الآية ٧٨ من سورة يونس وابراهيم عليه‌السلام ، وكما ورد في الآيات ٧٠ إلى ٧٤ من سورة الشعراء وهود عليه‌السلام ، وكما ورد في الآية ٧٠ من سورة الاعراف وصالح عليه‌السلام ، وكما ورد في الآية ٦٢ من سورة هود تعرضوا إلى مثل ما تعرض له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث واجههم أقوامهم بحجة تقليد الاسلاف والسير على عاداتهم التي ألفوها منهم.

وهذه الحجة الواهية والمزيفة تثار في أوساط جميع الأقوام وعلى مرّ العصور ، فعبدة الأصنام وفي كافة انحاء العالم ومن أجل مواجهة الأنبياء والرسل وحملة راية التوحيد ، فانهم يثيرون مثل هذه الحجة الجاهله ، وقد أشارت الآية ٢٣ من سورة الزخرف إلى هذا المعنى.

ومن الواضح أنّ التقليد الأعمى لم يكن العامل الأوّل لظهور الشرك ، بل يشكّل عاملاً لاستمراره وانتقاله من جماعة إلى اخرى ومن جيل إلى جيل.

* * *

١٩١

توضيحات

١ ـ التقليد ، عامل للتقدّم أم للإنحطاط؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ التقليد إذا تمثّل في اتّباع وإقتباس عديمي الاطلاع من العلماء فإنّه عامل على إيجاد حركة تكاملية في المجتمعات البشرية وأساساً نجد أنّ العلوم والأفكار والآداب والعادات البنّاءة ، كما أنّ الشؤون التربوية والإنسانية قد انتقلت من جيل إلى جيل عبر هذا الطريق.

إنّ الأطفال يكتسبون جلّ معلوماتهم من المجتمع عن هذا الطريق تقريباً ، كما أنّ الصناعات والحِرف والفنون تتوسّع وتتكامل بهذا الطريق أيضاً ، ولولا روح التقليد الإيجابية والبنّاءة لم تحدث هذه الحركة التكاملية أبداً.

إنّ تقليد «الجاهل للجاهل» أو «العالم للجاهل» يكون سبباً لشيوع الفساد والانحراف والاخلاق الفاسدة ، والخرافات ، والانحرافات الفكرية من قوم إلى قوم أو جيل إلى جيل ، ومثل ذلك كمثل الماء الصافي والذي يمثل عصب الحياة ، فإذا ما تلوث بالأمراض والميكروبات فسوف يصبح وسيلة لانتشار الميكروبات والأمراض والأوبئة.

وكثيراً ما ينشأ التقليد من الكسل والتعصّب ، فالذين لا يتحمّلون جهود التحقيق لما فيهم من كسل يقبلون على التقليد ، والمعاندون المتعصّبون الذين لا يهتمون للبحث عن نقاط القوّة لدى الأقوام الاخرى والإذعان لها ، يألفون نقاط الضعف الموجودة في مجموعتهم ، وقد كان هذا النمط من التقليد الأعمى والمتعصّب والرجعي هو العامل المهمّ لشيوع الشرك وعبادة الأصنام على مرّ التاريخ (١).

* * *

٢ ـ تزيين الشياطين وهوى النفس

يستفاد من الآيات القرآنية أنّ (اتّباع الهوى) كان من عوامل الشرك أيضاً ، كما نقرأ في

__________________

(١) هناك بحوث حول أنواع التقليد وشرائط التقليد الإيجابي ودوافع التقليد الأعمى وشرحت كلمة (تقليد) في الجزء الأوّل من هذا التفسير في موضوع (حجاب التقليد) ، ج ١ ، ص ٢٧٣.

١٩٢

قصّة السامري جوابه حينما سأله موسى عليه‌السلام عن الدافع لعمله بأنّه لاحظ اموراً لم يلاحظها غيره فقال : أخذت بعض آثار الرسول وألقيتها خارجاً وأقبلت على الشرك : (وَكَذَلِكَ سَوّلتْ لِى نَفسى).

كما يستفاد من الآيات القرآنية أنّ تزيين الشيطان ووساوسه هي العوامل الممهّدة للشرك أو استمرارها ، كما نقرأ في قصّة ملكة سبأ أنّ الهدهد عندما أخبر سليمان عليه‌السلام عن شرك قوم سبأ قال : (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمسِ مِنْ دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَايَهتَدُونَ). (النمل / ٢٤)

وما ينبغي ملاحظته هو أنّ هوى النفس ووساوس الشيطان تظهر في إطار العوامل السابقة كعبادة الأوهام (التقليد الأعمى) (العصبية اللجوجة) ولذا لم نورد هنا عامل هوى النفس كعامل مستقل.

* * *

٣ ـ عامل الاستضعاف والاستعمار الفكري

يعتبر الشرك وعبادة الأصنام من الوسائل التي استخدمها المستكبرون والمستعمرون بشكل دائم لأنّه :

أوّلاً : إنّ البسطاء من الناس يُعتبرون وسائل طيّعة للمستكبرين ، ولذا يكون التحرّك الاستعماري دائماً باتّجاه الجهل والغفلة في أوساط المستضعفين ، ويسعى باستمرار إلى صدّ الناس عن الوعي واليقظة والعلم والفكر وغلق أي نافذة للتحقيق في وجوههم وإغراقهم في التقليد الأعمى الذي ينشأ منه الجهل المطبق كما يقول القرآن عن فرعون : (فَاسْتَخَفَّ قَومَهُ فَأَطَاعُوهُ). (الزخرف / ٥٤)

وبما أنّ الشرك قائم على عبادة الأوهام والظنون فإنّه عامل مؤثّر في استغفال الجماهير ، وهو أداة نافعة لتحقيق أهداف المستكبرين.

ثانياً : يعتبر الشرك عاملاً من عوامل الاختلاف والتفرّق فيوعِز لكلّ قوم بأن يتّخذوا

١٩٣

معبوداً لهم ، فيدفع مجموعة لعبادة الشمس ، ومجموعة لعبادة القمر ، ويشغل مجموعة بـ (هبل) ، ومجموعة ب (اللات) و (العزّى) ، حتّى انقسم المجتمع العربي الصغير في الجزيرة إلى مئات المجموعات بسبب عبادة الأصنام المختلفة ، على عكس التوحيد الذي يمثّل حلقة الوصل بين القلوب ورابطاً وثيقاً بين الأفكار.

ونعلم أيضاً أنّ الاختلاف ما دام قائماً فإنّ المستعمرين في راحة بال ، وأنّ مقولة (فرّق تسد) تُعدّ من أقدم المبادئ الاستعمارية ، فلا عجب في أن يكون الفراعنة ونمرود وأبو سفيان وأمثالهم من أنصار الشرك وعبادة الأصنام.

ثالثاً : يهدف المستكبرون دائماً إلى أن يخضع الناس لهم وكأنّهم آلهة ويتلقّون أوامرهم كأوامر مقدّسة لا نقاش فيها.

ومن الواضح أنّ من يسجد للحجر والخشب يكون أكثر تقبّلاً للآلهة البشرية ، ولذا أخذ فرعون ينادي في مصر (أنا ربّكم الأعلى) واعتبر نفسه أعلى من الآلهة كلّها.

بناءً على هذه الجوانب الثلاثة فلا عجب أن تتواكب الأفكار الاستعمارية مع الشرك وعبادة الأصنام ، وأن يكون خطّ الأنبياء الذي يمثّل خطّ القضاء على الاستعمار والاستضعاف هو خطّ التوحيد واليقظة والوعي ، لنتذكّر مرّة اخرى الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام الذي قال فيه : «إنّ بني اميّة أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه» (١).

إنّ هذا المضمون وان لم يصرّح به في الآيات القرآنية إلّاأنّه اشير إليه كما نقرأ في الآية : (وَلَو تَرى اذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِم يَرجِعُ بَعضُهُم إِلَى بَعضٍ القَولَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَولَا انتُم لَكُنَّا مُؤمِنِينَ). (سبأ / ٣)

٤ ـ كلمة أخيرة حول عوامل الشرك

من خلال البحوث التي أوردناها تتّضح هذه الحقيقة وهي : إنّ الشرك وعبادة الأصنام

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤١٥.

١٩٤

كسائر الظواهر الاجتماعية لا تنشأ من عامل واحد بل توجد عوامل مختلفة تعاضدت على ايجاده ، من بينها.

الميل إلى المحسوسات والإستئناس بها والمطالبة بإله محسوس.

واللجوء إلى الأوهام في المجتمعات المتخلّفة (الظنّ بتأثير الأصنام في الشفاعة والعزّة والنصر والتقرّب إلى الله والظنّ بعدم إمكانية عبادة الله بصورة مباشرة ووجوب استخدام الوسائط والظنّ بقداسة التماثيل المصنوعة على هيئة الأنبياء والصلحاء وأوهام اخرى).

وهكذا التقليد الأعمى للأسلاف وعدم الإستعداد للتحقيق في قضيّة المعرفة الإلهيّة.

كذلك استغلال المستكبرين والمستعمرين للميل إلى الشرك وعبادة الأصنام للوصول إلى أهدافهم الشيطانية ، واستغفال الناس كانت عوامل مختلفة سبّبت نشوء فكرة الشرك أو استمراره وبقاءه على طول التاريخ.

وقد واجهت هذه التيارات المنحرفة القويّة خطّ الأنبياء الذي يدعو البشر من جهة إلى التحرّر من إطار الحسّ وإدراك ما وراء الطبيعة ، ومن جهة اخرى يدعوهم إلى عبادة الله مباشرةً والخضوع بين يدي ربّ الكون كلِّه واللجوء إلى ذاته المقدّسة في كلّ حال والقضاء على الأوهام.

ومن جهة ثالثة يدعو لكسر طوق التقليد الأعمى والإقبال على البحث في عالم الوجود ومعرفة الآيات الإلهيّة في الآفاق والأنفس.

ومن جهة رابعة يدعو عالم البشرية إلى الوحدة وتحطيم الأصنام المفرِّقة والتحرّر من نير الإستغلال والاستعمار والغفلة والاستضعاف.

هذه هي الخطوط العامّة للكفر والإيمان والشرك والتوحيد.

ونختم هذا الكلام بما أورده العلّامة الطباطبائي رحمه‌الله في تفسير الميزان في ذيل الآيات ٣٦ ـ ٤٩ من سورة هود تحت عنوان (كيف وُجِدَ الشرك) : «اتّضح من الفصل المتقدّم أنّ الإنسان في مزلّةٍ من تجسيم الامور المعنوية وسبك غير المحسوس في قالب المحسوس بالتمثيل والتصوير وهو مع ذلك مفطور للخضوع أمام أي قوّة فائقة قاهرة والإعتناء بشأنها ،

١٩٥

ولذا كانت روح الشرك والوثنية سارية في المجتمع الإنساني سراية تكاد لا تقبل التحرّز والإجتناب في المجتمعات الراقية الحاضرة وحتّى في المجتمعات المبنية على أساس رفض الدين ، فترى فيها من النُّصب وتماثيل الرجال وتعظيمها واحترامها والمبالغة في الخضوع لها ما يمثّل لك وثنية العهود الاولى والإنسان الأوّلي ، على أنّ اليوم من الوثنية على ظهر الأرض ما يبلغ مئات الملايين قاطنين في شرقها وغربها.

ومن هنا يتأيّد بحسب الاعتبار أن تكون الوثنية مبتدئة بين الناس باتّخاذ تماثيل الرجال العظماء ونصب أصنامهم وخاصّة بعد الموت ليكون في ذلك ذكرى لهم ، وكان ربّ البيت في الرومان واليونانيين القدماء ـ على ما يذكره التاريخ ـ يُعبد في بيته ، فإذا مات اتّخذ له صنم يعبده أهل بيته ، وكان كثير من الملوك والعظماء معبودين في أقوامهم ، وقد ذكر القرآن الكريم منهم نمرود الملك المعاصر لإبراهيم عليه‌السلام ... وهو ذا يوجد في بيوت الأصنام الموجودة اليوم ، وكذا بين الآثار العتيقة المحفوظة عنهم أصنام كثير من عظماء رجال الدين كبوذا وأصنام كثير من البراهمة وغيرهم ، واتّخاذهم الموتى وعبادتهم لها من الشواهد على أنّهم كانوا يرون أنّهم لا يبطلون بالموت وإنّ أرواحهم باقية بعده ، لها من العناية والأثر ما كان في حال حياتهم بل هي بعد الموت أقوى وجوداً وأنفذ إرادةً وأشدّ تأثيراً من شوب المادّة ونجت من التأثيرات الجسمانية والإنفعالات الجرمانية ، وكان فرعون موسى يعبد أصناماً له وهو إله معبود في قومه : (وَقَالَ المَلَأُ مِنْ قَومِ فِرعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وقَومَهُ لِيُفسِدُوا فِى الأرضِ وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ). (١).

وما جاء في هذا البحث هو بعض عوامل الشرك ، ولا بأس من الإشارة أخيراً إلى نقطة تثير العجب ذكرها المؤرّخ الغربي الشهير (ويل ديورانت) في كتابه التاريخي (قصّة الحضارة) وأيّده الكثير من الذين سافروا إلى خارج البلاد في هذا العصر بملاحظاتهم في تلك البلدان وهو وجود أصنام كثيرة صنعت على صورة الأجهزة التناسلية للذكر والانثى! حيث تعبد من قبل مجموعة كبيرة!

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٠ ، ص ٢٧٥ ـ ٢٧٧ (مع التلخيص).

١٩٦

ويكتب : لَعلَ (القمر) هو أوّل شيء كانت له أولوية العبادة ، فقد كان الإله المحبوب لدى النساء وعبدنه حامياً لهنّ ، واعتقدن بأنّ للقمر حكومة على الأنواء الجوّية وينزل هذا الجرم السماوي المطر والثلوج ، حتّى أنّ الضفادع ـ كما في الأساطير ـ تتضرّع إليه كي ينزل المطر.

وبعد التفصيل في هذا المجال وفي عبادة الشمس والأرض والجبال والبحار يضيف : بما أنّ الإنسان الأوّل لم يدرك أنّ حقيقة انعقاد نطفة الإنسان من (الحيمن) و (البويضة) ، فلذلك كانوا يعتقدون بأنّ المبدأ الوحيد في وجود البشر هو هذا الموجود العجيب أي (الآلة التناسلية لدى الرجل والمرأة) اعتقدوا وجود روح عجيبة فيهما هي المبدأ لهذا الأثر العجيب ، وهذا الأمر كان سبباً في الإعتقاد التدريجي بإلُوهيتهما وتحوّلهم إلى عبَدة لتماثيل الآلة التناسلية!!

والأعجب أنّه يكتب : قلّما نجد قوماً لا يعبدون هذا الصنم بشكل ما! (١).

وكما أشرنا فإنّ عبادة الأصنام لا تزال منتشرة في الهند واليابان في الوقت الحاضر.

ومن هنا يتّضح جيّداً أنّ الإنسان إذا انحرف عن تعليمات الأنبياء : سيقع في مستنقعات متعفّنة وسيرتكب أعمالاً مضحكة ومخجلة.

أمّا الموحّدون ذوو الدين الحقّ والقلب السليم فعليهم أن يشكروا الله كثيراً على تحرّرهم بفضل تعليمات الأنبياء من التلوّث بالشرك والسقوط في هذه الأودية الموحشة.

* * *

__________________

(١) تاريخ ويل ديورانت ، ج ١ ، ص ٩٥ (مع التلخيص).

١٩٧
١٩٨

أقسام التوحيد

١ و ٢ ـ توحيد الذات والصفات

٣ ـ توحيد العبادة

٤ ـ توحيد الأفعال

١٩٩
٢٠٠