نفحات القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-97-0
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٠٨

١ ـ إتّباع الأوهام

تمهيد :

بما أنّ الفطرة الإنسانية ـ كما أسلفنا في بداية بحث التوحيد ـ قد نشأت على التوحيد والوحدانية ، كما أنّ الأدلّة العقلية والنقلية الواضحة تعزّر هذه الفكرة ، فإنّ هذا السؤال يطرح نفسه وهو : ما السبب في أن ينبت الشرك وينمو كالشوك في طريق معرفة الله لدى الإنسان؟ وما هي جذور هذا الانحراف الكبير أو الانحراف الفكري الأكبر لدى الإنسان؟

من خلال دراسة تاريخ الأنبياء عليهم‌السلام والاقوام البشرية المختلفة وادّعاءات عبدة الأوثان على مرّ التاريخ نستطيع كشف الستار عن الجذور الأساسية للشرك ، ومن المُسلّم أن معرفة مصادر وجذور الشرك ستكون عاملاً مساعداً ومؤثراً في مواجهة هذه الآفة الكبرى ، لأنّ معرفة أسباب أي مرض تكون كفيلة بعلاج ذلك المرض.

وبهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنتأمل الآيات التالية :

١ ـ (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ الهاً آخَرَ لَابُرهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ انَّهُ لَايُفْلِحُ الكَافِرُونَ). (المؤمنون / ١١٧)

٢ ـ (مَا تَعْبدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُم وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِها منْ سُلْطَانٍ إِنِ الحُكمُ إِلَّا للهِ أمَرَ أَلَّا تَعْبُدوا إِلَّا إيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ القَيَّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). (يوسف / ٤٠)

٣ ـ (وَيَعْبدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَم يُنَزِّلْ بهِ سُلْطاناً ومَا لَيْسَ لَهُمْ بهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمينَ مِنْ نَّصِيرٍ). (الحجّ / ٧١)

١٦١

٤ ـ (أَلَا إِنَّ للهِ مَنْ فِى السَّماواتِ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ وَما يَتّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). (يونس / ٦٦)

٥ ـ (وَمَا يَتَّبِعُ أَكثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِى مِنَ الحَقِّ شَيئاً إِنَّ اللهَ عَليمٌ بِمَا يَفعَلُونَ). (يونس / ٣٦)

٦ ـ (إِنْ هِىَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُم وَآباؤُكُمْ مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَنَّ وَما تَهوى الأَنْفُسُ). (النجم / ٢٣)

٧ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَّعِىَ وذِكْرُ مَنْ قَبْلِى بَل أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ). (الأنبياء / ٢٤)

شرح المفردات :

«الظنّ» : يعني ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ : الحالة الحاصلة من ملاحظة علامة شيء ، فإنّ قوى صار علماً وإن كان ضعيفاً فإنّه لا يتجاوز حدّ الوهم ، وأمّا ابن منظور فإنّه يقول في لسان العرب : يستعمل الظنّ بمعنى الشكّ واليقين كليهما إلّاأنّه ليس اليقين الحاصل بالنظر بل بالتدبّر ، وأمّا الحاصل عن طريق المشاهدة فإنّه يطلق عليه بـ (العلم).

ويقول ابن الأثير في النهاية : إنّ الظنّ يستعمل تارةً بمعنى العلم واخرى بمعنى الشكّ وتارةً بمعنى التهمة.

وقد استعمل هذا اللفظ في آيات البحث بمعنى الأوهام الواهية وعديمة الأساس (الآيات نفسها تتضمّن قرائن على هذا المعنى وستتمّ الإشارة إليها).

«خرْص» : على وزن (غرْس) يعني كما يقول صاحب (صحاح اللغة) تخمين وزن التمر الذي يحصل من رطب النخيل ، كما أورد الراغب هذا المضمون في مفرداته.

ثمّ أطلق على كلّ حدس وتخمين وبما أنّهما لا يصيبان دائماً ، فإنّه استعمل بمعنى الكذب أيضاً ، وهذا اللفظ يطلق في الأساس على كلّ ظنّ لا أساس راسخ له.

كما أنّ هناك معانٍ اخرى لمشتقّاته مثل (الرمح) (الحلقة) و (الحوض الكبير الذي يكون

١٦٢

على ساحل النهر ويدخل فيه ماؤه ويرجع منه) ولا يبعد أن ترجع هذه المعاني كلّها إلى الجذر نفسه حيث يقترن التخمين والظنّ بالتزلزل وعدم الثبات ويتّصف الرمح والحلقة والحوض الخاصّ المذكور بهذا الوصف (١).

«برهان» : هو الدليل القطعي المحكم وجاء أيضاً بمعنى الدليل والإيضاح ، ويقول الراغب في المفردات : البرهان يعني البرهان المحكم ، ويعتقد البعض أنّه مشتقّ من (بَرَهْ) ويعني الإبيضاض ، ثمّ اطلق على كلّ كلام واضح وصريح ليس فيه أي إبهام ، أو الامور الواضحة التي لا خفاء فيها (٢).

وما ورد في الحديث : (الصدقة برهان) لعلَّة لما للإنفاق في سبيل الله من دلالة على صحّة إيمان الإنسان.

«سلطان» : ويعني في الأصل ـ كما في مقاييس اللغة ـ القوّة والقدرة المصحوبة بالغلبة وبما أنّ الاستدلال القوي يكون سبباً لتغلّب الإنسان على طرفه المقابل فإنّ لفظ (سلطان) اطلق على الدليل المحكم أيضاً.

«سليط» : ورد تارةً بمعنى الرجل الفصيح ، واخرى بمعنى الإنسان المزعج والبذيء اللسان و (سليطة) الذي يستعمل في النساء يحمل على هذا المعنى الأخير وكلّها مشتقّة من مادّة (سلطة).

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

الغور في عالم الأوهام!

تؤكّد الآية الشريفة الاولى ـ من خلال الإشارة إلى عقوبة المشركين ـ على حقيقة أنّ

__________________

(١) التحقيق في كلمات القرآن الكريم ، مادّة (خرص).

(٢) التحقيق في كلمات القرآن الكريم والكلمات التي نلاحظها مثل (برهن ، يبرهن) أو الوصف (مبرهن) فإنّه لون من الإشتقاق الإنتزاعي نظير كلمة (سلطان) المشتقّة من سلْط (سلطن يسلطن).

١٦٣

(الشرك) ليس له أي دليل أو برهان وعليه يكون وليداً للظنون والأوهام فتقول : (وَمَنْ يَدعُ مَعَ اللهِ الهاً آخَرَ لَابُرهَانَ لَهُ بِه فَإِنَّمَا حِسابُهُ عِندَ رَبِّهِ انَّهُ لا يُفْلِحُ الكافِرُونَ).

ومن الملاحظ أنّ عقوبة المشركين هنا غير موضّحة بل تقول الآية : (حِسابُه عِندَ رَبِّهِ) وهو أكبر تهديد ، لأنّ العظيم والقاهر هو المحاسب فيكون عقابه شديداً قطعاً وعبارة (لا برهان له) تفيد ـ في الواقع ـ هذا الأمر وهو : أنّ الشرك لا يدلّ عليه أي دليل سواء كان عقليّاً أو نقليّاً ولا تنسجم الفطرة معه ولا المنطق ، بل كلّما أمعنّا النظر في هذه القضيّة ظهر بطلانها أكثر.

والتعبير بـ (لا يُفْلِحُ الكافِرُونَ) شامل ينفي كلَّ فلاح عن الكافرين في الحياة المادية والمعنوية ، في الدنيا والآخرة ، ويؤيّد هذه الدعوى مشاهدتنا اليومية للذين لا يؤمنون.

* * *

أسماء بلا عناوين :

طرحت الآية الثانية هذا المضمون في إطار جميل آخر وتقول عن لسان يوسف عليه‌السلام وهو يخاطب صاحبيه في السجن : (مَا تَعْبدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُم وآباؤُكُم) والشاهد على ذلك هو أنّها (مَا أَنْزَلَ اللهُ بِها منْ سُلْطانٍ) ، فلو كانت حقائق لقام عليها الدليل العقلي والنقلي ، فمن المحال أن يفقد الدليلَ أمرٌ بهذه الدرجة من الأهميّة (وهو وجود الشريك لله عزوجل) ، وعدم الدليل هذا دليل على العدم!

من هنا تستنتج الآية في الخاتمة : (إنِ الحُكمُ إِلَّا لله) و (أَمَرَ ألَّا تَعْبُدوا إِلَّا إِيَّاهُ) و (ذَلِكَ الدِّينُ القَيَّمُ وَلكِنَّ أَكْثَر النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ).

وكلّ جملة ـ في الحقيقة ـ في هذه الآية بمثابة دليل على نفي الشرك ، حيث تقول من جهة : إنّ الله لم ينزل أي دليل على وجود آلهتكم ، وتقول من جهة اخرى : إنّ حاكمية العالم وتدبيره مختصّ به حيث تلاحظ علامات الوحدة في التدبير في كلّ مكان.

وتقول من جهة ثالثة : إنّه أمر بعبادة الإله الواحد ، فهل يعقل أن يأمر الإله الحكيم بأمر كاذب؟

١٦٤

وفي الختام فإنَّ الآية تعتبر الشرك ناشئاً من الجهل.

ونقل بعض المفسّرين بأنّ عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بأنّ الله هو النور الأعظم ، ويعتقدون بأنَّ الملائكة أنوار صغيرة ، وأمّا الأصنام في الأرض فإنّها مظهر للأنوار السماوية تلك ويطلقون عليها (المعبود) وبذلك تكون معبوداتهم أسماءً بدون مسمّى (١).

ولو تغافلنا عن هذا المعنى أيضاً وسلّمنا بأنّ الأصنام هي الآلهة لديهم لا مظاهر لها فإنّها كانت أسماء دون مسمّيات أيضاً ، وذلك لعدم وجود أثر من آثار الالوهية في هذه الأحجار والأخشاب الجامدة.

وقد تضمَّنت الآية الثالثة محتوىً شبيهاً لما في الآية السابقة حيث تقول في ذمّ عبدة الأوثان : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَم يُنَزِّلْ بهِ سُلْطاناً).

وهو في الحقيقة نفي لوجود دليل نقلي ، وتضيف الآية : (ومَا لَيْسَ لَهُمْ بهِ عِلْمٌ) ، وفي ذلك إشارة إلى نفي لوجود دليل عقلي.

وتقول الآية في الخاتمة : (وَما لِلظّالِمينَ مِنْ نَصِيرٍ).

فلا معين لهم على دفع عذاب الله ولا رشد لهم في طريق الهداية ولا ينصرهم الدليل العقلي (ويمكن أن تجتمع التفسيرات الثلاثة في مفهوم الآية).

الاستناد إلى الحدس والتخمين :

تحدّثت الآية الرابعة في أوّلها عن مالكية الله لجميع مَن في السماوات والأرض حيث تقول : (أَلَا إِنَّ للهِ مَنْ فِى السَّماواتِ وَمَنْ فِى الأَرْضِ).

وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى عقيدة المشركين الذين أقرّوا بأنّ المالك والحاكم الأصلي هو الله ، ومع ذلك فإنّهم كانوا يعبدون الأصنام ، كما يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ النظام الواحد لعالم الوجود دليل على أنّ المدبّر الواحد هو الحاكم عليه.

ثمّ تضيف : (وَمَا يَتَّبِعُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ).

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ١٨ ، ص ١٤١.

١٦٥

بل إنّهم يتّبعون أوهامهم وظنونهم فقط : (إِنْ يَتَّبعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (١).

«يخرصون» : ـ كما اشير سالفاً ـ مشتقّ من (خرْص) ويأتي بمعنى (التخمين) و (الكذب) لأنّ التخمين لا يصيب في أكثر الموارد ، وآية البحث تحتمل المعنيين.

وقد ورد هذا المضمون وبفارق يسير في الآية الخامسة التي تقول بعد ذكر انحراف عبدة الأوهام : (وَما يَتَّبِعُ أَكثَرُهُمْ إِلَّا ظَناً إنَّ الظَنَّ لَايُغنِى مِنَ الحقِّ شَيئاً) ، ثمّ تهدّد هؤلاء الظانين بتعبير ذي معنى كبير : (إِنَّ اللهَ عَليمٌ بِما يَفْعَلُونَ).

أجل ، إنّ الظنّ والوهم كالسهم في الظلام ، لا يمكن أن نصيب به الهدف ، ولو أصاب الهدف أحيانا فإنّه يكون محض صدفة ، من دون معرفة للهدف.

«الظنّ» : في اللغة يشمل كلّ ظنّ ووهم ، وإن أطلق أحياناً على اليقين أيضاً إلّاأنّ المراد في آية البحث هو المعنى الأوّل.

ومن الملاحظ إنّ اتّباع الظنّ ينسب إلى أكثرهم لا إلى جميعهم ، وقد لفت هذا المعنى نظر الكثير من المفسّرين.

فقال البعض إنّ (أكثر) هنا تعني الجميع (ولم يقم على هذا التفسير دليل).

ومن الأفضل : أن يقال إنّ الآية تقصد الغالبية الجاهلة التي تتأثّر بالأوهام الخاطئة وتتعرّض للشرك ، وتقابلها الفئة القليلة من رؤوس الضلال الذين يدعون الناس إلى الضلال (٢) على علمٍ منهم ، والأمل في الهداية موجود طبعاً في الفئة الاولى فقط والخطاب موجه اليهم.

كما احتمل البعض أنّ في (أكثر) إشارة إلى جماعة تتبع الظنّ والوهم طيلة حياتها ومن جملتها (الشرك) فهي تطفو فوق أمواج من الأوهام وحجب الظلام والخيال (٣).

__________________

(١) وفقاً لهذا التفسير تكون (ما) في «وما يتبع» نافية وفاعل (يتبع) هو (الذين) ومفعول (شركاء) أي أنّ المشركين لا يتّبعون في الحقيقة شريكاً لله تعالى (لأنّ الله لا شريك له وهؤلاء الشركاء من صنع الأوهام) ، ولكن احتمل جمع من المفسّرين بأنّ (ما) هنا إستفهامية فيكون معنى الجملة هو : أي شيء يتّبعونه من دون الله ويجعلونه شريكاً له؟ فهل هناك إلّاالظنّ؟ (النتيجة في الإثنين واحدة تقريباً). راجع تفسير مجمع البيان ؛ وتفسير الكبير ؛ والقرطبي ؛ وتفسير الكشّاف ؛ وروح المعاني في ذيل آية البحث وقد احتمل البعض أنّ (ما) هنا موصولة إلّاأنّه يبدو بعيداً.

(٢) ورد ما يشابه هذا المضمون في تفسير روح البيان ، ج ٤ ، ص ٤٥ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ١١ ، ص ١٠٣.

(٣) وقد ورد هذا الاحتمال أيضاً في تفسير روح المعاني.

١٦٦

الآية السادسة تُشبه الآية الثانية في مضمونها من جهات ، حيث تقول : (إِنْ هِىَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُم وَآبَاؤُكُمْ مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) وهذه الجملة توضّح هيمنة روح التقليد الأعمى على المشركين حيث اتّبعوا أسلافهم بعيون وآذان مغلقة ثمّ تضيف : (إِنْ يَتَّبعُونَ إِلَّا الظَنَّ وَمَا تَهوى الأَنْفُسُ).

والملاحظة الجديدة هنا هي عطف (هوى النفس) على (الظنّ) وهو تعبير كثير المعنى وفيه إشارة إلى أنَّ هذه الظنون الواهية تنشأ من هوى النفس الذي يجعل من الباطل حقّاً في منظارهم ، فهم إذن يعبدون أهواء أنفسهم في الواقع والأصنام الاخرى وليدة لها!

وعليه يكون مصدر الانحراف والضلال لديهم في الواقع أمرين : عدم الاستناد إلى اليقين من الناحية العقلية والعقائدية والتمسّك بالظنون والإنصراف عن فطرة التوحيد الصحيحة من الناحية العاطفية والإستناد إلى هوى النفس.

وهذه النقطة جديرة بالإهتمام أيضاً وهي أنَ (يتّبعون) و (تهوى) فعلان مضارعان ، ويعني ذلك أنّ هؤلاء يستمرّ اتباعهم للظنّ وهوى النفس ويتلونون كلّ يوم بلون جديد!

والملاحظ إنّ أوّل الآية تخاطب المشركين وآخرها تذكرهم باستخدامه ضمير الغائب (التفات من المخاطب إلى الغائب) وفي ذلك إشارة إلى أنّهم لا شأن لهم حتّى يستحقّون الخطاب.

أظهرت الآية السابعة والأخيرة الحقيقة نفسها ولكن في إطار جديد حيث تقول : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِه آلِهَةً) (قُلْ هَاتُوا بُرْهانَكُم).

ولعدم امتلاككم دليلاً واضحاً وموجّهاً على الشرك فإنّكم مدانون.

ثمّ تقوم الآية بتوضيح الدليل على بطلان عقيدتهم وتقول : (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِىَ وذِكْرُ مَنْ قَبْلِى) (١).

والتعبير بـ (ذكْر) بدلاً عن الكتب السماوية إشارة إلى أنّ جميع هذه الكتب عامل تذكير

__________________

(١) في هذه الآية استدلال بالدليل النقلي في حين استدلّ في الآيتين السابقتين بالدليل العقلي وبرهان التمانع (تدبّر).

١٦٧

ووعي ، وقد ذكر بعض المفسّرين معاني اخرى لكلمة «ذكر» ولكنّها لا تبدو مناسبة.

وقد أكدّ ذيل الآية مرّة اخرى على هذا المضمون حيث يقول : (بَلْ أَكثرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ) ، وإن كانت هناك فئة قليلة تدرك القضايا ، إلّاأنّها لا تظهر الحقّ لإحساسها بالخطر على مصالحها اللامشروعة.

ويمكن الإستنتاج جيّداً من مجموع الآيات الواردة بأنّ الشرك وعبادة واتخاذ آلهة من دون الله ليس له دليل عقلي ولا برهان نقلي ، ومن المحال أن تكون مثل هذه القضيّة المهمّة موجودة ولا يوجد لها دليل عقلي أو نقلي ، وعليه فإنّ فقدان الدليل هذا ، دليل قاطع على بطلانه.

* * *

١٦٨

٢ ـ اتّباع الحواس

تمهيد :

عندما يولد الإنسان في هذا الكون فإنّه يرى المحسوسات ويميل إليها ويتّخذها أساساً لمعلوماته ، وعندما يسمو في فكره وعلمه فإنّه يتعرّف تدريجياً على القضايا العقلية والفكرية.

إنّ البعض وبسبب التخلف الثقافي فإن إدراكهم يتوقف على مرحلة الحس ، فلا يمكنهم أن يفكروا أو يؤمنوا بشيء سوى المحسوسات ، فهم يتوقعون بأنّ الله وجود حسي ، فيمكنهم أن يرونه أو يلمسونه! وهذا التوجه يمثل عاملاً مهماً في توجههم لعبادة الأصنام والآلهة المحسوسة ، وعلى مرّ التاريخ.

وبهذه الإشارة نتوجّه إلى القرآن الكريم لنمعن خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (وَقَالَ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَولَا انزِلَ عَلَينَا الملائكَةُ أَو نَرَى رَبَّنا لَقَدِ استَكْبَرُوا فِى أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً). (الفرقان / ٢١)

٢ ـ (يَسئَلُكَ أهْلُ الكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَليهِمْ كِتاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالوا أَرِنَا اللهَ جَهَرةً فَأخَذَتْهُمُ الصَّاعِقةُ بِظُلْمِهِم ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جاءتْهُمُ البَيّنَاتُ فَعَفَونَا عَنْ ذلِكَ وآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً). (النساء / ١٥٣)

٣ ـ (وَقَال فِرعَونُ يَاأَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيرِى فَأَوْقِدْ لِى يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فاجْعَلْ لِّى صَرْحاً لَّعلّى أَطَّلعُ إِلَى إِلهِ مُوسى وَانِّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ). (القصص / ٣٨)

١٦٩

٤ ـ (وَقَالُوا لَنْ نُّؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفجُرَ لَنَا مِنَ الأَرضِ يَنْبُوعاً* ... أَو تُسقِطَ السَّمَاءَ كَما زَعَمْتَ عَلَينا كِسَفاً أَو تَأتِىَ بِاللهِ والمَلَائِكةِ قَبِيلاً). (الإسراء / ٩٠ ـ ٩٢)

٥ ـ (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأتَيهُمُ اللهُ فِى ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ والمَلائِكَةُ وقُضِىَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ). (البقرة / ٢١٠)

جمع الآيات وتفسيرها

لماذا لا نرى الله؟

إنَّ الآية الاولى نقلت ما قالَهُ الكفّار والمشركون والذي يشير بوضوح إلى امنيتهم في أن يكون الله مثلهم ذا جسم ويمكن النظر إليه حيث تقول : (وَقَالَ الَّذِينَ لَايَرجُونَ لِقَاءَنَا لَولَا أُنزِلَ عَلَينَا المَلَائِكَةُ أَو نَرَى رَبَّنَا).

إنّهم طالبوا برؤية ملائكة الوحي أوّلاً ، ثمّ سوّلَتْ لهم أمانيهم أن يطالبوا برؤية الله ، ويبدو أنّهم لا يقرّون بالإله المجرّد وغير المحسوس ، والظاهر أنّ هذا الكلام كان لرؤوس الشرك وعبدة الأصنام وقد علموا بالحقيقة إلّاأنّه ومن أجل إغفال عامّة الناس الذين يرون كلّ شيء في إطار الحسّ قاموا بطرح هذا الكلام أمام النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لكي يهزموهُ حسب زعمهم ولذا وصفهم القرآن الكريم بأنّهم قوم لا يؤمنون بالقيامة ولا يشعرون بالمسؤولية ، ولهذا تقول الآية في ذيلها : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِى أَنْفُسِهِم وَعَتَو عُتَوّاً كَبِيراً). وقد ذكر المفسّرون للآية ٢٧ من هذه السورة الفرقان سبباً للنزول يدلّ على أنّ هذه الآيات نزلت في جمع من أئمّة الشرك في قريش.

وذيل الآية يشير أيضاً إلى أنّ مصدر هذه الادّعاءات الضخمة والخاطئة هو ابتلاؤهم بالكبر والغرور أوّلاً وسلوك طريق (العتو) وهو التمرّد المصحوب بالعناد واللجاجة في أمر الله ثانياً ، ولم يختصّ بذلك العرب فحسب ، بل ما زال جمع من علماء عصرنا المغرورين والمتمرّدين المادّيين الذين يعتقدون أنّ كلّ شيء يجب إجراء التجربة عليه ورؤيته في المختبر وبالوسائل الحسيّة ، ويقولون : إنّنا لا نؤمن بالله حتّى نراه جهرة ، وبهذا تكون

١٧٠

المجموعتان محصورتين في إطار الحسّ ، في حين تكون العوالم الخارجة عن الحسّ أوسع بكثير من عالم الحسّ.

طلبوا ذلك من موسى!!

تتحدّث الآية الثانية أوّلاً عن حجج اليهود وتقول : (يَسْئَلُكَ اهلُ الكِتَابِ ان تُنَزِّلَ عَلَيهِم كِتاباً مِّنَ السَّمَاءِ). قال جماعة في تفسيرها أنّ مرادهم كان بأن ينزل عليهم كتاباً مخطوطاً على قراطيس معلومة من السماء ليشاهدوه بعيونهم ويلمسوه بأيديهم (١).

وقالت جماعة اخرى : إنّ مرادهم هو لماذا لم ينزل جميع القرآن مرّة واحدة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! والقرآن يجيبهم : لا عجب من هذا الطلب الخاوي لهؤلاء المعاندين اللجوجين بعد مشاهدة المعجزات والقرائن التي تصدّق دعوة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى اكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهرَةً)! وبسبب هذا الطلب الخاطئ : (فَأَخَذَتهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلمِهِم).

أجل ، إنّهم ظلموا أنفسهم وراحوا يتعلّلون ، وحبسوا عقولهم في إطار الحسّ ولم يسمحوا لها بالتجرّد من هذا النطاق الضيّق إلى افق عالم ما وراء الطبيعة ، ولهذا أنزلت عليهم صاعقة من السماء وأهلكتهم غير أنّ اللطف الإلهي ودعاء موسى عليه‌السلام قد أدركهم أخيراً وواصلوا حياتهم مرّة اخرى ، والعجيب أنّ هذا الحدث العجيب لم يوقظهم ، حيث مالوا إلى السامري في اقتراحه بعبادة العجل! ونقرأ في الآية : (ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجلَ مِن بَعدِ مَا جَاءَتهمُ البَيِّناتُ) ، وكأنّهم لم يُؤمنوا إلّابالإله المحسوس ، ولم تقوَ أرواحهم على العروج إلى عالم ما وراء الطبيعة.

ومرّة اخرى شملهم اللطف الإلهي حيث تقول الآية في ذيلها : (فَعَفَونَا عَن ذَلِكَ وآتَينَا مُوسَى سُلطَاناً مُّبِيناً).

__________________

(١) وقد وافق على هذا صاحب التفسير في ظلال القرآن ، ج ٢ ، ص ٥٨٣ وقد نقله الفخر الرازي ويبدو تفسيراً مناسباً وإن لم يتعارض مع التفسير الثاني.

١٧١

والمراد من (سلطان مبين) هنا هي الحكومة التي أعطاها الله عزوجل لموسى عليه‌السلام فقد غلب المعارضين من الناحية الظاهرية ومن الناحية المنطقية والاستدلالية ، ويعتقد بعض المفسّرين كالطبرسي في مجمع البيان بأنّ النصر هنا من الناحية المنطقية فقط (١).

دعني أرى الله في السماء!

في الآية الثالثة مقالة تفوّه بها فرعون في هذا الشأن ، وهي توضّح أفكار الشعب المصري آنئذ ، فقد ألقى هذه المقالة في عصر كان لإسم موسى وانتصاره على السحرة صداه في مصر بأسرها ، ولمّا شعر فرعون بخيبة أمل شديدة رأى أن يعمل شيئاً يصرف به أنظار الناس عن موسى عليه‌السلام ومعجزاته : (وَقَالَ فِرعَونُ يَاأَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمتُ لَكُم مِّن إِلَهٍ غَيرِى) (٢) ، ولذا أرى أنّ دعوة موسى إلى ربّ السماء والأرض خاطئة ، وبما أنّي من أهل التحقيق، فقد خطر ببالي شيء يظهر به صدق موسى أو كذبه ، قم ياهامان : (فَاوقِدْ لِى يَاهَامَانَ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِّى صَرْحاً لَّعلّى أَطَّلعُ إِلَى إِلَهِ مُوسى) (٣)، (وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ).

ولا شكّ أنّ فرعون كان شديد المكر والدهاء وهو يدرك هذه القضايا الواضحة وهي أنّه ليس إلهاً ، وأنّ مايقصده موسى من إله السماء ، هو خالقه لا أنّ الله يسكن السماء حقيقة ، ولو تجاوزنا هذا الأمر وافترضنا أنّ الله يسكن السماء فإنّه لا يمكن الوصول إليه ببناء برج عالٍ ، فمنظر السماء من على قمم الجبال في العالم هو المنظر الذي يشاهد من فوق سطح الأرض ، ولم تخف هذه القضايا على فرعون.

ولكن فرعون كان يفكّر في مخطّط آخر وأراد صرف الرأي العامّ الذي مال إلى موسى بشدّة وذلك بطرح هذه القضيّة المثيرة ، كما أرادَ أن يشغل مجموعة من الناس ولمدّة طويلة

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١٣٤.

(٢) يقول اللغويون في تفسير «ملأ» : يطلق هذا اللفظ على جماعة قد اجتمعوا على عقيدة واحدة وظاهرهم يملأالعيون (من مادّة ملأ) ومن هنا يستعمل هذا اللفظ بمعنى أشراف القوم ورؤسائهم وحواشي الملوك أيضاً.

(٣) «صرح» : في الأصل تعني الخلو من الشوائب ثمّ تطلق على القصور والبيوت العالية والجميلة لأنّها بلغت من الكمال في بنائها إلى درجة لا يوجد فيها عيب أو نقص.

١٧٢

ببناء برج عالٍ جدّاً ، وفي النهاية يصعد إلى أعلى البرج ليحرّك نفسه ويقول : إنّي بحثت عن إله موسى عليه‌السلام في السماء فلم أجد له أثراً!

إنَّ هذه القضيّة توضّح أمراً مهمّاً وهو إنّ مستوى التفكير العامّ في مصر كان بسيطاً إلى حدّ أنّهم لم يكونوا ليصدقوا إلّابإلهٍ محسوس ، وبالتالي يصدقون فرعون بادّعائه الالوهية وتوقّعوا أن يكون إله موسى جسماً في أعالي السماء! وفي مثل هذه الأجواء تشيع روح الصنمية وعبادة الأصنام قطعاً!

* * *

الآية الرابعة تنقل أقوال المشركين واحتجاجاتهم المتنوّعة والغريبة حيث طرح كلّ واحد اقتراحاً على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وتمسّك بحجّة معيّنة حيث تقول الآية : (وَقَالُوا لَن نُّؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرضِ يَنبُوعاً) (١) ، وقد تمسّك البعض الآخر بحجج اخرى وقالوا أخيراً : (أَو تُسقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَينَا كِسَفاً أَو تَأتِىَ بِاللهِ وَالمَلَائِكَةِ قَبِيلاً) (٢).

والمطالبة الأخيرة توضّح جيّداً أنّهم تصوّروا أنّ الله والملائكة ذوو أجسامٍ وموجودات جسمانية ، ولم يتحمّلوا تصوّر وجود خارج عن إطار عالم الجسم والطبيعة ، ويعتقد بعض المفسّرين بأنّ مرادهم من الإتيان بالملائكة هو أن تأتي لتعيّن الله! (٣) أو تشهد على الوهيته ، وتشير هذه كلّها إلى المستوى الفكري المتخلف لُاولئك القوم المعاندين.

* * *

أيتوقّعون أن يأتي الله إليهم!

تحدّثت الآية الخامسة والأخيرة عن الكفّار والمشركين وأفكارهم المنحطّة فتقول :

__________________

(١) «ينبوع» من «نبع» وتعني عين الماء.

(٢) فسّرت كلمة «قبيل» تارةً بمعنى «المقابل» ، وتارةً بمعنى الكفيل والشاهد ، وتارةً بمعنى الجماعة والفئة ، ويمكن الموافقة على المعاني الثلاثة في مورد الآية أعلاه.

(٣) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٥ ، ص ٣٥٩.

١٧٣

(هل يَنْظُرُونَ إِلَّا أنْ يَأتِيَهُمُ اللهُ فى ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والمَلائِكَةُ) (١).

وقد اضطرب المفسّرون بشدّة في تفسير هذه الآية ، فقد عدّها بعضهم من متشابهات القرآن فيلزم تفسيرها في ضوء المحكمات (٢) ، وقد ذكر البعض سبعة تفاسير لها (٣).

وكان تصوّرهم عن مضمون الآية هو أنّه سيأتي اليوم الذي يأتي فيه الله والملائكة في ظلّ الغيوم ، ولا ينسجم هذا المعنى قطعاً مع ما يستفاد من آيات القرآن الصريحة في أنّه ليس بجسم ولا يمكن مشاهدته ولذا يجب تأويله.

في حين أنّ مضمون الآية شيء أخر ، والمراد منه هو الإستفهام الإنكاري ويشبه قولنا للذين يتماهلون في تحصيل العلم : أتتوقّع أن يُجعل العلم لقمة سائغة توضع في فمك؟! إن هذا التوقع ليس في محلّه.

إنَّ الآية أعلاه تقول أيضاً : هل أنّهم يتوقّعون أن يأتي الله والملائكة للقائهم ويقفون أمامهم ويشهدون لهم؟! إنّه توقّع خاطئ وفي غير محلّه ، فليس الله بجسم ولا مكان ولا رواح أو مجيء له ، وبهذا ليس في الآية ـ كما نلاحظ ـ مشكلة خاصّة حتّى تحتاج إلى تأويل وتفسير معقّد أو أن تحسب من المتشابهات.

وتقول الآية في آخرها مهدّدة هذه الفئة المعاندة بالعقاب الشديد : (وَقُضِىَ الْأَمرُ) ، وكان العذاب متحقّق الآن ، ولذا جاءت بصيغة الفعل الماضي ثمّ تقول : (وَإِلَى اللهِ تُرجَعُ الامُورُ) ، وليس لأحد القدرة على مواجهته وليس لأحد أن يقاوم أمره ، وإذا تعلّقت مشيئته بعقوبة جماعة فكأنّها متحقّقة.

هل يتعلّق هذا التهديد بيوم القيامة أو الدنيا أم الإثنين معاً؟ لا يبعد أن يتعلّق بالإثنين ، لأنّ الآية ذات مفهوم واسع ولا يوجد دليل على تحديده بعذاب الدنيا أو الآخرة.

يتّضح ممّا أوردناه في تفسير الآيات المذكورة بأنّ الميل إلى الحسّ وتأثيره في تكوين

__________________

(١) يقول الفخر الرازي في التفسير الكبير : ج ٥ ، ص ٢١٢ اتّفق المفسّرون على أنّ أحد معاني (النظر) هو الانتظار.

(٢) تفسير الميزان ، ج ٢ ، ص ١٠٥.

(٣) تفسير الكبير ، ج ٥ ، ص ٢١٣ ـ ٢١٦.

١٧٤

عقيدة الشرك والانحراف عن محور التوحيد طيلة تاريخ الأنبياء والامم السالفة ممّا لا يمكن إنكاره ، وأنّ الأقوام المتخلّفة فكرياً وثقافياً ، أو بقيت متخلّفة بفعل إعلام الطغاة ، قد اعتقدوا أنّ الوجود منحصر في المحسوسات وتنتهي الفطرة الإلهيّة بالإله المحسوس وهذا هو أحد العوامل المهمّة في نشوء عقيدة الشرك في التاريخ.

* * *

توضيح

لماذا ألِفوا عالم الحسّ؟!

من الواضح أنّ اصول المعلومات لدى الإنسان بأجمعها تستمدّ من المحسوسات أوّلاً ، لأنّ الإنسان حينما يفتح عينيه يلاحظ عالم المادّة ويتعرّف على عالم المحسوسات والطريق الموصل إلى ما وراء الحسّ ، بل وتصوّر الوجود المجرّد عن الزمان والمكان والمادّة يتمّ بعد الدراسة والتحليل في المسائل الفكرية والعقلية والروحانية ، فلا غرو إذن أن تكون عبادة الأصنام مذهباً للُامم المتخلّفة.

فمن جهة يعلو نداء عبادة الله من باطن فطرتهم وتدعوهم قوى المعرفة الإلهيّة إليه ، ومن جهة اخرى وبسبب مغلوبيتهم أمام عالم الحسّ والمادّة تصعُب عليهم معرفة الله المجرّد عن الزمان والمكان والمادّة ، ولذلك فإنّهم يسيرون في طريق الشرك ويشفون ظمأ أرواحهم بالآلهة الخيالية بصورة كاذبة.

وبما أنّ مجموعة من خدمة معبد الأصنام بل الكثير من الحكّام الطغاة ينتفعون من هذا الأمر فإنّهم يرغبون فيه ، وفي النهاية يصبح كدينٍ رسمي للبلاد.

ومن العجيب أن تترسّب هذه الأفكار أحياناً في أعماق الكثير من عباد الله الحقيقيين ، وللمثال على ذلك أنَّ بعض الناس يقول في قَسَمه : قسماً بالله الذي هو في السماء!! ويتصوّرون أنّنا حينما نرفع أيدينا إلى السماء حين الدعاء أنّ ذلك إشارة إلى الله وأنّه يجلس على كرسي الإقتدار وقد اجتمعت الملائكة من حوله!

١٧٥

إنَّ هؤلاء غافلون حقّاً ، فليس الله في السماء وليس في رفع اليد في الدعاء إشارة إلى مركزه ، بل إنّ رفع اليد يعني التسليم والإضطرار ، أو كما ورد في بعض الروايات إنّ السبب هو نزول النعم الإلهيّة من السماء ، فالمطر وضوء الشمس ـ وهما العمدة في حياة كلّ موجود حي ـ مصدرهما من السماء والتوجّه إلى السماء توجّه إلى الخالق العظيم لهذه النعم.

وعلى كلّ حال ، ما لم ينضج الإنسان فكرياً يصعب زوال آثار الشرك عنه ، فبنو اسرائيل الذين تربّوا في مدرسة التوحيد سنين طوال عند نبي من اولي العزم موسى عليه‌السلام وشاهدوا آثار عظمته بأعينهم عند نجاتهم من قبضة الفراعنة واجتيازهم النيل ، وبمجرّد مرورهم على عبدة الأصنام وملاحظتهم الأصنام رجعوا وطالبوا موسى عليه‌السلام بأن يجعل لهم صنماً ، فواجههم موسى بردّ فعل شديد وندموا على مقالتهم ، ولم يمض وقت طويل عندما توجّه موسى عليه‌السلام إلى جبل الطور بصورة مؤقتة لكي يأخذ الألواح وأحكام الشريعة حتّى استغلّ السامري هذه الغيبة ليصنع لهم صنماً ودعا بني اسرائيل لعبادته ، فترك أكثرهم طريق التوحيد وركعوا لعجل السامري وبقيت فئة قليلة مع أخ موسى (هارون) ملتزمةً بنهج التوحيد وهذا يشير إلى أنّ القادة السائرين في طريق التوحيد وخصوصاً أمام الأقوام المتخلّفة التي ترعرعت في أجواء الشرك يواجهون مشكلات كبيرة ، وغسل آثار الشرك أساساً من القلوب ليس باليسير ويحتاج إلى تربية فكرية وتربية ثقافية صحيحة.

* * *

١٧٦

٣ ـ المصالح الوهمية

تمهيد :

إنَّ الوهم أساس الشرك ، وكلّما ازدادت قوّة الوهم والخيال ونشطت لدى الإنسان اتَّسَعَ افق اعتقاده في الأصنام وبركاتها وآثارها إلى حدّ يضع الموجودات الفاقدة للشعور والعقل ، الموجودات الجامدة والتافهة والمصنوعة من الحجر والخشب على جناح الوهم والخيال ويطير بها بشكل ينسب لها كلّ قدرة ويتذلّل لها كي ينعم ببركتها! أجل ، إنّ المصالح الوهمية في الأصنام عامل آخر من عوامل الشرك على مرّ التاريخ ، وبهذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات القرآنية التالية :

١ ـ (وَيَعبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَايَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَايَعلَمُ فِى السَّماواتِ وَلَا فِى الأَرضِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ). (يونس / ١٨)

٢ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ). (يس / ٧٤)

٣ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً). (مريم / ٨١)

٤ ـ (أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحكُمُ بَينَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَختَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ). (الزمر / ٣)

شرح المفردات :

«شفعاء» : جمع (شفيع) من (الشفْع) ويعني كما يقول صاحب (مصباح اللغة) : ضمّ شيء

١٧٧

إلى شيء آخر وكما يقول صاحب المفردات : يعني ضمّ شيء إلى مثيله ، وأمّا صاحب (مقاييس اللغة) فإنّه يذهب إلى أنّ أصله هو المقارنة بين شيئين.

هذه التعابير تعود كلّها إلى معنى واحد تقريباً ومن ثمّ أطلق على حالة انضمام شخص قوي ومكين إلى شخص أضعف من أجل إنقاذه وإعانته ، وقد ورد بهذا المعنى في آية البحث هذه وكثير من الآيات القرآنية ، كما جاء عدد (الشفع) بمعنى (زوج) في قبالة (الوتر) بمعنى الفرد.

«زُلفى» : من (الزلْف) ويعني في الأصل القرب والمنزلة والدرجة كما يطلق هذا اللفظ على الخطوة لما للخطوات من تقريب للهدف ، وقد استعمل في آيات البحث بمعنى القرب المعنوي الذي توخّاه المشركون من عبادة الأصنام إلّاأنّ بعض المحقّقين يعتقد بأنّ (زُلفى) أكمل من معنى القرب فهي المرتبة العالية من معنى القرب في الحقيقة (١) ، ولكنّه رأي بعيد كما يبدو عند ملاحظة موارد الاستعمال ، ويطلق هذا اللفظ على الساعات الاولى من الليل كما في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلفاً مِّنَ اللَّيلِ). (هود / ١١٤)

جمع الآيات وتفسيرها

الأصنام شفعاؤنا؟!

تشير آية البحث الاولى إلى إحدى المعتقدات المعروفة لدى المشركين في الأصنام حيث تقول الآية : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَايَضُرُّهُم وَلَا يَنفَعُهُم وَيَقُولُونَ هؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ).

الكلام في أنّ هؤلاء كيف اعتقدوا بأنّ هذه الموجودات الجامدة لها الشفاعة عند الله؟

للإجابة على السؤال قال بعض العلماء : إنّ المشركين كانوا يعتقدون أنّ عبادة الأصنام بمنزلة عبادة الله ووسيلة للتقرّب إليه ، وقد ظهر هذا الإعتقاد من طرق مختلفة.

وكانت فئة تقول : لسنا أهلاً لعبادة الله دون واسطة ، لأنّه عظيم جدّاً ولذا نعبد الأصنام

__________________

(١) التحقق في كلمات القرآن الكريم.

١٧٨

كمظهر وصورة عن الملائكة لكي تقرّبنا إلى الله ، بينما قالت فئة اخرى بأنّ الأصنام هي القبلة لنا لدى عبادة الله كما يستقبل المسلمون القبلة عند العبادة ، وقد اعتقدت فئة اخرى بأنّ كلّ صنم يقترن به شيطان وكلّ من يعبد الصنم ويؤدّي حقّ عبادته فإنّ ذلك الشيطان يلبّي حوائجه بأمر الله وإن لم يعبده فإنّ الشيطان يسيء إليه (١) ، وإلى ما شاكل من هذه الخرافات والأوهام.

* * *

وتشير الآية الثانية إلى عقيدة اخرى عند المشركين حيث تقول : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهةً لَعَلَّهُم يُنصَرُونَ) ، وذلك من أجل أن تبادر إلى حلّ مشاكلهم وإعانتهم في الإبتلاءات والحروب والأمراض ، وتدفع عنهم خطر الجوع والقحط والجفاف ، وتدافع عنهم في الآخرة ؛ ويا له من خطأ فادح!؟ فإنّ القضيّة كانت معكوسة حيث يهرعون لإنقاذ أصنامهم من الأخطار ويحفظونها من الأعداء والناهبين! كما نقرأ في قصّة إبراهيم عليه‌السلام : (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُم إِن كُنتُم فَاعِلِينَ). (الأنبياء / ٦٨)

إنَّ اعتقادهم بأنَّ الأصنام تحميهم وتعينهم لم يكن سوى خيال ووهم قطعاً ، ولهذا الإعتقاد سببٌ في الإنحطاط الفكري والتخلّف الثقافي ، وهذا الأمر هو أحد مصادر الشرك على مرّ التاريخ.

وقد طرحت الآية الثالثة هذا المضمون بشكل آخر حيث تقول : (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهةً لِّيَكُونُوا لَهُم عِزّاً) ، وليس المراد من العزّة هو السمعة ، بل اكتساب القوّة والنصر والشفاعة من عند الله ، وكان هذا أيضاً وليداً لتوهّمهم ، ولذا نلاحظ في هذه الآية من سورة مريم نفسها بأن حُجب الأوهام حينما تزول ويتنبّهُ العقل فإنّ المشركين يدركون خطأهم الفظيع وسرعان ما ينكرون عبادة الأصنام وينقمون عليها ، كما ورد بإنّ المشركين يقولون يوم القيامة : (وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشرِكِينَ). (الأنعام / ٢٣)

* * *

__________________

(١) بلوغ الإرب ، ج ٢ ، ص ١٩٧.

١٧٩

وأخيراً فإنّ الآية الرابعة والأخيرة بعد الإعلان عن : (أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ) فهي تهدّد المشركين وتضيف : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعبُدُهُم إِلَّا لِيُقرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلفَى انَّ اللهَ يَحكُمُ بَينَهُم فِى مَا هُمْ فيه يَخْتِلِفونَ إِنّ اللهَ لَايَهدِى مَن هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (١).

توضيحات

١ ـ منشأ الإعتقاد بالشفاعة

يعجب كلّ عاقل عندما يواجه قضيّة الشرك لأوّل مرّة ، فكيف يمكن أن يخضع إنسان عاقل ذو شعور لتمثال حجري أو خشبي قام بصنعه بيده؟ فلو كان يمتلك قليلاً من العقل لكانَ هذا غير مقبول لديه ، ولو عرفنا أسباب ذلك لوجدنا أنّ القضيّة ليست بسيطة كما نرى ، فإنّ مجموعة من الأوهام والسفسطة والخيال والعادات طُرحت كأدلّة عقلية وخدعت المشركين.

يقول الفخر الرازي في ذيل تفسير الآية ١٨ من سورة يونس :

فيمن قالوا في الأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله وذكروا فيه أقوالاً كثيرة.

١ ـ إنّ قسماً من عبدة الأوثان اعتقدوا أنّ المدبّر لشؤون أقليم من أقاليم العالم ، روح معيّن من أرواح عالم الأفلاك ، ولأنّهم لا يصلون إلى تلك الروح صنعوا لها صنماً معيّناً واشتغلوا بعبادته ، وكلّ قصدهم هو عبادة تلك الروح ، ثمّ اعتقدوا أنّ تلك الروح عبد للإله الأعظم ومشتغل بعبوديته.

٢ ـ والقسم الآخر كانوا يعبدون الكواكب وزعموا أنّ الكواكب هي التي لها أهلية عبودية الله تعالى ، ثمّ لمّا رأوا أنّها تطلع وتغرب وضعوا لها أصناماً معيّنة واشتغلوا بعبادتها وغرضهم عبادة تلك الكواكب.

٣ ـ أمّا القسم الثالث ، فقد وضعوا طلاسم معينة على تلك الأصنام وأخذوا يتقرّبون إلى

__________________

(١) قال كثير من المفسّرين بأنّ «والذين» مبتدأ وخبره «إنّ الله يحكم بينهم» وجملة «ما نعبدهم» فيها محذوف هو بمنزلة الحال والتقدير «قائلين ما نعبدهم ...».

١٨٠