نفحات القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-97-0
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٠٨

الأخلاق الفاضلة هو الإخلاص وتنزيه القلب من الشرك ، والأساس هو جعل الدوافع العملية دوافع إلهية فقط ، أي التحرّك من أجله فقط والجهاد في سبيله والسير نحوه والإحتراز من أي دافع آخر.

فالتوحيد هو الذي يعلم الإنسان درس الإخلاص في النيّة ، درس مقارعة كلّ رياء وشرك ، ومحاربة هوى النفس والجاه والدنيا والشيطان.

وبهذا ترى كلاً من التوحيد والشرك يترك تأثيره العميق على العقائد والأعمال والنيّات والأخلاق في الفرد والمجتمع.

ولذا وجّه الإسلام إهتماماته تجاه هذه القضيّة ، وهنا نختم البحث بحديثين :

في حديث عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لعبدالله بن مسعود : يا ابن مسعود : إيّاك أن تشرك بالله طرفة عين ، وإن نشرت بالمنشار أو قطّعت ، أو سلِبت أو احرِقت بالنار(١).

وفي هذا الحديث الشريف تبرز الأهميّة القصوى للتوحيد.

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «انّ بني اميّة أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه» (٢).

وهذا الحديث شاهد واضح على أنّ الشرك يمكن أن يكون وسيلة هدّامة سياسياً واجتماعياً بيد فئة ظالمة ، وفي المقابل يمكن أنْ يقوم الإيمان بالتوحيد وفروعه باجتثاث جذور هؤلاء الظالمين.

* * *

نتطرّق في بحث التوحيد لمهمّتين :

الاولى : أنّ ذات الله لا تتركّب من أجزاء (خارجية أو عقلية.

والثانية : هي أنّ ذاته لا شبيه لها ولا مثيل ، لذا فهو واحد من كلّ جهة.

ونجد في القرآن أدلّة في هذا المجال منها :

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ١٠٧.

(٢) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤١٥ ، ح ١.

١٢١
١٢٢

دلائل التوحيد

١ ـ شهادة الفطرة على وحدانية الله (عزوجل)

٢ ـ تناسق العالم

٣ ـ دليل صرف الوجود

٤ ـ دليل الفيض والهداية

١٢٣
١٢٤

١ ـ شهادة الفطرة على وحدانية الله (عزوجل)

تمهيد :

ذكرنا في مستهلّ هذا الجزء وفي بحث «استخدام برهان الفطرة في مسألة معرفة الله» أنّ هذا البرهان يمكن أن يكون نافعاً ومرشداً في البحث عن صفات الله ، بل وفي مسألة النبوّة والمعاد ، ولهذا لنا عهد عملي مع هذا البرهان حيث نراجعه في أغلب المباحث.

وفي بحث وحدانية ذات الله وصفاته يمكن أن يكون هذا البرهان مفيداً ، أي أنّنا وفي أعماق الروح والقلب لا نسمع نداء وجوده فحسب بل لا يوجد في أعماق الروح نداء آخر.

فعندما تبلغ المشكلات والإبتلاءات ذروتها وحينما توصد أبواب عالم الأسباب أمامنا يقرع أسماعنا هدير التوحيد في أعماق وجودنا ويدعونا إلى (المبدأ الواحد) ذي القدرة التي تفوق المشكلات وتتجاوز عالم الأسباب كلّه.

وهناك آيات قرآنية عديدة تشير إلى هذا المضمون ، وبما أنّنا ذكرنا بعض هذه الآيات بصورة مفصّلة في بحث (إثبات وجود الله) فسنشير إليها هنا باختصار ونمعن خاشعين في عدد من الآيات :

١ ـ (فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البِرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ). (العنكبوت / ٦٥)

٢ ـ (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمةً إِذا فَريقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ). (الروم / ٣)

٣ ـ (قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ اتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ اتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ

١٢٥

صَادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيهِ ان شَاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ). (الأنعام / ٤٠ ـ ٤١)

٤ ـ (وَمَا بِكُمْ مِّنْ نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ* ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُرَّ عَنْكُمْ اذَا فَرِيقٌ مِّنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ). (النحل / ٥٣ ـ ٥٤)

٥ ـ (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِّنْ ظُلُماتِ البَرِّ والبَحرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وخُفْيَةً لَّئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ). (الأنعام / ٦٣ ـ ٦٤)

جمع الآيات وتفسيرها

حينما يشرق نور التوحيد :

بما أنّ تفسير الآية الاولى والثانية قد مرَّ في مقدّمة الكتاب خلال بحث الاستدلال على معرفة الله عن طريق الفطرة فإنّا نذكرهما باختصار.

الآية الاولى تتحدّث عن أشخاص يدعون الله سبحانه باخلاص عند ركوب السفينة ، والآية الثانية تطرح القضيّة بصورة عامّة وتتحدّث عن أشخاص يدعون الله عند مواجهة ضَنَك الحياة وتحيط بهم أمواج المشكلات فيتركون الأصنام التي نحتوها ويَلجأون إلى ظلال لطفه ، ولكن بعد إذاقتهم حلاوة رحمته تسلك جماعة منهم طريق الشرك مرّة اخرى ، ومن الملاحظ أنّ في الآيتين تركيزاً على الإخلاص والإنابة حيث يتمسّك بهما أغلب الناس عند هبوب عواصف الأحداث إضافةً إلى التركيز على حالة الرجوع إلى الشرك لدى جماعة كبيرة بعد سكون هذه العواصف.

وبهذا يشير القرآن الكريم إلى أنّ معرفة الله من مكنونات الفطرة الإنسانية وهكذا التوحيد في العبادة ، ويعتبر الشرك ظاهرة تنشأ من الحياة المترفة ، ومن خلال دراسة سطحية وعابرة لعالم الأسباب ، وعند تغيّر الظروف الإعتيادية للحياة وظهور عدم فاعلية عالم الأسباب يقوم الإنسان بقطع أمله منها وتبرز فطرة عبادة الواحد من وراء سحب العادات المعاشة والغفلة.

١٢٦

إنّ هذه الآيات تبلَّغ نداء الفطرة إلى الغافلين من بني الإنسان عن طريق واضح وتوصل الإنسان إلى حيث لا يوجد صخب عالم الأسباب ولا الغرق في لذّات الحياة.

نعم في مثل هذه البيئة الطبيعية والهادئة يسمع نداء الوجدان الذي يلقّنه درس معرفة الله وعبادة الواحد ولكن هذا النداء يضعف ويعجز عن بلوغ الأسماع حينما يمتليء الجوّ بصخب اللذّات الماديّة وعالم الأسباب.

هذه الآيات الشريفة تمسك بيد الإنسان تارةً وتلقي به في وسط الأمواج العاتية وتمسك بيده تارةً اخرى لتودعه خلف قضبان السجن وميدان الأمراض المستعصية وطرق مسدودة تبعث اليأس في الحياة ، مكان تخمد فيه أصوات الشياطين من الجنّ والإنس ويسمع فيه نداء الوجدان والفطرة فقط ، ما أجمل وأروع هذا النداء وهذا الصوت!

* * *

الآية الثالثة تخاطب المشركين وتدعوهم إلى فطرة عبادة الواحد ، وبتعبير آخر تقول : (قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ اتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ اتَتْكُمُ السَّاعَةُ اغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ).

والمراد من عذاب الله هو عذاب الدنيا والمراد من (أتتكم الساعة) هو ظهور أشراط الساعة (وهي علامات نهاية العالم الموحشة جدّاً وابتداء يوم القيامة) التي أخبر عنها القرآن الكريم في آيات عديدة واعتبرتها مقرونة بالخوف والوحشة الشديدَين.

إنّ الكثير من المشركين ـ طبعاً ـ لم يؤمنوا بالقيامة وأشراط الساعة غير أنّهم كان بوسعهم تصديق نزول العذاب الإلهي وذلك بملاحظة الآثار التي خلّفتها الامم السابقة في أطراف الحجاز والجزيرة العربية ، وهذا هو أحد أساليب الفصاحة حيث يبيّن القائل قضيّة صادقة لا يتقبّلها المخاطب مقرونة بما يقبله في عبارة واحدة كي يثبتا معاً.

ولا ينتظر القرآن ليستمع إجابتهم عن هذا السؤال بل يجيب عنه بما ينبغي عليهم بيانه ويقول : (بَل إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيهِ ان شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ).

وقد أسلفنا أنّ الكثير من المفسّرين فسّر جملة (أرأيتكم) بمعنى (أخبروني) ، ولكن

١٢٧

الظاهر هو الإحتفاظ بالمعنى الرئيس للجملة وتفسيرهم هذا يلازمه (المعنى الرئيس للجملة هو : هل شاهدتم؟ هل فكّرتم؟) (١).

على أيّة حال فإنّ القرآن في هذه الآيات يُلزم المشركين بأعمالهم ويحاججهم بها.

* * *

اللجوء إلى الله في الشدائد :

الآية الرابعة تطرح هذه القضيّة في قالب جميل آخر فتقول : (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) ، فماذا صنعت لكم الأصنام ومعبوداتكم المزيّفة؟ وأي رزق بَسَطتهُ لكم وأيّة هدية وهبتها لكم؟

هذه الأصنام التي تحتاج إليكم في صنعها وبقائها (حيث يجب أن تنحتوها وتحافظوا عليها) أيّة بركة وموهبة وهبتها لكم؟

وتضيف الآية : (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُرُّ فَإِلَيهِ تَجْئَرُونَ).

«تجأرون» : من مادّة (جُئار) وتعني في الأصل أصوات الوحوش والحيوانات في الصحارى دون اختيار منها عندما تحس بالألم ، ثمّ استعملت كناية عن الأنين والإستغاثة والصرخة التي تصدر من الإنسان حينما يواجه المشكلات.

يقول الراغب في مفرداته :

ومن الواضح أنّ الإنسان يرجع إلى فطرته في هذه الحالة وتتكسّر القيود والسلاسل المفتعلة وتنهار الأبنية الوهمية ويبقى الإنسان مع فطرته ، الإنسان ووجدانه الصريح ويتّجه صوب نقطة واحدة ، نعم نقطة واحدة نسمّيها (الله) عزوجل.

انتبهوا إلى جملة (إليه تجئرون) فهي تتضمّن معنى الحصر والدلالة على الوحدانية ، أي أنّكم تتوسّلون إليه فقط وتطلبون منه حلّ مشاكلكم.

وتضيف : (ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) ، وفي التعبير

__________________

(١) الاولى تعني الرؤية بالعين المجرّدة والثانية تعني الرؤية القلبية.

١٢٨

بـ (فريق) إشارة إلى أنّ فريقاً آخر سيغيّر مسيرته بعد هذا الحادث حقّاً ، وتبدأ صفحة جديدة في حياته ويستبدل الشرك بالتوحيد في العبادة ، وهذا هو أحد الحِكَم في وجود الآفات والإبتلاءات والأوجاع والآلام التي يكرهها البشر وفيها إيقاظ لفريق وتربيتهم (١).

«ضُرّ» : و (ضَرّ) لهما معنى واحد كما يعتقد بعض اللغويين ، ومفهومهما هو كلّ ما ينافي النفع ، وقد فسّر بعض الأوّل بمعنى سوء الحال ، والثاني بمعنى الضرر.

ويقول الراغب في المفردات :

«الضُرّ» : سوء الحال إمّا في نفسه لقلّة العلم والفضل والعفّة ، وإمّا في بدنه لمرض أو نقص وإمّا في حالة ظاهرة من قلّة مال وجاه (٢).

على كلّ حال فهذا اللفظ مضمون واسع حيث يشمل المصائب والأمراض والنقائص والآلام.

وينبغي ملاحظة هذه النقطة وهي أنّ (الكشف) ـ كما جاء في لسان العرب ـ تعني رفع الحجاب عن الشيء المستور ، ويلازمه ظهور ذلك الشيء ثمّ استعمل في رفع الغمّ والحزن والإبتلاءات وكأنّ هذه الامور تمثّل حجباً على روح الإنسان وجسمه وتُرفع من قبل الإنسان وغيره.

النور الوهّاج في الظلمات :

في الآية الخامسة والأخيرة التي نبحثها نلاحظ أنّ محتوى الآيات السابقة نفسه ولكن في اطار جديد وجميل حيث تقول : (قُلْ مَنْ يُنجِّيكُمْ مِّنْ ظُلُماتِ البَرِّ والبَحرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) ، في هذه الحالة تنأى عنكم المعبودات المزيّفة وتلجأون إلى لطف الله وحده وتقولون : (لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

__________________

(١) احتمال البعض من أنّ «من» في (فريق منكم) بيانية لا تبيعية بعيد جدّاً ويخالف ما ورد في الآية ٣٢ من سورة لقمان (فلمّا نجّاهم إلى البرّ فمنهم مقتصد) راجع تفسير روح المعاني ذيل هذه الآية.

(٢) لسان العرب ؛ مجمع البحرين ؛ مفردات الراغب.

١٢٩

والتعبير بـ «ظلمات البرّ والبحر» تعبير جميل يمكن أن يكون إشارة إلى الظلام الظاهري الذي يحدث في الليل أو عند هبوب الأعاصير والرياح المحملة بالغبار وعند ظهور السحب السوداء في السماء ، وهذا الظلام مرعب ومخيف وخاصّة إذا كان في البحر والصحراء ، أو حصول الخوف من هجوم الحيوانات الوحشية في الصحراء.

ويمكن أن يكون له ـ كما ذكر ذلك بعض المفسّرين ـ معنى كنائي فيشمل المشكلات والشدائد والآلام (١).

كما يحتمل تضمّن الآية الظلامين : الظلام الظاهري الذي يفرض الوحشة على الإنسان والظلام المعنوي الموحش المؤلم أيضاً ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه الآلام تحصل في السفر غالباً ، والآية تقصد هذا المعنى أيضاً.

والتعبير بـ «تضرّعاً وخفية» تعبير جميل أيضاً لأنّ (التضرّع) يعني الدعاء والطلب الصريح وإظهار التذلّل (٢) ، في حين تشير (خفية) إلى الدعاء الكامن في أعماق القلب ، ويحتمل أن يقصد التعبيران الحالتين في الإنسان ، حيث يدعو الله في قلبه حينما تبدو ظلمات المشكلات ، وعندما يُبتلى بمشكلات عويصة وكبيرة يقوم بإظهار ما في قلبه ويتضرّع إلى الله ويلتمسه.

ومن المحتمل أن يقصد هذا التعبير حالات الفئات المختلفة ، فبعضها تدعو الله جهاراً في مثل هذه الأحوال وبعضها تدعوه خفاءً وكأنّها تشعر بالخجل أمام الأصنام! أو من الناس الذين عرفوا أنّها تعبد الأصنام فلماذا لا تلجأ إلى الأصنام في المشكلات؟! على كلّ حال فإنّها ترجع إلى فطرتها في مثل هذه الأحوال وتستضيء قلوبها بنور التوحيد وعبادة الواحد ، وترفض كلّ ما سواه وتنسى كلّ ما يذكرها به وتستيقن بأنّ الأصنام ليست أهلاً ، وعبارة الأصنام لا فائدة فيها ولا سبيل إلّاالتوحيد.

في مثل هذه الأحوال تعاهد الله وتنذر وتتعهّد بأنّه إذا نجاها من هذه الشدائد والآلام

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٧ ، ص ١٣٦ ؛ وتفسير في ظلال القرآن ، ج ٣ ، ص ٢٦٩.

(٢) مفردات الراغب : تضرّع ، أظهر الضراعة.

١٣٠

وأذاقها حلاوة اللطف والرحمة فإنّها ستبقى شاكرة ومدينة ورهينةً للطفه ، ولكنّها بعد الخلاص من المضائق تنسى ـ في الغالب ـ كلّ عهودها وتعهّداتها ، كما يشير إلى ذلك ذيل الآية : (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) (١).

وكما ذكرنا فإنّ هذه الحالة هي حالة أغلب المشركين ، وأمَّا الفئة التي لها قابلية أكبر فإنّها تتيقّظ بصورة دائمة وتبصر طريقها وتهجر الشرك.

من مجموع الآيات التي ذكرت تظهر هذه الحقيقة وهي : أنّ القرآن الكريم لا يعدّ غريزة المعرفة الإلهيّة في الإنسان أمراً فطريّاً وحسب بل يعتبر الإيمان بوحدانيته من الامور الفطرية أيضاً ، وبما أنّ الفطرة الأصيلة في الإنسان تتعرّض في الغالب إلى حجاب الرسوم والعادات والأفكار المنحرفة والتعاليم المغلوطة فينبغي انتظار تلك الساعة التي تزول فيها هذه الحجب ، من هنا فإنّ القرآن يشير إلى لحظات حسّاسة في حياة الإنسان وذلك عندما تزول الحجب بواسطة عواصف الأحداث ويبقى الإنسان وفطرته وصريح وجدانه فيدعو حينئذٍ ربّه لوحده ويزول عنه ما سواه ، ويدلّ هذا جيّداً على أنَّ عبادة الواحد والتوحيد مستودعة في أعماق روحه ، وفي هذا المجال مرّت بحوث تكميلية اخرى في أوّل الكتاب في بحث الفطرة والمعرفة الإلهيّة.

* * *

__________________

(١) «الكرب» يعني الغمّ والهمّ الشديد.

١٣١
١٣٢

٢ ـ تناسُق العالم

تمهيد :

من السبل التي سلكها علماء العقيدة والفلسفة في سيرهم وسلوكهم من أجل القرب من ذات الله المقدّسة هي دراسة عالم الوجود الذي هو عبارة عن مجموعة متناسقة وكتلة مترابطة ، هذا الاتحاد والتناسق ينبئان عن وحدانية الخالق ، ولذا اطلق على هذا الدليل (برهان الوحدة والتناسق) وقد يُطرح هذا البرهان بصورة اخرى حيث يقال : إذا كانت هناك إرادتان تحكمان عالم الوجود ، ولو كان في عالم الخليقة تدبيران لظهر الفساد واللانظام حتماً ، وبما أنّ هذا الأمر ـ عدم النظم والفساد غير موجود ـ يمثل دليلاً على وحدة الخالق والمدير والمدبّر لعالم الخليقة ، ولذا اطلق على الاستدلال عنوان (برهان التمانع).

من هنا فإنّ برهان (الوحدة والتناسق) و (برهان التمانع) متّحدان جوهراً ومحتوىً ولكن لهما تعبيران ، وبعبارة أدقّ : أنّهما ينظران إلى قضيّة واحدة ولكن من زاويتين ، فنحن نصل تارةً عن طريق وحدة العالم إلى وحدة المُبدىء ، واخرى من طريق عدم الفساد الناشيء من الإرادتين ، وفي الحقيقة إنّنا ننظر من الأعلى إلى الأسفل تارةً واخرى من الأسفل إلى الأعلى.

وعلى كلّ حال فإنّه من أفضل دلائل التوحيد التي استندت إليها الآيات القرآنية.

بهذا التمهيد نرجع إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (مَا تَرى فِى خَلْقِ الرَّحمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَينِ يَنقَلِبْ الَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وهُوَ حَسِيرٌ). (الملك / ٣ ـ ٤)

١٣٣

٢ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ* لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ). (الأنبياء / ٢١ ـ ٢٢)

٣ ـ (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كانَ مَعَهُ مِن إِلهٍ إذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ). (المؤمنون / ٩١)

شرح المفردات :

«فُطور» : من (فَطْر) على وزن سَطْر وهي في الأصل : الفتق ، وقد فسّره البعض كالراغب في المفردات بالشقّ طولاً ومن ثمّ أطلق على كلّ إبداع وإيجاد وخلق ، لما فيه من انشقاق حجاب العدم وإبداع الشيء وإيجاده أو اختراعه كما يطلق هذا اللفظ على عملية استخراج الحليب من الغنم باصبعين ، وكذلك على هدم الصيام (وقد وردت إيضاحات أكثر حول ذلك في بداية هذا الجزء في بحث برهان الفطرة في موضوع معرفة الله).

«إله» : يعني ـ كما يقول اللغويون ـ المعبود ، وقالوا باشتقاقه من (إلاهة) بمعنى العبادة وقد ذكرنا آراء الكثير منهم في الهامش (١).

وقد استعمل هذا المعنى في مواضع كثيرة من (القرآن الكريم) ، كما نقرأ في قصّة بني اسرائيل عندما شاهدوا جماعة يعبدون الأصنام فقالوا لموسى : (يامُوسى اجْعَلْ لَّنَا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهةٌ). (الأعراف / ١٣٨)

وقد جاء في قصّة السامري : (وَانظُرْ إِلَى إلهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيهِ عَاكِفاً لَّنُحْرِّقنَّهُ). (طه / ٩٧)

__________________

(١) مصباح اللغة ، «ألَهَ ، لَهُ ، آلِهة» على وزن «تعب» يعني عبد عبادة ، تألّه (تعبّد) والإله ، (المعبود) ، وقد ورد في (صحاح اللغة) هذا المعنى مع فارق بسيط ، ويقول الراغب في المفردات (اله) ، جعلوه إسماً لكلّ معبود لهم و (اله فلان يأله) : (عبد) ، ويقول صاحب لسان العرب : (الاله) كلّ ما اتّخذ من دونه معبوداً ، وفي التحقيق في كلمات القرآن الكريم ، ورد بعد ذكر كلمات جمع من اللغويين (فظهر من هذه الكلمات أنّ الاله بمعنى العبادة) ، وقد ورد في مجمع البحرين ، «الآلهة» : الأصنام سُمّوا بذلك لاعتقادهم بأنّ العبادة تحقّ لها ، وجاء في كتاب العين للخليل بن أحمد أيضاً (التألّه) : التعبّد ، وقد جاء هذا المعنى صريحاً في قاموس اللغة ، (وعلى ذلك فإنّ عقيدة أهل اللغة قاطبة هي أنّ الإله تعني المعبود).

١٣٤

وباختصار فإنّ أرباب اللغة قاطبة وجمع كبير من المفسّرين اعتبروا (اله) بمعنى المعبود وهو الغالب في موارد استعماله ، وحينما نلاحظ أنّ (اله) قد استعمل في بعض الحالات بمعنى الخالق أو المدبّر لعالم الوجود فهو لوجود ملازمة ـ في بعض الحالات ـ بين هذه المعاني وبين المعبود ، ولا يكون الاستعمال في بعض الموارد دليلاً على الحقيقة أبداً ، وخاصّة مع تصريح اللغويين على خلاف ذلك ، وموارد الاستعمال شاهدة على ذلك أيضاً.

ويمكن القول : أنّ جملة (لا إله إلّاالله) لا تنسجم مع هذا المعنى وذلك لوجود معبودات غير الله الواحد بين العرب والأقوام الاخرى ، ولكن الإجابة على هذا السؤال واضحة لأنّ المراد هو المعبود الحقّ لا المعبودات بالباطل ، أي : لا معبود حقّاً غير (الله) ، والأصنام ليست أهلاً للعبادة ، وقرائن هذا المعنى موجودة في هذه الجملة ، كقولنا : لا علم إلّاما نفع.

هناك ملاحظة جديرة بالتدقيق وهي أنّ البعض اعتبر (إله) من (وله) وتعني (تحيّر) وفيها إشارة إلى الذات التي تحيّرت فيها العقول ، بَيدَ أنّ المشهور بين اللغويين هو المعنى الأوّل أي أنّه من مادّة (ألَهَ) بمعنى العبادة.

وقد توضح ممّا ذكرنا أنّ إصرار البعض على أنّ (اله) لا يعني (معبود) غير مقبول أبداً.

جمع الآيات وتفسيرها

مظاهر التنسيق :

تقول الآية الاولى بعد الإشارة إلى خلق السماوات : (مَا تَرى فى خَلْقِ الرَّحمنِ مِنْ تَفاوُتٍ).

إنَّ هذا العالم الواسع بكلّ ما يتضمّنه من عظمة فهو متناسق ومنسجم ومترابط ومتّحد ومنظّم ، وإنّ وجود الاختلاف في اللون والشكل والوزن وسائر الكيفيات الظاهرية والباطنية أو الكمّية أمر طبيعي جدّاً ، ولكن الشيء الذي لا وجود له هو عدم التناسق واللانظم والاختلال.

ولذا تقول الآية في ذيلها : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) والمراد من (فَارْجِعِ

١٣٥

البَصَر). هو النظر الدقيق والعميق ، والمخاطب في هذه الآية وإن كان هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن من الواضح أنّ المراد هم البشر جميعاً ، وتضيف الآية : (ثمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتين يَنْقَلِبْ الَيْكَ البَصرُ خَاسِئاً وهُوَ حَسِيرٌ) (١).

بهذا الاسلوب يقوم القرآن الكريم وبتعابير مختلفة بدعوة البشر إلى النظر في عالم الوجود ولا يكتفي بالدعوة بل يرغبهم ويحرّكهم ويحرّضهم على هذا العمل ، كي يعلموا أنّهم لا يجدون خللاً أو نقصاً فيه ، وعندما لا يرون ذلك فسوف يتعرّفون على حقيقة توحيد المُبدىء والوحدانية ويردّدون جملة (لا إله إلّاالله) قلباً ولساناً.

هناك نقطة جديرة بالإهتمام وهي أنّ (نفي الاختلاف) من بين الموجودات في العالم والذي ورد في الآية أعلاه يعني حسب اعتقاد البعض : نفي العيب والنقص ، وقد فسّره البعض بمعنى نفي عدم الإنسجام ، وفسّره آخرون بنفي الإضطراب والتزعزع ، وبعض بنفي الإعوجاج ، وبعض بنفي التناقض ، في حين أنّ الآية لها مفهوم واسع يشمل كلّ هذه المعاني (هذه المفردة مشتقّة من (فوت) لأنّ المتفاوتين يفقد كلّ منهما الصفات المختصّة بالآخر).

* * *

تعدد الآلهة :

الآية الثانية تعرض هذا المضمون في إطارٍ آخر وصورةٍ اخرى حيث تقول : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) (٢).

وفي التعبير بـ (من الأرض) إشارة لطيفة وهي أنّهم (أي المشركون) كانوا يصنعون

__________________

(١) «ارجع البصر» كناية عن النظر المتكرّر والمقرون بالدقّة والإهتمام ، و (خاسيء) من (خسئاً) ويعني الانقباض والإنغلاق المقرون بالذلّة ويمكن أن يكون هنا كناية عن الحرمان والفشل ، و (حسير) من (حسر) ويعني الضعف وافتقاد القدرة وتعني في الأصل : الاختفاء ، وبما أنّ الشيء إذا ضعف فإنّه يتجرّد عن قدرته وطاقته وقد استعمل هذا اللفظ بمعنى الضعف.

(٢) لفظ (أم) في الآية ـ كما يقول جمع من المفسّرين ـ منقطعة وتعني (بل) ، في حين اعتقد البعض بأنّها بمعنى هل الإستفهامية ، وبما أنّ المشركين لم يدّعوا أنّ الأصنام خالقة ، كان بمعنى الإستفهام الإنكاري أكثر مناسبة.

١٣٦

آلهتهم من الحجر والخشب والمعادن وهي موجودات أرضية ، فهل بإمكان هذه الموجودات أن تكون خالقة للسماوات الواسعة وأن تكون الحاكمة والمدبّرة والمديره لها؟!

ثمّ تضيف الآية في مقام الاستدلال على بطلان عقيدتهم : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا).

«فساد» : يعني في الأصل ـ كما يقول الراغب في المفردات : خروج الشيء عن حدّ الإعتدال كثيراً أم قليلاً ، في الروح أو الجسم أو الأشياء الاخرى في العالم ، ويقابله الصلاح.

و (الفساد) هنا يعني الدمار والخراب واللانظام والهرج والمرج ....

وتضيف الآية في آخرها ـ كاستنتاج : (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).

وخلاصة الاستدلال هي : لو تعدّد المدير والمدبّر والخالق والحاكم والمتصرّف في هذا العالم فإنّ العالم لا يمكن أن يتّسم بالنظام والتناسق ، وذلك لانتهاء التعدّد في الآلهة إلى تعدّد التدبير والتصرّف ، وبذلك يختلّ عالم الوجود ويتعرّض للفساد والدمار حيث يريد كلّ واحد منهما تطبيق نظام العالم على مشيئته وإرادته.

وهنا يرد هذا الإشكال المعروف وهو : ما المانع من تعاضد الآلهة الحكمية فيما بينها لإيجاد نظام واحد منسجم؟ والإجابة على ذلك ستأتي في الإيضاحات بإذن الله.

* * *

الآية الثالثة والأخيرة التي نبحثها تقدّم هذا البرهان في إطار جديد حيث تقول : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ).

ولو كان كذلك فإنّ كلّ إله ينفرد بمخلوقاته الخاصّة ويفرض عليها تدبيره وتصرّفه الخاصّ ، وسوف تكون الأنظمة المختلفة والقوانين اللامنسجمة هي الحاكمة على العالم ، وسيكون هو السبب في وانهيار الوحدة والتعادل في العالم : (إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ).

ويكفي هذا الدليل على إثبات وحدانيته تعالى حيث يتألّف من المقدّمتين المشار إليهما سالفاً وهما : إنَّ عالم الوجود منظم ومترابط الأجزاء وتحكمه قوانين معيّنة (هذا من جهة)

١٣٧

ولو كان في العالم خالقان ومدبّران ومتصرّفان لحصل الخلل وعمّت الفوضى نتيجة لتعدّد مراكز القرار والتدبير والتصرّف (من جهة ثانية).

والآية تشير في ذيلها إلى أمر آخر بقولها : (وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ).

ويعدّ هذا سبباً في اختلال النظام في العالم واتّصافه بالفوضى وعدم الإنسجام.

وهنا ـ أيضاً ـ يثار هذا الإشكال في الأذهان وهو : أنّ هذه الآلهة الحكيمة بإمكانها أن تنسّق برامجها فيما بينها بشكل لا يعرّض وحدة العالم إلى الإختلال وفقد النظام ، وسيأتي ـ كما أسلفنا ـ الجواب على هذا الإشكال في البحوث القادمة.

وتستنتج الآية الكريمة أخيراً من هذين الدليلين حيث تقول في ذيلها : (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصفُونَ).

* * *

توضيحات

١ ـ النظرة العلمية لوحدة عالم الخلق

عندما نلاحظ هذا العالم الواسع نراه على شكل موجودات متفرّقة : الشمس ، القمر ، السماء ، النجوم الثابتة والمتحرّكة ، الإنسان ، الحيوانات ، أنواع النباتات والعناصر المختلفة ، ولكن بعد قليل من الدقّة والدراسة نجد أنّ ذرّات هذا العالم مترابطة ومتّصلة الأجزاء حتّى تبدو وكأنّها شيء واحد ، وكلّما تعمّقت دراستنا وتركّزت إزددنا إيماناً بهذا التنسيق والإتّحاد للأسباب التالية :

١ ـ إنّ أجرام المجموعة الشمسية مترابطة فيما بينها إلى حدّ تكون فيه كاسرة واحدة كما هي عليه نظريات العلماء التي تعتقد أنّها كانت في البداية شيئاً واحداً متّصل الأجزاء ثمّ انفصلت تدريجيّاً وبقيت مترابطة حتّى بعد افتراقها.

وتقول الأبحاث الفلكية في هذا المجال : إنّ مجموعتنا الشمسية غير مستقلّة أيضاً ، حيث إنّها جزء من مجرّة كبيرة تشكّل مع المجرّات الاخرى مجموعة واحدة يعمل فيها

١٣٨

قانون الجاذبية حيث يجعلها كسلسلة مترابطة الحلقات كما يعتقد العلماء بأنّ هذه المجرّات كانت بأجمعها شيئاً واحداً متّصلاً فانفصلت أجزاؤها تدريجاً.

٢ ـ الأجسام المختلفة والمتباينة تماماً تتركّب ـ كما يبدو بالتحليل النهائي لها ـ من عدد من العناصر المعيّنة وهي تلك ـ الموجودات البسيطة التي اكتشف منها أكثر من ١٠٠ عنصر لحدّ الآن ، وهذه العناصر رغم اختلافها الشديد في الظاهر نراها عند تحليلها إلى أجزاء صغيرة ـ أي الذرّة ـ أنّها متشابهة والفارق فيها هو عدد الألكترونات والبروتونات.

٣ ـ من العجيب أن يكون النظام الحاكم على هذه الذرّة هو الحاكم على العالم الواسع أي المجموعات والمجرّات أيضاً حيث تجمع قوّة الجذب والطرد هذه السيارات في مجموعة واحدة أو الالكترونات في ذرّة واحدة وفي مدارات خاصّة تدور حول النواة الأصلية دون أن تنفصل عن بعضها أو تتجاذب فيما بينها.

٤ ـ الكائنات في الأرض وإن بدت لنا متنوّعة ، كما في الألوان التي نشاهدها شديدة الاختلاف فيما بينها إلّاأنّنا وبالتحليل النهائي نصل إلى أنّ كلّ الألوان ترجع إلى أمواج تختلف في شدّة ذبذبتها وطول أمواجها وقصرها.

٥ ـ إنّنا نسمع أصواتاً مختلفة تماماً ، ولكن علم الفيزياء الحديث يقول : بأنّ هذه الأصوات كلّها ، الجميلة منها والقبيحة ، الخفيفة والصاخبة ترجع إلى مُبدىء واحد هو عبارة عن أمواج خاصّة تنشأ هذه الأنواع من اختلاف الذبذبة فيها.

٦ ـ للأحياء أنواع كثيرة جدّاً ، فالحشرات وحدها لها مئات الآلاف من الأنواع ، والنباتات لها أنواع تفوق ذلك ، غير أنّ علماء النبات والحيوان يقولون : إنّها مركّبة من مادّة واحدة ، ومؤلّفة من الخلايا التي يحكمها نظام واحد ، ولذا تجرّب الأدوية التي يراد معرفة درجة تأثيرها في الإنسان على الحيوانات أوّلاً في الغالب.

٧ ـ توصّل العلماء من خلال تحليل النور المنبعث من الكواكب البعيدة والقريبة إلى هذه النتيجة وهي : أنّ العناصر التي تتركّب منها الكواكب السماوية تشابه الأجزاء التي تتركّب منها كرتنا الأرضية ، وهذا يعني وجود تناسق عجيب حاكم على مجموعة الأجرام والنجوم في الكون.

١٣٩

٨ ـ القوانين المختلفة التي تحكم الكون مثل ، قانون الجاذبية ، وسرعة النور ، وقانون الحركة وأمثالها توجد بنفسها في كلّ مكان وتتبع منهجاً واحداً ، ولذا فإنّ العلماء وبإجراء تجارب على نموذج واحد أو عدّة نماذج في الأرض اكتشفوا قانوناً شاملاً يحكم عالم الوجود كلّه ، كما نجد أنّ «نيوتن» اكتشف قانون الجاذبية الساري في كلّ المجموعات والمجرّات من رؤية تفاحة تسقط من شجرة!

وباختصار ، كما قرأنا في الآية الاولى من آيات هذا البحث ، أنّنا لا نرى أي اختلاف في خلق الرحمن ولا فطور أو خلل ، وكلّما تقدّم العلم والفكر البشري كلّما تجلّت عظمة هذه الآية وعمقها أكثر فأكثر ، وهذا التناسق والوحدة دليل واضح على وحدة الخالق للعالم.

* * *

٢ ـ إيضاح برهان التمانع

إنَّ برهان التمانع الذي يعبّر عنه بـ (برهان الممانعة) أو (برهان الوحدة والتناسق) يتألّف من مقدّمتين :

الاولى : الإنسجام والوحدة والتناسق في عالم الخلق الذي تقدّم بحثه.

الثانية : لو كانت القوى الحاكمة على هذا الكون قوّتين أو أكثر فإنّ ذلك سيؤدّي إلى حدوث الاختلاف والإختلال ، وبما أنّنا لا نلاحظ أي اختلال أو عدم تعادل في هذا الكون والقوانين الحاكمة فيه ، ندرك أنّها تنشأ من مُبدىء واحد وأنّها مخلوقة ومدبّرة ومنظّمة من خالق واحد.

الآية الاولى من بين الآيات السابقة تشير في الحقيقة إلى المقدّمة الاولى ، والآية الثانية والثالثة تشيران إلى المقدّمة الثانية ، ولذا قد يطلق على هذا البرهان : (برهان الوحدة والتناسق) بالنظر إلى المقدّمة الاولى.

وقد يعبّر عنه بـ (برهان التمانع) بالنظر إلى المقدّمة الثانية ، وبناءً على ذلك فإنّهما يرجعان إلى دليل واحد ، غير أنّ النظر إليه يتمّ من زاويتين مختلفتين.

١٤٠