نفحات القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-97-0
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٠٨

وباختصار فإنّ في متناول أيدينا روايات كثيرة حول فطرة التوحيد والإسلام وللمزيد يمكن مراجعة مصادر اخرى مثل :

تفسير البرهان الجزء ٢ ، صفحة ٤٦ وما بعدها.

مرآة العقول الجزء ٧ ، صفحة ٥٤ وما بعدها.

تفسير نور الثقلين الجزء ٤ ، صفحة ١٨١ وما بعدها.

تفسير الدرّ المنثور الجزء ٣ ، صفحة ١٤٢ وما بعدها.

بحار الأنوار الجزء ٣ ، صفحة ٢٧٦ وما بعدها.

* * *

١٠١
١٠٢

وحدانية الذات المقدّسة

«أهمّ أصل في معرفة الله»

١٠٣
١٠٤

تمهيد :

توصّلنا فيما سبق من أبحاث إلى إثبات وجود الله سبحانه بطرق مختلفة (خمسة أدلّة عقلية رئيسة) إضافةً إلى طريق الفطرة الذاتية.

الآن وبعد الإيمان بأصل وجوده سبحانه فإنّ البحث يدور حول معرفته ، والموضوع المهمّ فيه هو بحث التوحيد والوحدانية ، لأنّه من جهة يعتبر أصلاً لبقية الصفات ، ومن جهة اخرى يشكّل الأساس في كلّ الأديان السماوية خصوصاً القرآن حتّى أنّ أغلب ما تتضمّنه هذه الكتب السماوية بصدد وجود الله تدور حول محور هذا البحث ، إلى الحدّ الذي ظنّ فيه البعض بأنّ القرآن لا يتحدّث عن (أصل وجود الله) بل إنّه يتحدّث عن توحيده والاستدلال على ذلك ، وهذا الكلام مبالغ فيه.

ومن جهة ثالثة تُستمدّ جميع العقائد الإسلامية والأحكام والقوانين والامور الاجتماعية والأخلاقية والعبادية من هذا الأصل ، لذلك أولى القرآن الكريم اهتمامه الخاصّ لقضيّة (التوحيد والشرك) وعكس القرآن برمّته النظرية الإسلامية بهذا الصدد ، بل يمكن القول بعدم وجود موضوع حَظِيَ بهذه الدرجة من الإهتمام في القرآن الكريم مثلما حظي بها ذلك الموضوع.

كما أنّ قضيّة التوحيد ومحاربة الشرك لم تكن محوراً أساسياً في حركة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فحسب ، بل وفي حركة سائر الأنبياء عليهم‌السلام.

بهذا التمهيد نطّلع أوّلاً على عِظم معصية الشرك في القرآن المجيد ، ثمّ نذكر الأدلّة القرآنية المختلفة على إثبات حقيقة التوحيد وبطلان الشرك.

في البدية نتأمل خاشعين في الآيات الآتية :

١٠٥

١ ـ (إِنَّ اللهَ لَايَغفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افتَرى إِثْماً عَظيماً). (النساء / ٤٨)

٢ ـ (إِنَّ اللهَ لَايَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً). (النساء / ١١٦)

٣ ـ (وَلَقَد اوحِىَ إلَيْكَ وَإِلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْركْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ). (الزمر / ٦٥)

٤ ـ (وَإذْ قَالَ لُقْمانُ لِابنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابُنَىَّ لَاتُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). (لقمان / ١٣)

٥ ـ (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكانٍ سَحِيقٍ). (الحجّ / ٣١)

٦ ـ (قُلْ تَعالَوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئاً). (الأنعام / ١٥١)

٧ ـ (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظّالِمينَ مِنْ أَنْصارٍ). (المائدة / ٧٢)

٨ ـ (يَاأَيُّها الّذِينَ آمَنُوا إِنَّما الْمُشرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ...). (التوبة / ٢٨)

٩ ـ (وَأَذانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِىءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُه ...). (التوبة / ٣)

١٠ ـ (الزَّانِى لَايَنْكِحُ إِلَّا زَانِيةً أَوْ مُشْرِكةً وَالزَّانِيَةُ لَايَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ...) (النور / ٣)

١١ ـ (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وإِلَيهِ مَآبِ). (الرعد / ٣٦)

١٢ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ* أَن لَّاتَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنّى

١٠٦

أَخَافُ عَلَيكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (١). (هود / ٢٥ ـ ٢٦)

١٣ ـ (قُلْ إنَّما يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسلِمُونَ). (الأنبياء / ١٠٨)

١٤ ـ (قَدْ كانَتْ لَكُمْ اسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَومِهِمْ إِنَّا بُرَءؤُا مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبداً حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ..). (الممتحنة / ٤)

شرح المفردات :

«شِرك» : ذُكر لها في مقاييس اللغة معنيان :

الأوّل : هو التعاون والمقارنة والشركة ويقابله الإنفراد.

والثاني : هو الشيء المستقيم والممتدّ.

والمعروف من مشتقّات هذه المفردة هو المعنى الأوّل ، وللمعنى الثاني مصطلحات خاصّة منها (شِراك) للحذاء ، و (شَرَك) الطرق الضيّقة المستقيمة التي تتفرّع من الطريق العام أو بمعنى القسم الأوسط من الطريق المستقيم ، كما يعني الفخّ الذي ينصبه الصيّاد.

ويُصرّ بعض اللغويين على إرجاع المعنيين إلى المعنى الأوّل ، إلّاأنّه لا يخلو من تكلّف ، كما لا دليل يدعو للإصرار على ذلك (٢).

وقد استُعمل (الشرك) في القرآن الكريم عادةً بمعنى الإعتقاد بوجود ندٍّ لله سبحانه والتوافق على وجود المثيل والشريك في الذات أو الصفات أو الخلق والتدبير أو المماثل له في العبودية.

__________________

(١) جاء هذا المضمون في آيات قرآنية اخرى مثل هود ، ٢ ؛ الإسراء ، ٢٣ ؛ يس ، ٦٠ ؛ فصّلت ، ١٤ ؛ إضافة إلى آيات عديدة اخرى عبارات مختلفة تتعلّق بأهميّة التوحيد وقبح الشرك بجميع صوره وأشكاله ، لو جمعت وفسّرت لتألّف منها كتاب كبير ، وما ورد أعلاه هي النماذج المهمّة منها.

(٢) راجع كتاب (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) ، صحيح أنّ أغلب الكلمات المشتركة ترجع إلى مصدر واحد ولكن لا يمكن القول أنّ ذلك يصدق في جميع الموارد ، فقد تضع طائفتان كلمة واحدة لمعنيين متباينين دون أن تعلم إحداهما بالاخرى.

١٠٧

يقول الراغب في المفردات : الشرك في الدين ضربان :

أحدهما : الشرك العظيم وهو إثبات شريك لله تعالى وذلك أعظم كفر.

والثاني : الشرك الصغير وهو مراعاة غير الله في بعض الامور وهو الرياء والنفاق (١).

«واحد» : مشتقّ من (وحدة) ويعني في الأصل ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ : الشيء الذي لا جزء له ، ثمّ اتّسع استعماله حتّى أخذ يطلق على كلّ شيء يتّصف بالوحدانية ، ويضيف :

فالواحد لفظ مشترك يستعمل على ستّة أوجه : ١ ـ ما كان واحد في الجنس أو في النوع كقولنا الإنسان والفرس واحد في الجنس وزيد وعمرو واحد في النوع.

٢ ـ ما كان واحداً بالاتّصال إمّا من حيث الحلقة كقولك شخص واحد وإمّا من حيث الصناعة كقولك حرفة واحدة.

٣ ـ ما كان واحداً لعدم نظيره.

٤ ـ ما كان واحداً لامتناع التجزّي.

٥ ـ لمبدأ العدد كقولك واحد إثنان.

٦ ـ لمبدأ الخطّ كقولك النقطة الواحدة وإذا وصف الله تعالى بالواحد فمعناه هو الذي لا يصحّ عليه التجزّي ولا التكثّر (٢).

«وأحد وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد ، غير أنّ الأحد إنّما يطلق على ما لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً ولذلك لا يقبل العدّ ، ولا يدخل في العدد بخلاف الواحد فإنّ كلّ واحد له ثانٍ وثالثٌ إمّا خارجاً أو ذهناً [ك] قولك : ما جاءني من القوم أحد ، فإنّك تنفي به مجيء إثنين منهم وأكثر كما تنفي مجيء واحد منهم بخلاف ما لو قلت : ما جاءني واحد منهم فإنّك إنّما تنفي به مجيء واحد منهم بالعدد ولا ينافيه مجيء إثنين منهم أو أكثر ...» (٣).

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص ٢٦١ مادّة (شرك) ، لسان العرب ؛ التحقيق ؛ مقاييس اللغة ؛ جمهرة اللغة وكتب اخرى.

(٢) مفردات الراغب ، ص ٥٥١ مادّة (واحد) ؛ لسان العرب ؛ التحقيق ؛ مقاييس اللغة ؛ جمهرة اللغة وكتب اخرى.

(٣) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٣٨٧.

١٠٨

واحتمل بعضٌ أنّ (أحد) يقابل المركب و (واحد) يقابل المتعدّد ، غير أنّ المستفاد من موارد الاستعمال في القرآن أنّهما بمعنى واحد ، وسنفصّل ذلك في المستقبل بإذن الله.

جمع الآيات وتفسيرها

الذنب الذي لا يُغتفر :

تصرّح آية البحث الاولى بأنّ الشرك هو الذنب الوحيد الذي لا يغتفر حيث تقول : (إِنَّ اللهَ لَايَغفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

ومفهوم هذه العبارة هو أنّ جميع الذنوب الكبيرة والمظالم والجرائم والقبائح لو وضعت في كفّة ميزان ووضعَ الشرك في الكفّة الاخرى لرجّحت كفّة الشرك.

ولذا يقول ذيل الآية من أجل التأكيد أو إقامة الدليل : (ومَنْ يُشرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً).

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية نزلت في اليهود (بقرينة الآيات التي بعدها) حيث اتّحد بعضهم مع المشركين العرب وكانوا يقدّسون أصنامهم ويعتقدون ـ في الوقت ذاته ـ أنّهم من أهل النجاة!

ولو سلّمنا بسبب النزول هذا فإنّه لا يضيق دائرة مفهومها.

وقال بعض : إنّ الآية نزلت في جمع من المشركين (كوحشي قاتل حمزة عمّ النبي ، وأمثاله) وقد ندموا على ما فعلوا بعد مدّة وكتبوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّا قد ندمنا على الذي صنعناه وليس يمنعنا عن الإسلام إلّاإذا سمعناك تقول وأنت بمكّة : (وَالَّذِينَ لَايَدعُونَ مَعَ اللهِ الهاً آخَرَ وَلَا يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِى حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ...). (الفرقان / ٦٨)

وقد دعونا مع الله إلهاً آخر وقتلنا النفس التي حرّم الله وزنينا فلولا هذه لاتّبعناك فنزلت هذه الآية : (إِلَّا مَن تَابَ وعَمِلَ عَملاً صَالِحاً ...). (الفرقان / ٦٩)

فبعث بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى وحشي وأصحابه ، فلمّا قرؤوها كتبوا إليه : إنّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملاً صالحاً فلا نكون من أهل هذه الآية فنزلت : (إنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ ...) فبعث بها إليهم فقرأوها فبعثوا إليه : إنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزلت :

١٠٩

(قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَاتَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). (الزمر / ٥٣)

فبعث بها إليهم فلمّا قرأوها دخل هو وأصحابه في الإسلام ورجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقبل منهم ...» (١).

على أيّة حال فإنّ الآية كما يقول كثير من المفسّرين ـ هي إحدى الآيات القرآنية التي تبعث روح الأمل حيث تقول : إنَّ الإنسان إذا خرج من الدنيا بإيمانه فإنّه سوف لا ييأس من رحمة الله ، ولكن إذا خرج بلا إيمان أي في حالة شرك فإنّه لا سبيل له إلى النجاة.

* * *

الآية الثانية تتحدّث عن مضمون الآية السابقة ذاته مع فارق هو أنّها تقول في ذيلها :

(وَمَنْ يُشرِك بِالله فَقَد ضَلَّ ضَلالاً بَعيداً) ، والكلام في الآية السابقة دار حول الإثم العظيم وأمّا هنا فهو يدور حول الضلال البعيد ، وهذان أمران متلازمان إذ أنّ الذنب كلّما كان أعظم فإنّه يبعّد الإنسان أكثر ويزيده ضلالاً.

والآية السابقة لاحظت الجانب العلمي والعقائدي من الشرك وهنا لاحظت الآثار العملية له ، ومن الأكيد أنّ هذه الآثار تنشأ من تلك الجذور.

* * *

الآية الثالثة تحمل أوضح التعابير وأقساها عن عاقبة الشرك والانحراف عن التوحيد حيث تخاطب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لقد اوحِىَ اليكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِن أَشْركتَ لَيَحبطنَّ عَملُكَ وَلَتَكُوننَّ مِنَ الخاسِرينَ).

ومن الثابت أنّ رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّ نبي من الأنبياء ، لم يسلكوا ـ لعصمتهم ـ طريق الشرك أبداً ، إلّاأنّ الآية ومن أجل بيان أهميّة المسألة ولكي يحسب الآخرون حسابهم

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٥٦.

١١٠

قامت ببيان أخطار الشرك بهذه الدرجة من الحزم.

واستناداً إلى هذه الآية فلو أفنى الإنسان حياته في العبادة وعبودية الله ومارس الأعمال الصالحة ولكنّه أشرك في آخر عمره لحظةً واحدة ومات بتلك الحالة فإنّ أعماله سوف تُحبط ، فالشرك بمنزلة صاعقة محرقة تَلتَهم حصيلة عمره وتصيّره رماداً ، وكما أشار القرآن الكريم في الآية ١٨ من سورة إبراهيم إلى أنّه رماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف.

«ليحبطن» : من (حبط) وأصله (حَبَط) ويطلق على الحيوان حينما يأكل الكلأ حتّى ينتفخ فيمرض ثمّ يموت ، ثمّ استعمل في الأعمال الكثيرة ذات المظهر الجميل ولكن باطنها فاسد وتؤول إلى الفناء (١).

وقد جاء نظير ذلك في (لسان العرب) و (مصباح اللغة) ، غير أنّ لسان العرب ذكر أنّ أحد معاني (إحباط) هو جفاف ماء البئر وعدم توقّفه.

وفي (مقاييس اللغة) أنّ الأصل في معناه هو (البطلان) أو (الألم) كما أنّ (حبط) يطلق كذلك على الجرح بعد شفائه.

على أيّة حال فإنّ هذه المفردة في آية البحث والكثير من الآيات والروايات تعني محق ثواب الأعمال الصالحة وزوال آثارها الإيجابية.

وهناك أبحاث حول حقيقة حبط الأعمال وكيفيته ولكن لا مجال لبيانها.

* * *

أعظم الظلم :

نقرأ في الآية الرابعة تعبيراً مهولاً حول الشرك على لسان لقمان حينما كان يعِظ إبنه بقوله : (يَابُنىَّ لَاتُشرِكْ بِالله انَّ الشِّرْكَ لَظلمٌ عَظِيمٌ).

ولقمان وإن لم يكن نبيّاً ـ كما هو المشهور ـ إلّاأنّه كان رجلاً حكيماً ومفكّراً لله وقد أيّد القرآن علمه وحكمته وجعل كلامه في عرض كلام الله عزوجل ، وبالتأكيد أنّ مثل هذا

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادّة (حبط).

١١١

الرجل بعلمه وحكمته وإحساسه بمنتهى المسؤولية تجاه إبنه فإنّه يقدّم له أخلص النصائح والمواعظ.

النصيحة الاولى من النصائح العشر التي ينقلها القرآن الكريم عن هذا الرجل الحكيم لابنه هي النصيحة بالإحتراز المطلق من الشرك ، ممّا يدلّل على أنّ الأساس في بناء الفرد والإصلاحات الفردية والاجتماعية والأخلاقية كلّها ، هو مقارعة الشرك بكلّ أشكاله وصوره ، وسيكون لنا كلام ـ بإذن الله ـ في بيان العلاقة بين الشرك وبين هذه القضايا.

وقد احتمل البعض أنّ ابن لقمان كان مشركاً فنهاه أبوه ولكن ـ كما يقول بعض المفسّرين ـ : يمكن أن يكون الكلام على شكل تحذير وذلك لأهميّة القضيّة نظير ما ورد في الآية السابقة من تحذيرٍ إلهيٍّ للأنبياء.

والتعبير بـ (ظلم عظيم) ذو مضمون كبير ، فالظلم في الأصل يعني كلّ انحراف عن الحقّ ووضع الشيء في غير محلّه ، وأسوأ أنواع الظلم هو الظلم الذي يكون بحقّ الله ، عباده ونفسه ، وهكذا الشرك.

فأي ظلم وانحراف أشدّ من جعلهم موجودات لا قيمة لها بمستوى خالق السماوات والأرض وجميع الموجودات؟ وأي ظلم أشدّ على عباد الله من انحرافهم عن جادّة التوحيد النورانية إلى ظلمات الشرك؟ وأي ظلم أشدّ على النفس من أن يؤجّج الإنسان ناراً ليحرق فيها حصيلة أعماله الصالحة ويُحوّلها إلى رماد؟!

* * *

السقوط الموحش :

تصرّح الآية الخامسة بعد أنْ أمَرت المسلمين بأن يكونوا موحّدين مخلصين وأن يتركوا طريق الضلالة والشرك ومن خلال تشبيه ذي معنى كبير : (وَمَنْ يُشرِك بِالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيرُ أَوْ تَهوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكانٍ سَحِيقٍ) (١).

__________________

(١) «تخطف» من «خطف» وهو الاستلاب بسرعة و (سحيق) من (سحق) وهو طحن الشيء وقد تعطي هذه المفردة معنى (الملابس البالية) أو (المكان البعيد) والأخير هو الأنسب في مورد الآية من غيره.

١١٢

وقد شبّهت الآية (الإيمان) بـ (السماء العالية) و (الشرك) بـ (السقوط من هذه السماء) [لاحظوا أنّ (خرّ) كما يقول اللغويون : يعني السقوط المقرون بضجّة وليس المجرّد منها!].

وليس هذا السقوط سقوطاً بسيطاً بل مكتنف بخطرين عظيمين هما :

أنّ الساقط إمّا أن يكون فريسة للطيور الكاسرة أو يتلاشى بسبب هبوب الرياح العاصفة التي تقذفه في مكان بعيد عن الماء والمناطق المسكونة.

وهذه العبارات المخيفة توضّح الأبعاد الخطيرة والكبيرة للشرك.

وهذه الطيور في الحقيقة هي الصفات القبيحة الباطنية أو الفئات المنحرفة في الخارج والتي تنصب الكمين لتجذب من ينحرف عن جادّة التوحيد ، و (الريح) هي تلك الشياطين الذين عبرت عنهم تعالى : (أَلَم تَرَ أَنّا ارسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرينَ تَؤُّزُهُم أَزّاً). (مريم / ٨٣)

حيث تتجه نحو المشركين وتضع السلاسل في رقابهم وتسحبهم إلى كلّ جانب ، أو أنّها العواصف الاجتماعية العاتية والفتن السياسية والفكرية والأخلاقية التي لا يصمد أمامها إلّا من ثبتت قدماه في طريق التوحيد.

* * *

في الآية السادسة يُؤمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبيان المحرّمات للناس وفي مقدّمتها الشرك حيث تقول : (قُلْ تَعالَوا اتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكمْ عَلَيكُمْ ...) (١).

ثمّ تذكر أوامر إلهيّة عشرة عرفت ب (أوامر النبي العشرة) ؛ وأوّلها هو الدعوة إلى التوحيد حيث تقول : (الّا تُشرِكُوا بِهِ شَيئاً) راجع التفسير الأمثل للإطّلاع على الشروح والأوامر التسعة المتبقّية في ذيل هذه الآيات.

* * *

__________________

(١) «تعالوا» من «علو» ويعني أن يقف شخص على مرتفع ثمّ يدعو الآخرين إليه (أي أصعدوا) ثمّ توسّع استعماله وشمل كلّ دعوة (تفسير المنار ، ج ٨ ، ص ١٨٣) ومن الممكن أن يكون المراد في هذه الدعوات الإلهيّة هو المعنى الأصلي حيث يريد النبي أن يصعد بالناس إلى مستوى أرفع وأسمى.

١١٣

الجنّة محرَّمة على المشركين :

الآية السابعة تشير بتعبير جديد إلى خطر الشرك ، حيث تنقل عن السيّد المسيحعليه‌السلام خطابه إلى بني اسرائيل : (إِنَّهُ مَنْ يُشرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَليهِ الجَنّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ).

وفي الجملة الاولى يلاحظ ذكر لفظ الجلالة كما يلاحظ تكرارها في الجملة الثانية : (فَقَد حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجنّةَ) ، وهي تقتضي استعمال الضمير ، وذلك للتأكيد على أهميّة المسألة.

وتضيف الآية في ذيلها : (وَمَا لِلظّالِمينَ منْ أَنصارٍ).

وهذا دليل آخر على ظلم المشركين وليس لأحد الجرأة في الدفاع عنهم يوم القيامة.

* * *

الله بريء من المشركين :

نواجه في الآية الثامنة قضيّة جديدة بهذا الصدد حيث تخاطب المؤمنين : (يَاايُّها الَّذِينَ آمَنوا انَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ثمّ تقول : (فَلَا يَقرَبوا المَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعدَ عَامِهِم هَذَا).

وتتضمّن الآية التأكيد على عدّة جهات :

(الأول :) أنّها استعملت (إنّما) والتي تدلّ على الحصر ، ومفهومها أنّ المشركين ليسوا إلّا موجودات فاسدة ونجسة وفي ذلك أكبر تأكيد ومبالغة ،

والثاني : أنّ (نَجَسْ) يتضمّن معنى المصدر ، أي أنّ المشركين هم عين النجاسة! كما يقال فلان عين العدل ، وهذا غاية في المبالغة (١).

والثالث : أنّها لم تقل : «فلا يُدْخُلُوا المَسجِدَ الحَرامَ» بل (فلا يقربوا) بمعنى أنّ المشركين من القذارة ما يخشى على هذا المكان المقدّس أن يتعرّض لها عند اقترابهم منه!

* * *

__________________

(١) «نَجسْ» مصدر و «نجِس» صفة وهذه الكلمة كما يقول الراغب في المفردات :

النجاسة : القذارة وذلك ضربان : ضرب يدرك بالحاسّة وضرب يدرك بالبصيرة (المفردات مادّة (نجس) ، ص ٥٠٣) وفي التفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٢٠ كلّ مستقذر نجس ، يقال : رجل نجس وامرأة نجس ، المجمع.

١١٤

في الآية التاسعة التي نزلت ـ مع مجموعة من الآيات في السنة التاسعة للهجرة ـ بصفتها إعلاناً عامّاً ، نلاحظ إشارة إلى نقطة اخرى امر أميرالمؤمنين عليه‌السلام بتلاوتها على الناس في مواسم الحجّ : (وَاذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكبرِ أَنَّ اللهَ بَرِىءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (١).

والتعبير بالبراءة من قبل الله ورسوله من المشركين بوصفه إعلاناً عامّاً في أكثر أيّام الحجّ حساسية دليل على النفور من المشركين وبيان لضخامة معصية الشرك بأجلى صوره.

* * *

ونلاحظ في الآية العاشرة تعبيراً جديداً ، حيث اعتبرت المشرك والمشركة في عرض الزاني وقال : (الزَّانِى لَايَنْكِحُ إِلَّا زَانِيةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَايَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ...).

وهذا التعبير سواء كان لبيان حكم شرعي وإلهي وهو حرمة الزواج من أهل الزنا والشرك أو كان إشارة إلى واقع خارجي وهو أنّ القذر يتبع القذر دائماً ، والطيور على أمثالها تقع فهو شاهد بليغ على قبح معصية الشرك ، لأنّها اعتبرت المشركين كالملوّثين بالزنا والفاقدين للقيم الخُلُقية والسجايا الإنسانية.

والحديث الوارد عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يزني الزاني حِينَ يزني وهوَ مؤمنٌ ولا يَسرقُ السارقُ حين يسرقُ وهو مؤمنٌ فإنّه إذا فعلَ ذلك خُلِعَ عنهُ الإيمانُ كَخَلع القَميص» (٢) ، وهناك شاهد آخر على العلاقة بين هذين ، وسيأتي شرحُهُ بإذن الله.

__________________

(١) فسّر الكثير من المفسّرين (يوم الحجّ الأكبر) بعيد الأضحى وهو أهمّ أيّام الحجّ ، والروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وأبناء السنّة تؤيّد هذا المعنى ، في حين فسّره بعضهم بيوم عرفة وبعضهم الآخر بمجموع أيّام الحجّ التي يطلق عليها (الحجّ الأكبر) وتقابل العمرة وهي (الحجّ الأصغر) ، وقد خصّصها آخرون بسنة نزول الآية حيث شارك المسلمون والمشركون في مراسم الحجّ في تلك السنة ، وواضح أنّ التفسير الأوّل هو الأرجح من هذه الاحتمالات الأربعة.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥٧١ ، ح ٢٠.

١١٥

ومن الواضح أنّ زواج المؤمنين من المشركين باطل وحرام ، وأمّا الزواج بأهل الزنا فإنّ بعضاً يرى بأنّهم إن اشتهروا به ولم يتوبوا كان الزواج بهم باطلاً أيضاً.

والأحاديث العديدة التي نقلت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام الباقر عليه‌السلام والإمام الصادق عليه‌السلام شاهد آخر على هذا المعنى.

وقد كتب بعض المفسّرين في شأن نزول هذه الآية ما يلي : أنّ رجلاً من المسلمين استأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أن يتزوّج (امّ مهزول) وهي إمرأة كانت تسافح ولها راية على بابها تعرف بها ، فنزلت الآية (١).

* * *

الآية الحادية عشرة بيّنت أهميّة التوحيد وقبح الشرك ولكن بتعبير آخر ، حيث وجهت أمراً إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (قُل انَّما امِرْتُ انْ اعْبُدَ اللهَ وَلَا اشْرِكَ بِهِ).

والتعبير بـ (إنّما) الدالّة على الحصر عادةً دليل على أنّ دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تتلخّص في قضيّة التوحيد ورفض الشرك (٢) ، وهو الحقّ ، لأنّ التوحيد قوام التعليمات السماوية كلّها ، كما أنّ الشرك هو أساس الوساوس الشيطانية كلّها.

وتؤكّد الآية في ذيلها تأكيداً مضاعفاً : (إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيهِ مَآبِ).

* * *

الآية الثانية عشرة تتحدّث عن النبي نوح عليه‌السلام وهو أوّل الأنبياء من اولي العزم حيث جعل الأساس في دعوته هو الدعوة إلى التوحيد ورفض الشرك ، والملاحظ أنّ هذا التعبير ورد أيضاً عن الكثير من الأنبياء ، قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّى لَكُمْ نَذيرٌ

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ١٢٥.

(٢) ولو افترضنا هذا الحصر حصراً إضافياً فإنّه يدلّ أيضاً على أنّ العبودية كلّها تتلخّص في العبودية لله (فتأمّل جيّداً).

١١٦

مُّبِينٌ) وتضيف : (أَن لَّاتَعْبُدوا إِلَّا اللهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ).

وتكرار هذا الكلام من قبل الأنبياء من لدن نوح وحتّى رسول الإسلام الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله دليل على أنّ السنام الأعلى في دعوة الأنبياء ، هو قضيّة التوحيد ومقارعة الشرك وهو القاسم المشترك بين الديانات السماوية ، ولذا نقرأ في قوله تعالى : (قُل يَا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالوا إِلَى كَلِمةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنا وَبَينَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشرِكَ بهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّنْ دُونِ اللهِ). (آل عمران / ٦٤)

وهذا أصل ثابت لم يتغيّر بمرور الزمان ولم يكن أمراً وقتياً ، بل هو الأساس الثابت في الديانات السماوية كلّها ، وكلّ ما يتعرّض له أهل الديانات المختلفة من مآسٍ ، ناشيء من الانحراف عن هذا الأصل.

* * *

وفي الآية الثالثة عشرة تعبير جديد عن هذا المعنى وتلخّص دعوة الأنبياء عليهم‌السلام باستخدام الأداة (إنّما) الدالّة على الحصر في قضيّة التوحيد حيث تقول : (قُلْ انَّمَا يُوحى اليَّ انّمَا الهُكُم إِلهٌ وَاحِدٌ فَهَل انتُم مُّسلِمُونَ).

إبراهيم عليه‌السلام الأسوة الحسنة في مقارعة الشرك :

الآية الرابعة عشرة تذكر هذا المضمون في قالب جميل آخر حيث تعرّف النبي إبراهيمعليه‌السلام المقدام والمكسِّر للأصنام بالقدوة في الدفاع عن قضيّة التوحيد ومحاربة الشرك محاربة لا هوادة فيها حيث قالت : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) ، ثمّ تقدّم توضيحاً عن الاسوة الحسنة هذه بقوله تعالى : (إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ ...) ، وأضافت ـ للتأكيد المكرر ـ (كَفَرْنَا بِكُمْ ...).

١١٧

إنّ الكفر بالأشخاص يعني إعلان البراءة منهم ، لأنّ هذه المفردة (الكفر) ذات معانٍ خمسة حسب الروايات الإسلامية ، أحدها كفر البراءة ، ولم تكتفِ بذلك بل أضافت : (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغضَاءُ أَبداً حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وحدَهُ).

وإنّ هذه التعابير (البراءة أوّلاً ثمّ إعلانها ثمّ الإعلان عن العداوة الدائمة) لشاهد صريح على صلابة الموحّدين تجاه القذرين الملوثين بالشرك وعبادة الأوثان ، وحينما نلاحظ أنّ القرآن يذكر كلام النبي إبراهيم عليه‌السلام وأتباعه كقدوة للمسلمين فإنّ ذلك يعني أنّ الإسلام لا يعرف أيّة مهادنة بين التوحيد والشرك في أيّة مرحلة.

ومن التعمّق في تعبير الآية تنكشف الأهمّية البالغة لهذه القضيّة ، فالتعبير بـ (قومهم) دليل على أنّ غالبية القوم هم من عبدة الأصنام وأنّ الموحّدين قليلون ، ويبدو أنّ هذا الحوار جرى في (بابل) ، التي هي مركز عبدة الأصنام في ظلّ سلطة الطاغية (النمرود) ، ولم تعمد هذه المجموعة الصغيرة المؤمنة إلى مسايرة الوضع السائد ، ولم تعمل بالتقيّة تجاه المشركين في مسألة التوحيد.

ففي جانب تقول : (إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ).

وفي جانب آخر : (كَفَرْنَا بِكُمْ ...).

وفي ثالث : (نتبرّأ مِن أصنامكم).

ومن جهة : (انّا نعتبركم أعداءً لنا).

ومن أخرى : (إنّا نُكِنُّ لكم العداء).

وفي كلّ جملة من الآية تعبير جديد عن عدم المداهنة والمسالمة.

والفرق بين (العداوة) و (البغضاء) ـ كما هو المستفاد من كلمات اللغويين ـ هو أنّ (العداوة) لها جانب عملي في الغالب ، أمّا (البغضاء) فلها جانب قلبي ، وإن استعمل كلّ منهما مكان الآخر.

وبهذا أعلنوا أنّهم بُراءٌ من الشرك بكلّ وجودهم وصامدون أمامه مهما كانت الظروف ، وينبغي أن يكون ذلك اسوة حسنة لكلّ المؤمنين في العصور كلّها.

١١٨

و «الاسوة» : تعني في الأصل ـ كما ورد في (مقاييس اللغة) : العلاج والإصلاح ، ولذا يطلق على الطبيب (آسي).

و «أسى» : تعني الغمّ والحزن ، ومن المحتمل أن يكون بسبب اقتران علاج المريض والجريح ـ عادةً ـ بالغمّ والوجع ، ومن ثمّ استعملت بمعنى الإتّباع والمتابعة نظراً لاستدعاء العلاج وإصلاح المتتابَعيْن.

إلّا أنّ الراغب في مفرداته يعبّر عن المعنى الأصلي لـ (اسوة) قائلاً بالاتّباع في الصالحات أو السيّئات (١).

* * *

يتّضح من الآيات الأربع عشرة المتقدمة والتي كثرت نظائرها في القرآن الكريم أنّ قضيّة التوحيد والشرك هي القضيّة المركزية والمهمّة في نظر القرآن بشكل لا تجوز معه أيّة مداهنة أو مهادنة أو محاباة مع الشرك والمشركين ، ولابدّ من اجتثاث جذور الشرك بجميع صوره ، فإنّ تحقّق ذلك عن طريق التعليم الثقافي والمنطق والاستدلال فهو وإلّا فإنّ الواجب هو الحزم العملي تجاهه.

إنّ التوحيد رأس مال المؤمن والبضاعة المرموقة في سوق القيامة ، والشرك ذنب لا يغتفر ، والمشرك موجود قذر يجب التبرّء منه كلّياً حتّى يعدل عن انحرافه ويعود إلى الإيمان.

* * *

توضيح

لماذا هذا الإهتمام الكبير بقضيّة التوحيد والشرك؟

نحن نعلم بصورة إجمالية إنّ للإسلام بل والديانات السماوية كلّها حسّاسية غير

__________________

(١) يعتقد البعض أنّ (أسى) يستعمل كفعل ناقص واوي ويائي ، فإن كان ناقصاً يائياً فإنّه يعني الحزن والغمّ ، ولذا تطلق المأساة على الفاجعة العظيمة ، ولو كان ناقصاً واوياً فهو يعني المعالجة والإصلاح.

١١٩

اعتيادية تجاه الشرك ، غير أنّ الدليل على ذلك ليس واضحاً للكثير ، ويمكن تقديم أربعة أدلّة أساسية على هذه الحساسية والإهتمام بقضيّة التوحيد والشرك المصيرية :

١ ـ التوحيد هو الأساس لمعرفة صفات الله ولا يمكن إدراك الصفات دون ملاحظة أصل التوحيد ، لأنّ وحدانيته ـ كما سيأتي توضيحها ـ تنشأ من لا محدوديته ، والوجود جامع لكلّ الكمالات وخالٍ من كلّ عيب ونقص ، والحقيقة أنّنا لو عرفناه بتوحيده الحقيقي فسوف نعرف صفاته كلّها ، بَيدَ أنّ الإعتقاد بالشرك هو الذي يصدّنا عن ذلك.

٢ ـ فروع التوحيد تبلغ عالم الوجود ذات الله المقدّسة ، حيث أنّ عالم الوجود واحد وهو متّصل الأجزاء وتحتاج معرفته الصحيحة إلى دراسة أجزائه مجتمعة ، ولو تصوّرنا موجودات العالم كوجودات متفرّقة فإنّا سوف نخطىء كثيراً في معرفة العالم وإذا سألنا أنفسنا : من أين تلقّينا هذا الدرس ، وهو أنّ عالم الوجود كتلة واحدة؟

الجواب : من وحدانية الله ، لأنّ وحدة الله دليل على وحدة العالم ، ووحدة العالم دليل على وحدته تعالى : (مَا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) (الملك / ٣)

٣ ـ إنّ أهمّ العناصر التي تبعث على تطوّر العالم الإنساني وتكامله هو وحدة المجتمع البشري ، فالاختلاف والتفرّق ـ كان وسيبقى ـ هو العامل على الدمار والضعف والتخلّف ، في حين يشكل الإتّحاد والوحدة الحجر الأساس للقوّة والإقتدار والعمران والبناء.

إنّ الإيمان بالله بمثابة حلقة الوصل التي تؤلّف بين الملايين من البشر وتزيل الفوارق العنصرية والجغرافية والقومية واللغوية.

إنّ سبب الانحراف عن أصل التوحيد والإيمان جَعَل كلّ قبيلة عربية في زمن الجاهلية تعبد صنماً يختلف عن أصنام القبائل الاخرى وهم في غاية الضعف والانحطاط ، فجاء الإسلام وحطّم الأصنام وربط القلوب بحبل التوحيد في فترة قصيرة وصنع منها مجتمعاً قويّاً ومتطوراً ذا حكومة امتدّت لتشمل العالم فضلاً عن الجزيرة العربية.

٤ ـ التربية على الأخلاق والقيم الإنسانية تتوفّر في ظلّ التوحيد أيضاً لأنّ الأساس في

١٢٠