مفاهيم القرآن - ج ٩

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٩

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: ٤٨٦

البلد الأمين

وقد ذكر لفظ البلد في دعاء إبراهيم ، حيث قال : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) (١) وقال أيضاً : ( رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ) (٢).

وقد أمر سبحانه نبيّه الخاتم ، أن يقول : ( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ ) (٣).

وقد جاء ذكر البلد في بعض الآيات كناية ، قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (٤).

والمراد من قوله ( إِلَىٰ مَعَادٍ ) هو موطنه الذي نشأ فيه.

وقد روى المفسرون في تفسير الآية انّه لما نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجحفة في مسيره إلى المدينة لما هاجر إليها اشتاق إلى مكة فأتاه جبرئيل عليه‌السلام ، فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ، فقال : نعم. قال جبرئيل : فإنّ الله ، يقول : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ) يعني مكة ظاهراً عليها ، فنزلت الآية بالجحفة ، وليست بمكية ولا مدنية ، وسمّيت مكة معاداً لعوده إليها. عن ابن عباس (٥).

كما ذكر أيضاً في آية أُخرى بوصفه وقال : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا

__________________

(١) البقرة : ١٢٦.

(٢) إبراهيم : ٣٥.

(٣) النمل : ٩١.

(٤) القصص : ٨٥.

(٥) مجمع البيان : ٧ / ٢٦٨.

٤٦١

وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ ) (١).

وقد وصف سبحانه البلد بالأمن وأصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف ، وقد جعله وصفاً في بعض الآيات للحرم ، قال سبحانه : ( أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (٢).

وفي آية أُخرى يقول : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ ) (٣).

والمراد من هذا الأمن هو الأمن التشريعي ، بمعنى أنّه سبحانه حرم فيه القتل والحرب حتى قطع الأشجار والنباتات إلاّ بعض الأنواع مما تحتاج إليه الناس ، والذي يوضح أنّ المراد من الأمن هو الأمن التشريعي لا التكويني قوله سبحانه : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (٤).

فالآية الأُولى تحكي عن تشريع خاص ، وهو أنّ الكعبة أوّل بيت وضعت لعبادة الناس ، ويدل على ذلك أنّ فيه مقام إبراهيم ، كما أنّ الآية الثانية تبيّن تشريعاً آخر ، وهو وجوب حجّ البيت لمن استطاع إليه ، وبين هذين التشريعين جاء قوله : ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) وهذا دليل على أنّ المراد من الأمن هو الأمن التشريعي لا التكويني ، ولذلك كان الطغاة يسلبون الأمن عن هذا البلد بين آونة وأُخرى.

__________________

(١) العنكبوت : ٦٧.

(٢) القصص : ٥٧.

(٣) العنكبوت : ٦٧.

(٤) آل عمران : ٩٦ ـ ٩٧.

٤٦٢

ويشير إلى الأمن بقوله سبحانه : ( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ ) (١) وصف البيت بالحرام ، حيث حرّم في مكانه القتال ، وجعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم وأعراضهم وأموالهم.

فهذه الآيات تشير إلى مكانة البلد الذي احتضن البيت الحرام ، ذلك المكان المقدس الذي حاز علىٰ أهمية بالغة عند المسلمين على اختلاف نحلهم ، فإليه يوجِّه الناس وجوههم في صلواتهم وفي ذبائحهم وعند احتضار أمواتهم.

وفضلاً عن ذلك فانّه يعد ملتقىً عبادياً وسياسياً لحشود كبيرة من المسلمين ، وما يترتب عليه من نتائج بناءة علىٰ صعيد مدِّ جسور الثقة بين كافة النحل الإسلامية. وبتبعه حاز البلد علىٰ مكانة مقدسة جعلته صالحاً للقسم به.

المقسم عليه

المقسم عليه للأقسام الأربعة ـ أعني : التين ، الزيتون ، طور سينين ، البلد الأمين ـ هو قوله سبحانه : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) فيقع الكلام في أمرين :

أ : ما هو المراد من خلق الإنسان في أحسن تقويم ثمّ ردّه إلى أسفل سافلين ؟

ب : ما هي الصلة بين الأقسام الأربعة وهاتين الآيتين اللتين هما المقسم عليه للأقسام الأربعة.

أمّا الأوّل فربّما يقال : انّ المراد من خلق الإنسان في أحسن تقويم هو جودة

__________________

(١) المائدة : ٩٧.

٤٦٣

خلقه واستقامة وجوده من صباه إلى شبابه إلى كماله فيتمتع بكمال الصورة وجمال الهيئة وشدة القوة ، فلم يزل علىٰ تلك الحال حتى يواجه بالنزول أي رده إلى الهرم والشيخوخة والكهولة فتأخذ قواه الظاهرة والباطنة بالضعف ، وتنكس خلقته ، قال سبحانه : ( وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ) (١) لكن هذا التفسير لا يناسبه الاستثناء الوارد بعده قال سبحانه : ( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) أي غير مقطوع.

فلو كان المراد من الآية ما جرت عليه سنّة الله تعالى في خلق الإنسان فهي سنّة عامة تعم المؤمن والكافر والصالح والطالح ، مع أنّه يستثني المؤمن الصالح من تلك الضابطة.

فالأولى تفسير الآيتين بالتقويم المعنوي ، وردّه إلىٰ أسفل سافلين هو انحطاطه إلى الشقاء والخسران بأن يقال : انّ التقويم جعل الشيء ذا قوام ، وقوام الشيء ما يقوم به ويثبت ، فالإنسان بما هو إنسان صالح حسب الخلقة للعروج إلى الرفيق الأعلى ، والفوز بحياة خالدة عند ربه سعيدة لا شقوة فيها ، قال سبحانه : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (٢) فإذا آمن بما علم ومارس صالح الأعمال رفعه الله إليه ، كما قال : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (٣) يس ، وقال عزّ اسمه : ( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) (٤) ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ارتفاع مقام الإنسان وارتقائه بالإيمان والعمل الصالح مقاماً عالياً ذا عطاء من الله غير مجذوذ ، وقد أشار في آخر

__________________

(١) يس : ٦٨.

(٢) الشمس : ٧ ـ ٨.

(٣) فاطر : ١٠.

(٤) المجادلة : ١١.

٤٦٤

هذه السورة إلى العطاء الدائم ، بقوله : ( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ).

وعلى ذلك يكون المراد من أسفل سافلين هو تردّي الإنسان إلى الشقوة والخسران (١).

وأمّا وجه الصلة فلو قلنا بأنّ المراد من التين الجبل الذي عليه دمشق ، وبالزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس وهما مبعثا جمّ غفير من الأنبياء ، فالصلة واضحة ، لأنّ هذه الأراضي أراضي الوحي والنبوة فقد أوحى الله سبحانه إلىٰ أنبيائه في هذه الأمكنة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى أحسن تقويم ، ويصدهم عن التردي إلى أسفل سافلين.

وبعبارة أُخرى : إنّ هذه الأماكن مبعث الأنبياء ومهبط الوحي ، فهؤلاء بفضل الوحي يهدون المجتمع الإنساني إلى الرقي والسعادة التي يعبر عنها القرآن بأحسن تقويم ، ويحذرونه من الانحطاط والسقوط في الهاوية التي يعبر عنها سبحانه ب‍ ( أَسْفَلَ سَافِلِينَ ).

إنّما الكلام فيما إذا كان المراد من التين والزيتون ، الفاكهتان المعروفتان اللتين أقسم الله بهما لما فيهما من الفوائد الجمّة والخواص النافعة ، فعندئذٍ لا تخلو الصلة من غموض ، فليتدبر.

ولا يخفىٰ انّ كلّ المخلوقات ، من حيوان ونبات توحي بالجلال والاحترام لها وبالجمال وكمال الخلق ، وهي تبدو مبرمجة أو مخلوقة هكذا لا تحيد عن ذلك ، فهل رأيت طيراً لا يبني عشه أو لا يُطعمُ فراخه ؟ أم رأيت حيواناً لم يهبه الله الذكاء والمقدرة علىٰ تحصيل رزقه ، أو الدفاع عن نفسه ؟ حقاً انّ هذه المخلوقات لا تعرف الهزل ، فهي جدّيّة ولكن في وداعة ، غريبة ولكن في جمال ، وبسيطة ولكن في جلال

__________________

(١) الميزان : ٢٠ / ٣١٩ ـ ٣٢٠.

٤٦٥

آسر. إن كلاً منها تسير على الطريق التي اختطها الخالق لها طائعة ملبّية ، وهي تسبّح بحمد ربّها كلّها. إنّها لا تعرف الكذب أو المصانعة ، بل هي متّسقة مع نفسها ومع ما حولها ، بل ومع الكون جميعاً. في تناغم عجيب وجمال بديع. فتعالى الله الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين والباطن بجلال عزّته عن فكرة المتوهمين (١).

__________________

(١) أسرار الكون في القرآن : ٢٨٣.

٤٦٦

الفصل العشرون

القسم في سورة العاديات

حلف سبحانه في هذه السورة بأُمور ثلاثة : العاديات ، الموريات ، المغيرات. قال سبحانه : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (١).

تفسير الآيات

( الْعَادِيَاتِ ) من العدو وهو الجري بسرعة. « الضبح » صوت أنفاس الخيل عند عدوها ، وهو المعهود المعروف من الخيل ، ومعنى الآية أُقسم بالخيل التي تعدو وتضبح ضبحاً.

( فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا ) فالموريات من الايراء وهو إخراج النار ، و « القدح » الضرب ، يقال : قدح فأورىٰ : إذا أخرج النار بالقدح ، والمراد بها الخيل التي تخرج النار بحوافرها حين ضربها الأحجار.

( فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) الإغارة : الهجوم على العدو بغتة بالخيل ، وهي صفة أصحاب الخيل ونسبتها إلى الخيل بالمجاز والمناسبة ، والمعنى : أُقسم بالخيل المغيرة علىٰ العدو بغتة في وقت الصبح.

( فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ) والنقع : الغبار ، والمراد إثارة الغبار حين العدو ، لما في

__________________

(١) العاديات : ١ ـ ٨.

٤٦٧

الإغارة على العدو بالخيل من إثارة الغبار. والضمير في « به » يرجع إلى العدو المستفاد من قوله : والعاديات ، والباء للسببية.

( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ) فلو قلنا بتشديد السين يكون المعنى حاصروا الأعداء ، ولكن القراءة المعروفة هي بلا تشديد الفعل فيكون معناه أي صاروا في وسط الأعداء بما انّ هجومها كان مباغتاً خاطفاً استطاعت في بضع من اللحظات أن تشق صفوف العدو وتشن حملتها في قلبه وتشتت جمعه.

ثمّ الضمير إمّا يرجع إلى العدو المستفاد من قوله : ( وَالْعَادِيَاتِ ) أو إلى النقع فيكون المعنى فوسطن صباحاً أو في خضمِّ النقع صفوف الأعداء.

ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الصبح ، ويكون الباء بمعنى « في » أي وسطن في الصبح جمعاً.

وعلى كلّ حال فالآيات تحلف بالخيول التي تسرع إلى ميدان الجهاد بسرعة حتى تضبح ويتطاير الشررَ من تحت حوافرها باستدامة ضرب الحافر للأحجار ، وعند انجلاء الصبح تشنّ هجوماً شديداً يثير الغبار في كلّ جانب ثمّ تتوغل إلى قلب العدو وتشتت صفوفه. وهذا يعرب انّ الجهاد له منزلة عظيمة إلى حد استحق أن يقسم بخيوله والشرر التي تتطاير من حوافرها والغبار الذي تثيره في الهواء.

هذا كلّه حول الأقسام ، وأمّا جواب القسم ، فهو قوله : ( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) والكنود ، اسم للأرض التي لا تنبت ويطلق على الإنسان الكافر والبخيل ، فكأنّه جُبِّل على نكران الحق وجحوده وعدم الإقرار بما لزمه من شكر خالقه والخضوع له. يقول سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ ) (١) وهو اخبار عمّا في

__________________

(١) الحج : ٦٦.

٤٦٨

طبع الإنسان من اتّباع الهوىٰ والانكباب على الدنيا والانقطاع بها عن شكر ربّه ، وفيه تعريض للقوم المغار عليهم ، بأنّهم كانوا كافرين بنعمة الإسلام ، وهذا على وجه يشهد الإنسان على كفران نفسه ، كما يقول : ( وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ ).

ثمّ إنّه يدلّل شهادته على ذلك بقوله : ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) والمراد من الخير المال.

ثمّ إنّ هذه الآيات لا تنافي ما دلت عليه آية الفطرة ، قال سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (١).

وجه عدم التنافي انّ الإنسان كما جبل على الخير جبل على الشر أيضاً ، فكما ألهمها تقواها ألهمها فجورها ، وكما أنّه هداه إلى النجدين ، ولكن السعادة هو من يستخدم قوى الخير ويتجنب قوى الشر.

والحاصل انّ الآيات القرآنية على صنفين : فصنف يصف الإنسان بصفات سلبية مثل قوله : ( يَئُوسٌ ) (٢) ( ظَلُومٌ كَفَّارٌ ) (٣) ( عَجُولاً ) (٤) ( كَفُورًا ) (٥) ( أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) (٦) ، ( ظَلُومًا جَهُولاً ) (٧) ( كَفُورٌ مُّبِينٌ ) (٨) ( هَلُوعًا ) (٩) إلى

__________________

(١) الروم : ٣٠.

(٢) هود : ٩.

(٣) إبراهيم : ٣٤.

(٤) الإسراء : ١١.

(٥) الاسراء : ٦٧

(٦) الكهف : ٥٤.

(٧) الأحزاب : ٧٢.

(٨) الزخرف : ١٥.

(٩) المعارج : ١٩.

٤٦٩

غير ذلك من الصفات السلبية الواردة في القرآن الكريم.

وصنف آخر يصفه بصفات إيجابية تجعله في قمة الكرامة والعظمة.

فقد بلغت به الكرامة انّه صار « مسجوداً للملائكة » (١) ، مخلوقاً بفطرة الله (٢) ، منشأ بأحسن تقويم (٣) ، مفضلاً على كثير من المخلوقات (٤) ، حاملاً لأمانة الله (٥) ، سائراً في البر والبحر ومرزوقاً من الطيبات ومكرماً عند الله (٦) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تصف الإنسان بصفات إيجابية.

ولا منافاة بين الصنفين من الآيات ، وذلك لأنّ تلك الكرامة إنّما هي للإنسان الذي تمتع بكلا الوصفين ، فهو عندما يلبّي نداء العقل والشرع ينل كرامته العليا ، ويكون مظهراً لقوله : ( وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (٧) ولو خضع لدعوة النفس والهوىٰ ، يكون مظهراً للصفات السلبية ، كفوراً يئوساً هلوعاً كنوداً إلى غير ذلك من الصفات الذميمة. فالكمال كلّ الكمال لإنسان تكمن فيه قوى الخير والشر فيقوي إحداهما على الأُخرى بإرادة واختيار دون أي وازع ، فلو جبل على إحدى القوتين دون الأُخرى لما استحق المدح ولا اللوم دون ما إذا كان فيه أرضية الخير والشر فيعالج أرضية الشر بتوجيهها نحو الخير والكمال ، ولذلك نرى انّه سبحانه يستثني بعد الحكم على الإنسان بقوله :

__________________

(١) الأعراف : ١١.

(٢) الروم : ٣٠.

(٣) التين : ٤.

(٤) الإسراء : ٧٠.

(٥) الأحزاب : ٧٢.

(٦) الإسراء : ٧٠.

(٧) الإسراء : ٧٠.

٤٧٠

( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) الفئة المؤمنة العاملة بالصالحات ويقول : ( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (١).

إلى هنا تبين المقسم به والمقسم عليه.

بقي الكلام في الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فنقول :

إنّه سبحانه بعث الأنبياء لهداية الناس ، فمنهم من يهتدي بكتابه وسنّته ، فهذه الطائفة تكفيها قوة المنطق وثمة طائفة أُخرى لا تهتدي ، بل تثير العراقيل في سبيل دعوة الأنبياء ، فهداية هذه الطائفة رهن منطق القوة ، ولذلك يقول سبحانه : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) (٢).

فهذه الآية مؤلفة من فقرتين :

الفقرة الأُولى التي تتضمن البحث عن إرسال الرسل بالبيّنات وإنزال الكتب والميزان راجعة إلى من له أهلية للهداية فيكفيه قوة المنطق.

والفقرة الثانية ، أعني : ( وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ ) فهي راجعة إلى من لا يستلهم من نداء العقل والفطرة ولا يهتدي بل يثير الموانع فلا يجدي معهم سوى الحديد الذي هو رمز منطق القوة.

وبذلك يعلم وجه الصلة بين إنزال الحديد وإرسال الكتب ، وبهذا تبين أيضاً وجه الصلة بين الأقسام والمقسم عليه ، ففي الوقت الذي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعظ ويبعث رجال الدعوة لإرشاد الناس ، اجتمعت طائفة لمباغتة المسلمين

__________________

(١) التين : ٥ ـ ٦.

(٢) الحديد : ٢٥.

٤٧١

والهجوم على المدينة والإطاحة بالدولة الإسلامية الفتية ، فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً مع سريّة ، فأمر أن تسرج الخيل في ظلام الليل وتعدّ إعداداً كاملاً ، وحينما انفلق الفجر صلّى بالناس الصبح وشنَّ هجومه وباشر وما انتبه العدو حتى وجد نفسه تحت وطأة خيل جيش الإسلام ، فهذه الطائفة لا يصلحهم إلا العاديات والموريات والمغيرات التي تهاجمهم كالصاعقة.

نقل الفيض الكاشاني في تفسيره عن تفسير القمي عن الصادق عليه‌السلام : « إنّها [ سورة العاديات ] نزلت في أهل وادي اليابس ، اجتمعوا اثني عشر ألف فارس وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا أن لا يتخلّف رجل عن رجل ولا يخذل أحد أحداً ، ولا يفر رجل عن صاحبه حتى يموتوا كلّهم على حلف واحد ويقتلوا محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ».

إلى أن قال :

« خرج علي عليه‌السلام ومعه المهاجرون والأنصار وسار بهم غير سير أبي بكر ، وذلك انّه أعنف بهم في السير حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب وتحفى دوابهم ، فقال لهم : لا تخافوا فانّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمرني بأمر وأخبرني انّ الله سيفتح عليّ وعليكم ، فأبشروا فانّكم على خير وإلىٰ خير ، فطابت نفوسهم وقلوبهم ، وساروا علىٰ ذلك السير التعب حتى إذا كانوا قريباً منهم حيث يرونه ويريهم ، أمر أصحابه أن ينزلوا ، وسمع أهل وادي اليابس بمقدم علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأصحابه ، فأخرجوا إليهم منهم مائتا رجل شاكين بالسلاح ، فلمّا رآهم علي عليه‌السلام خرج إليهم في نفر من أصحابه.

فقالوا لهم : من أنتم ، ومن أين أنتم ، ومن أين أقبلتم ، وأين تريدون ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب عليه‌السلام ابن عمّ رسول الله وأخوه ورسوله إليكم ادعوكم إلى

٤٧٢

شهادة أن لا إله إلاّ الله وانّ محمّداً عبده ورسوله ، ولكم ان آمنتم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين من خير وشر ، فقالوا له : إياك أردنا ، وأنت طلبتنا ، قد سمعنا مقالتك ، فخذ حذرك واستعد للحرب العوان ، واعلم انّا قاتلوك وقاتلوا أصحابك والموعود فيما بيننا وبينك غداً ضحوة ، وقد اعذرنا فيما بيننا وبينك.

فقال لهم علي عليه‌السلام : ويلكم تهدّدوني بكثرتكم وجمعكم ، فأنا أستعين بالله وملائكته والمسلمين عليكم ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

فانصرفوا إلى مراكزهم وانصرف علي إلى مركزه ، فلمّا جنّه الليل أمر أصحابه أن يحسنوا إلى دوّابهم ويقضموا ويسرجوا ، فلمّا انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس ، ثمّ غار عليهم بأصحابه فلم يعلموا حتى وطأهم الخيل ، فما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتليهم وسبىٰ ذراريهم واستباح أموالهم وخرب ديارهم وأقبل بالأُسارى والأموال معه.

فنزل جبرئيل وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما فتح الله على عليّ عليه‌السلام وجماعة المسلمين.

فصعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنبر فحمد الله وأثنى عليهٰ وأخبر الناس بما فتح الله على المسلمين ، وأعلمهم انّه لم يصب منهم إلاّ رجلين ، ونزل فخرج يستقبل عليّاً عليه‌السلام في جميع أهل المدينة من المسلمين حتى لقيه على ثلاثة أميال من المدينة ، فلمّا رآه علي عليه‌السلام مقبلاً نزل عن دابته ، ونزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى التزمه وقبّل ما بين عينيه ، فنزل جماعة المسلمين إلىٰ علي عليه‌السلام حيث نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقبل بالغنيمة والأُسارىٰ وما رزقهم الله من أهل وادي اليابس ».

ثمّ قال جعفر بن محمد عليهما‌السلام : « ما غنم المسلمون مثلها قط إلاّ أن يكون من خيبر ، فانّها مثل خيبر وأنزل الله تعالى في ذلك اليوم هذه السورة : ( وَالْعَادِيَاتِ

٤٧٣

ضَبْحًا ) يعني بالعاديات : الخيل تعدو بالرجال ، والضبح ضبحها في أعنّتها ولجمها.

( فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) فقد أخبرك انّها غارت عليهم صبحاً.

( فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ) قال : يعني الخيل يأثرن بالوادي نقعاً.

( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) قال : يعنيهما قد شهدا جميعاً وادي اليابس وكانا لحب الحياة حريصين » (١).

بلغ الكلام إلى هنا في شهر جمادي الأُولى

من شهور عام ١٤٢٠ ه‍ من الهجرة النبوية

في قم المحميّة وحوزتها المصونة

وتم بيد مؤلّفه الآثم المحتاج إلى ربّه العاصم جعفر السبحاني

ابن الفقيه الشيخ محمد حسين الخياباني التبريزي تغمده الله برحمته الواسعة

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

__________________

(١) تفسير الصافي : ٥ / ٣٦١ ـ ٣٦٥.

٤٧٤

فهرس المحتويات

الأمثال

الأمثال في القرآن .............................................................. ٥

المثل في اللغة ................................................................ ٥

المثل في الاصطلاح ......................................................... ١٠

فوائد الأمثال السائرة ....................................................... ١٢

الكتب المؤلفة في الأمثال ................................................. ١٦

الأمثال القرآنية ............................................................ ١٦

أقسام التمثيل .............................................................. ١٩

الأمثال القرآنية في الأحاديث ................................................ ٢١

الكتب المؤلفة في الأمثال القرآنية ............................................. ٢٦

تقسيم الأمثال القرآنية إلى الصريح والكامن ................................... ٢٧

ما هو المراد من ضرب المثل ؟ ............................................... ٣٤

الأمثال القرآنية وانسجامها مع البيئة .......................................... ٣٨

استنكار الأمثال القرآنية .................................................... ٤٢

٤٧٥

التمثيلات القرآنية ....................................................... ٤٣

الآيات التي تجري مجرى المثل ............................................. ٥٨

الأمثال النبوية ........................................................... ٦٥

الأمثال العلوية .......................................................... ٧٠

أمثال لقمان الحكيم ..................................................... ٧١

سورة البقرة

التمثيل الأوّل ........................................................... ٧٣

التمثيل الثاني ............................................................ ٨٠

التمثيل الثالث .......................................................... ٨٦

التمثيل الرابع ........................................................... ٩٥

التمثيل الخامس ......................................................... ٩٩

التمثيل السادس ....................................................... ١٠٢

التمثيل السابع ......................................................... ١٠٩

التمثيل الثامن ......................................................... ١١٢

التمثيل التاسع ......................................................... ١١٦

التمثيل العاشر ......................................................... ١١٨

التمثيل الحادي عشر ................................................... ١٢١

آل عمران

التمثيل الثاني عشر ..................................................... ١٢٧

٤٧٦

التمثيل الثالث عشر ...................................................... ١٣٠

الأنعام

التمثيل الرابع عشر ....................................................... ١٣٢

الأعراف

التمثيل الخامس عشر ..................................................... ١٣٥

التمثيل السادس عشر ..................................................... ١٣٧

التوبة

التمثيل السابع عشر ...................................................... ١٤٣

يونس

التمثيل الثامن عشر ....................................................... ١٤٦

هود

التمثيل التاسع عشر ...................................................... ١٥٠

الرعد

التمثيل العشرون ......................................................... ١٥٢

التمثيل الواحد والعشرون ................................................. ١٥٥

إبراهيم

التمثيل الثاني والعشرون ................................................... ١٦٢

التمثيل الثالث والعشرون ................................................. ١٦٤

٤٧٧

التمثيل الرابع والعشرون .................................................. ١٦٨

التمثيل الخامس والعشرون ................................................. ١٧٠

النحل

التمثيل السادس والعشرون ................................................ ١٧٢

التمثيل السابع والعشرون ................................................. ١٧٦

التمثيل الثامن والعشرون .................................................. ١٧٨

التمثيل التاسع والعشرون .................................................. ١٨٠

التمثيل الثلاثون .......................................................... ١٨٤

الإسراء

التمثيل الواحد والثلاثون .................................................. ١٨٩

الكهف

التمثيل الثاني والثلاثون .................................................... ١٩٣

التمثيل الثالث والثلاثون .................................................. ١٩٨

التمثيل الرابع والثلاثون ................................................... ٢٠١

النور

التمثيل الخامس والثلاثون ................................................. ٢٠٥

التمثيل السادس والثلاثون ................................................. ٢١١

التمثيل السابع والثلاثون .................................................. ٢١٤

٤٧٨

العنكبوت

التمثيل الثامن والثلاثون ................................................... ٢١٧

الروم

التمثيل التاسع والثلاثون .................................................. ٢٢٠

فاطر

التمثيل الأربعون ......................................................... ٢٢٤

التمثيل الواحد والأربعون ................................................. ٢٢٦

يٰس

التمثيل الثاني والأربعون ................................................... ٢٢٨

التمثيل الثالث والأربعون .................................................. ٢٣٤

الزمر

التمثيل الرابع والأربعون .................................................. ٢٣٦

الزخرف

التمثيل الخامس والأربعون ................................................. ٢٣٨

التمثيل السادس والأربعون ................................................ ٢٤١

التمثيل السابع والأربعون .................................................. ٢٤٢

محمّد

التمثيل الثامن والأربعون .................................................. ٢٤٨

٤٧٩

الفتح

التمثيل التاسع والأربعون .................................................. ٢٥١

الحديد

التمثيل الخمسون ......................................................... ٢٥٧

الحشر

التمثيل الواحد والخمسون ................................................. ٢٦١

التمثيل الثاني والخمسون .................................................. ٢٦٣

التمثيل الثالث والخمسون ................................................. ٢٦٥

الجمعة

التمثيل الرابع والخمسون .................................................. ٢٦٧

التحريم

التمثيل الخامس والخمسون ................................................ ٢٦٩

التمثيل السادس والخمسون ................................................ ٢٧٣

الملك

التمثيل السابع والخمسون ................................................. ٢٧٧

خاتمة المطاف ............................................................ ٢٧٩

٤٨٠