مفاهيم القرآن - ج ٩

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٩

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: ٤٨٦

الثاني : أن يقال : انّ خنوسها وانقباضها كناية عن قرب فواصلها ثمّ هي تجري وتستمر في مجاريها ، وكنوسها عبارة عن قربها وتراجعها.

قال في اللسان : « وكنست النجوم كنساً ، كنوساً : استمرت من مجاريها ثم انصرفت راجعة (١).

وعلى ذلك فاللّه سبحانه يحلف بهذه الأنجم الخمسة بحالاتها الثلاث المترتبة في الليل ، وهي انّها على أحوال ثلاثة.

منقبضات حينما تقرب فواصلها ثمّ إنّها بالجري يبتعد بعضها عن بعض ، ثمّ ترجع بالتدريج إلى حالتها الأُولى فهي بين الانقباض والابتعاد بالجري ثمّ الرجوع إلى حالتها الأُولى.

( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ) : وقد فسر عسعس بإدبار الليل وإقباله ، فإقبالها في أوّله وإدبارها في آخره.

والظاهر انّ المراد هو إقبالها.

قال الزجاج : عسعس الليل إذا أقبل وعسعس إذا أدبر ، ولعل المراد هو الثاني بقرينة الحلف الثالث أعني ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) ، والمراد من تنفس الصبح هو انبساط ضوئه على الأُفق ودفعه الظلمة التي غشيته ، وكأنّ الصبح موجود حيوي يغشاه السواد عند قبض النفس ويعلوه الضوء والانبساط عند التنفس قال الشاعر :

حتى إذا الصبح لها تنفسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا

هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ

__________________

(١) لسان العرب : مادة كنس.

٤٢١

كَرِيمٍ ).

الضمير في قوله : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) يرجع إلى القرآن بدليل قوله : ( لَقَوْلُ رَسُولٍ ) والمراد من « رسول هو جبرئيل وكون القرآن قوله لا ينافي كونه قول الله إذ يكفي في النسبة أدنى مناسبة وهي انّه أنزله على قلب سيد المرسلين. قال سبحانه : ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ ) (١) وقال : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) (٢).

ثمّ إنّه سبحانه وصفه بصفات ست :

١. رسول : يدل على وساطته في نزول الوحي إلى النبي.

٢. كريم : عزيز بإعزاز الله.

٣. ذي قوة : « ذي قدرة وشدة بالغة ، كما قال سبحانه : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ ) (٣).

٤. ( عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) : أي صاحب مكانة ومنزلة عند الله ، وهي كونه مقرباً عند الله.

٥. مطاع : عند الملائكة فله أعوان يأمرهم وينهاهم.

٦. أمين : لا يخون بما أمر بتبليغه ما تحمّل من الوحي.

وعطف على جواب القسم قوله : ( وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ ) (٤) والمراد هو

__________________

(١) البقرة : ٩٧.

(٢) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٣) النجم : ٥ ـ ٦.

(٤) التكوير : ٢٢.

٤٢٢

نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكأنّ صاحبه حلف بما حلف ، للتأكيد على أمرين :

أ : القرآن نزل به جبرئيل.

ب : انّ محمّداً ليس بمجنون.

ثمّ إنّ الصلة بين المقسم به والمقسم عليه : هو انّ القرآن ـ المقسم عليه ـ حاله كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم ، فكما أنّ لهذه الكواكب ، انقباض وجري ، وتراجع ، فهكذا حال الناس مع هذا القرآن فهم بين منقبض من سماع القرآن ، وجار وسار مع هداه ، ومدبر عن هديه إلى العصر الجاهلي.

ثمّ إنّ القرآن أمام المستعدّين للهداية كالصبح في إسفاره ، فهو لهم نور وهداية ، كما أنّ للمدبرين عنه ، كالليل المظلم ، وهو عليهم عمى ، والله العالم.

ثمّ إنّ في اتهام أمين الوحي بالخيانة ، والنبي الأعظم بالجنون ، دلالة واضحة على بلوغ القوم القسوة والشقاء حتى سوّغت لهم أنفسهم هذا العمل ، فزين لهم الشيطان أعمالهم.

وأخيراً نود الإشارة إلى كلمة قيمة لأحد علماء الفلك تكشف من خلالها عظمة تلك الكواكب والنجوم ، حيث يقول : لا يستطيع المرء أن يرفع بصره نحو السماوات العلى إلاّ ويغضي إجلالاً ووقاراً ، إذ يرى ملايين من النجوم الزاهرة الساطعة ، ويراقب سيرها في أفلاكها وتنقلها في أبراجها ، وكلّ نجم وأي كوكب ، وكل سديم وأي سيار ، إنّما هو دنياً قائمة بذاتها ، أكبر من الأرض وما فيها وما عليها وما حولها (١).

__________________

(١) الله والعلم الحديث : ٢٥.

٤٢٣

الفصل الحادي عشر

القسم في سورة الانشقاق

حلف سبحانه تبارك وتعالى بأُمور أربعة : الشفق ، والليل ، وما وسق ، والقمر ، فقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ) (١).

تفسير الآيات

الشفق : هو الحمرة بين المغرب والعشاء الآخرة ، والمراد منه في الآية الحمرة التي تبقى عند المغرب في الأُفق ، وقيل : البياض فيه.

والوسق : جمع المتفرق ، يقال : وسقت الشيء إذا جمعته ، ويسمي القدر المعلوم من الحمل كحمل البعير وسقاً ، فيكون المعنىٰ والليل وما جمع وضمّ ممّا كان منتشراً بالنهار ، وذلك انّ الليل إذا أقبل آوىٰ كلّ شيء إلى مأواه ، وربما يقال : بمعنى « ما ساق » لأنّ ظلمة الليل تسوق كلّ شيء إلى مسكنه.

واتسق : من الاتساق بمعنى الاجتماع والتكامل فيكون المراد امتلاء القمر.

والطبق : الحال ، والمراد لتركبنّ حالاً بعد حال ، ومنزلاً بعد منزل ، وأمراً بعد أمر.

__________________

(١) الانشقاق : ١٦ ـ ٢١.

٤٢٤

وحاصل معنى الآيات :

لا أُقسم بالشفق ، وقد ذكرنا حديث « لا » وانّ معنى الجملة هو الحلف ومعناه أقسم بالحمرة التي تظهر في الأُفق الغربي عند بداية الليل وما يظهر بعد الحمرة من بياض والمعروف في الشفق في لسان الأُدباء هو الحمرة ولذلك يشبهون دماء الشهداء بالشفق غير انّه ربما يستعمل في البياض الطارئ على الحمرة الذي هو آية ضعف الشفق ونهايته.

وأقسم بالليل لما فيه من آثار وأسرار عظيمة ، فلولا الليل لما كان هناك حياة كالضياء ، فكلّ من الليل والنهار دعامتا الحياة ، قال سبحانه : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (١).

ثمّ إنّه سبحانه أشار إلى ما يترتب على الليل والنهار من البركات ، فقال : ( وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٢) ، فخلق النهار لطلب الرزق والمعاش ، كم البدن بالنوم فيه والسكن إليه وسيوافيك التفصيل في الفصول القادمة إن شاء الله.

وأقسم بما وسق ، أي بما جمع الليل ، ولعلّه إشارة إلى عودة الإنسان والحيوانات والطيور إلى أوكارها عند حلول الليل ، فيكون الليل سكناً عاماً للكائنات الحيّة.

__________________

(١) القصص : ٧١ ـ ٧٢.

(٢) القصص : ٧٣.

٤٢٥

حلف بالقمر عند اتساقه واكتماله في الليالي الأربع لما فيه من روعة وجمال ، ولذلك يُشبَّه الجميل بالقمر ، مضافاً إلىٰ نوره الهادئ الرقيق الذي يغطّي سطح الأرض. وهو من الرقة واللطافة بمكان لا يكسر ظلمة الليل وفي الوقت نفسه ينير الطرق والصحاري.

فهذه أقسام أربعة بينها ترتب خاص ، فانّ الشفق أوّل الليل يطلع بعده القمر في حالة البدر ، فهذه الموضوعات الأربع أُمور كونية يقع كلّ بعد الآخر حاكية عن عظمة الخالق.

وأمّا المقسم عليه فهو قوله سبحانه : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ) وهي إشارة إلى المراحل التي يمرّ بها الإنسان في حياته وأوضحها هي الحياة الدنيوية ثمّ الموت ثمّ الحياة البرزخية ثمّ الانتقال إلى الآخرة ثمّ الحياة الأُخروية ثمّ الحساب والجزاء.

وفي هذه الآية إلماع إلى ما تقدّم في الآية السادسة من هذه السورة ، أعني قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ) (١).

والكدح بمعنى السعي والعناء يتضمن معنى السير.

فالآية تشير إلىٰ أنّ الحياة البشرية تتزامن مع التعب والعناء ، ولكن الغاية منها هو لقاء الله سبحانه ، وكأنّ هذا الكدح باق إلى حصول الغاية ، أي لقاء جزائه من ثواب وعقاب أو لقاء الله بالشهود.

وأمّا وجه الصلة وهو بيان انّ الأشواط التي يمرّ بها الإنسان أُمور مترتبة متعاقبة كما هو الحال في المقسم به أعني الشفق الذي يعقبه الليل الدامس ويليه ظهور القمر.

__________________

(١) الانشقاق : ٦.

٤٢٦

توضيحه : انّ القرآن يحدّث عن أُمور متتابعة الوقوع وبذات تسلسل خاص فعندما تغيب الشمس يظهر الشفق معلناً عن بداية حلول الليل الذي تتجه الكائنات الحية إلىٰ بيوتها وأوكارها ثمّ يخرج القمر بدراً تاماً ، فإذا كان المقسم به ذات أُمور متسلسلة يأتي كلّ بعد الآخر فالطبقات التي يركبها الإنسان مثل المقسم به مترتبة متتالية فيبدأ بالدنيا ثمّ إلى عالم البرزخ ومنه إلى يوم القيامة ومنه إلىٰ يوم الحساب.

وبذلك يعلم وجه استعجابه سبحانه عن عدم إيمانهم ، حيث قال : ( فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) فانّ هذا النظام الرائع في الكون وحياة الإنسان من صباه إلى شبابه ومن ثمّ إلى هرمه لدليل واضح على أنّ عالم الخلقة يدبر تحت نظر خالق مدبر عارف بخصوصيات الكون.

يقول أحد علماء الطبيعة في هذا الصدد : إنّ جميع ما في الكون يشهد علىٰ وجود الله سبحانه ويدل علىٰ قدرته وعظمته ، وعندما نقوم ـ نحن العلماء ـ بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها ، حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية ، فانّنا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي الله وعظمته. ذلك هو الله الذي لا نستطيع أن نصل إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها ، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كلّ ذرة من ذرات هذا الوجود (١).

__________________

(١) الله يتجلى في عصر العلم : ٢٦.

٤٢٧

الفصل الثاني عشر

القسم في سورة البروج

حلف سبحانه في سورة البروج بأُمور أربعة :

أ : ( السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ) : المنازل.

ب : ( الْيَوْمِ المَوْعُودِ ) : القيامة.

ج : شاهد.

د : مشهود.

قال سبحانه : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ المَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ ) (١).

فأقسم سبحانه بالعالم العلوي وهو السماء وما فيها من المنازل التي هي أعظم الأمكنة وأوسعها ثمّ أقسم بأعظم الأيّام وأجلّها الذي هو مظهر ملكه وأمره ونهيه وثوابه وعقابه ، ومجمع أوليائه وأعدائه والحكم بينهم بعلمه وعدل.

ثم أقسم بكلّ شاهد ومشهود ـ إذا كان اللام للجنس ـ فيكون المراد كلّ مدرِك ومدرَك وراع ومرعي ، والمصداق البارز له هو النبي الذي سمّي شاهداً كما سيوافيك ، كما أنّ المصداق البارز للمشهود هو يوم القيامة ، فلنرجع إلىٰ تفسير الآيات.

__________________

(١) البروج : ١ ـ ٨.

٤٢٨

تفسير الآيات

أمّا السماء : فكلّ شيء علاك فهو سماء ، قال الشاعر في وصف فرسه :

واحمر كالديباج أمّا سماؤه

فريّاً وأمّا أرضه فمحول

وقال بعضهم كلّ سماء بالإضافة إلى ما دونها فسماء ، وبالإضافة إلىٰ ما فوقها فأرض وسمي المطر سماءً لخروجه منها.

وأمّا البروج واحدها برج ويطلق على الأمر الظاهر وغلب استعماله في القصر العالي لظهوره على الناظرين ، ويسمّى البناء المعمول على سور البلد للدفاع برجاً ، والمراد هنا مواضع الكواكب من السماء.

وربما يفسر بالمنازل الاثنىٰ عشر للقمر ، لأنّ القمر يصير في كلّ برج يومين وثلث يوم ، وذلك ثمانية وعشرون يوماً ، ثمّ يستتر ليلتين ثمّ يظهر.

وربما يفسر بمنازل الشمس في الشمال والجنوب ، ولكن الأولىٰ ما ذكرناه منازل النجوم على وجه الإطلاق.

واليوم الموعود عطف على السماء وهو يوم القيامة الذي وعد الله سبحانه أن يجمع فيه الناس ويوم الفصل والجزاء الذي وعد الله به علىٰ ألسنة رسله وفيه يتفرد ربّنا بالملك والحكم.

وقد وعد الله سبحانه به في القرآن الكريم غير مرّة وقال :

( وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (١).

__________________

(١) يونس : ٤٨.

٤٢٩

وقال : ( أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١).

وقال تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) (٢).

إلى غير ذلك من الآيات التي سمّى الله سبحانه فيها ذلك اليوم بوعد الله.

وشاهد ومشهود ، اللفظان معطوفان على السماء والجميع قسم بعد قسم ، وأمّا ما هو المقصود ؟ فالظاهر انّ الشاهد هو من عاين الأشياء وحضرها ، وأوضحه مصداقاً هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه سبحانه وصفه بكونه شاهداً ، قال : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ) (٣).

نعم تفسيره بالنبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من باب الجري والتطبيق على أفضل المصاديق وإلاّ فله معنى أوسع ، يقول سبحانه : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٤) فقد عدّ المؤمنين شهوداً على الأعمال ، فإنّ الغاية من الرؤية هو الشهود.

وتدل الآيات علىٰ أنّ نبي كلّ أُمّة شاهد علىٰ أُمّته ، قال سبحانه : ( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) (٥).

وأمّا المشهود فالمراد منه يوم القيامة ، لأنّه من صفات يومها ، قال سبحانه :

__________________

(١) يونس : ٥٥.

(٢) الكهف : ٢١.

(٣) الأحزاب : ٤٥.

(٤) التوبة : ١٠٥.

(٥) النساء : ١٥٩.

٤٣٠

( ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) (١) والمراد به ( ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ ) أي يجمع فيه الناس كلّهم الأوّلون والآخرون منهم للجزاء والحساب والهاء في له راجعة إلى اليوم ( وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) أي يشهده الخلائق كلّهم من الجن والإنس وأهل السماء وأهل الأرض أي يحضره ولا يوصف بهذه الصفة يوم سواه وفي هذا دلالة على إثبات المعاد وحشر الخلق (٢).

هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه فيحتمل أن يكون أحد أمرين :

أ : ( قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ) وفسره بقوله : ( النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ) أي أصحاب الأُخدود هم أصحاب النّار التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها ، ويكون حريقها عظيماً ، ولهيبها متطايراً.

ثمّ أشار إلىٰ وصف آخر لهم ( إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ) أي أحرقوا المؤمنين بالنار وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم وهم يعذبون بها ويوضحه قوله في الآية اللاحقة : ( وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ) أي أُولئك الجبابرة الذين أحرقوا المؤمنين كانوا حضوراً عند تعذيبهم يشاهدون ما يُفعل بهم ، وفي هذا إيماء إلى قسوة قلوبهم ، كما فيه إيماء إلىٰ قوة اصطبار المؤمنين وشدّة جلدهم ورباطة جأشهم.

وأمّا الصلة بين ما حلف به من السماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود وجواب القسم فهي انّه سبحانه حلف بالسماء ذات البروج والبروج آية الدفاع حيث كان أهل البلد يدافعون من البروج المبنية على سور البلد عن بلدهم ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن

__________________

(١) هود : ١٠٣.

(٢) مجمع البيان : ٥ / ١٩١.

٤٣١

كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) (١).

فحلف سبحانه بالسماء ذات البروج في المقام مبيناً بأنّ الله الذي كما يدفع بالبروج عن السماء كيد الشياطين كذلك يدفع عن إيمان المؤمنين كيد الشياطين وأوليائهم من الكافرين.

ثمّ أقسم باليوم الموعود الذي يجزي فيها الناس بأعمالهم فهو يجزي أصحاب الأُخدود بأعمالهم ، وأقسم بالشاهد الذي يشاهد أعمال الآخرين ، وأقسم بمشهود أي كل ما يشهده الشاهد وهو انّه سبحانه تبارك وتعالى يعاين أعمالهم ويشاهدها.

ويمكن أن يكون جواب القسم ، قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ) (٢).

فالله سبحانه يوعد الكفّار ويعد المؤمنين.

وأمّا وجه الصلة فواضح أيضاً بالنسبة إلىٰ ما ذكرنا في الوجه الأوّل ، ويحتمل أن يكون الجواب قوله : ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ) (٣) ، والمناسبة تلك المناسبة فلا نطيل.

ويحتمل أن يكون الجواب محذوفاً يدل عليه الآيات المتقدمة ، والمحذوف كالتالي :

إيعاد الفاتنين ووعد المؤمنين وهكذا.

__________________

(١) الحجر : ١٦ ـ ١٧.

(٢) البروج : ١٠ ـ ١١.

(٣) البروج : ١٢ ـ ١٣.

٤٣٢

الفصل الثالث عشر

القسم في سورة الطارق

حلف سبحانه بأمرين : بالسماء والطارق ، ثمّ فسر الطارق بالنجم الثاقب ، حلف بهما بغية دعوة الناس إلى الإذعان بأنّ لكلّ نفس حافظ.

قال سبحانه : ( وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) (١).

أمّا السماء فقد مرّ البحث فيه ، والطارق من الطرق ويسمّى السبيل طريقاً ، لأنّه يطرق بالأرجل أي يضرب ، لكن خصّ في العرف بالآتي ليلاً ، فقيل انّه طرق أهله طروقاً ، وعبر عن النجم بالطارق لاختصاص ظهوره بالليل.

النجم الثاقب والثاقب الشيء الذي يثقب بنوره وإصابته مايقع عليه ، قال سبحانه : ( فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (٢).

( إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) فلفظة ( لما ) بمعنى إلاّ نظير قوله سبحانه : ( وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ) (٣) ونظيره قولك : « سألتك بالله لما فعلت ».

والمراد من حافظ هم الموكلون على كتابة أعمال الإنسان حسنها وسيئها ،

__________________

(١) الطارق : ١ ـ ٤.

(٢) الصافات : ١٠.

(٣) هود : ١١١.

٤٣٣

يحاسب عليها يوم القيامة ويجزى بها فالحافظ هو الملك والمحفوظ هو العمل ، قال تعالىٰ : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) (١) ويحتمل أن يراد من حافظ هو القوة الحافظة للإنسان من الموت وفساد البدن ولعلّه إليه يرشد قوله سبحانه : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) (٢).

والقوى الظاهرية والمادية والمعنوية التي هي من جنود ربنا والتي وكّلت لحفظ الإنسان من الشر إلى أن ينقضي عمره ، هم الحفظة ، ولكن المعنى الأوّل هو الأنسب.

بقي هنا أمران :

الأوّل : انّ المراد من النجم الثاقب هو كوكب زحل ، فانّه من أبعد النجوم في مجموعتنا الشمسية التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة وقيل لزحل عشرة أقمار يمكن رؤية ثمانية منها بالناظور العادي.

ولا يمكن رؤية الآخرين إلاّ بالنواظير الكبيرة ، والظاهر انّ المراد مطلق النجم الذي يثقب ضوءه وإن كان زحل من أظهر مصاديقه.

وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ).

وأمّا الصلة بينهما بالنحو التالي :

هو انّ السماء العالية والنجوم التي تتحرك في مدارات منظمة دليل النظم والحساب الدقيق ، فليعلم الإنسان بأنّ أعماله أيضاً تخضع للحساب الدقيق ، فانّ هناك من يحفظ أعماله ويسجّلها إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر ، وانّها لمسؤولية

__________________

(١) الانفطار : ١٠ ـ ١٢.

(٢) الأنعام : ٦١.

٤٣٤

عظيمة يحملها الإنسان ، إذ ما من أحد إلاّ وهو مراقب ، تكتب عليه كلّ أعماله من المهد إلى اللحد ، فليس من شيء يضيع في هذه الدنيا أبداً. هذا إذا قلنا بأنّ المراد من حافظ هو حافظ الأعمال ، وأمّا إذا فسرت من يحفظ الإنسان من الحوادث والمهالك ، فالصلة بالنحو التالي :

وهو انّ للنفوس رقيباً يحفظها ويدبر شؤونها في جميع أطوار وجودها حتى ينتهي أجلها ، كما أنّ للسماء مدبراً لشؤونها بما تحتويه من أنظمة رائعة ومعقدة ، فالفضاء الكوني فسيح جداً تتحرك فيه كواكب لا حصر لها ، بسرعة خارقة ، بعضها يواصل رحلته وحده ، ومنها أزواج تسير مثنى مثنى ، ومنها ما يتحرك في شكل مجموعات ، والكواكب على كثرتها يواصل كلّ واحد منها سفره على بُعد عظيم يفصله عن الكواكب الأُخرى.

إنّ هذا الكون يتألف من مجموعات كثيرة من الكواكب والنجوم تسمّىٰ مجاميع النجوم ، وكلّها تتحرك دائماً وتدور في نظام رائع.

ومع هذا الدوران تجري حركة أُخرى وهي انّ هذا الكون يتسع من كلّ جوانبه ، كالبالون المتخذ من المطاط ، وجميع النجوم تبتعد في كلّ ثانية بسرعة فائقة عن مكانها ، هذه الحركة المدهشة تحدث طبقاً لنظام وقواعد محكمة بحيث لا يصطدم بعضها ببعض ولا يحدث اختلاف في سرعتها (١).

__________________

(١) الإسلام يتحدىٰ : ٥٨.

٤٣٥

الفصل الرابع عشر

القسم في سورة الفجر

حلف سبحانه في سورة الفجر بأُمور خمسة :

١. الفجر ، ٢. ليال عشر ، ٣. الشفع ، ٤. الوتر ، ٥. الليل إذا يسر

وقال : ( وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ) (١).

تفسير الآيات

اختلف المفسرون في تفسير هذه الأقسام إلىٰ أقوال كثيرة ، غير انّ تفسير القرآن بالقرآن يدفعنا إلى أن نفسره بما ورد في سائر الآيات.

أمّا الفجر : فهو في اللغة ، كما قال الراغب : شق الشيء شقاً ، قال سبحانه : ( وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا ) وقال : ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) ومنه قيل للصبح ، الفجر لكونه يفجر الليل ، وقد استعمل الفجر بصورة المصدر في فجر الليل ، قال : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) (٢) ، وقال سبحانه : ( حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (١) وقال سبحانه : ( سَلامٌ هِيَ حَتَّىٰ

__________________

(١) الفجر : ١ ـ ٥.

(٢) الإسراء : ٧٨.

٤٣٦

مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٢) ).

وعلى ضوء هذا فلو كان اللام للجنس ، فهو محمول على مطلق الفجر ، أعني : انفجار الصبح الصادق ، وإن كان مشيراً إلىٰ فجر ليل خاص فهو يتبع القرينة ، ولعلّ المراد فجر الليلة العاشرة من ذي الحجة الحرام.

( وَلَيَالٍ عَشْرٍ ) فقد اختلف المفسرون في تفسير الليالي العشر ، فذكروا احتمالات ليس لها دليل.

أ : الليالي العشر من أوّل ذي الحجة إلى عاشرها ، والتنكير للتفخيم.

ب : الليالي العشر من أوّل شهر محرم الحرام.

ج : العشر الأواخر من شهر رمضان وكلّ محتمل ، ولعل الأوّل أرجح.

وأمّا الشفع : فهو لغة ضمّ الشيء إلى مثله ، فلو قيل للزوج شفع ، لأجل انّه يضم إليه مثله ، والمراد منه هو الزوج بقرينة قوله والوتر ، وقد اختلفت كلمتهم فيما هو المراد من الشفع والوتر.

١. الشفع هو يوم النفر ، والوتر يوم عرفة وإنّما أقسم الله بهما لشرفهما.

٢. الشفع يومان بعد النحر ، والوتر هو اليوم الثالث.

٣. الوتر ما كان وتراً من الصلوات كالمغرب والشفع ما كان شفعاً منها.

إلى غير ذلك من الأقوال التي أنهاها الرازي إلى عشرين وجهاً ، ويحتمل أن يكون المراد من الوتر هو الله سبحانه ، والشفع سائر الموجودات.

( وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ) : أمّا الليل فمعلوم ، وأمّا قوله يسر ، فهو من سرىٰ يسري

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) القدر : ٥.

٤٣٧

فحذف الياء لأجل توحيد فواصل الآيات ، ويستعمل الفعل في السير في الليل ، كما في قوله سبحانه : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى ) (١) ، فالليل ظرف والساري غيره ، ولكن الآية نسبت الفعل إلى نفس الليل فكأنّ الليل موجود حقيقي له سير نحو الأمام فهو يسير إلى جانب النور ، فالله سبحانه حلف بالظلام المتحرك الذي سينجلي إلى نور النهار.

مضافاً إلى ما في الليل من عظائم البركات التي لا تقوم الحياة إلاّ بها.

هذا ما يرجع إلى مجموع الآية ونعود إلى الآيات بشكل آخر ، فنقول : امّا الفجر فقد حلف به سبحانه بصورة أُخرى أيضاً ، وقال : ( وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ) (٢) ، وقال تبارك وتعالى : ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) (٣) ، والمراد من الجميع واحد ، فإنّ إسفار الصبح في الآية الأُولى هو طلوع الفجر الصادق ، فكأنّ الصبح كان مستوراً بظلام الليل ، فهو رفع الستار وأظهر وجهه ، ولذلك استخدم كلمة أسفر يقال : أسفرت المرأة : إذا رفع حجابها.

ويعود سبب تعاقب الليل والنهار إلى دوران الأرض حول الشمس ، فبسبب كرويّتها لا تضيئ الشمس سائر جهاتها في آن واحد بل تضيئ نصفها فقط ويبقى النصف الآخر مظلماً حتى يحاذي الشمس بدوران الأرض فيأخذ حظه من الاستنارة ، وتتم الأرض هذه الدورة في أربعة وعشرين ساعة.

كما أنّ المراد من الآية الثانية أعني : ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) هو انتشار نوره ، فعبّر عنه بالتنفّس ، فكأنّه موجود حي يبث ما في نفسه إلى الخارج ، أمّا عظمة

__________________

(١) الإسراء : ١.

(٢) المدثر : ٣٤.

(٣) التكوير : ١٨.

٤٣٨

الفجر فواضحة ، لأنّ الحياة رهن النور ، وطلوع الفجر يثير بارقة الأمل في القلوب حيث تقوم كافة الكائنات الحية إلى العمل وطلب الرزق.

وأمّا الليالي العشر فهي عبارة عن الليالي التي تنزل فيها بركاته سبحانه إلى العباد ، سواء فسرت بالليالي العشر الأُولى من ذي الحجّة أو الليالي العشر من آخر شهر رمضان. فالليل من نعمه سبحانه حيث جعله سكناً ولباساً للإنسان وقال : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ) (١) كما جعله سكناً للكائنات الحية حيث ينفضون عن أنفسهم التعب والوصب ، قال سبحانه : ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ) (٢).

وأمّا الشفع والوتر ، فقد جاء مبهماً وليس في القرآن ما يفسر به فينطبق على كلّ شفع ووتر ، وبمعنى آخر يمكن أن يراد منه صحيفة الوجود من وتره كالله سبحانه وشفعه كسائر الموجودات.

وأمّا قوله : ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ) أقسم بالليل إذا يمضي ظلامه ، فلو دام الليل دون أن ينجلي لزالت الحياة ، يقول سبحانه : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ) (٣).

فتبين مما سبق منزلة المقسم به في هذه الآيات وانّها تتمتع بالكرامة والعظمة. وأمّا المقسم عليه فيحتمل وجهين :

أحدهما : انّه عبارة عن قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ ) (٤).

ثانيهما : انّ المقسم عليه محذوف يعلم من الآيات التي أعقبت هذه الاقسام ،

__________________

(١) النبأ : ١٠.

(٢) الأنعام : ٩٦.

(٣) القصص : ٧١.

(٤) الفجر : ١٤.

٤٣٩

قال سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ ) (١).

فالمفهوم من هذه الآيات انّه سبحانه حلف بهذه الأقسام بغية الإيعاد بأنّه يعذب الكافرين والطاغين والعصاة كما عذب قوم عاد وثمود ، فالإنسان العاقل يعتبر بما جرىٰ على الأُمم الغابرة من إهلاك وتدمير.

أمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فهو : انّ من كان ذا لبٍّ ، علم أنّ ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه دلائل على قدرته وحكمته ، فهو قادر علىٰ أن يكون بالمرصاد لأعمال عباده فلا يعزب عنه أحد ولا يفوته شيء من أعمالهم لأنّه يسمع ويرى جميع أقوالهم وأفعالهم خصوصاً بالنظر إلى ما أدَّب به قوم عاد وثمود مع ما كان لهم من القوة والمنعة.

__________________

(١) الفجر : ٦ ـ ١٤.

٤٤٠