مفاهيم القرآن - ج ٩

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٩

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: ٤٨٦

رق منشور وليس كالكتب المطوية ، ومع ذلك يحتمل أن يراد منه صحائف الأعمال ، وقد وصفه سبحانه بكونه منشوراً ، وقال : ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ) (١) كما يحتمل أن يراد منه اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه ما كان وما يكون وما هو كائن تقرأه ملائكة السماء.

وهناك احتمال رابع ، وهو انّ المراد هو التوراة ، وكانت تكتب بالرق وتنشر للقراءة ، ويؤيده اقترانه بالحلف بالطور.

وامّا البيت المعمور : فيحتمل أن يراد منه الكعبة المشرفة ، فانّها أوّل بيت وضع للناس ، ولم يزل معموراً منذ أن وضع إلى يومنا هذا ، قال تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) (٢).

ولعل وصفه بالعمارة لكونه معموراً بالحجاج الطائفين به والعاكفين حوله.

وقد فسر في الروايات ببيت في السماء إزاء الكعبة تزوره الملائكة ، فوصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به.

والسقف المرفوع : والمراد منه هو السماء ، قال سبحانه : ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ ) (٣).

وقال : ( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) (٤).

قال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ) (٥) ، ولعلّ المراد هو البحر المحيط بالأرض الذي سيلتهب قبل يوم

__________________

(١) الإسراء : ١٣.

(٢) آل عمران : ٩٦.

(٣) الرحمن : ٧.

(٤) الرعد : ٢.

(٥) الأنبياء : ٣٢.

٣٨١

القيامة ثمّ ينفجر ، قال سبحانه : ( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) (١) ، وقال تعالى : ( وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ) (٢).

ثمّ إنّ هذه الأقسام الثلاثة الأُولىٰ يجمعها شيء واحد وهو صلتها بالوحي وخصوصياته ، حيث إنّ الطور هو محل نزول الوحي ، والكتاب المسطور هو القرآن أو التوراة ، والبيت المعمور هو الكعبة أو البيت الذي يطوف به الملائكة الذين هم رسل الله.

وأمّا الاثنان الآخران ، أعني : السقف المرفوع والبحر المسجور ، فهما من الآيات الكونية ومن دلائل توحيده ووجوده وصفاته.

لكن الرازي ذهب إلىٰ أنّ الأقسام الثلاثة التي بينها صلة خاصة ، هي الطور والبيت المعمور والبحر المسجور ، وإنّما جمعها في الحلف بها لأنّها أماكن لثلاثة أنبياء ينفردون بها للخلوة بربهم والخلاص من الخلق والخطاب مع الله. أمّا الطور فانتقل إليه موسى ، والبيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والبحر المسجور يونس عليه‌السلام ، وكل خاطب الله هناك ، فقال موسىٰ : ( أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ) (٣) وقال أيضاً : ( أرني أنظر إليك ) ، واما نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : « السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك » ، وأمّا يونس فقال : ( لاَّ إِلَٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (٤) فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب وحلف الله تعالى بها.

__________________

(١) التكوير : ٦.

(٢) الانفطار : ٣.

(٣) الأعراف : ١٥٥.

(٤) الأنبياء : ٨٧.

٣٨٢

وأمّا ذكر الكتاب ، فانّ الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن مع الله تعالى كلام ، والكلام في الكتاب واقترانه بالطور أدلّ دليل على ذلك ، لأنّ موسى عليه‌السلام كان له مكتوب ينزل عليه وهو بطور.

وأمّا ذكر السقف المرفوع ومعه البيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ) (٢).

وأمّا وجه الصلة بين المقسم به علىٰ تعدّده والمقسم عليه ، هو انّ المقسم عليه عبارة عن وقوع العذاب لا محالة وعدم القدرة على دفعه ، فإذاً ناسب أن يقسم بالكتاب أي القرآن والتوراة اللّذين جاء فيهما أخبار القيامة وحتميتها.

كما ناسب أن يحلف بمظاهر القدرة وآيات العظمة كالسقف المرفوع والبحر المسجور حتى يعلم أنّ صاحب هذه القدرة لقادر على تحقيق هذا الخبر ، وهو عبارة عن أنّ عذابه لواقع وليس له دافع.

ويكفيك في بيان عظمة البحار أنّها تشغل حيّزاً كبيراً من سطح الأرض يبلغ نحو ثلاثة أرباعه ، وتختلف صفات الماء عن الأرض ، بسهولة تدفقه من جهة إلى أُخرىٰ ، حاملاً الدفء أو البرودة ، وله قوة انعكاس جيدة لشعاع الشمس ، ولذا فانّ درجة حرارة البحار لا ترتفع كثيراً أثناء النهار ، ولا تنخفض بسرعة أثناء الليل فلا تختلف درجة الحرارة أثناء الليل عن النهار بأكثر من درجتين فقط.

ويقول أحد العلماء : إنّ البحر يباري الزمان في دوامه ، ويطاول الخلود في

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢٨ / ٢٤٠.

(٢) الطور : ٧ ـ ٨.

٣٨٣

بقائه ، تمر آلاف الأعوام بل وعشرات الأُلوف والملايين ، وهو في يومه هو أمسه وغده ، تنقلب الجبال أودية ، والأودية جبالاً ، ويتحول التراب شجراً ، والشجر تراباً ، والبحر بحر لا يتحول ولا يتغير ، وقد دلت الأبحاث العلمية انّ أقصى أعماق البحار تعادل أقصى علو الجبال (١).

كما ناسب أن يحلف بالطور ، لأنّ بعض المجرمين كانوا يتصورون انّ الجبال الشاهقة ستدفع عنهم عذاب الله ، كما قال ابن نوح عليه‌السلام ( سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ ) قال : ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ) (٢). فحلف بالطور إيذاناً إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الجبال أقلّ من أن تدفع العذاب أو تحول بين الله ووقوع المعاد.

كما يمكن أن يكون الحلف بالطور لأجل كونه آية من آيات الله الدالة على قدرته التي لا تحول بينه وبين عذابه شيء.

__________________

(١) الله والعلم الحديث : ٧٥.

(٢) هود : ٤٣.

٣٨٤

الفصل الرابع

القسم في سورة القلم

حلف سبحانه بالقلم ومايسطرون معاً مرّة واحدة ، وقال : ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١).

وقبل تفسير الآيات نقدّم شيئاً وهو أنّ لفظة « ن » من الحروف المقطعة وقد تقدم تفسيرها.

وهناك وجوه أُخرى نذكرها تباعاً :

أ : « ن » هو السمكة التي جاء ذكرها في قصة يونس عليه‌السلام ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا ) (٢).

ب : انّ المراد به هو الدواة ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما الشوق يرجع بي اليهم

ألقت النون بالدمع السجوم

ج : انّ « ن » هو المداد الذي تكتب به الملائكة.

ولكن هذه الوجوه ضعيفة ، لأنّ الظاهر منها أنّها مقسم به ، وعندئذٍ يجب أن يجرّ لا أن يسكّن.

__________________

(١) القلم : ١ ـ ٤.

(٢) الأنبياء : ٨٧.

٣٨٥

يقول الزمخشري : وأمّا قولهم هو الدواة ، فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ؟ ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة ، من أن يكون جنساً أو علماً ، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوين ؟ وإن كان علماً فأين الاعراب ؟ وأيّهما كان فلابدّ له من موقع في تأليف الكلام (١).

وبذلك يعلم وجه تجريد « ن » عن اللاّم واقتران القلم بها.

تفسير الآيات

١. حلف سبحانه بالقلم ، وقال : ( وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) وهل المراد منه جنس القلم الذي يكتب به من في السماء ومن في الأرض ، قال تعالى : ( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (٢). فمنّ سبحانه وتعالى بتيسير الكتابة بالقلم ، كما منَّ بالنطق ، وقال : ( خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) (٣).

فالقلم والبيان نعمتان كبيرتان ، فبالبيان يخاطب الحاضرين ، كما أنّه بالقلم يخاطب الغائبين فتمكن بهما تعريف القريب والبعيد بما في قرارة ذهنه.

وربما قيل : إنّ المراد هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر : « إنّ أوّل ما خلق الله هو القلم » ولكنّه تفسير بعيد عن أذهان المخاطبين في صدر الإسلام الذين لم يكونوا عارفين بأوّل ما خلق الله ولا بآخره.

ثمّ إنّه سبحانه حلف ب‍ ( مَا يَسْطُرُونَ ) ، فلو كانت « ما » مصدرية يكون المراد « وسطرهم » فيكون القسم بنفس الكتابة ، كما يحتمل أن يكون المراد المسطور

__________________

(١) الكشاف : ٤ / ١٢٦ ، تفسير سورة القلم.

(٢) العلق : ٣ ـ ٥.

(٣) الرحمن : ٣ ـ ٤.

٣٨٦

والمكتوب ، وعلى ذلك حلف سبحانه بجنس القلم وبجنس الكتابة ، أو بجنس المكتوب ، كأنّه قيل : « أحلف بالقلم وسطرهم أو مسطوراتهم ».

ثمّ إنّ في الحلف بالقلم والكتابة والمكتوب إلماعاً إلىٰ مكانة القلم والكتابة في الإسلام ، كما أنّ في قوله سبحانه : ( عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) إشارة إلى ذلك ، والعجب أنّ القرآن الكريم نزل وسط مجتمع ساده التخلّف والجهل والأُميّة ، وكان من يجيد القراءة والكتابة في العصر الجاهلي لا يتجاوز عدد الأصابع ، وقد سرد البلاذري في كتابه « فتوح البلدان » أسماء سبعة عشر رجلاً في مكة ، وأحد عشر من يثرب (١).

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته : أنّ عهد قريش بالكتابة لم يكن بعيداً ، بل كان حديثاً وقريباً بعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢). ومع ذلك يعود القرآن ليؤكد بالحلف بالقلم على مكانة القلم والكتابة في الحضارة الإسلامية ، وجعل في ظل هذا التعليم أمة متحضرة احتلّت مكانتها بين الحضارات. وليس هذه الآية وحيد نسجها في الدعوة إلى القلم والكتابة بل ثمة آية أُخرى هي أكبر آية في الكتاب العزيز ، يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ ... ) (٣).

كما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حثّ علىٰ كتابة حديثه الذي هو المصدر الثاني بعد القرآن الكريم :

١. أخرج أبو داود في سننه ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كنت أكتب كلّ

__________________

(١) فتوح البلدان : ٤٥٧.

(٢) مقدمة ابن خلدون : ٤١٨.

(٣) البقرة : ٢٨٢.

٣٨٧

شيء أسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أريد حفظه فنهتني قريش ، وقالوا : أتكتب كلّ شيء تسمعه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا ؟ فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأومأ باصبعه إلى فيه ، وقال : « اكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّحقّاً » (١).

٢. أخرج الترمذي في سننه عن أبي هريرة ، قال : كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسمع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديث فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول الله إنّي أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « استعن بيمينك » وأومأ بيده للخط (٢).

٣. أخرج الخطيب البغدادي عن رافع بن خديج ، قال : مرّ علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً ، ونحن نتحدّث ، فقال : « ما تحدّثون ؟ ».

فقلنا : نتحدّث عنك يا رسول الله.

قال : « تحدّثوا ، وليتبوّأ من كذّب عليّ مقعداً من جهنم ».

ومضى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحاجته ، ونكس القوم رؤوسهم ... فقال : « ما شأنكم ؟ ألا تحدّثون ؟ ».

قالوا : الذي سمعنا منك ، يا رسول الله.

قال : « إنّي لم أرد ذلك ، إنّما أردت من تعمّد ذلك » قال : فتحدثنا.

قال : قلت : يا رسول الله : إنّا نسمع منك أشياء ، فنكتبها.

__________________

(١) سنن أبي داود : ٣ / ٣١٨ ، برقم ٣٦٤٦ ، باب في كتابة العلم مسند أحمد : ٢ / ١٦٢ سنن الدارمي : ١ / ١٢٥ ، باب من رخص في كتابة العلم.

(٢) سنن الترمذي : ٥ / ٣٩ ، برقم ٢٦٦٦.

٣٨٨

قال : « اكتبوا ولا حرج » (١).

وبعد هذه الأهمية البالغة التي أولاها الكتاب العزيز والنبي للكتابة ، أفهل من المعقول أن ينسب إليه انّه منع من كتابة الحديث ؟! مع أنّها أحاديث آحاد تضاد الكتاب العزيز والسنّة والسيرة المتواترة ونجلُّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الحيلولة دون كتابة السنّة.

هذا والكلام ذو شجون وقد أسهبنا البحث حوله في كتاب « الحديث النبوي بين الرواية والدراية » (٢).

هذا كلّه حول المقسم به.

وأمّا المقسم عليه : فقد جاء في قوله سبحانه : ( مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) والمراد من النعمة النبوّة والإيمان ، والباء للسببية أي لست أنت بسبب هذه النعمة بمجنون ، رداً علىٰ من جعل نبوّته ونزول القرآن عليه دليلاً علىٰ جنونه ، قال سبحانه : ( وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) (٣).

ويحتمل أن يكون المراد من النعمة كلّما تفضل عليه سبحانه من النعم وراء الإيمان والنبوّة كفصاحته وبلاغته وعقله الكامل وخلقه الممتاز ، فانّ هذه الصفات تنافي حصول الجنون.

واحتمل الرازي أن يكون جملة ( بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ) مقطوعة عمّا قبله وما بعده ، وانّ وزانها وزان بحمد الله في الجمل التالية :

__________________

(١) تقييد العلم : ٧٢ و ٧٣.

(٢) انظر صفحة ١٢ ـ ٣٢ من نفس الكتاب.

(٣) القلم : ٥١ ـ ٥٢.

٣٨٩

أنت ـ بحمد الله ـ عاقل.

أنت ـ بحمد الله ـ لست بمجنون.

أنت ـ بنعمة الله ـ فهيم.

أنت ـ بنعمة الله ـ لست بفقير.

وعلى هذا التقدير يكون معنى الآية « ما أنت ـ في ظل نعمة ربّك ـ بمجنون » (١).

وهناك احتمال ثالث وهو نفس هذا الاحتمال ، وجعل الباء حرف القسم ، وعلى ذلك يكون الحلف مقروناً بالدليل ، وهو : انّ من أنعم الله عليه بهذه النعم الإلهية كيف يتهمونه بالجنون ، مضافاً إلى أنّ لك في الآخرة لأجراً غير ممنون ، كما قال سبحانه : ( وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ) والممنون مشتق من مادة « منّ » بمعنى القطع أي الجزاء المتواصل إلى الأبد.

ثمّ إنّه سبحانه يستدل بدليل آخر علىٰ نزاهته من هذه التهمة ، وهي قوله سبحانه : ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) فمن كان على خلق يعترف به القريب والبعيد فكيف يكون مجنوناً ؟!

فقد تجسَّم في شخصية الرسول العطف والحنان إلى القريب والبعيد ، والصبر والاستقامة في طريق الهدف ، والعفو عن المتجاوز بعد التمكن والقدرة ، والتجافي عن الدنيا وغرورها ، إلىٰ غير ذلك من محاسن الأخلاق ، وبذلك ظهر انّ الحلف صار مقروناً بالدليل.

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فهو انّ القلم والكتابة آية العقل

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢٩ / ٧٩.

٣٩٠

والدراية ، فحلف به لغاية نفي الجنون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

يقول المراغي : أقسم ربّنا بالقلم وما يسطر به من الكتب : انّ محمّداً الذي أنعم الله عليه بنعمة النبوّة ليس بمجنون كما تدّعون ، وكيف يكون مجنوناً والكتب والأقلام أعدت لكتابة ما ينزل عليه من الوحي (١) ؟!

ونختم البحث بحديث رواه الشيخ يحيى البحراني عن النبيفي كتابه « الشهاب في الحكم والآداب » : قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ثلاثة تخرق الحجب وتنتهي إلى ما بين يدي الله :

١. صرير أقلام العلماء.

٢. وطء أقدام المجاهدين.

٣. صوت مغازل المحسنات » (٢).

__________________

(١) تفسير المراغي : ٢٩ / ٢٧.

(٢) الشهاب في الحكم والآداب : ٢٢.

٣٩١

الفصل الخامس

القسم في سورة الحاقة

حلف سبحانه بما يُبصر وبما لا يُبصر ، قال سبحانه : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) (١).

تفسير الآيات

قوله : ( ِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ ) يعم ما سوى الله لأنّه لا يخرج عن قسمين مبصر وغير مبصر ، فيشمل الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجن والنعم الظاهرة والباطنة ، كما يشمل الخالق والمخلوق ، فانّ الخالق داخل في قوله : وما لا تبصرون ، وعلى هذا الوجه فقد حلف سبحانه بعالم الوجود وصحيفته.

ولكن استبعده السيد الطباطبائي ، قائلاً : بأنّه من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق والمخلوق في صف واحد ويعظمه تعالى وما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد (٢).

ولكن يلاحظ عليه : بأنّه سبحانه ربّما جمع بين نفسه والرسول ، وقال : ( وَمَا

__________________

(١) الحاقة : ٣٨ ـ ٤٣.

(٢) الميزان : ١٩ / ٤٠٣.

٣٩٢

نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) (١) وقوله سبحانه : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ ) (٢) ، إلى غير ذلك من الآيات فلاحظ.

وأمّا المراد من قوله : « لا » فقد سبق كلام المفسرين في توجيهه ، وقد اخترنا انّ قوله : « لا » رد لكلام مسبوق أو مقدر ، ثمّ يبتدأ بقوله أقسم.

لقد أقسم سبحانه بشيء يخص البصر دون سائر الحواس ، وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ ) هو أقسم بما نبصر وما أقله ، وأقسم بما لا نبصر وما أكثره وأعظم خطره. أقسم الحقُّ سبحانه هذا القسم العظيم بما له علاقة بالبصر ولم يُقسم بغيره مما هو محسوس ، ذلك لأنّه رغم كونه يعطينا أوسع إحساس وأبعده وأسرعه بما يحيط بنا فانّه رغم ذلك لا يصلنا منه إلاّ أقل القليل.

هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه ، فهو قوله : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) ، فالمقسم عليه مركب من أُمور إيجابية أعني كونه : قول رسول كريم وانّه تنزيل من ربّ العالمين ، وسلبية وهو أنّ القرآن ليس بقول شاعر ولا كاهن.

إنّما الكلام في ما هو المراد من قوله : ( رَسُولٍ كَرِيمٍ ) ، وقد ذُكر هذا أيضاً في سورة التكوير ، قال سبحانه : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) (٣) ولا شكّ

__________________

(١) التوبة : ٧٤.

(٢) التوبة : ١٠٥.

(٣) التكوير : ١٩ ـ ٢٥.

٣٩٣

انّ المراد من رسول في سورة التكوير هو أمين الوحي جبرئيل ، بشهادة وصفه بقوله : ( ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ).

مضافاً إلى قوله : ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ ) فانّ الضمير يرجع إلى رسول كريم ، كما أنّ قوله : ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) معناه إنّما هو قول الملك ، فانّ الشيطان يقابل الملك.

وأمّا المقام فيحتمل أن يراد منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لأنّه وصفه بقوله : لَيْسَ بِقَولِ شاعِرٍ وَلا كاهن والقوم كانوا يصفون محمداً بالشعر والكهانة ولا يصفون جبرئيل بهما.

والغرض المتوخّىٰ من عزو القرآن إلىٰ رسول كريم هو نفي كونه كلام شاعر أو كاهن ، ولا ينافي ذلك أن يكون القرآن كلامه سبحانه ، وفي الوقت نفسه كلام أمين الوحي وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لصحّة الإضافة إلى الجميع ، فالقرآن كلامه سبحانه لأنّه فعله ، وهو الذي أنشأه ، وكلام جبرئيل ، لأنّه هو الذي أنزله من جانبه سبحانه علىٰ قلب سيد المرسلين ، وفي الوقت نفسه كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه أظهره وبيّنه للناس ، ويكفي في النسبة أدنى مناسبة.

وأمّا الصلة فقد بيّنها السيد الطباطبائي بالنحو التالي ، وقال :

وفي اختيار ما يبصرون وما لا يبصرون للأقسام به على حقّية القرآن ما لا يخفىٰ من المناسبة ، فانّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى ، ومصير الكل إليه ، وما يترتب عليه من بعث الرسل وإنزال الكتب ، والقرآن خير كتاب سماوي يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك وإلى طريق مستقيم (١).

__________________

(١) الميزان : ١٩ / ٤٠٣.

٣٩٤

وبتعبير آخر : انّه سبحانه تبارك وتعالى حلف بعالم الغيب والشهادة ـ أي بمجموع الخليقة والنظام السائد على الوجود الإمكاني ـ على وجود هدف مشترك لهذا النظام ، وهو صيرورة الإنسان في هذا الكوكب إنساناً كاملاً مظهراً لأسمائه وصفاته ، ولا يتم تحقيق ذلك الهدف إلاّ من خلال بعث الرسل وإنزال الكتب ، والقرآن كتاب سماوي أُنزل إلى الإنسان.

ثمّ إنّه سبحانه دعم حلفه بالبرهان على المقسم عليه ، فانّ المقسم عليه عبارة عن كون القرآن كلام رسول كريم أخذه من أمين الوحي ، وهو من الله سبحانه وليس من مبدعاته ومتقوّلاته وإلاّ لعمّه العذاب فوراً ، قال سبحانه : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (١).

فإذا حالف الرسول النجاح في الدعوة إلى رسالته والتفت حوله طوائف كثيرة فهو أوضح دليل على أنّه غير كاذب في دعوته وصادق في عزوها إلى الله وإلاّ لما أمهله الله سبحانه هذا المقدار من الزمان.

وثمة سؤال يثار ، وهو انّ هذه الآيات توعد المتنبئ الكاذب على الله سبحانه بالهلاك ، فلو كان هذا مفاد الآية لزم تصديق كلّ من ادّعى النبوّة ولم يشمله العذاب والهلاك ، إذ لو كان كاذباً لأخذه سبحانه باليمين ، وقطع منه الوتين ، فإذا لم يفعل ، فهذا دليل علىٰ صدق كلامه وفعاله مع أنّه أمر لا يمكن الالتزام به ؟

والجواب : انّ القرآن الكريم ليس بصدد بيان أنّ كلّ من تقوَّل على الله سوف يعمّه العذاب والهلاك ، وإنّما هو بصدد بيان بعض الفئات المتقوّلة التي تدعي صلتها بالله سبحانه خلال معجزة قاهرة خلابة للعقول ، فهذا النوع من التقوّل

__________________

(١) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧.

٣٩٥

يدخل تحت هذه القاعدة ، كما في ادّعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرسالة التي أرفقها بمعجزة أبهرت العقول وأدهشت الألباب ، فخضع له العرب والعجم في ظل هذه المعجزة ، فلو تقوّل ـ والعياذ بالله ـ يعمّه العذاب ، لأنّه من القبيح أن تقع المعجزة علىٰ يد الكاذب ، فسيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومضيه قدماً في الدعوة إلىٰ ربّه حتّى وافته المنية أوضح دليل على أنّه صادق في رسالته ، وانّ كلامه كلام ربّه ، وانّه ليس بكاهن ولا شاعر.

وأمّا قوله سبحانه : ( لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) ففيه وجوه أربعة :

١. أخذنا بيمينه كما يؤخذ المجرم بيده.

٢. أو سلبنا عنه القوة ، فانّ اليد اليمنىٰ شارة القوة.

٣. أو لقطعنا منه يده اليمنىٰ.

٤. أو لانتقمنا منه بقوة.

والآية بمنزلة قوله سبحانه : ( وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) (١).

__________________

(١) الإسراء : ٧٤ ـ ٧٥.

٣٩٦

الفصل السادس

القسم في سورة المدثر

حلف سبحانه في سورة المدثر بأُمور ثلاثة ، هي : القمر ، والليل عند إدباره ، والصبح عند ظهوره ، قال : ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ * كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإحدى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) (١).

تفسير الآيات

حلف سبحانه في هذه الآيات بأُمور ثلاثة ترتبط بعضها بالبعض ، ويأتي الثاني عقب الأوّل.

فأمّا القمر يتجلّىٰ في اللّيل ، ولولا الليل لما كان لضوئه ظهور ، لأنّه يختفي نوره في النهار لتأثير الشمس فإذا تجلّى القمر في الليل شيئاً فشيئاً فيأتي نهاية الليل ، الذي عبّر عنه سبحانه : ( إِذْ أَدْبَرَ ) وتكون النتيجة طلوع الفجر الذي عبر عنه سبحانه ( وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ) ، فكأنّه يقول سبحانه : احلف بتجلّي القمر في وسط السماء الذي يسير مع الليل شيئاً فشيئاً ، إلىٰ أن يدبر ويسفر الصبح ، هذا مفاد الآيات التي تضمّنت المقسم به.

ثمّ إنّ الكُبُر جمع الكبرىٰ ، وهي العظمىٰ أي إحدى العظائم ، وأمّا ما هو

__________________

(١) المدثر : ٣١ ـ ٣٧.

٣٩٧

المراد من العظائم ، فسيوافيك بيانه عن قريب.

ثمّ إنّه سبحانه حلف في هذه الآيات بأُمور ثلاثة :

١. القمر على وجه الإطلاق.

٢. الليل إذا أدبر ، أي الليل عند انتهائه.

٣. الصبح حينما يسفر ويتجلّىٰ.

وأمّا المقسم عليه فهو عبارة عن قوله : ( إِنَّهَا لإحدى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ).

والكلام في مرجع الضمير في قوله « إنّها » ، ففيه وجهان :

الأوّل : أنّ الضمير يرجع إلى « سقر » الواردة في الآيات المتقدمة ، أعني قوله تعالى : ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) (١).

أي انّ سقر هي إحدى الدواهي الكبرىٰ ، فهي نذيرة للبشر ومخوّفة لمن شاء منكم أن يتقدّم في طاعة الله أو يتأخر عنها بالمعصية ، ولفظة « سقر » من المؤنثات السماعية ، وقد جاء ذكرها في قصيدة ابن الحاجب التي جمع فيها المؤنثات السماعية في أحد وعشرين بيتاً ، وقال :

وكذاك في كبد وفي كرش وفي

سقر ومنها الحرب والنعلان (٢)

الثاني : أنّ الضمير يرجع إلى الآيات في قوله سبحانه : ( كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ). وعلى هذا فالآيات القرآنية لإحدى الدواهي وهي النذيرة لمن تقدم في مجال الطاعة أو تأخر لكن المتقدم ينتفع دون المتأخر.

__________________

(١) المدثر : ٢٧ ـ ٣٠.

(٢) روضات الجنات : ٥ / ١٨٦.

٣٩٨

هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّهَا لإحدى الْكُبَرِ ).

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فعلى التفسير الثاني من الوضوح بمكان ، حيث إنّ القمر في الليل الدامس يهدي السائرين ، كما أنّ الصبح وطروء النهار يبدّد الظلام ويظهر النور ، فناسب أن يحلف سبحانه بأسباب الهداية ، ومعادن النور ومظاهره ، بُغية إثبات أنّ القرآن لإحدى المعاجز الكبرى التي تهدي البشر إلى سبيل الرشاد.

وأمّا على التفسير الأوّل ، ورجوع الضمير إلى سقر فالمناسبة خفية ، إلاّ أن يقال بأنّ المقسم به أي القمر في وسط السماء وانجلاء الليل وطلوع الفجر من آياته الكبرىٰ كما أنّ سقراً أيضاً كذلك.

ولا يخفىٰ انّ القسم بالقمر جاء للتأكيد علىٰ عظمته ، فهو أقرب الأجرام السماوية للأرض وأقل حجماً منها ، يدور حول الأرض مرّة كلّ شهر ، وجاذبية القمر مع جاذبية الشمس هي سبب المد والجزر.

وتبلغ درجة حرارة جانب القمر المواجه للشمس ١٢٠ درجة مئوية ، أي أعلى من درجة غليان الماء ، ودرجة حرارة الجانب المظلم أقل من درجة تجمّد الماء بقدر يبلغ ١٥٠ درجة.

كما أنّ سطحه صحاري وقفار تتناهض فيها البراكين الخامدة ، وجباله ضخمة عظيمة يبلغ ارتفاعها ٤٢ ألف قدم بزيادة تقرب من ١٣ ألف قدم عن أعلى جبل على الأرض ، وفوهات البراكين هائلة العظمة يبلغ قطر أكبرها ١٠٠ ميل ، وجباله أقدم بكثير من سلاسل الجبال الأرضية بملايين السنين (١).

__________________

(١) الله والعلم الحديث : ٢٧.

٣٩٩

الفصل السابع

القسم في سورة القيامة

حلف سبحانه في سورة القيامة بأمرين : ١. يوم القيامة ، ٢. النفس اللوامة ، وقال : ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ) (١).

تفسير الآيات

اختلف المفسرون في كلمة « لا » على أقوال (٢) :

الأوّل : انّ لا أقسم كلمة قسم وانّ العرب تزيد كلمة لا في القسم ، كما قال امرؤ القيس :

لا وأبيك ابنة العامري

لا يدعي قوم انّي أفر

الثاني : انّ لا نافية ، رد لكلام قد تقدّم ، وجواب لهم ، وذلك هو المعروف في كلام الناس في محاوراتهم ، فإذا قال أحدهم : لا ، والله ما فعلت كذا ، قصد بقوله : « لا » ردّ الكلام السابق ، فهم لما أنكروا البعث ، قيل لهم ليس الأمر على ما ذكرتم ، ثمّ أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة إنّ البعث حقّ.

__________________

(١) القيامة : ١ ـ ٦.

(٢) مرّ الكلام فيه أيضاً لاحظ ص : ٨١.

٤٠٠