مفاهيم القرآن - ج ٩

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٩

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: ٤٨٦

جيلاً بعد جيل وسائر الحوادث العرضية المقارنة له.

وفي قوله : ( إِنَّا لَقَادِرُونَ ) التفات (١) من الغيبة إلى التكلم مع الغير ، والوجه فيه الإشارة إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة ، وفي ذكر ربوبيته للمشارق والمغارب إشارة إلى تعليل القدرة ، وهو أنّ الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكوّنها لا يعجزه شيء من الحوادث التي هي أفعاله ، عن شيء منها ، ولا يمنعه شيء من خلقه من أن يبدله بخير منه ، وإلاّ شاركه المانع في أمر التدبير ، والله سبحانه لا شريك له في أمر التدبير (٢).

وأمّا الآية الثالثة : فلما ذكر سبحانه الوعد والوعيد والبعث والنشور أردفه بقول منكر البعث ورد عليهم بأوضح بيان وأجلى برهان ، وقال : (أَوَلَا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ) (٣) والمراد أو لا يذكر أنّ النشأة الأُولى دليل على إمكان النشأة الثانية ، ثمّ أكده بقوله : « فوربك » يا محمد « لنحشرنّهم والشياطين » أي لنجمعنهم ولنبعثنهم من قبورهم مقرنين بأوليائهم من الشياطين.

وأمّا الآية الرابعة : فسياق الآية يندد بالمقتسمين ، ويقول : ( كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ ) (٤) ثمّ يصفهم بقوله : ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) (٥) والعضين

__________________

(١) الالتفات في علم البيان عبارة عن الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم كما في قوله سبحانه : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) وقوله سبحانه : ( حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ) وقوله سبحانه : ( وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ ) ففي الآية الأُولى عدول من الغيبة إلى الخطاب ، وفي الثانية من الخطاب إلى الغيبة ، وفي الثالثة من الغيبة إلى التكلم.

(٢) الميزان : ٢٠ / ٢٢.

(٣) مريم : ٦٧.

(٤) الحجر : ٩١.

(٥) الحجر : ٩٠.

٣٢١

جمع عضّة والتعضية التفريق ، فهم الذين جزّأوا القرآن أجزاء فقالوا تارة : سحر ، وأُخرى : أساطير الأوّلين ، وثالثة : مفترى ، وبذلك صدّوا الناس عن الدخول في دين الله ، وعلى ذلك يكون المراد من المقتسمين هم كفار قريش.

ويحتمل أن يكون المراد هم اليهود والنصارى الذين فرّقوا القرآن أجزاء وأبعاضاً ، وقالوا : نؤمن ببعض ونكفر ببعض.

وعلىٰ أيّة حال الذين كانوا بصدد إطفاء نور القرآن بتبعيضه أبعاض ليصدوا عن سبيل الله فهؤلاء هم المقصودون ، ثمّ حلف سبحانه وقال : ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) من تبعيض القرآن وصد الناس عن الإيمان به.

وأمّا الآية الخامسة : فتذكر إنكار المشركين لإتيان الساعة ويوم القيامة ، وهم ينكرونه مع ظهور عموم ملكه سبحانه وعلمه بكلّ شيء.

وقد كان سبب إنكارهم هو زعمهم أنّ الإنسان يبلىٰ جسده بعد الموت وتختلط أجزاؤه بأجزاء أبدان أُخرى على نحو لا تتميز ، فكيف يمكن إعادته ؟ فأجاب سبحانه في الآية مشيراً إلى علمه الواسع ، ويقول : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (١).

فقوله : ( لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ) حكاية لقول المشركين.

وقوله : ( قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي ) أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يجيبهم بأنّ إتيان الساعة أمر قطعي.

__________________

(١) سبأ : ٣.

٣٢٢

وأمّا ما تشكّكون به من اختلاط أجزاء الأموات بعضها ببعض فهو أمر سهل أمام سعة علمه سبحانه بالغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، فهو يعلم بذرات بدن كلّ إنسان ويميّزه عن غيره ، ومع علمه سبحانه فالأجزاء ثابتة في كتاب مبين لا تتغير ولا تتبدل.

وأمّا الآية السادسة : يقول سبحانه : ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) (١).

تشير الآية إلى إنكار الوثنيين الذين كانوا ينكرون البعث ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإجابة على إنكارهم بإثبات ما نفوه من الكلام مقروناً بأصناف التأكيد بالقسم واللام والنون وقال : ( وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ ).

وأشار في ذيل الآية إلى أنّ البعث أمر يسير عليه تعالىٰ ، وانّ ما طرحوه من شبهات حول البعث فهي ـ في الواقع ـ شبهات لا تصمد أمام قدرة الله وعلمه الواسع.

وأمّا الآية السابعة : أعني قوله سبحانه : ( وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ) (٢).

سياق الآية يوحي إلى أنّ المشركين كانوا يستخبرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن نزول العذاب أو وقوع البعث ، فأمره سبحانه بأن يجيب مؤكداً ، فقال : ( قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ) وقد أكد الكلام بالقسم والجملة الاسمية ، و « انّ » المشبهة و « اللام ، » ثم أشار إلى أنّ الكافرين لا يعجزونه سبحانه عمّا أراد ، وقال : ( وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ) ، وفي سورة المعارج قال مكانه : ( وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ).

__________________

(١) التغابن : ٧.

(٢) يونس : ٥٣.

٣٢٣

وأمّا الآية الثامنة : ( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) (١).

فالضمير في قوله : « إنّه » يعود إلى الرزق والوعد الواردين في الآية المتقدّمة ، قال سبحانه : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) والمراد من الوعد هو الجنة.

ثمّ أشار ( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) وكما أنّ العلم بهذا الأمر ـ أي النطق ـ أمر ملموس لا شبهة فيه ، فهكذا الرزق والوعد من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.

حكى الزمخشري عن الأصمعي قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له ، فقال : ممن الرجل ؟ قلت : من بني أصمع ، قال : من أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، فقال : اتل عليّ فتلوت « والذاريات » فلمّا بلغت قوله : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ) قال : « حسبك » ، فقام إلى ناقته ، فنحرها ووزّعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولّىٰ ، فلما حججت مع الرشيد ، طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفرّ فسلّم عليَّ واستقرأ السورة ، فلمّا بلغت الآية ، صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقّاً ، ثمّ قال : وهل غير هذا ؟ فقرأت : ( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) فصاح ، وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجؤه إلى اليمين ، قالها ثلاثاً ، وخرجت معها نفسه (٢).

إلى هنا تمّ تفسير الآيات التي أقسم فيها سبحانه بربوبيّته ، وإليك الكلام في المقسم به ، والمقسم عليه.

__________________

(١) الذاريات : ٢٣.

(٢) الكشاف : ٣ / ١٦٩.

٣٢٤

المقسم به

إنّ المقسم به في هذه الآيات الثمان هو الرب ، والربّ أصله من ربب ، يقول صاحب القاموس : ربّ كلّ شيء مالكه ومستحقه وصاحبه ، يقال : ربّ الأمر أصلحه.

يقول ابن فارس : الرب ، المالك ، الخالق ، الصاحب ، والرب المصلح للشيء ، يقال : ربّ فلان ضيعته ، إذا قام على إصلاحها.

والربّ المصلح للشيء ، والله جلّ ثناؤه ، الرب لأنّه مصلح أحوال خلقه ، والراب الذي يقوم على أمر الربيب.

هذه الكلمات ونظائرها مبثوثة في كتب القواميس واللغة ، وهي ظاهرة في أنّ للرب معاني مختلفة ، حتى أنّ الكاتب المودودي تصوّر أنّ لهذه اللفظة خمسة معان ، وذكر لكلّ معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن ، ولكن الحقّ أنّه ليس لتلك اللفظة إلاّ معنى واحد والجميع مصاديق متعددة لهذا المعنى أو صور مبسطة للمعنى الواحد ، وإليك هذه الموارد والمصاديق :

١. التربية : مثل رب الولد ، رباه.

٢. الإصلاح والرعاية : مثل رب الضيعة.

٣. الحكومة والسياسة : مثل فلان قد ربّ قومه ، أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.

٤. المالك : كما جاء في الخبر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرب غنم أم رب إبل.

٥. الصاحب : مثل قوله : رب الدار ، أو كما يقول القرآن الكريم : ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ ) (١).

__________________

(١) قريش : ٣.

٣٢٥

لا ريب انّ هذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد ، ولكن جميعها ترجع إلى أصل واحد وهو من فوض إليه أمر الشيء المربوب ، فلو قيل لصاحب الدار ومالكها ربّ الدار ، فلأنّ أمرها مفوض إليه ، ولو أطلق على المصلح والسائس ، فلأنّ بيد هؤلاء أمر التدبير والإدارة والتصرف ، فلو قال يوسف في حقّ عزيز مصر : ( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ) (١) ، فلأجل انّ يوسف نشأ في إحضانه وقام بشؤونه.

ولو وصف القرآن اليهود والنصارىٰ بأنّهم اتخذوا أحبارهم أرباباً ، وقال : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ) (٢) ، فلأجل انّهم تسلّموا زمام سلطة التشريع وتصرّفوا في الأموال والأعراض كيفما شاءُوا.

إنّه سبحان وصف نفسه ، بقوله : ( رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (٣) وقال أيضاً : ( رَبُّ الشِّعْرَىٰ ) (٤) كلّ ذلك لانّه تعالىٰ مدبرها ومديرها ومصلح شؤونها والقائم عليها.

وهذا البيان يكشف النقاب عن المعنى الحقيقي للرب ، وهو المعنى الجامع بين هذه الموارد. أعني : من فوِّض إليه أمر الشيء من حيث الخلق والتدبير والتربية ، وبذلك يعلم ما في كلام ابن فارس من تفسيره بالخالق ، فانّه خلط بين المعنى ولازمه فالخالق ليس من معاني الرب.

نعم خالق كلّ شيء يعدّ مربياً ومدبراً.

وثمة نكتة جديرة بالاهتمام ، وهي : أنّ الوهابيين قسَّموا التوحيد إلى التوحيد

__________________

(١) يوسف : ٢٣.

(٢) التوبة : ٣١.

(٣) الرعد : ١٦.

(٤) النجم : ٤٩.

٣٢٦

في الربوبية والتوحيد في الالوهية ، وفسَّروا الأوّل بالتوحيد في الخالقية ، بمعنى الاعتقاد بأنّ للكون خالقاً واحداً ؛ وفسروا الثاني بالتوحيد في العبادة ، بمعنى أنّه ليس في الكون إلاّ معبود واحد ولكنّهم اخطأوا في كلا الاصطلاحين.

أمّا الأوّل : فلأنّ التوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية ، فانّ الخالقية شيء والتدبير والإصلاح شيء آخر ، والله سبحانه وإن كان خالقاً ومدبراً لكنّه لا يكون دليلاً على وحدة المفهومين في الخارج.

فالعرب في عصر الجاهلية كانوا موحدين في الخالقية ، وكان منطق الجميع ، ما حكاه سبحانه بقوله : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) (١).

وفي الوقت نفسه لم يكونوا موحدين في الربوبية ، يقول سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) (٢) فكانوا يعتقدون بأنّ العزّة والتدبير من شؤون المدبر ، قال سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ) (٣). فكانوا يرون أنّ النصر بيد الإلهة ، خلافاً للموحد في أمر التدبير ، فهو يرى أنّ العزّة والنصر بيد الله سبحانه : قال تعالى : ( فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) (٤) وقال تعالى : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) (٥) إلى غير ذلك من الآيات الحاكية عن توغّلهم في الشرك في أمر التدبير.

__________________

(١) الزخرف : ٩.

(٢) مريم : ٨١.

(٣) يس : ٧٤.

(٤) فاطر : ١٠.

(٥) آل عمران : ١٢٦.

٣٢٧

وأمّا الثاني : فلأنّ التوحيد في الالوهية غير العبادة ، فهو مبني علىٰ أنّ الإله بمعنى المعبود ، والعبادة من لوازم الإله.

ولكنّه بعيد عن الصواب ، لأنّ ما يتبادر من لفظ الجلالة هو المتبادر من لفظ الإله ، غير أنّ الأوّل جزئي موضوع لفرد واحد ، والثاني كلي وإن لم يوجد له مصداق آخر.

والذي يدل على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود هو أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله على وجه الكلية والوصفيّة دون العلمية ، فيصحّ وضع أحدهما مكان الآخر ، كما في قوله سبحانه : ( وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) (١).

فإنّ وزان هذه الآية وزان ، قوله سبحانه :

( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَٰهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) (٢).

( وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) (٣).

( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (٤).

ولا يخفى أنّ لفظ الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف الإله

__________________

(١) الأنعام : ٣.

(٢) الزخرف : ٨٤.

(٣) النساء : ١٧١.

(٤) الحشر : ٢٣ ـ ٢٤.

٣٢٨

علىٰ وجه الكلية ( أي ما معناه أنّه هو الإله الذي يتصف بكذا وكذا ).

ويقرب من الآية الأُولىٰ ، قوله سبحانه :

( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) (١).

فإنّ جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء ، والأمر بدعوة أيٍّ منها ، ربما يشعر بخلوّه عن معنى العلمية ، وتضمنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ : « الإله » وغيره ، ومثله قوله سبحانه :

( هُوَ اللهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) (٢).

فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلية لا العلمية الجزئية ، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.

المقسم عليه

إنّ المقسم عليه عبارة عن جواب القسم ، وهو في تلك الآيات كالتالي :

أ : الدعوة إلى تحكيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتسليم أمام قضائه. ( لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ ... ).

ب : التأكيد على قدرته سبحانه علىٰ أن يأتي بخير منهم : ( إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا ... ).

ج : التأكيد على حشرهم وحشر الشياطين : ( لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ).

د : التأكيد على أنّهم مسؤولون يوم القيامة عن أعمالهم ( لَنَسْأَلَنَّهُمْ

__________________

(١) الإسراء : ١١٠.

(٢) الحشر : ٢٤.

٣٢٩

أَجْمَعِينَ ... ).

ه‍ : التأكيد علىٰ إتيان الساعة : ( لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ... ).

و : التأكيد على بعثهم وآبائهم : ( لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ ... ).

ز : التأكيد على وقوع البعث : ( إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ... ).

ح : التأكيد على أنّ أمر الرزق وما توعدون من الجزاء حقّ : ( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ... ).

الصلة بين المقسم به والمقسم عليه

الصلة بينهما واضحة ، فانّ المقسم عليه في هذه الآيات ، كان يدور حول أحد أمرين :

أ : الدعوة إلى التحكيم إلى النبي والتسليم أمام قضائه.

ب : كون البعث والحشر والسؤال عن الأعمال ، أمراً حقّاً.

ومن الواضح أنّ كلا الأمرين من شؤون الربوبية ، فإنّ الربّ إذا كان سائساً ومدبراً فهو أعلم بصلاح المدبر فيجب أن يكون مسلماً لأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونهيه.

كما أنّ حياة المربوب من شؤون الرب دون فرق بين آجله وعاجله ، فناسب الحلف بالرب عند الدعوة إلى الحشر والنشر.

وبعبارة أُخرىٰ : كان المشركون ينكرون التسليم أمام أمره ونهيه ، كما كانوا ينكرون البعث والنشر ، ولما كان الجميع من شؤون الربوبية حلف بالرب تأكيداً لربوبيته.

* * *

٣٣٠

ثمّ إنّ المقسم به فيما مضى من الآيات هو لفظ الجلالة أو لفظ الرب ، المشيرين إلى الواجب الجامع لجميع صفات الكمال والجمال.

وثمة آيات ربما يستظهر منها أنّ المقسم به هو سبحانه تبارك وتعالى لكن بلفظ مبهم ك‍ « ما » الموصولة ، وقد جاء في آيات أربع :

١. ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ).

٢. ( وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ).

٣. ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) (١).

٤. ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَىٰ ) (٢).

وقد اختلفت كلمة المفسرين في تفسير لفظة « ما » ، فالأكثرون على أنّها « ما » موصولة كناية عن الله سبحانه ، وكأنّه سبحانه يقول : والسماء والذي بناها ، والأرض والذي طحاها ، ونفس والذي سواها ، والواو للقسم.

وهناك من يذهب إلى أنّها « ما » مصدرية ، وكأنّه يقول : أُقسم بالسماء وبنائها ، والأرض وطحائها ، والنفس وتسويتها.

ولكن الرأي الأوّل هو الأقرب لأنّ سياق الآية يؤيد ذلك ، لأنّه سبحانه يقول : ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (٣) فالفاعل هو الضمير المستتر الراجع إلى « ما » الموصولة الواردة في الآيات الثلاث المتقدمة. والذي يصلح للفاعلية هو الموصول من « ما » لا المصدر ، وسيوافيك تفصيل ذلك عند البحث عن الحلف بما ورد في هذه الآيات.

__________________

(١) الشمس : ٥ ـ ٧.

(٢) الليل : ٣.

(٣) الشمس : ٨.

٣٣١

الفصل الثالث

القسم بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

حلف القرآن الكريم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرَّتين ، فتارة بعمره وحياته ، وأُخرى بوصفه وكونه شاهداً ، ويقع البحث في مقامين :

المقام الأوّل : الحلف بعمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

حلف سبحانه بحياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة واحدة ، وقال حينما عرض قصة لوط : ( قَالَ هَٰؤُلاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) (١).

تفسير الآيات

أخبر سبحانه في هذه السورة أنّ الملائكة لمّا خرجوا من عند إبراهيم أتوا لوطاً يبشرونه بهلاك قومه ، ولمّا حلّوا ضيوفاً عند لوط فرح الفجّار بورودهم ، فقال لهم لوط مشيراً إلى بناته ( هَٰؤُلاءِ بَنَاتِي ) « فتزوجوهنّ إن كنتم فاعلين وكانت لكم رغبة في التزويج ، ولكن قوم لوط أعرضوا عمّا اقترح عليهم نبيّهم لوط وكانوا مصرّين على الفجور بهم ، غافلين عن أنّ العذاب سيصيبهم والله سبحانه يحلف بحياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقول : ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) فلا يبصرون طريق

__________________

(١) الحجر : ٧١ ـ ٧٣.

٣٣٢

الرشد ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ) أي الصوت الهائل ( مُشْرِقِينَ ) أي في حال شروق الشمس.

المقسم به

المقسم به هو عبارة عن العمر ، أعني في قوله : « لعمرك » يقول الراغب : العَمر والعُمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة ، فإذا قيل طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه ، إلى أن قال : والعَمر والعُمر واحد لكن خصَّ القسم بالعَمر دون العُمر ، كقوله سبحانه : ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ).

وأما العُمُر فكما في قوله سبحانه : ( طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) ، وفي آية أُخرى : ( لَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ).

فاللفظان بمعنىٰ واحد لكن يختص القسم بواحد منهما (١).

المقسم عليه

هو قوله : ( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، والمراد أقسم بحياتك وبقائك يا محمد ، انّهم لفي سكرتهم وانغمارهم في الفحشاء والمنكر متحيرين لا يبصرون طريق الرشد.

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه.

قال ابن عباس : ما خلق الله عزّوجلّ وما ذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من محمد ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلاّ بحياته فقال لعمرك (٢).

__________________

(١) المفردات : ٣٤٧ ، مادة عمَر.

(٢) مجمع البيان : ٣ / ٣٤٢.

٣٣٣

وجه الصلة أنّه سبحانه بعث الأنبياء عامة ، والنبي الخاتم خاصة لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة وإيقاظهم من السكرة التي تعمُّ الناس ، وبما أنّ القوم كانوا في سكرتهم يعمهون وفي ضلالتهم مستمرون ، حلف سبحانه تبارك وتعالى بعمر النبي الذي هو مصباح الهداية والدليل إلى الصراط المستقيم.

المقام الثاني : الحلف بوصف النبي وأنّه شاهد

حلف القرآن الكريم في سورة البروج بالشاهد والمشهود ، وقال : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ المَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ) (١).

أمّا المشهود فسيوافيك في فصل القسم في سورة القيامة انّ المراد منه يوم القيامة بشهادة ، قوله سبحانه : ( ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) (٢) إنّما الكلام في الشاهد ، فالمراد منه هو النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة أنّه سبحانه وصفه بهذا الوصف ثلاث مرّات ، وقال :

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) (٣).

( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ ) (٤).

( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) (٥).

والآيات صريحة في حقّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي بعض الآيات عرّفه بأنّه ( شَهِيدًا ) ، ويقول : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ

__________________

(١) البروج : ١ ـ ٤.

(٢) هود : ١٠٣.

(٣) الأحزاب : ٤٥.

(٤) المزمل : ١٥.

(٥) الفتح : ٨.

٣٣٤

عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (١).

( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلاءِ ) (٢).

هذه الآيات تعرب عن أنّ المقسم به هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما انّه شاهد علىٰ أعمال أُمّته وشهيداً عليها.

سئل الحسن بن علي عليهما‌السلام عن معنى الشاهد والمشهود في قوله سبحانه : ( وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ) ؟ فقال : أمّا الشاهد فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا المشهود فيوم القيامة ، أما سمعته يقول : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) ، وقال تعالى : ( ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) (٣).

معنى الشهادة وكيفية شهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أمّا الشهادة فقد فسرها الراغب وقال : الشهود والشهادة ، الحضور مع المشاهدة امّا بالبصر أو بالبصيرة ، وقد يقال للحضور مفرداً عالم « الغيب والشهادة » وقد نقل القرآن شهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قومه يوم القيامة ، فقال : ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) (٤).

هذه حقيقة قرآنية في حقّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره ولا يمكن إنكارها للتصريح بها في غير واحد من الآيات ، قال تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

(٢) النحل : ٨٩.

(٣) البحار : ١ / ١٣.

(٤) الفرقان : ٣٠.

٣٣٥

عَلَىٰ هَٰؤُلاءِ شَهِيدًا ) (١). وقال تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (٢).

وقال عزّ اسمه : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) (٣).

والشهادة فيها مطلقة ، وظاهر الجميع ـ علىٰ إطلاقها ـ هو الشهادة على اعمال الأُمم ، وعلى تبليغ الرسل كما يومئ إليه ، قوله تعالى : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ ) (٤).

وظرف الشهادة وإن كان هو الآخرة لكن الشهداء يتحملوها في الدنيا. قال سبحانه : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (٥).

وعلى ضوء ذلك يثار هذا السؤال في الذهن ، وهو :

إنّ الشهادة من الحضور ولم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهراً مع جميع الأُمة بل كان بمعزل عنهم إلاّ شيئاً لا يذكر ، فكيف يشهد وهو لم يحضر الواقعة أي أفعال أُمّته قاطبة ؟

وهناك إشكال آخر أكثر غموضاً وهو : انّ الشهادة على ظاهر الأعمال ليست مفيدة يوم القيامة ، بل الشهادة على باطن الأعمال من كون الصلاة لله أو للرياء وللسمعة ، وانّ إيمانه هل كان إيماناً نابعاً من صميم ذاته ، أو نفاقاً لأجل

__________________

(١) النساء : ٤١.

(٢) النحل : ٨٤.

(٣) الزمر : ٦٩.

(٤) الأعراف : ٦.

(٥) المائدة : ١١٧.

٣٣٦

حطام الدنيا ، فهذا النوع من الأعمال لا يمكن الشهادة عليها حتى بنفس الحضور عند المشهود عليه ؟

وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ لشهداء الأعمال عامة والنبي الخاتم خاصة قدرة غيبية خارقة يطّلع من خلالها على أعمال العباد ظاهرها وباطنها وذلك بقدرة من الله سبحانه ، وعلىٰ ذلك فهذه الشهادة عبارة عن الاطلاع على أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء ، وانقياد وتمرّد ، وإيمان وكفر ، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد الله من كلّ شيء حتى من أعضاء الإنسان ، وعند ذلك يقوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ).

فإذا كانت الشهادة بهذا المعنى فلا ينالها إلاّ الأمثل فالأمثل من الأُمّة ، لا الأُمة بأسرها ، وعلى ضوء ذلك فيكون المراد من قوله سبحانه : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (١) هم الكاملين من الأُمّة لا المتوسطين وما دونهم.

وأمّا نسبة الشهادة إلى قاطبة أُمّة النبي ، في قوله تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) فليس بشيء بديع ، إذ ربّما يكون الوصف لبعض الأُمّة وينسب الحكم إلى جميعهم ، كما في قوله سبحانه في حقّ بني إسرائيل : ( وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) على الرغم من أنّ الملوك فيهم لم يكن يتجاوز عددهم عدد الأصابع.

وثمة حديث منقول عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : ( لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) يؤيد هذا المعنى « الشهادة للأمثل » : « فإن ظننت أنّ الله عني بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين ، أفترى انّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ،

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

٣٣٧

ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية ؟ كلا : لم يعن الله مثل هذا من خلقه ، يعني الأُمّة التي وجبت لها دعوة إبراهيم ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) وهم الأُمّة الوسطىٰ ، وهم خير أُمّة أُخرجت للنّاس » (١).

الحلف بالنبي كناية

ربّما يحلف القرآن الكريم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كناية ، قال سبحانه : ( لا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) (٢).

والحِلُّ بمعنى المقيم وكأنّه سبحانه يقول : وأنت يا محمد مقيم به ، وهو محلك وهذا تنبيه على شرف البلد بشرف من حلّ به وهو الرسول الداعي إلى توحيده ، وإخلاص عبادته ، وبيان أنّ تعظيمه له وقسمه به لأجله ولكونه حالاً فيه ، كما سميت المدينة طيبة لأنّها طابت به حيّاً وميتاً (٣).

وكأنّ الآية تشير إلى المثل المعروف شرف المكان بالمكين ، وانّ قداسة مكة والداعي إلى الحلف بها هو احتضانها للنبي يقول العلاّمة الطباطبائي : والحل مصدر كالحلول بمعنى الإفاضة والاستقرار في مكان ، والمصدر بمعنى الفاعل ، والمعنى : أقسم بهذا البلد ، والحال انّك حال به مقيم فيه ، وفي ذلك تنبيه علىٰ تشرّف مكة بحلوله فيها وكونها مولده ومقامه (٤).

__________________

(١) الميزان : ١ / ٣٣٢.

(٢) البلد : ١ ـ ٤.

(٣) مجمع البيان : ١٠ / ٤٩٢.

(٤) الميزان : ٢٠ / ٢٨٩.

٣٣٨

الفصل الرابع

القسم بالقرآن الكريم

القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الذي أنزله سبحانه علىٰ رسوله ليكون للعالمين نذيراً ، وبما أنّ القرآن كتاب هداية للناس ، فقد نال من الكرامة بمكان حلف به سبحانه فتارة بلفظ « القرآن » وأُخرىٰ بلفظ « الكتاب ».

فقد حلف بالقرآن في ثلاث آيات :

( يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ * عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (١).

( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) (٢).

( ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) (٣).

__________________

(١) يس ١ ـ ٤.

(٢) ص : ١ ـ ٥.

(٣) ق : ١ ـ ٢.

٣٣٩

كما حلف سبحانه بلفظ الكتاب مرّتين ، وقال :

( حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (١).

( حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٢).

وقبل الخوض في تفسير الآيات نذكر أُموراً :

الأوّل : انّه سبحانه صدّر هذه الأقسام بالحروف المقطعة كما هو واضح ، وهذا يؤيد أنّ كلمة يٰس من الحروف المقطعة ، والحروف المقطعة عبارة عن الحروف التي صدّر بها قسم من السور يجمعها قولنا : « صراط علي حق نمسكه » وعند التحليل يرجع إلى :

ا ، ح ، ر ، س ، ص ، ط ، ع ، ق ، ك ، ل ، م ، ن ، ه‍ ، ي.

والعجب أنّ هذه الحروف هي نصف الحروف الهجائية.

الثاني : ما هو المراد من الحروف المقطعة ؟

افتتح القرآن الكريم قسماً من السور بحروف مقطعة أعني السور التالية :

١. البقرة ، ٢. آل عمران ، ٣. الأعراف ، ٤. يونس ، ٥. هود ، ٦. يوسف ، ٧. الرعد ، ٨. إبراهيم ، ٩. الحجر ، ١٠. مريم ، ١١. طه ، ١٢. الشعراء ، ١٣. النمل ، ١٤. القصص ، ١٥. العنكبوت ، ١٦. الروم ، ١٧.لقمان ،

__________________

(١) الدخان : ١ ـ ٥.

(٢) الزخرف : ١ ـ ٤.

٣٤٠