مفاهيم القرآن - ج ٩

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٩

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: ٤٨٦

سورة البقرة

١١

التمثيل الحادي عشر

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (١).

تفسير الآية

« الربا » الزيادة كما في قولهم ربا الشيء يربو إذا زاد ، والربا هو الزيادة علىٰ رأس المال ، فلو أقرض أحد أحداً عشرة إلى سنة فأخذ منه في نهاية الأجل أكثر ممّا دفع فهو ربا إذا شرطه في العقد.

و « التخبّط » والخبط بمعنى واحد ، وهو المشي على غير استواء ، يقال : خبط البصير إذا اختلّت جهة مشيه ، ويقال للذى يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه : هو يخبط خبطة عشواء ، أي يضرب على غير اتساق.

وعلى هذا فالمراد من قوله : ( يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ ) أي يخبطه الشيطان ويضربه ، وبالتالي يصرعه.

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

١٢١

و « السلف » أي الماضي يقال سلف يسلف سلوفاً ، ومنه الأمم السالفة أي الماضية.

وأمّا قوله ( مِنَ المَسِّ ) فالظرف متعلق بيقوم ، أي لا يقومون إلاّ كما يقوم المصروع من المسّ.

وحاصل معنى الآية انّ آكل الربا لا يقوم إلاّ كقيام من يخبطه الشيطان فيصرعه ، فكما أنّ قيامه على غير استواء فهكذا آكل الربا.

فالتشبيه وقع بين قيام آكل الربا وقيام المصروع من خبط الشيطان ، فيطرح هنا سؤالان :

الأوّل : ما هو المراد من أنّ آكل الربا لا يقوم إلاّ كقيام المصروع ؟

الثاني : ما هو المراد من كون الصرع من مس الشيطان ؟

أمّا الأوّل : فقد اختلف فيه كلمة المفسرين على وجوه :

١. ذهب أكثرهم إلى أنّ المراد قيامهم يوم القيامة قيام المتخبطين ، فكأنّ آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً ، وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا ، فيعرفه أهل الموقف انّه آكل الربا في الدنيا.

وعلى ضوء هذا فيكون معنى الآية انّهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بمسٍّ.

٢. انّهم إذا بعثوا من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله : ( يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا ) إلاّ آكلة الربا فانّهم يقومون ويسقطون ، لأنّه سبحانه أرباه في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون ويسقطون ويريدون الإسراع ولا يقدرون.

١٢٢

ويوَيده ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : أُسري بي إلى السماء رأيت رجالاً بطونهم كالبيوت فيها الحيّات ترى من خارج بطونهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال : هؤلاء آكلة الربا.

٣. انّ المراد من المسّ ليس هو الجنون ، وإن كان المسّ يستعمل فيه ، بل المراد من تبع الشيطان وأجاب دعوته ، كما هو الحال في قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) (١) ، وذلك لأنّ الشيطان يدعو إلى طلب اللّذات والشهوات والاشتغال بغير الله ، فهذا هو المراد من مسّ الشيطان ، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً ، فتارة يجرّه الشيطان إلى اتّباع النفس والهوىٰ ، وتارة تجرّه الفطرة إلى الدين والتقوى فتضطرب حياته ويسودها القلق.

فلا شكّ انّ آكل الربا يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً عليها ، ولذلك تكون حياته الدنيوية حياة غير منظمة وعلى غير استواء.

وهناك وجه رابع ذكره السيد الطباطبائي وهو :

إنّ الإنسان الممسوس الذي اختلّت قوته المميزة لا يفرق بين الحسن والقبيح ، والنافع والضار ، والخير والشر ، فهكذا حال المرابي في أخذه للربا فانّ الذي تدعو إليه الفطرة أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه. وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه مع زيادة ، فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة وأساس المعيشة ، فانّ ذلك ينجر من جانب المرابى إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمّعه وتراكمه عند المرابي ، فانّ هذا المال لا يزال ينمو ويزيد ، ولا ينمو إلاّ من مال الغير ، فهو بالانتقاص

__________________

(١) الأعراف : ٢٠١.

١٢٣

والانفصال من جانب ، والزيادة والانضمام من جانب آخر.

وينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايداً لا يتداركه شيء مع تزايد الحاجة ، وكلما زاد المصرف أي نما الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص ويتداركه وفي ذلك انهدام حياة المدين.

فالربا يضاد التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإنساني الذي هدته إليه الفطرة الإلهية.

وهذا هو الخبط الذي يبتلى به المرابي كخبط الممسوس ، فانّ المراباة يضطره أن يختل عنده أصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرّق بين البيع والربا ، فإذا دُعي إلى أن يترك الربا ويأخذ بالبيع ، أجاب : انّ البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية ، فلا موجب لترك الربا وأخذ البيع ، ولذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم : ( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) (١).

وهناك سؤال : وهو انّه لماذا قيل البيع مثل الربا بل كان عليهم القول بأنّ الربا مثل البيع ، لأنّ الكلام في الربا لا في البيع فوجب عليهم أن يشبهوا الربا بالبيع ، لا على العكس.

والجواب انّهم شبهوا البيع بالربا لأجل المبالغة وهو انّهم جعلوا حلّية الربا أصلاً ، وحلية البيع فرعاً ، فقالوا : إنّ البيع مثل الربا.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني وهو كون الجنون معلولاً لوطأة الشيطان ومسّه ، فنقول :

انّ ظاهر الآية انّ الجنون نتيجة تصرف الجن في المجانين ، مع أنّ العلم

__________________

(١) الميزان : ٢ / ٤١١.

١٢٤

الحديث كشف علّة الجنون وهو حدوث اختلالات في الأعصاب الإدراكية ، فكيف يجمع بين مفاد الآية وما عليه العلم الحديث ، وهذا من قبيل تعارض النقل والعقل ؟

وأجاب عنه بعض المفسرين بأنّ هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامّة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين ، ولا ضير في ذلك ، لأنّه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأً غير مطابق للواقع.

فحقيقة معنى الآية هو انّ هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس ، وأمّا كون الجنون مستنداً إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن ، لأنّ الله سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده ، أو على عبده المؤمن (١).

وأجاب عنه السيد الطباطبائي بأنّ الله تعالى أجلّ من أن يستند في كلامه إلى الباطل ، ولغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلاّ مع بيان بطلانه ورده على قائله ، وقد قال تعالى في وصف كلامه : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) (٢).

وقال تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالهَزْلِ ) (٣).

وأمّا انّ استناد الجنون إلى تصرف الشيطان وذهاب العقل ينافي عدله تعالى ، ففيه انّ الاشكال بعينه مقلوب عليهم في اسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب

__________________

(١) نقله في الميزان : ٢ / ٤١٣ ولم يذكر المصدر ؛ وفي تفسير المنار : ٣ / ٩٥ ما يقرب من ذلك نقله عن البيضاوي في تفسيره.

(٢) فصلت : ٤١ ـ ٤٢.

(٣) الطارق : ١٣ ـ ١٤.

١٢٥

الطبيعية فانّها مستندة أخيراً إلى الله تعالى مع إذهابها العقل (١).

وهناك كلام آخر للسيد الطباطبائي ولعلّه يقلع الشبهة : انّ استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة وراءها الشيطان ، كما أنّ أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين ، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب عليه‌السلام إذ قال : ( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) (٢) ، وإذ قال : ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (٣) والضرّ هو المرض وله أسباب طبيعية ظاهرة في البدن ، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان (٤).

__________________

(١) الميزان : ٢ / ٤١٢.

(٢) ص : ٤١.

(٣) الأنبياء : ٨٣.

(٤) الميزان : ٢ / ٤١٣.

١٢٦

آل عمران

١٢

التمثيل الثاني عشر

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ المُمْتَرِينَ ) (١).

تفسير الآية

ذكر سبحانه كيفية ولادة المسيح من أُمّه « مريم العذراء » وابتدأ بيانه بقوله : ( إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ ... ) وانتهى بقوله : ( قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (٢).

وبذلك أثبت انّ المسيح مخلوق لله سبحانه مولود من أُمّه العذراء دون أن يمسّها بشر وانّه عليه‌السلام آية من آيات الله سبحانه ، ولما كانت النصارى تتبنىٰ إلوهية المسيح وانّه يؤلف أحد أضلاع مثلث الألوهية الرب والابن وروح القدس ، وكانت تؤمن انّه ابن الرب ، لأنّه ولد من مريم بلا أب.

ولما احتجوا بهذا الدليل أمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وافاه الوحي مجيباً على استدلالهم بأنّ

__________________

(١) آل عمران : ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) آل عمران : ٤٥ ـ ٤٧.

١٢٧

كيفية خلق المسيح يضاهي كيفية خلق آدم. حيث إنّ آدم خلق من تراب بلا أب وأُمّ ، فإذا كان هذا أمراً ممكناً ، فمثله المسيح حيث ولد من أُمّ بلا أب فهو أهون بالإمكان.

وبعبارة أُخرى : انّ المسيح مثل آدم في أحد الطرفين ، ويكفي في المماثلة المشاركة في بعض الأوصاف ، ففي الحقيقة هو من قبيل تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة الشبهة.

إنّ من الأسئلة المثارة حول قوله سبحانه : ( ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) هو انّ الأنسب أن يقول : « ثم قال له كن فكان » فلماذا قال : ( فَيَكُونُ ) لأنّ أمره سبحانه بالتحقّق أمر يلازم تحقّق الشيء دفعة ؟.

والجواب انّه وضع المضارع مكان الماضي وهو أمر جائز ، والنكتة فيه هي تصوير الحالة الماضية فأنّ تكوّن آدم كان أمراً تدريجياً لا أمراً دفعياً.

وبعبارة أُخرى : انّ قوله : ( كُن ) وإن كان دالاً على انتفاء التدريج ولكنّه بالنسبة إليه سبحانه ، وأمّا بالنسبة إلى المخلوق فهو على قسمين : قسم يكون فاقداً له كالنفوس والعقول الكلية ، وقسم يكون أمراً تدريجياً حاصلاً بالنسبة إلىٰ أسبابها التدريجية ، فإذا لوحظ الشيء بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة ـ لانتفاء الزمان والحركة في المقام الربوبي ، ولذا قال سبحانه : ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (١) وأمّا إذا لوحظ بالقياس إلى وجود الممكن وأسبابه فالتدريج أمر متحقق ، وبالجملة فقوله ( فَيَكُونُ ) ناظر إلى الحالة الماضية (٢).

وهناك وجه آخر ذكره المحقّق البلاغي عند تفسير قوله سبحانه : ( بَدِيعُ

__________________

(١) القمر : ٥٠.

(٢) الميزان : ٣ / ٢١٢ ؛ المنار : ٣ / ٣١٩.

١٢٨

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ).

إنّ قوله : ( فَيَكُونُ ) تفريع على قوله ( يَقُولُ ) وليس جزاءً لقوله تعالى ( كُن ) ، لأنّ الكون بعد الفاء ، هو نفس الكون المأمور به لا جزاءه المترتب عليه ، وتوهم انّه جزاء لذات الطلب أو ملكوت مع الطلب مدفوع ، بأنّه لو صحّ لوجب أن ينصب مع أنّه مرفوع (١).

وعلى كلّ تقدير فالقرآن الكريم يستدل على إبطال إلوهية المسيح بوجوه مختلفة ، منها هو تشبيه ولادة المسيح بآدم. والتمثيل المذكور يتكفّل بيان هذا الأمر أيضاً ، وفي الحقيقة الآية منحلّة إلى حجتين تفي كلّ واحدة منهما بنفي الألوهية عن المسيح.

إحداهما : انّ عيسىٰ مخلوق لله ـ على ما يعلمه الله لا يضل في علمه ـ خلقة بشر وإن فقد الأب ومن كان كذلك كان عبداً لا رباً.

وثانيهما : انّ خلقته لا تزيد على خلقة آدم ، فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بإلوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنّهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى عليه‌السلام أيضاً لمكان المماثلة.

ويظهر من الآية انّ خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية وإن كانت خارقة للسنّة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكوّنه إلى والد (٢).

__________________

(١) آلاء الرحمن : ١ / ١٢٠.

(٢) الميزان : ٣ / ٢١٢.

١٢٩

آل عمران

١٣

التمثيل الثالث عشر

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١).

تفسير الآيات

الصرّ : الريح الباردة نحو صرصر ، قال الشاعر :

لا تعدلنّ أتاويين (٢) تضربهم

نكباء صرّ بأصحاب المحلات

ونقل الطبرسي عن الزجّاج أنّه قال : الصرّ صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح ، وأضاف : ويجوز أن يكون الصرّ صوت الريح الباردة الشديدة.

وعلى كلّ تقدير فالمراد هو الريح السامة التي تهلك الحرث.

والمراد من ( حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ) الذين زرعوا في غير موضع الزراعة

__________________

(١) آل عمران : ١١٦ ـ ١١٧.

(٢) الأتاوي : جمع الإتاوة : الخراج.

١٣٠

أو في غير وقتها ، فهبّت عليه العواصف فذهب أدراج الرياح ، إذ لا شكّ انّ للزمان والمكان تأثيراً بالغاً في نمو الزرع ، فالنسيم الهادئ الذي يهب على الزرع ويلامسه والأرض الخصبة كلها عوامل تزيد في طراوة الزرع ونضارته.

هذا هو المشبه به ، فالكافر إذا أنفق ماله في هذه الحياة الدنيا بغية الانتفاع به ، فهو كمن زرع في غير موضعه أو زمانه ، فلا ينتفع من إنفاقه شيئاً ، فانّ الكفر وما يتبعه من الهوى يبيد إنفاقه ، ولذلك قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا ).

١٣١

الأنعام

١٤

التمثيل الرابع عشر

( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (١).

تفسير الآية

نزلت الآية في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل بن هشام ، وذلك انّ أبا جهل آذىٰ رسول الله فأخبر بذلك حمزة ، وهو علىٰ دين قومه ، فغضب وجاء ومعه قوس فضرب بها رأس أبي جهل وآمن ، وهو المروي عن ابن عباس.

وقيل : انّها نزلت في عمار بن ياسر حين آمن وأبي جهل ، وهو المروي عن أبى جعفر ، ولكن الظاهر انّها عامة في كلّ مؤمن وكافر ، ومع ذلك لا يمنع هذا نزولها في شخصين خاصين.

ففي هذه الآية تمثيلات وتشبيهات جعلتها من قبيل التشبيه المركب نذكرها تباعاً :

١. يقول سبحانه : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ) وقد شبّه الكافر ب‍ « الميت » الذي هو مخفف الميّت والمؤمن بالحي.

__________________

(١) الأنعام : ١٢٢.

١٣٢

وليست الآية نسيج وحدها فقد شبّه المؤمن في غير واحد من الآيات بالحي ، والكافر بالميت ، قال سبحانه : ( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَىٰ ) (١) ( لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا ) (٢) و ( وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ ) (٣).

٢. يقول سبحانه : ( وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) فقد شبّه القرآن بالنور ، حيث إنّ المؤمن على ضوء القرآن يشق طريق السعادة ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ). (٤)

وقال سبحانه : ( مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا ) (٥) ، فالقرآن ينوّر الدرب للمؤمن.

٣. يقول سبحانه ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) ، فالمراد من الظلمة إمّا الكفر أو الجهل ، ويؤيد الأوّل قوله سبحانه : ( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) (٦).

ثمّ إنّه سبحانه شبه الكافر بالذي يمكث في الظلمات لا يهتدي إلى شيء بقوله : ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ) ولم يقل : كمن هو في الظلمات ، بل توسط لفظ المثل فيه ، ولعل الوجه هو تبيين انّه بلغ في الكفر والحيرة غاية يضرب به المثل.

هذا هو تفسير الآية على وجه التفصيل.

__________________

(١) الروم : ٥٢.

(٢) يس : ٧٠.

(٣) فاطر : ٢٢.

(٤) النساء : ١٧٤.

(٥) الشورى : ٥٢.

(٦) البقرة : ٢٥٧.

١٣٣

وحاصل الآية : انّ مثل من هداه الله بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل ، والمهتدي والضال ، ـ مثله ـ من كان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس مستضيئاً به ، فيميز بعضه من بعض.

هذا هو مثل المؤمن ، ولا يصح قياس المؤمن بالباقي علىٰ كفره غير الخارج عنه ، الخابط في الظلمات المتحير الذي لا يهتدي سبيل الرشاد.

وفي الحقيقة الآية تشتمل على تشبيهين :

الأوّل : تشبيه المؤمن بالميّت المحيا الذي معه نور.

الثاني : تشبيه الكافر بالميّت الفاقد للنور الباقي في الظلمات ، والغرض انّ المؤمن من قبيل التشبيه الأوّل ، دون الثاني.

١٣٤

الأعراف

١٥

التمثيل الخامس عشر

( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) (١).

تفسير الآية

« أقلّ » من الإقلال ، وهو حمل الشيء بأسره.

والنكد : العسر الممتنع من إعطاء الخير ، يقال نكد إذا سئل فبخل ، قال الشاعر :

وأعطي ما أعطيته طيّباً

لا خير في المنكود والناكد

« البلد الطيب » : عبارة عن الأرض الطيب ترابها ، ففي مثلها يخرج الزرع نامياً زاكياً من غير كدِّ ولا عناء ، كلّ ذلك بإذنه سبحانه.

والبلد الخبيث هي الأرض السبخة التي خبث ترابها لا يخرج ريعها إلاّ شيئاً

__________________

(١) الأعراف : ٥٧ ـ ٥٨.

١٣٥

قليلاً ، وكأنّها لا تعطي إلاّ شيئاً قليلاً وهو بالعسر.

وتصريف الآيات عبارة عن تكررها.

ذكر سبحانه في الآية الاَُولى بأنّه يرسل الرياح مبشرةً برحمته ، فإذا حملت سحاباً ثقالاً بالماء ساقه سبحانه إلى بلد ميت فتحيا به الأرض وتؤتي ثمراتها.

وعاد سبحانه في الآية الثانية إلى القول بأنّ هطول المطر وسقي الأرض جزء مما يتوقف عليه خروج النبات ، وهناك شرط آخر وهو أن تكون الأرض خصبة صالحة للزراعة دونما إذا كانت خبيثة ، هذا هو حال المشبه به.

وأمّا المشبه فهو انّه سبحانه يُشبه المؤمن بأرض طيبة تلين بالمطر ويحسن نباتها ويكثر ريعها ، كما تشبه قلب الكافر بالأرض السبخة لا تنبت شيئاً ، فقلب المؤمن كالأرض الطيبة وقلب الكافر كالأرض السبخة.

١٣٦

الأعراف

١٦

التمثيل السادس عشر

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ) (١).

تفسير الآيات

النبأ : الخبر عن الأمر العظيم ومنه اشتقاق النبوة ، أخلد إلى الأرض أي سكن إليها.

السلخ : النزع ، وقوله : ( أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ) لصق بها ، واللهث أن يدلع الكلب لسانه من العطش ، واللهاث حرّ العطش.

هذا هو تفسير مفردات الآية ، وأمّا المضمون فالآية تمثيل يتضمن مشبهاً ومشبهاً به ، أمّا الثاني فقد اختلفت كلمة المفسرين في المراد منه ، فالأكثر على أنّ المراد هو بلعم بن باعوراء الذي كان عالماً من علماء بني إسرائيل ، وقيل من

__________________

(١) الأعراف : ١٧٥ ـ ١٧٧.

١٣٧

الكنعانيين أُوتي علم بعض كتاب الله ، ولكنّه كفر به ونبذه وراء ظهره ، فلحقه الشيطان وصار قريناً له وكان من الغاوين الضالين الكافرين.

والإمعان في الآية يعرب عن بلوغ الرجل مقاماً شامخاً في العلم والدراية ، وعلى الرغم من ذلك فقد سقط في الهاوية ، وإليك ما يدل على ذلك في الآية :

أ : لفظ ( نَبَأَ ) حاك عن أنّه كان خبراً عظيماً لا خبراً حقيراً.

ب : قوله : ( الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ) حاك عن إحاطته بالحجج والبيّنات وعلم الكتب السماوية.

ج : قوله : ( فَانسَلَخَ مِنْهَا ) يدل على أنّ الآيات والعلوم الإلهية كانت تحيط به إحاطة الجلد بالبدن إلاّ انّه خرج منها.

ويؤيد ذلك انّه سبحانه يعبر عن التقوىٰ باللباس ، ويقول : ( وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ) (١).

د : قوله : ( فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ) يدل على أنّ الشيطان كان آيساً من كفره وقد انقطعت صلته به ، لكنّه لما انسلخ من الآيات لحقه الشيطان واتبعه فأخذ يوسوس له كلّ يوم إلى أن جعله من الضالين.

إلى هنا تم تفسير الآية الاَُولى ، وأمّا الآية الثانية فهي تتضمن حقيقة قرآنية ، وهي انّه سبحانه تبارك وتعالى كان قادراً على رفعه وتنزيهه وتقريبه إليه ، ولكنّه لم يشأ ، لأنّ مشيئته سبحانه لا تتعلق بهداية من أعرض عنه وتبع هواه ، إذ كيف يمكن تعلق مشيئته بهداية من أعرض عن الله وكذب آياته ، ولذلك يقول :

( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) أي لرفعناه بتلك الآيات « ولكن ما شئنا » وليس

__________________

(١) الأعراف : ٢٦.

١٣٨

ذلك للبخل منه سبحانه ، بل لفقدان الأرضية الصالحة ، لأنّه أخلد إلى الأرض ولصق بها ، وكأنّها كناية عن الميل والنزوع إلى التمتع بالملاذ الدنيوية ، ومعه كيف تشمله العناية الربانية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى وجه آخر لعدم تعلّق مشيئته بهدايته ، وهو انّ هذا الإنسان بلغ في الضلالة والغواية مرحلة صارت سجية وطبيعة له ، ومزج بها روحه ونفسه وفطرته ، فلا يصدر منه إلاّ التكذيب والإدبار عن آياته ، فلذلك لا يؤثر فيه نصيحة ناصح ولا وعظ واعظ ، ولتقريب هذا الأمر نأتي تمثيلاً في ضمن تمثيل ، ونقول :

( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ) ، وذلك لأنّ اللهث أثر طبيعي لسجيته فلا يمكن أن يخلّص نفسه منها.

هذا هو المشبه به ، وهو يعرب عن أنّ الهداية والضلالة بيد الله تبارك وتعالى ، وقد تعلّقت مشيئته بهداية الناس بشرط أن تتوفر فيه أرضية خصبة تؤهله لتعلّق مشيئته تعالى به ، فمن أخلد إلى الأرض ولصق بها ، أي أخلد إلى المادة والماديات ، فلا تشمله الهداية الإلهية بل هو محكوم بالضلال لكن ضلالاً اختيارياً مكتسباً.

هذا هو حال المشبه به ، وقد عرفت أنّ التمثيل يتضمن تمثيلاً آخر.

وأمّا المشبه فقد اختلفت كلمة المفسرين فيه ، فربما يقال انّ المراد أُمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر ، وكانت قصته انّه قرأ الكتب وعلم أنّ الله سبحانه يرسل رسولاً في ذلك الوقت ، ورجا أن يكون هو ذلك الرسول ، فلمّا بعث سبحانه محمداً حسده ومرّ على قتلى بدر فسأل عنهم ، فقيل : قتلوا في حربهم مع النبي ، فقال : لو كان نبياً لما قتل أقرباءه ، وقد ذهب إلى الطائف ومات بها ، فأتت أُخته

١٣٩

الفارعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسألها عن وفاته ، فذكرت له انّه أنشد عند موته :

كل عيش وإن تطاول دهراً

صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدالي

في قلال الجبال أرعى الوعولا

انّ يوم الحساب يوم عظيم

شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها أنشديني من شعر أخيك فأنشدت :

لك الحمدُ والنعماءُ والفضلُ ربّنا

ولا شيء أعلىٰ منك جدّاً وأمجدُ

مليكٌ على عرش السّماءِ مهيمنٌ

لعزّته تعنُو الوجوهُ وتسجدُ

ثمّ أنشدته قصيدته التي يقول فيها :

وقف الناس للحسابِ جميعاً

فشقيٌّ معذّب وسعيد

والتي فيها :

عند ذي العرش تُعرضونَ عليه

يعلمُ الجهرَ والسِراءَ الخفيّا

١٤٠