آيات الغدير

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

آيات الغدير

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-151-6
الصفحات: ٣٧٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

والحافظ السيوطي في جمع الجوامع ، كما في ترتيبه ٦ / ٣٩٢

وفي / ٣٩٧ ، عن الحفاظ الستة : ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي .

وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٥٤ . انتهى .

ثم شكا صاحب الغدير من الذين حرفوا الحديث لإرضاء قريش ، ومنهم الطبري الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه ، ولكنه أبهم كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حق علي عليه‌السلام فقال : ثم قال : إن هذا أخي ، وكذا وكذا !! .

وتبعه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية : ٣ / ٤٠ ، وفي تفسيره : ٣ / ٣٥١ . انتهى .

ـ وقال في هامش بحار الأنوار : ٣٢ / ٢٧٢ : وناهيك من ذلك مؤاخاته مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر من الله عز وجل في بدء الإسلام حين نزل قوله تعالى : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ... راجع تاريخ الطبرى : ٢ / ٣٢١ ، كامل ابن الأثير : ٢ / ٢٤ ، تاريخ أبي الفداء : ١ / ١١٦ ، والنهج الحديدي : ٣ / ٢٥٤ ، ومسند الإمام ابن حنبل : ١ / ١٥٩ ، وجمع الجوامع ترتيبه : ٦ / ٤٠٨ ، وكنز العمال : ٦ / ٤٠١ .

وهذه المؤاخاة مع أنها كانت بأمر الله عز وجل ، إنما تحققت بصورة البيعة والمعاهدة ( الحلف ) ولم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأخذ أخاً ووزيراً وصاحباً وخليفةً غيره ، ولا لعلي أن يقصر في مؤازرته ونصرته والنصح له ولدينه ، كمؤازرة هارون لموسى على ما حكاه الله عز وجل في القرآن الكريم .

ولذلك ترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين يؤاخي بعد ذلك المجلس بين المهاجرين بمكة ، فيؤاخي بين كل رجل وشقيقه وشكله : يؤاخي بين عمر وأبي بكر ، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، وبين الزبير وعبد الله بن مسعود ، وبين عبيدة بن الحارث وبلال ، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص ، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ، وبين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة الكلبي ( راجع سيرة ابن هشام : ١ / ٥٠٤ المحبر / ٧١ ـ ٧٠ البلاذرى : ١ / ٢٧٠ ) يقول لعلي عليه‌السلام :

٢١
 &

والذي بعثني بالحق نبياً ما أخرتك إلا لنفسي ، فأنت مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، وأنت أخي ووارثي ، وأنت معي في قصري في الجنة .

ثم قال له : وإذا ذاكرك أحد فقل : أنا عبد الله وأخو رسوله ، ولا يدعيها بعدي إلا كاذب مفتر ( الرياض النضرة : ٢ / ١٦٨ منتخب كنز العمال : ٥ / ٤٥ و ٤٦ )

ولذلك نفسه تراه صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما عرض نفسه على القبائل فلم يرفعوا اليه رؤوسهم ، ثم عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة قال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس بن عبد الله بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال لرسول الله : أرأيت إن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟

قال : الأمر الى الله يضعه حيث يشاء .

قال فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ، لا حاجة لنا بأمرك ، فأبوا عليه ( راجع سيرة ابن هشام : ١ / ٤٢٤ الروض الأنف : ١ / ٢٦٤ بهجة المحافل : ١ / ١٢٨ ، سيرة زيني دحلان : ١ / ٣٠٢ السيرة الحلبية : ٢ / ٣ ) . فلولا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان تعاهد مع علي عليه‌السلام بالخلافة والوصاية بأمر من الله عز وجل قبل ذلك ، لما ردهم بهذا الكلام المؤيس ، وهو بحاجة ماسة من نصرة أمثالهم . انتهى .

ـ وفي دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي : ١ / ١٥

وروينا أيضاً عن علي بن أبي طالب صلى الله عليه أنه قال : لما أنزل الله عز وجل : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني عبد المطلب على فخذ شاة وقدح من لبن ، وإن فيهم يومئد عشرة ليس منهم رجل إلا أن يأكل الجذعة ويشرب الفرق ، وهم بضع وأربعون رجلاً ، فأكلوا حتى صدروا وشربوا حتى ارتووا ، وفيهم يومئذ أبو لهب ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

يا بني عبد المطلب أطيعوني تكونوا ملوك الأرض وحكامها ، إن الله لم يبعث نبياً إلا جعل له وصياً ووزيراً ووارثاً وأخاً وولياً ، فأيكم يكون وصيي ووارثي ووليي وأخي ووزيري ؟

٢٢
 &

فسكتوا ، فجعل يعرض ذلك عليهم رجلاً رجلاً ، ليس منهم أحد يقبله ، حتى لم يبق منهم أحد غيري ، وأنا يومئذ من أحدثهم سناً ، فعرض عليَّ فقلت : أنا يا رسول الله . فقال : نعم ، أنت يا علي .

فلما انصرفوا قال لهم أبو لهب : لو لم تستدلوا على سحر صاحبكم إلا بما رأيتم ، أتاكم بفخذ شاة وقدح من لبن فشبعتم ورويتم ! وجعلوا يهزؤون ويقولون لأبي طالب : قد قدم ابنك اليوم عليك . انتهى .

ولا بد أن تكون حادثة دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لبني هاشم قد شاعت في قريش ، ثم في العرب ، فقالوا إن النبي الجديد جمع عشيرته وأنذرهم ودعاهم الى دينه ، وإنه طلب منهم شخصاً يكون له وزيراً وخليفةً من بعده ، فأجابه ابن عمه الشاب الغلام .. فاتخذه وزيراً وخليفة !

*       *

فهذه النصوص تدل على أن ولاية الأمر بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت مطروحةً ومنظورةً للناس ، من أول بعثته الى آخر حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله .. وأن كل الناس كانوا يعرفون أن مشروع النبوة ودعوة الناس اليها ، هو مشروع تكوين دولة يرأسها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحتاج الى خليفة له بعده . ولذلك كان ممثلو القبائل يحاولون أن يأخذوا منه وعداً بأن يكون لهم الأمر من بعده ، ومنهم ممثلون لقبائل يمانية وعدنانية ، وزعيم قبائل نجد المتنقلة .. فكيف يصدق عاقلٌ ما زعمه زعماء قريش ، من أنهم لم يطرحوا مسألة الخلافة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى بصيغة سؤال عن الحكم الشرعي وواجب المسلمين من بعده !!

وكيف يقبل عاقل أنهم يروون عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أحاديث عن مستقبل الأمة في كل الأمور ، إلا في أمر الخلافة والإمام الشرعي من بعده ؟!

*       *

٢٣
 &

آيات الغدير

٢٤
 &



البحث الثاني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يبشر بالأئمة الإثني عشر من بعده

في اعتقادنا أن ولاية الأمر بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت أمراً مفروغاً عنه عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن الله تعالى أمره أن يبلغ الأمة ولاية عترته من بعده ، كما هي سنته تعالى في أنبيائه ، أن يورث عترتهم الكتاب والحكم والنبوة ..

ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضلهم ، ولا نبوة بعده ، بل إمامةٌ ووراثةُ الكتاب ..

وعترته وذريته صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من ذريات جميع الأنبياء عليهم‌السلام وقد طهرهم الله تعالى واصطفاهم ، وأورثهم الحكم والكتاب ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ... ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ... ) .

وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طوال نبوته يبلغ ولاية عترته بالحكمة والتدريج ، والتلويح والتصريح ، لعلمه بحسد قريش لبني هاشم ، وخططها لإبعادهم عن الحكم بعده ، بل قد لمس صلى‌الله‌عليه‌وآله مراتٍ عديدة عنف قريش ضدهم ، فأجابهم بغضب نبوي !

وكانت حجة الوداع فرصةً مناسبةً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكي يبلغ الأمة ولاية الأمر لعترته رسمياً على أوسع نطاق ، حيث لم يبق بعد تبليغ الفرائض والأحكام ، واتساع الدولة الإسلامية ، والمخاطر المحيطة بها ، وإعلان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قرب رحيله الى ربه .. إلا أن يرتب أمر الحكم من بعده .

٢٥
 &

بل تدل النصوص ومنطق الأمور ، على أن ذلك كان هو الهم الأكبر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع ، وأن قريشاً كانت تعرف جيداً ماذا يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتعمل لمنع إعلان ذلك ! وأنها زادت من فعاليتها في حجة الوداع لمنع تكريس ولاية علي والعترة عليهم‌السلام بشكل رسمي ، وأخذ البيعة لهم من الأمة !

ولا يتسع هذا البحث للإستدلال على المفردات التي ذكرناها .. وكل مفردة منها عليها عدة أدلة .. بل نكتفي هنا باستطلاع خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع .. فقد ذكرت المصادر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله خطب خمس خطب غير خطبة الغدير ، وكان من حق هذه الخطب النبوية أن تنقلها المصادر كاملةً غير منقوصة ، لأن المستمعين كانوا عشرات الألوف .. ولكنك تراها مجزأةً مقتضبة ، خاصة في الصحاح المعتمدة رسمياً عند الخلافة القرشية . قال في السيرة الحلبية : ٣ / ٣٣٣ :

خطب صلى الله عليه وسلم في الحج خمس خطب : الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة ، والثانية يوم عرفة ، والثالثة يوم النحر بمنى ، والرابعة يوم القر بمنى ، والخامسة يوم النفر الأول بمنى أيضاً . انتهى .

وقد راجعنا نصوص هذه الخطب من أكثر من مئة مصدر ، فوجدنا فيها الغرائب والعجائب ، من التعارض والتضارب ، والمؤشرات والأدلة على تدخلات قريش ورواتها في نصوصها !!

وكل ذنب خطب الوداع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر المسلمين فيها بإطاعة أهل بيته من بعده ، وحذرهم من الإختلاف بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ، وأقام عليهم الحجة ، كاملةً غير منقوصة !

ولكن رغم كل التعتيم القرشي ، فقد وصلنا منها في المصادر القرشية نفسها ، ما فيه بلاغٌ لمن أراد معرفة أوامر نبيه ، وتأكيده على الإلتزام بقيادة عترته الطاهرين من بعده .. صلى الله عليه وعليهم .

٢٦
 &

ونذكر منها فيما يلي : حديث الأئمة الإثني عشر ، حيث اتفق الجميع على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طرح قضيتهم في خطبه على المسلمين في حجة الوداع !

ثم نستعرض أهم ما تضمنته الخطب الشريفة من محاور ، ومنها حديث الثقلين : الكتاب والعترة ، وحديث : حوض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والصحابة الذين يمنعون من الورود عليه ، ويؤمر بهم الى النار !

ـ روى البخاري في صحيحه : ٨ / ١٢٧ :

جابر بن سمرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يكون اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلهم من قريش !

ـ وفي صحيح مسلم : ٦ / ٣ :

جابر بن سمرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يزال الإسلام عزيزاً الى اثني عشر خليفة ، ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي : ما قال ؟ فقال : كلهم من قريش !

ثم روى مسلم رواية ثانية نحوها قال فيها ( ثم تكلم بشئ لم أفهمه ) .

ثم روى ثالثة ، جاء فيها ( لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً الى اثني عشر خليفة ، فقال كلمة صَمَّنِيَها الناس ! فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش ) . انتهى .

ولم يصرح البخاري أن هذا الحديث جزءٌ من خطبة حجة الوداع في عرفات ، وقد قلده غيره في ذلك ، ولكن عدداً من المصادر نصت عليه !

ففي مسند أحمد : ٥ / ٩٣ و ٩٦ و ٩٩ ( عن جابر بن سمرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات ، فقال ... ) وفي ص ٨٧ ( يقول في حجة الوداع ) . وفي ص ٩٩ منه ( وقال المقدمي في حديثه : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب بمنى ) . انتهى .

وستعرف أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كرر هذا الموضوع المهم في عرفات ، وفي منى عند الجمرة ، وفي مسجد الخيف .. ثم أعلنه شرعياً وصريحاً في غدير خم !

*       *

٢٧
 &

فما هي قصة الأئمة الإثني عشر ؟ ولماذا طرحها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على أكبر تجمعٍ للمسلمين ، وهو يودع أمته ؟!

يجيبك البخاري : إن هؤلاء ليسوا أئمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تجب طاعتهم ، بل هم أمراء صالحون سوف يكونون في أمته في زمن ما ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخبر أمته بما أخبره الله تعالى من أمرهم ، وأنهم جميعاً من قريش ، لا من بني هاشم وحدهم ، بل من البضع وعشرين قبيلة التي تتكون منها قريش ! وليس فيهم من الأنصار ، ولا من قبائل العرب الأخرى ، ولا من غير العرب .. وهذا كل ما في الأمر !!

وتسأل البخاري : لماذا أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمته في حجة الوداع في عرفات بهؤلاء الإثني عشر ؟ وما هو الأمر العملي الذي يترتب على ذلك ؟!

يجيبك البخاري : بأن الموضوع مجرد إخبار فقط ، فقد أحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يخبر أمته بذلك ، لكي تأنس به .. فكأنه مجرد خبرٍ صحفي ليس فيه أي عنصرٍ عملي !!

والنتيجة : أن البخاري لم يروِ في صحيحه في الأئمة الإثني عشر إلا هذه الرواية اليتيمة المبهمة ، التي لا يمكنك أن تفهمها أنت ولا قومك ! بينما روى عن حيض أم المؤمنين عائشة في حجة الوداع روايات عديدة ، واضحة مفهومة ، تبين كيف احترمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأرسل معها من يساعدها على إحرامها وعمرتها !

*       *

أما مسلم فكان أكرم من البخاري قليلاً ، لأنه اختار روايةً يفهم منها أن هؤلاء الإثني عشر هم خلفاء يحكمون بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !

ويفرح المسلم بحديث مسلم هذا ، لأنه يعني أن الله تعالى قد حل مشكلة الحكم في الأمة بعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهؤلاء أئمة معينون من الله تعالى على لسان نبيه ، ويستمدون شرعيتهم من هذا التعيين ، ولا يحتاج الأمر الى سقيفة واختلافات ، ثم الى صراعٍ دموي على الحكم من صدر الإسلام الى يومنا هذا .. وملايين الضحايا .. وانقساماتٍ في الأمة أدت الى تراكم ضعفها .. الى أن .. انهارت خلافتها وخلفاؤها !

٢٨
 &

ولكن رواية مسلم تقول : كلا لم تحل المشكلة ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر عنهم إخباراً مجملاً ! ولم يخبر المسلمين عن هويتهم وأسمائهم ؟ ولم يسأله أحدٌ من عشرات الألوف الذين أخبرهم بهذا الموضوع الخطير : من هم يا رسول الله ؟!

ويا ليت أحدهم سأله فحددهم ، حتى تسلم قريش لهم الأمر بلا منازع ؟!

يقول مسلم كما قال البخاري : كلا ، كلا .. إنهم فقط أناسٌ ربانيون ، يعز الله بهم الإسلام .. وهم من قريش .. من قريش !!

*       *

وهكذا لا يمكنك أن تصل من البخاري ومسلم الى نتيجة مقنعة في أمر هؤلاء الأئمة الإثني عشر .. فقد أقفل الشيخان عليك الأبواب ، وقالا لك مقولة قريش : إن نبيك تحدث في حجة الوداع عن رائحة الأئمة الإثني عشر فقط ، فشمها واسكت !

ولكنك لا تعدم الكشف عن عناصر مفيدة من مصادر قرشية أخرى ، أقل مراعاة من البخاري ومسلم للسياسة وأهلها ، أو أن ظروف أصحابها أحسن من ظروفهما !

فقد روى أحمد في مسنده : ٥ / ٩٢ ، عن نفس الراوي جابر السوائي قال : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يكون ( بعدي ) ...

وروى في نفس الصفحة عن نفس الراوي جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يكون بعدي اثنا عشر خليفة ، كلهم من قريش . قال ثم رجع الى منزله ، فأتته قريش فقالوا : ثم يكون ماذا ؟ قال : ثم يكون الهرج . انتهى .

ففي الروايتين كلمة ( بعدي ) والمفهوم منها أنهم يكونون بعده مباشرة ، والثانية تكشف عن اهتمام قريش بالموضوع ، وسؤالهم عن هؤلاء الأئمة الربانيين ، وأن القصة في المدينة ، لا في حجة الوداع ، فاحفظ ذلك لما يأتي !

وقد وردت كلمة بعدي ، ومن بعدي ، في عدد من روايات الحديث ، منها ما رواه أحمد أيضاً في : ٥ / ٩٤ ، عن نفس الرواي ( يكون بعدي اثنا عشر أميراً ، ثم لا أدري ما قال بعد ذلك ، فسألت القوم .. )

٢٩
 &

وفي : ٥ / ٩٩ و ١٠٨ عن السوائي أيضاً ( يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ، فتكلم فخفي علي ، فسألت الذي يليني أو الى جنبي ، فقال : كلهم من قريش ) .

وفي سنن الترمذي : ٣ / ٣٤٠

( يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ، قال : ثم تكلم بشئ لم أفهمه ، فسألت الذي يليني ، فقال قال : كلهم من قريش ) .

وفي تاريخ البخاري : ١ / ٤٤٦ رقم ١٤٢٦ : عن جابر بن سمرة أيضاً أنه سمع النبي قال : يكون بعدي اثنا عشر خليفة .. انتهى .

وفي الصواعق المحرقة لابن حجر / ٢٠ قال :

خرَّج أبو القاسم البغوي بسند حسن ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يكون خلفي اثنا عشر خليفة . انتهى .

*       *

إذن ، فقد طرح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع أمر الحكم من بعده ، وأخبر عن ربه عز وجل بأن حكم الأمة الشرعي يكون لاثني عشر !

ولكن ذلك لا يحل المشكلة ، بقدر ما يفتح باب الأسئلة على قريش ورواتها :

السؤال الأول : لماذا نرى أن روايات هذه القضية الضخمة تكاد تكون محصورة عندهم براوٍ واحد ، هو جابر السوائي ، الذي كان صغيراً في حجة الوداع ، ولعله كان صبياً ابن عشر سنوات ! ألم يسمعها غيره ؟ ألم يروها غيره من كل الصحابة الذين كانوا حاضرين ؟! أم أن غيره رواها ولكن رواية جابر فازت لأنها أحسن رواية ملائمة للخلافة القرشية ، فاعتمدتها ، وسمحت بتدوينها !

السؤال الثاني : كان المسلمون يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن صغير الأمور وكبيرها ، حتى في أثناء خطبته ، وهذه الروايات تقول إنه أخبرهم بأمر عقائدي ، عملي ، مصيري ، مستقبلي ، وتدعي أنه أبهمه إبهاماً ، ثم لا تذكر أن أحداً من المسلمين سأله عن

٣٠
 &

هؤلاء الأئمة الربانيين ، وما هو واجب الأمة تجاههم ؟!

وإذا كانت ( قريش ) قد ذهبت الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته في المدينة ، كما يقول نفس الراوي ، وطرقت عليه بابه لتسأله عما يكون بعد هؤلاء الإثني عشر ، فهل يعقل أنها لم تسأله عنهم ، وعما يكون في زمانهم !

وهل تعلم أن قريشاً في المدينة تعني عمر وأبا بكر فقط ؟!

وهل يعقل أن أحداً من المسلمين في حجة الوداع ، لم يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم ، ولا عما يكون قبلهم ، وبعدهم ، وعن واجب الأمة تجاههم ؟!

السؤال الثالث : لماذا خفيت على الراوي الكلمة الحساسة ، التي تحدد هوية الأئمة الإثني عشر ، حتى سأل عنها الراوي القريبين منه ؟

ثم رووها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة أيضاً ، فخفيت نفس الكلمة !

ثم لماذا تؤكد مصادر الخلافة القرشية على نقل الكلمة المفقودة عن سمرة وعن عمر بن الخطاب فقط ؟! ... الى آخر الأسئلة التي ترد على نص هذا الحديث ، وتلحُّ على الباحث بالسؤال .

أليس من حق الباحث أن يشك في الأمر .. وأن يبحث بنفسه عن هذه كلمة السر المفقودة في أسواق الحديث والتاريخ ؟!

سنحاول في الملاحظات والمسائل التالية ، تسليط الضوء على هذا السر المفقود !!

الأولى : هل أن أصل كلهم من قريش : كلهم من عترتي !

ما هو السبب في غياب الكلمة على الراوي ؟ ومن الذي سأله عنها فشهد له بها ؟

ـ جاء في مسند أحمد : ٥ / ١٠٠ و ١٠٧ أن الراوي لم يفهم الكلمة ، وخفيت عليه قال ( ثم قال كلمة لم أفهمها قلت لأبي ما قال ؟ قال : قال كلهم من قريش )

ـ وفي مستدرك الحاكم : ٣ / ٦١٧ ( وقال كلمة خفيت علي ، وكان أبي أدنى اليه مجلساً مني فقلت ما قال ؟ فقال كلهم من قريش ) .

٣١
 &

ـ وفي مسند أحمد : ٥ / ٩٠ و ٩٨ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخفاها وخفض بها صوته ، وهمس بها همساً ! ( قال كلمة خفية لم أفهمها ، قال قلت لأبي ما قال ؟ قال قال كلهم من قريش ) .

ـ وفي مستدرك الحاكم : ٣ / ٦١٨ ( ثم قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمي وكان أمامي : ما قال يا عم ؟ قال قال يا بني : كلهم من قريش ) .

ـ وفي معجم الطبراني الكبير : ٢ / ٢١٣ ـ ٢١٤ ح ١٧٩٤

عن جابر بن سمرة عن النبي قال : يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً ، لا يضرهم من خذلهم ، ثم همس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بكلمة لم أسمعها ، فقلت لأبي ما الكلمة التي همس بها النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال أبي : كلهم من قريش ) .

بينما تقول روايات أخرى إن الذي ضيع الكلمة هم الناس ، فالناس ـ المحرمون لربهم في عرفات ، المودعون لنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المنتظرون لكل كلمة تصدر منه ـ صاروا كأنهم في سوق حراج ، وصار فيهم مشاغبون يلغطون عند الكلمة الحساسة ليضيعوها على المؤمنين ، فيضجون ، ويكبرون ، ويتكلمون ، ويلغطون ، ويقومون ، ويقعدون !!

ـ ففي سنن أبي داود : ٢ / ٣٠٩ ( قال فكبر الناس ، وضجوا ، ثم قال كلمة خفية ، قلت لأبي يا أبة ما قال ؟ قال كلهم من قريش ) . ومثله في مسند أحمد : ٥ / ٩٨ .

ـ وفي مسند أحمد : ٥ / ٩٨ ( ثم قال كلمة أصمنيها الناس ، فقلت لأبي ما قال ؟ قال : كلهم من قريش ) وفي رواية مسلم المتقدمة ( صمنيها الناس ) .

وفي ص ٩٣ ( وضج الناس ) .

وفي ص ٩٩ ( فسمعته يقول : لن يزال هذا الأمر عزيزاً ظاهراً ، حتى يملك اثنا عشر كلهم ... ثم لغط القوم وتكلموا ، فلم أفهم قوله بعد كلهم ، فقلت لأبي يا أبتاه ما بعد كلهم ؟ قال : كلهم من قريش ) .

وفي نفس الصفحة ( لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ، ينصرون على من ناواهم عليه الى اثني عشر خليفة . قال فجعل الناس يقومون ويقعدون ... ) !

٣٢
 &

أما الذين سألهم جابر بن سمرة عن الكلمة ، فتقول أكثر الروايات إنه سأل أباه سمرة ، فتكون الشهادة بتوسيع دائرة الأئمة من هاشم الى قريش ، متوقفةً على وثاقة سمرة أيضاً ! كما رأيت في روايتي البخاري ومسلم ، وغيرهما .

ولكن في رواية أحمد : ٥ / ٩٢ ( بعدي اثنا عشر أميراً ، ثم لا أدري ما قال بعد ذلك ، فسألت القوم كلهم فقالوا : قال كلهم من قريش ) . ونحوه في ص ٩٠ ، وفي ص ١٠٨ ( يكون بعدي اثنا عشر أميراً ، قال ثم تكلم فخفي على ما قال ، قال فسألت بعض القوم ، أو الذي يلي ، ما قال ؟ قال : كلهم من قريش ) .

ـ وفي : ٥ / ٩٩ ( فخفي علي فسألت الذي يليني ) ونحوه في : ٥ / ١٠٨

ـ وفي معجم الطبراني الكبير : ٢ / ٢٧٧ ح ٢٠٤٤ ، أن ابن سمرة قال إن القوم زعموا زعماً أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال إنهم من قريش ! قال ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يكون اثنا عشر أميراً ، ثم تكلم بشئ لم أسمعه ، فزعم القوم أنه قال : كلهم من قريش ) .

والواقع أنه يصعب على الإنسان أن يقبل خفاء أهم كلمة عن الأئمة الذين بشر بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي مثل ذلك الجو الهادئ المنصت في عرفات ! ثم لا يسأل أحدٌ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الكلمة الخفية التي هي لب الموضوع !

هذا وقد روى ابن سمرة نفسه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخطب وهو راكبٌ على ناقته ، وهذا يعني أنه كان حريصاً على أن يوصل صوته الى الجميع !

ففي مسند أحمد : ٥ / ٨٧ ( ثم خفي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال وكان أبي أقرب الى راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني !

بل رووا أنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر شخصاً جهوري الصوت ، فكان يلقي خطبته جملةً جملة ، ويأمره أن ( يصرخ ) بها ليسمعها الناس !

ـ ففي مجمع الزوائد : ٣ / ٢٧٠

عن عبد الله بن الزبير قال : كان ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي وهو الذي كان يصرخ يوم عرفة تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال له رسول الله صلى

٣٣
 &

الله عليه وسلم : أصرخ ـ وكان صيِّتاً ـ أيها الناس أتدرون أي شهر هذا ؟ فصرخ ، فقالوا : نعم الشهر الحرام ، قال فإن الله عز وجل قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم الى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا .

ثم قال : أصرخ : هل تدرون أي بلد هذا ... الخ .

وعن ابن عباس ... فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت ثدي ناقته ، وكان رجلاً صيتاً فقال : أصرخ أيها الناس أتدرون أي شهر هذا ... الخ . رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات . انتهى .

والذي يزيد في الشك أنهم رووا الحديث عن نفس هذا الراوي بعدة صيغٍ غير متشابهة ، ولكن الكلمة المفقودة في الجميع تبقى نفسها لا تتغير ..

بل رووا عنه أنه صدر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة ، وليس في حجة الوداع في عرفات .. ولكن الكلمة المفقودة تبقى نفسها ، وهي هوية الأئمة الإثني عشر !!

ـ ففي مسند أحمد : ٥ / ٩٧ و ١٠٧

عن جابر بن سمرة قال : جئت أنا وأبي الى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً ، ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لابي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش . انتهى .

ثم رووه عنه ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب في المسجد النبوي في المدينة ، وهو مسجد صغير محدود ، ولكن الكلمة نفسها بقيت خفية على جابر بن سمرة حتى سأل عنها الخليفة القرشي عمر بن الخطاب فأخبره بها !

ـ ففي معجم الطبراني الكبير : ٢ / ٢٨٦ ح ٢٠٧٣ عن جابر بن سمرة ( قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يخطب على المنبر ويقول : إثنا عشر قيماً من قريش ، لا يضرهم عداوة من عاداهم ، قال فالتفتُّ خلفي ، فإذا أنا بعمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه وأبي ، في ناس ، فأثبتوا لي الحديث كما سمعت ) . انتهى .

ـ وقال عنه في مجمع الزوائد : ٥ / ١٩١ : رواه البزار عن جابر بن سمرة وحده ، وزاد

٣٤
 &

فيه : ثم رجع يعني النبي صلى الله عليه وسلم الى بيته ، فأتيته فقلت : ثم يكون ماذا ؟ قال : ثم يكون الهرج . ورجاله ثقات . انتهى .

فصار الحديث : اثني عشر قيماً والناس يعادونهم . وصار الذي أثبت له هوية هؤلاء القيمين على الأمة جماعة فيهم عمر وأبوه ! فقد تغيرت صيغة الحديث ومكانه والشخص الذي سأله عنه الكلمة المفقودة ، لكنها ما زالت نفسها مفقودة !!

والأعجب من الجميع أنهم رووا الحديث عن راوٍ آخر ، هو أبو جحيفة ، فخفيت عليه نفس الكلمة أيضاً !! ولكنه سأل عنها عمه ، وليس أباه !

ـ ففي مستدرك الحاكم : ٣ / ٦١٨

عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال : كنت مع عمي عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : لا يزال أمر أمتي صالحاً حتى يمضي اثنا عشر خليفة ، ثم قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمي وكان أمامي : ما قال يا عم ؟ قال قال يا بني : كلهم من قريش . انتهى . وقال عنه في مجمع الزوائد : ٥ / ١٩٠ : رواه الطبراني في الأوسط والكبير ، والبزار ، ورجال الطبراني رجال الصحيح . انتهى .

نجد أنفسنا هنا أمام ظاهرة لا مثيل لها في كل أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !!

مما يدل على أن أمر هذا الحديث مهمٌّ جداً ، وأن نصه وظروفه ليست طبيعية .. وأن في الأمر سراً ، يكمن في كلمة قريش !!

ويرى الباحث من حقه أن يحتمل أن الراوي الأصلي للحديث هو عمر ، وهو الذي صححه لهذا الصبي جابر بن سمرة وأثبته له ، وأمره أن يرويه هكذا !

فقد روى هذا الحديث الخزاز القمي الرازي في كتابه كفاية الأثر / ٩٠ ، عن عمر وحده ، بدون ابن سمرة وأبيه ، وبدون أبي جحيفة وعمه ، قال :

حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله قال : حدثنا الحسن بن علي زكريا العدوي ، عن شيث بن غرقده العدوي قال : حدثنا أبو بكر محمد بن العلا قال : حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري ، عن شريك بن عبد الله ، عن المفضل بن حصين ، عن

٣٥
 &

عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : الأئمة بعدي اثنا عشر ، ثم أخفى صوته فسمعته يقول : كلهم من قريش .

قال أبو المفضل : هذا غريب لا أعرفه إلا عن الحسن بن علي بن زكريا البصري بهذا الإسناد ، وكتبت عنه ببجارا يوم الأربعاء ، وكان يوم العاشور ، وكان من أصحاب الحديث إلا أنه كان ثقة في الحديث . انتهى .

الثانية : لا يصح الوعد الإلۤهي بقيادة مجهولة !

إن الوعد النبوي بالإثني عشر من بعده ، وعدٌ إلهيٌّ من لدن حكيمٍ خبير بأئمة بعد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما هي سنته تعالى في الأمم السابقة ، ورحمةٌ بهذه الأمة لحل أصعب مشكلة تواجهها الأمم بعد أنبيائها على الإطلاق !

فهل تقبل عقولنا أن الله تعالى قد أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يدل أمته على قادة مجهولين ؟!

نحن نرى أن الله تعالى قد وعد الأمم السابقة على لسان عيسى عليه‌السلام برسولٍ يأتي من بعده بأكثر من خمس مئة سنة ، ومع ذلك سماه باسمه فقال ( يأتي من بعدي اسمه أحمد ) صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف يعقل أن يعد خاتمة الأمم على لسان نبيها بقادتها الربانيين ( القيمين على الأمة ) ثم لا يسمي أولهم على الأقل ، ولا يسمي أسرتهم ، بل يكتفي بالقول إنهم من بضع وعشرين قبيلة متنازعة على الأمور الصغيرة التي هي أقل من السلطة ورئاسة الدولة بآلاف المرات ؟!

إن التصديق بذلك يعني نسبة عدم الحكمة الى الله عز وجل ، والى ساحة رسوله الحكيم المنزه صلى‌الله‌عليه‌وآله ! وهو أمرٌ لا يجرأ عليه مسلم ، بل حتى مستشرقٌ منصف !!

نعم قد يكون من المصلحة في بعض الإخبارات النبوية أن يبدأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإلقائها عامة تثير السؤال ، حتى إذا سأله الناس عنها بيَّنها لهم ، ليكون بيانها بعد سؤالهم أوقع لها في نفوسهم .. ولكن أين أسئلة المسلمين عن هؤلاء الأئمة ، وأجوبة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله !

إنك لا تجدها إلا في مصادر أحاديث الشيعة !

٣٦
 &

الثالثة : من قريش ، لكن من عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

لو غضينا النظر عن كل الإشكالات على الحديث ، وقبلنا أنه صدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بصيغته التي صححوها في مصادرهم .. فهو إذن يقول : إن قادة الأمة الخاتمة اثنا عشر ربانياً قيماً على الأمة ، وإنهم من قريش .

ويأتي هنا السؤال : من أي قريش اختارهم الله تعالى ؟

إن بطون قريش أو قبائلها أكثر من عشرين قبيلة .. وقد ثبت في صحاحهم أن الله تعالى اختار قريشاً من العرب ، واختار هاشماً من قريش .. فهل يعقل بعد أن اختار الله تعالى معدن هاشم على غيره ، أن يختار الأئمة الإثني عشر الوارثين لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله القيمين على أمته ، من معدن أقل فضلاً ودرجةً من بني هاشم ؟!!

ـ ففي صحيح مسلم : ٧ / ٥٨

عن واثلة بن الأسقع : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم . انتهى .

ورواه الترمذي : ٥ / ٢٤٥ ( هذا حديث حسن صحيح غريب ) وقال عنه في ص ٢٤٣ ( هذا حديث حسن صحيح ) ثم روى عدة أحاديث بمضمونه ، منها :

عن العباس بن عبد المطلب قال : قلت يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم ، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض ( والكبوة المزبلة ! )

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم ، وخير الفريقين ، ثم خير القبائل فجعلني من خير القبيلة ، ثم خير البيوت فجعلني من خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نفساً ، وخيرهم بيتاً . هذا حديث حسن . وروى بعده نحوه بسند آخر ، وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب . انتهى .

ـ وفي صحيح البخاري : ٤ / ١٣٨

باب قول الله تعالى : واذ كر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً . وإذ

٣٧
 &

قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة . إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين ، الى قوله يرزق من يشاء بغير حساب . قال ابن عباس : وآل عمران : المؤمنون من آل ابراهيم ، وآل عمران ، وآل ياسين ، وآل محمد ، صلى الله عليه وسلم .

ـ وفي نهج البلاغة : ١ / ٨٢ : والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حِيزِنا ، فكانوا كما قال الأول :

أدَمْتَ لعمري شُرْبَكَ المحضَ صابحاً

وأكلكَ بالزُّبد المقشَّرةَ البُجْرا

ونحن وهبناك العلاء ولم تكن

علياً ، وحُطْنا حولك الجرد والسمرا

ـ وفي صحيح البخاري : ٥ / ٦

عن قيس بن عبادة عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أنه قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة !! انتهى .

ويطول لكلام لو أردنا أن نستعرض ما ورد من القرآن والسنة في اختيار الله تعالى لبني هاشم ، واصطفائهم ، وتفضيلهم ، وحقهم على الأمة . وكل ذلك بسبب أن عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم ، لأنهم جوهرة معدن هاشم ، بل جدهم وهم جوهرة كل بني آدم .

الرابعة : أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تفسر حديث الإثني عشر

من المتفق عليه بين المسلمين أن كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلة القرآن يفسر بعضه بعضاً . بل ذلك أصلٌ عقلائي عند كل الأمم في تفسير نصوص أنبيائها ، فإن أيَّ أمةٍ تجد نصاً عن نبيها بالبشارة باثني عشر إماماً من بعده ، ولا تعرفهم من هم ، تنظر في نصوصه وأقواله وأفعاله ، لكي تعرف بواسطتها هؤلاء القادة المبشر بهم على لسانه !

وإذا نظرنا الى ما صدر عن نبينا الذي لا ينطق عن الهوى صلى‌الله‌عليه‌وآله في حق عترته : علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهم عليهم‌السلام ، مما اتفق عليه المسلمون ، وحكموا بصحته .. لا يبقى عندنا شك في أنه يقصد هؤلاء الذين مدحهم هو صلى‌الله‌عليه‌وآله في مناسبات

٣٨
 &

عديدة ، وبين للأمة أن الله تعالى مدحهم في آياته ، وطهرهم من الرجس تطهيراً ، وأوجب على المسلمين مودتهم ، وأن يصلوا عليهم معه في صلواتهم ، وحرم عليهم الصدقة ، وجعل لهم الخمس في ميزانية الدولة ، وجعلهم وصيته في أمته ، وسماهم مع كتاب الله الثقلين ....

ولا يتسع المقام لبسط الكلام فيه ، بل تكفي الإشارة الى ما هو

إن المتفق عليه بين المسلمين مما صدر في حقهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من المديح والتعظيم ، والتحذيرهم من مخالفتهم وظلمهم .. فيه عبرةٌ لمن كان له قلب ، وكفايةٌ لمن ألقى السمع ، وشهادةٌ لمن أراد الحجة من الله تعالى ، والشهادة من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

الخامسة : اثنا عشر إماماً واثنا عشر شهراً

ذكرت روايات الخطب الشريفة في حجة الوداع ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر الأئمة الإثني عشر ، وذكر استدارة الزمن كأول ما خلق الله الأرض ، وقرأ آية : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً .. ففي صحيح البخاري : ٥ / ١٢٦ :

عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض . السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب . انتهى . ورواه أيضاً في : ٥ / ٢٠٤ ، و : ٦ / ٢٣٥ ، وكذا أبو داود في : ١ / ٤٣٥ ، وأحمد في : ٥ / ٣٧

ـ ورواه في مجمع الزوائد : ٣ / ٢٦٥ ، بصيغة أقرب الى أسلوب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من رواية البخاري ، جاء فيها ( ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض ، ثم قرأ : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ... ) انتهى .

وقد ذكر المفسرون والشراح السنيون أن قصده صلى‌الله‌عليه‌وآله إلغاء النسئ الذي ابتدعته العرب للأشهر الحرم ، وأن وضع التوقيت والزمن قد رجع الى هيئته الأولى ، فلا نسئ

٣٩
 &

بعد اليوم .. ولكنه تفسير غير مقنع ، فإن نسئ العرب لم يكن مؤثراً في الزمن والفلك ، حتى يرجع الزمن الى حالته الأولى بإلغاء النسئ !

كما أني لم أجد دليلاً على ارتباط استدارة الزمان بالنسئ في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله

ولا يبعد أن تكون استدارة الزمان موضوعاً مستقلاً عن النسئ .

وبما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام توديع أمته ، وبيان مرحلة ما بعده من الهدى والضلال ، والعقائد والأحكام ، وطريق الجنة والنار .. فقد يقصد بإخباره باستدارة الزمن : أن مرحلةً جديدة بدأت من ذلك اليوم فما بعده ، من قوانين الهداية والإضلال الإلۤهي ، ومعالم ذلك هم الأئمة الإثنا عشر عليهم‌السلام ، الذين ينسجم وجودهم مع نظام الإثني عشر شهراً في تكوين السماوات والأرض .

ويؤيد ذلك : قداسة عدد الإثني عشر في القرآن ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب من الأنصار في أول بيعتهم له أن يختاروا منهم اثني عشر نقيباً ..

وأنه بشر الأمة بالأئمة الإثني عشر من بعده ..

ويؤيده : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر الأمة بوجود أئمة مضلين من بعده ، وشدد على التحذير منهم ، وبين أن أخطرهم الإثنا عشر منافقاً من أصحابه !

فمقابل كل إمام هدىً إمامُ ضلالٍ ، كما أن مقابل كل نبيٍّ عدوٌّ من المجرمين ، يعمل لإضلال الناس ! قال الله تعالى :

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا .

يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا .

لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا .

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا .

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا . الفرقان ٢٧ ـ ٣١

ـ وفي صحيح مسلم : ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٣ :

قال النبي صلى الله عليه وسلم : في أصحابي اثنا عشر منافقاً ، فيهم ثمانية لا

٤٠