آيات الغدير

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

آيات الغدير

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-151-6
الصفحات: ٣٧٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

وروى في بحار الأنوار : ١٦ / ٢٧٢ عن الكافي بسندٍ مقبول عن أبي عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا خرج في الصيف من البيت خرج يوم الخميس ، وإذا أراد أن يدخل في الشتاء من البرد ، دخل يوم الجمعة . انتهى .

ويؤيد قول أهل البيت عليهم‌السلام أيضاً ما رووه عن جابر بأن حركته صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت لأربعٍ بقين من ذي القعدة ، كما يأتي من سيرة ابن كثير .

بل يؤيده أيضاً ، أن البخاري وأكثر الصحاح رووا أن سفره صلى‌الله‌عليه‌وآله كان كان لخمسٍ بقين من ذي القعدة ، بدون تحديد يوم راجع البخاري : ٢ / ١٤٦ و ١٨٤ و ١٨٧ و : ٤ / ٧ وفيه ( وقدم مكة لأربع ليالٍ خلون من ذي الحجة ) ، والنسائي : ١ / ١٥٤ و ٢٠٨ و : ٥ / ١٢١ ، ومسلم : ٤ / ٣٢ ، وابن ماجه : ٢ / ٩٩٣ ، والبيهقي : ٥ / ٣٣ ، وغيرها .

ويؤيده أيضاً أن مدة سيره صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة الى مكة لا تزيد على ثمانية أيامٍ ، وذلك بملاحظة الطريق الذي سلكه ، والذي هو في حدود ٤٠٠ كيلو متراً ، وملاحظة سرعة السير ، حتى أن بعض الناس شكوا له تعب أرجلهم فعلمهم شدها .

وملاحظة أن أحداً لم يرو توقفه في طريق مكة أبداً .

وملاحظة روايات رجوعه ووصوله الى المدينة أيضاً ، مع أنه توقف طويلاً نسبياً في الغدير .. الخ .

ثم بملاحظة الروايات التي تتفق على وصوله الى مكة في الرابع من ذي الحجة . كما رأيت في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ورواية البخاري الآنفة .

وبذلك تسقط رواية خروجه من المدينة لستٍ بقين من ذي الحجة ، كما في عمدة القاري ، وإرشاد الساري ، وابن حزم ، وهامش السيرة الحلبية : ٣ / ٢٥٧ ، لأنها تستلزم أن تكون مدة السير الى مكة عشرة أيام !

*       *

٢٨١
 &

وبهذا يتضح حال القول المخالف لرواية أهل البيت عليهم‌السلام الذي اعتمد أصحابه رواية ( خمس بقين من ذي القعدة ) وحاولوا تطبيقها على يوم السبت ، ليجعلوا أول ذي الحجة الخميس ، ويجعلوا يوم عرفة يوم الجمعة تصديقاً لقول عمر ، بل تراهم ملكيين أكثر من الملك ، لما تقدم عن عمر من أن يوم عرفة كان يوم الخميس .

وممن قال برواية السبت ابن سعد في الطبقات : ٢ / ١٢٤ ، والواقدي في المغازي : ٢ / ١٠٨٩ وكذا في هامش السيرة الحلبية : ٣ / ٣ ، والطبري : ٣ / ١٤٨ ، وتاريخ الذهبي : ٢ / ٧٠١ ، وغيرهم .

وعلى هذه الرواية يكون الباقي من شهر ذي القعدة خمسة أيام هي : السبت والأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء ، ويكون أول ذي الحجة الخميس ، ويكون يوم عرفة يوم الجمعة ، وتكون مدة السير الى مكة تسعة أيام ، إلا أن يكون الراوي تصور أن ذي القعدة كان تاماً ، فظهر ناقصاً .

وقد حاول ابن كثير الدفاع عن هذا القول ، فقال في سيرته : ٤ / ٢١٧ :

وقال أحمد ... عن أنس بن مالك الأنصاري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في مسجده بالمدينة أربع ركعات ، ثم صلى بنا العصر بذي الحليفة ركعتين آمناً لا يخاف ، في حجة الوداع . تفرد به أحمد من هذين الوجهين ، وهما على شرط الصحيح . وهذا ينفي كون خروجه عليه‌السلام يوم الجمعة قطعاً .

ولا يجوز على هذا أن يكون خروجه يوم الخميس كما قال ابن حزم ، لأنه كان يوم الرابع والعشرين من ذي القعدة ، لأنه لا خلاف أن أول ذي الحجة كان يوم الخميس لما ثبت ( بالتواتر والإجماع ) من أنه عليه‌السلام وقف بعرفة يوم الجمعة ، وهو تاسع ذي الحجة بلا نزاع .

فلو كان خروجه يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي القعدة ، لبقي في الشهر ست ليال قطعاً : ليلة الجمعة والسبت والأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء . فهذه ست ليال . وقد قال ابن عباس وعائشة وجابر إنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة وتعذر

٢٨٢
 &

أنه يوم الجمعة لحديث أنس ، فتعين على هذا أنه عليه‌السلام خرج من المدينة يوم السبت ، وظن الراوي أن الشهر يكون تاماً فاتفق في تلك السنة نقصانه ، فانسلخ يوم الأربعاء واستهل شهر ذي الحجة ليلة الخميس . ويؤيده ما وقع في رواية جابر : لخمس بقين أو أربع .

وهذا التقريب على هذا التقدير لا محيد عنه ولا بد منه . والله أعلم . انتهى .

ويظهر من كلام ابن كثير عدم اطمئنانه بهذه التقديرات ، لأنه رأى تشكيك الخليفة عمر نفسه ، وتشكيك سفيان الثوري الذي رواه البخاري ، وتشكيك النسائي . وجزم ابن حزم بأن سفره صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يوم الخميس .

ونلاحظ أن ابن كثير استدل على أن خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الخميس بالمصادرة على المطلوب فقال ( لما ثبت بالتواتر والإجماع من أنه عليه‌السلام وقف بعرفة يوم الجمعة ) فأي تواترٍ وإجماعٍ يقصد ، وما زال في أول البحث ؟!

كما أنه استدل على أن سفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يبدأ من المدينة يوم الجمعة برواية أنس أن النبي صلى الظهر والعصر ولم يصل الجمعة ، وهو استدلالٌ يرد نفسه ويؤيد قول أهل البيت عليهم‌السلام بأن بدء سفره كان الخميس لأربعٍ بقين من ذي القعدة !

وتقدمت الرواية عندنا أنه عليهم‌السلام صلى الظهر والعصر في ذي الحليفة .

ولو صحت رواية أنس بأنه صلى الظهر في مسجده في المدينة ، ثم صلى العصر في ذي الحليفة ، فلا ينافي ذلك أن يكون سفره الخميس ، بل يكون معناه أنه أحرم بعد العصر من ذي الحليفة ، وواصل سفره صلى‌الله‌عليه‌وآله .

*       *

والنتيجة : أن القول بنزول آية إكمال الدين في يوم عرفة ، يرد عليه إشكالاتٌ عديدةٌ ، سواء في منطقه ، أم في تاريخه وتوقيته .. تستوجب من الباحث المنصف أن يتوقف ولا يأخذ به .

٢٨٣
 &

فيبقى رأي أهل البيت عليهم‌السلام ومن وافقهم في سبب نزول الآية بدون معارض ، لأن المعارض الذي لا يستطيع النهوض للمعارضة كعدمه .. والمتن الكسيح لا ينفع معه السند الصحيح !!

وفي الختام : فإن المجمع عليه عند جميع المسلمين أن يوم نزول الآية عيدٌ إلۤهيٌّ عظيمٌ ( عيد إكمال الدين وإتمام النعمة ) بل ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام أنه أعظم الأعياد الإسلامية على الاطلاق ، ودليله المنطقي واضحٌ ، حيث ارتبط العيد الأسبوعي للمسلمين بصلاة الجمعة ، وارتبط عيد الفطر بعبادة الصوم ، وارتبط عيد الأضحى بعبادة الحج .. أما هذا العيد ، فهو مرتبطٌ بإتمام الله تعالى نعمة الإسلام كله على الأمة ، وقد تحقق في رأي إخواننا السنة بتنزيل أحكام الدين وإكماله من دون تعيين آليةٍ لقيادة مسيرته ..

وتحقق في رأينا بإكمال تنزيل الأحكام ، ونعمة الحل الإلۤهي لمشكلة القيادة وإرساء نظام الإمامة الى يوم القيامة ، في عترة خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومادام جميع المسلمين متفقون على أنه عيدٌ شرعي ، فلماذا يقبل علماء المسلمين ومفكروهم ورؤساؤهم أن تخسر الأمة أعظم أعيادها ، ولا يكون له ذكرٌ في مناسبته ، ولا مراسمُ تناسب شرعيته وقداسته ؟!

فهل يستجيب علماء إخواننا السنة الى دعوتنا بالبحث في فقه هذا العيد المظلوم المغيب .. وإعادته الى حياة كل المسلمين ، بالشكل الذي ينسجم مع عقائدهم وفقه مذاهبهم !

*       *

٢٨٤
 &

الفصل الخامس

آية : سأل سائل بعذاب واقع

قال الله تعالى في مطلع سورة المعارج :

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّـهِ ذِي الْمَعَارِجِ ... الى آخر السورة الكريمة التي تبلغ ٤٤ آية .

أحداث كانت وراءها قريش

نمهد لتفسير الآية بذكر فهرس عددٍ من الأحداث الخطيرة في أواخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. ثبت أن قريشاً كانت وراء بعضها ، وتوجد مؤشرات توجب الظن بأنها كانت وراء الباقي .

الأولى : محاولة اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حنين .. وقد تقدم في البحث الخامس اعتراف بعض زعماء قريش بها !

الثانية : محاولة اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في العقبة في طريق رجوعه من تبوك ، وقد كانت محاولة متقنةً ، نفذتها مجموعةٌ منافقة بلغت نحو عشرين شخصاً ، وقد عرفوا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سيمر ليلاً من طريق الجبل بينما يمر الجيش من طريقٍ حول الجبل ، وكانت خطتهم أن يكمنوا فوق الطريق الذي سيمر فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى إذا وصل

٢٨٥
 &

الى المضيق ألقوا عليه ما استطاعوا من صخورٍ لتنحدر بقوةٍ وتقتله ، ثم يفرون ويضيعون أنفسهم في جيش المسلمين ، ويبكون على الرسول ، ويأخذون خلافته !

وقد تركهم الله تعالى ينفذون خطتهم ، حتى إذا بدؤوا بدحرجة الصخور ، جاء جبرئيل وأضاء الجبل عليهم ، فرآهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وناداهم بأسمائهم ، وأراهم لمرافقيْه المؤمنيْن : حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ، وأشهدهما عليهم ، فسارع المنافقون ونزلوا من الجهة الثانية من الجبل ، وضيعوا أنفسهم في المسلمين !!

أما لماذا لم يعلن الرسول أسماءهم ؟!

فلا جواب إلا أنهم من قريش ، ومن المعروفين فيها .. وإعلان أسمائهم يعني معاقبتهم ، ومعاقبتهم تعني خطر ارتداد قريش عن الإسلام ، وإمكان إقناعها بعض قبائل العرب بالإرتداد ، بحجة أن محمداً أعطى كل شئ من بعده لبني هاشم ، ولم يعط لقريشٍ والعرب شيئاً !

وهذا يعني السمعة السيئة للإسلام ، وأن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن آمن به أصحابه اختلف معهم ، وقاتلهم وقاتلوه !

ويعني الحاجة من جديد الى بدرٍ وأحدٍ والخندق وفتح مكة !

ولن تكون نتائج هذه الدورة للإسلام أفضل من الدورة الأولى !

فالحل الإلۤهي هو : السكوت عنهم ماداموا يعلنون قبول الإسلام ، ونبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وينكرون فعلتهم .

ومن الملاحظ أن روايات مؤامرة العقبة ذكرت أسماء قرشية معروفة ، وقد ضعَّفها رواة قريش طبعاً ، لكن أكثرهم وثقوا ابن جميْع وغيره من الرواة الذين نقلوا عن حذيفة بن اليمان أسماء هؤلاء الزعماء المشاركين فيها !

كما أنهم رووا عن حذيفة وعمار رواياتٍ فاضحةٍ لبعض الصحابة الذين كانوا يسألونهما عن أنفسهم : هل رأياهم في الجبل ليلة العقبة ؟! ويحاولون أن يأخذوا منهما براءةً من النفاق والمشاركة في المؤامرة !

٢٨٦
 &

ورووا أنهم كانوا يعرفون الشخص أنه من المنافقين أم لا ، عندما يموت .. فإن صلى حذيفة على جنازته فهو مؤمن ، وإن لم يصل على جنازته فهو منافق .

ورووا أن حذيفة لم يصل على جنازة أي زعيمٍ من قريشٍ مات في حياته !!

الثالثة : قصة سورة التحريم ، التي تنص على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أسرَّ بحديثٍ خطيرٍ الى بعض أزواجه ، وأكد عليها أن لا تقوله لأحد ، ولا بد أن الله تعالى أمره بذلك لحِكَمٍ ومصالح يعلمها سبحانه .. فخالفت ( أم المؤمنين ) حكم الله تعالى ، وأفشت سر زوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعملت مع صاحبتها لمصلحة ( قريش ) ضد مصلحة زوجها الرسول .. فأطْلع الله تعالى نبيه على مؤامرتهما ، فأخبرهما بما فعلتا ، ونزل القرآن بكشف سرهما وسر من ورائهما ، وهددهما وضرب لهما مثلاً بامرأتي نوح ولوط ، اللتين خانتاهما ، فدخلتا النار !!

أما رواة الخلافة القرشية فيقولون إن المسألة كانت عائلية ، تتعلق بغيرة النساء من بعضهن ، وببعض الأخطاء الفنية الخفيفة لهن مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !

إنهم يريدونك أن تغمض عينيك عن آيات الله تعالى في سورة التحريم ، التي تتحدث عن خطرٍ عظيمٍ على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والرسالة ، وتحشد أعظم جيشٍ جرارٍ لمواجهة الموقف فتقول ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ، وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ ، وَجِبْرِيلُ ، وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ )

فلمن صغت قلوبهما ، ولمصلحة من تعاونتا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

وما هي القضية الشخصية التي تحتاج معالجتها الى هذا الجيش الإلۤهي الجرار ، الذي لا يستنفره الله تعالى إلا لحالات الطوارئ القصوى ؟!

أما ابن عباس الذي يصفونه بحبر الأمة ، فكان يقرأ الآية ( زاغت قلوبكما ) وبذلك تكون اثنتان من أمهات المؤمنين احتاجتا الى تجديد إسلامهما !

الرابعة : حادثة هجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لنسائه شهراً ، وشيوع خبر طلاقه لهن .. وذهابه بعيداً عنهن وعن المسجد ، الى بيت مارية القبطية الذي كان في طرف المدينة أو خارجها ..

٢٨٧
 &

فقد صورت الروايات القرشية هذه الحادثة على أنها حادثةٌ شخصية .. شخصيةٌ بزعمهم وشغلت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والوحي والمسلمين !

وادعوا أن سببها كثرة طلبات نسائه المعيشية منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأكدوا أنه لا ربط للحادثة بقضايا الإسلام المالئة للساحة السياسية آنذاك ، والشاغلة لزعماء قريش خاصة ..

الخامسة : تصعيد عمل قريشٍ ضد علي بن أبي طالب عليه‌السلام لإسقاط شخصيته ، وغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وشدته عليهم في دفاعه عن علي ، وتركيزه لشخصيته .. ولهذا الموضوع مفرداتٌ عديدة في حروب النبي وسلمه وسفره وحضره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونلاحظ أنها كثرت في السنة الأخيرة من حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وغضب بسببها مراراً ، وخطب أكثر من مرة ، مبيناً فضل علي عليه‌السلام وفسق أو كفر من يؤذيه !

ولو لم يكن من ذلك إلا قصة بريدة الأسلمي الكاسحة ، التي روتها مصادر السنيين بطرقٍ عديدة ، وأسانيد صحيحة عالية ، وكشفت عن وجود شبكة عملٍ منظم ترسل الرسائل وتضع الخطط ضد علي عليه‌السلام ، وسجلت إدانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الغاضبة لهم ، وتصريحه بأن علياً وليكم من بعدي ، وحُكمه بالنفاق على كل من ينتقد علياً وكل من لا يحب علياً ، ولا يطيعه ..!

وهي حادثةٌ تكفي دليلاً على ظلم زعماء قريش وحسدهم لعلي عليه‌السلام ... الخ .!

السادسة : منع تدوين سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته .. أما القرآن فقد كان عامة الناس يكتبونه من حين نزوله ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر بوضع ما ينزل منه جديداً بين منبره والحائط ، وكان يوجد هناك ورقٌ ودواةٌ ، لمن يريد أن يكتبه .

وكان علي عليه‌السلام يكتب القرآن ، وحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يأمره بكتابته .

وكان آخرون يكتبون حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنهم شبانٌ قرشيون يعرفون الكتابة مثل عبد الله بن عمرو بن العاص ..

وقد أحست قريش بأن ذلك يعني تدوين مقولات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله العظيمة في حق عترته وبني هاشم ، ومقولاته في ذم عددٍ كبيرٍ من فراعنة قريش وشخصياتها ..

٢٨٨
 &

فعملت على منع كتابة سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته ، في حين أن بعض زعمائها كان يكتب أحاديث اليهود ، ويحضر درسهم في كل سبت !! وقد وثقنا ذلك في كتاب تدوين القرآن .

وقد روت مصادر السنيين أن عبد الله بن عمرو شكى الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ( قريشاً ) نهته عن كتابة حديثه ، لأن أحاديثه التي فيها غضبٌ عليها ليست حجة شرعا !

قال أبو داود في سننه : ٢ / ١٧٦ :

عن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أريد حفظه ، فنهتني قريش ( ؟ ) وقالوا : أتكتب كل شئ تسمعه ؟! ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشرٌ يتكلم في الغضب والرضا ؟! فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأومأ بإصبعه الى فيه فقال : أكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق ! . انتهى . ورواه أحمد في مسنده : ٢ / ١٩٢ ، و٢١٥ ، والحاكم في المستدرك : ١ / ١٠٥ و : ٣ / ٥٢٨ ، وصححه .

السابعة : محاولة اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في طريق عودته من حجة الوداع عند عقبة هرشى ، وقد كشف الوحي المؤامرة ، وكانت شبيهةً الى حد كبيرٍ بمؤامرة اغتياله صلى‌الله‌عليه‌وآله في العقبة ، في طريق رجوعه من مؤتة !

الثامنة : تصعيد قريش انتقادها لأعمال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لتركيز مكانة عترته عليهم‌السلام وأسرته بني هاشم في الأمة ، واعتراض عددٍ منهم عليه بصراحةٍ ووقاحةٍ ، ومطالبتهم بأن يجعل الخلافة لقريش تدور في قبائلها ، أو يشرك مع علي غيره من قبائل قريش ، وقد رفض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كل مطالبهم ، لأنه لا يملك شيئاً مع الله تعالى ، ولم يعط شيئاً من عنده حتى يمنعه ، وإنما هو عبدٌ ورسولٌ مبلغ !! صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد تقدم نص تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى / ١٦٧ ، وفيه ( جاءه قوم من قريش فقالوا له : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن الناس قريبو عهد بالإسلام ، لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب . فلو عدلت به الى غيره لكان أولى .

٢٨٩
 &

فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما فعلت ذلك برأيي فأتخير فيه ، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه علي .

فقالوا له : فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك ، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس اليه ، ليتم لك أمرك ، ولا يخالف الناس عليك .

التاسعة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما كان مريضاً شكل جيشاً بقيادة أسامة بن زيد ، وجعل تحت إمرته كل زعماء قريش غير بني هاشم ، وعقد اللواء لأسامة بن زيد ، وأمره أن يسير الى مؤتة في الأردن لمحاربة الروم .. أراد بذلك أن يرسخ قدرة الدولة الإسلامية ويأخذ بثار شهداء مؤتة ، وأراد أن يفرغ المدينة من المعارضين لعلي عليه‌السلام قبيل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله !

فخرج أسامة بمن معه وعسكر خارج المدينة ، ولكن زعماء قريش أحبطوا خطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتتثاقلهم عن الإنضمام الى جيش أسامة ، وتأخيرهم من استطاعوا عنه ، ثم طعنوا في تأمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأسامة الأفريقي الشاب ، بحجة صغر سنه ، وواصلوا تسويفهم الوقت ، والذهاب الى معسكر أسامة ثم الرجوع الى المدينة .. حتى صعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المنبر وشدد على إنفاذ جيش أسامة ، وأبلغ المسلمين صدور اللعنة من ربه عز وجل ومنه صلى‌الله‌عليه‌وآله على كل من تخلف عن جيش أسامة !!

العاشرة : تصعيد قريش فعاليتها في مواجهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقرارها الخطير بمواجهته صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرةً إذا أراد أن يستخلف علياً وأهل بيته من بعده رسمياً !

وبالفعل فقد قام بمهمة المواجهة زعيم قريش الجديد عمر بن الخطاب ، وذلك عندما جمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله زعماء قريش والأنصار في مرض وفاته ، وأخبرهم أنه قرر أن يكتب لأمته كتاباً لن تضل بعده أبداً ، فعرفوا أنه يريد أن يثبت ولاية علي وأهل بيته عليهم‌السلام على الأمة بصورة مكتوبة ، فواجهه عمر بصراحة : لا نريد كتابك وأمانك من الضلال ، ولا سنتك ولا عترتك ، وحسبنا كتاب الله ! وحتى تفسيره من حقنا نحن لا من حقك ، وحق عترتك !!

٢٩٠
 &

وأيده القرشيون الحاضرون ومن أثَّروا عليه من الأنصار ، وصاحوا في محضر نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله : القول ما قاله عمر !!

وانقسم المودعون لنبيهم في آخر أيامه ، وتشادوا بالكلام فوق رأسه صلى‌الله‌عليه‌وآله !! منهم من يقول قربوا له قلماً وقرطاساً يكتب لكم أماناً من الضلال . وأكثرهم يصيح : القول ما قاله عمر ، لا تقربوا له شيئاً ، ولا تدَعُوهُ يكتب !!

ولعل جبرئيل حينذاك كان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كثر نزوله عليه في الأيام الأخيرة ، فتشاور معه وأخبره أن الحجة قد تمت ، والإصرار على الكتاب يعني دفع قريش نحو الردة ، والحل هو الإعراض عنهم ، وإكمال تبليغهم بطردهم !!

فطردهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال لهم : قوموا فما ينبغي عند نبي تنازع ! قوموا ، فما أنا فيه خير مما تدعوني اليه .. !!

وحديث إيتوني بدواةٍ وقرطاسٍ حديث معروفٌ ، وقد سمى ابن عباس تلك الحادثة ( رزية يوم الخميس ) ، وقد رواها البخاري في ست مواضع من صحيحه !

الحادية عشرة : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مصاباً بحمى شديدة في مرضه ، وكان يغشى عليه لدقائق من شدة الحمى ويفيق .. فأحس بأن بعض من حوله أرادوا أن يسقوه دواء عندما أغمي عليه ، فأفاق ونهاهم ، وشدد عليهم النهي بأن لا يسقوه أي دواء إذا أغمي عليه .. ولكنهم اغتنموا فرصة الإغماء عليه بعد ذلك ، وصبوا في فمه دواء فرفضه ، ولكنهم سقوه إياه بالقوة !!

فأفاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووبخهم على عملهم ! وأمر كل من كان حاضراً أن يشرب من ذلك الدواء ، ما عدا بني هاشم !!

ورووا أن الجميع شربوا من ( ذلك ) الدواء !!

هذه الحادثة المعروفة في السيرة بحادثة ( لَدّ النبي ) صلى‌الله‌عليه‌وآله ينبغي أن تعطى حقها من البحث والتحقيق ، فربما كانت محاولةً لقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسم !!

٢٩١
 &

إن وكل واحدة من هذه الحوادث تصلح أن تكون موضوعاً لرسالة دكتوراه .. ولكنا أردنا منها التمهيد لتفسير آية ( سَأَلَ سَائِلٌ ) في مطلع سورة المعارج .

وإذا أردت أن تعرف الأبطال الحقيقيين لهذه الحوادث ، والأدمغة المخططة لها .. فابحث عن قريش !!

وإذا أردت أن تفهم أكثر وتتعمق أكثر ، فابحث .. عن علاقة قريش باليهود !! فاعجب من ذلك ، وافهم كيف عصم الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أن ترتد قريش في حياته ، وتعلن كفرها بنبوته !

ولكنه لم يعصمه من أذاها ومؤامراتها .. فذلك هو طريق الأنبياء عليهم‌السلام وتكاليفه .. لا تغيير فيها !

استنفار قريش بعد الغدير

تحركت قافلة النبوة والإمامة من غدير خمٍ نحو المدينة .. وسكن قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واطمأن .. ولكن قريشاً لم تسكن ، بل صارت في حالة غليانٍ من الغيظ !

هكذا تقول الأحاديث ، ومنطق الأحداث .. فقريش لا تسكت حتى ترى العذاب الأليم ! وقد قال لهم الصادق الأمين الذي لا ينطق إلا وحياً صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا أراكم منتهين يا معشر قريش !!

إن آية العصمة من الناس كما قدمنا ، لا تعني أن الله تعالى جعل الطريق أمام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ناعماً كالحرير ، ولا أنه جعل له قريشاً فرساً ريِّضاً طائعاً ..

إن قدرته تعالى لا يمتنع منها شئ .. ولكنه أراد للأمور أن تجري بأسبابها ، وللأمة أن تجري عليها سنن الأمم الماضية ، فتمتحن بإطاعة نبيها من بعده ، أو معصيته ..

وهذا يستوجب أن تبقى لها القدرة على معصيته .. أما على الردة في حياته وفي وجهه .. فلا .

إن قدرتها تصل الى حد قولها لنبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا نريد وصيتك ولا سنتك ولا عترتك ، حسبنا كتاب الله !!

٢٩٢
 &

لكن ما بعدها ذلك خطٌّ أحمر .. هكذا أراد الله تعالى !!

لقد تحققت عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قريش في منعطفات كثيرة في حجة الوداع .. في مكة ، وعرفات ، وفي ثلاث خطبٍ في منى ، خاصةً خطبة مسجد الخيف ..

وما تنفست قريش الصعداء إلا برحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله دون أن يطالبها بالبيعة لعلي !

ولكن الله تعالى لم يكتف بذلك ، حتى أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يوقف المسلمين في طريق عودتهم في حر الظهيرة ، في صحراء ليس فيها كلأ لخيولهم وجمالهم ، ولا سوق ليشتروا منه علوفة وطعاماً ، إلا دوحةٌ من بضع أشجار على قليل من ماء .. وذلك بعد مسير ثلاثة أيام ، ولم يصبر عليهم حتى يصلوا الى مدينة الجحفة التي لم يبق عنها إلا ميلان أو أقل ، بل كان أول القافلة وصل الى مشارفها ، فبعث اليهم وأرجعهم الى صحراء الغدير !

كل ذلك لكي يصعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المنبر في غير وقت صلاة ، ليرفع بيد ابن عمه وصهره علي عليه‌السلام ويقول لهم : هذا وليكم من بعدي ، ثم من بعده ولداه الحسن والحسين ، ثم تسعة من ذرية الحسين عليهم‌السلام !

هنا تجلت آية العصمة من الناس مجسمةً للعيان .. فقد كمَّمَ الله تعالى أفواه قريش عن المعارضة ، وفتح أفواههم للموافقة ، فقالوا جميعاً : نشهد أنك بلغت عن ربك .. وأنك نعم الرسول .. سمعنا وأطعنا .. وتهافتوا مع المهنئين الى خيمة علي .. وكبروا مع المكبرين عندما نزلت آية ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) !

ثم أصغوا جميعاً الى قصيدة حسان بن ثابت في وصف نداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإبلاغه عن ربه ولاية علي عليه‌السلام من بعده .

واستمرت التهنئة من بعد صلاة العصر الى ما شاء الله .. ومن بعد صلاة المغرب والعشاء تتابع عدد من المهنئين في العتمة ، حتى طلع قمر ليلة التاسع عشر من ذي الحجة .. فقد بات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في غدير الإمامة ، وتحرك الى المدينة بعد صلاة فجره .. وقيل بقي فيه يومان !

٢٩٣
 &

أما كيف سلب الله تعالى قريشاً القدرة على تخريب مراسم الغدير .. وكيف كف ألسنتها .. وهي السليطةُ بالإعتراض .. الجريئةُ على الأنبياء ؟!

وكيف جعلها تفكر بأن تمرر هذا اليوم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يفعل لبني هاشم وعليٍّ ما يشاء ؟! فذلك من عمله عز وجل ، وقدرته المطلقة .. المطلقة !

هذا هو الأسلوب الأول الذي عصم الله به رسوله من ارتداد قريش ، ولا بد أن ما خفي عنا من ألطافه تعالى أعظم .

أما الأسلوب الثاني فكان لغة العذاب السماوي ، التي تفهمها قريش جيداً ، كما كان يفهمها اليهود في زمان أنبيائهم !!

أحجار من السماء للناطقين باسم قريش

ورد في أحاديث السنة والشيعة أسماءٌ عديدةٌ لأشخاصٍ اعترضوا على إعلان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية علي عليه‌السلام في غدير خم .

ويفهم منها أن عدداً منها تصحيفات لاسم شخص واحد ، ولكن عدداً آخر لا يمكن أن يكون تصحيفاً ، بل يدل على تعدد الحادثة ، خاصة أن العقاب السماوي في بعضها مختلف عن الآخر .. وهم :

جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري ..

والحارث بن النعمان الفهري ..

والحرث بن النعمان الفهري

وعمرو بن عتبة المخزومي ..

والنضر بن الحارث الفهري ..

والحارث بن عمرو الفهري

والنعمان بن الحارث اليهودي

والنعمان بن المنذر الفهري

٢٩٤
 &

وعمرو بن الحارث الفهري

ورجل من بني تيم

ورجل أعرابي ...

ورجل أعرابي من أهل نجد من ولد جعفر بن كلاب بن ربيعة .

وكل هؤلاء قرشيون إلا الربيعي واليهودي إذا صحت روايتهما ! وليس فيهم أنصاري واحد ، إذ لم يعهد من الأنصار اعتراضٌ على الإمتيازات التي أعطاها الله تعالى لعترة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ! وإن عهد منهم عدم الوفاء لهم بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وخلاصة الحادثة : أن أحد هؤلاء الأشخاص ـ أو أكثر من واحد ـ اعترض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واتهمه بأن إعلانه علياً عليه‌السلام ولياً على الأمة ، كان عملاً من عنده وليس بأمر الله تعالى ! ولم يقتنع بتأكيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له ، بأنه ما فعل ذلك إلا بأمر ربه !

وذهب المعترض من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مغاضباً وهو يدعو الله تعالى أن يمطر الله عليه حجارة من السماء إن كان هذا الأمر من عنده .. فرماه الله بحجرٍ من سجيلٍ فأهلكه ! أو أنزل عليه ناراً من السماء فأحرقته !

وهذه الحادثة تعني أن الله تعالى استعمل التخويف مع قريش أيضاً ، ليعصم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من تكاليف حركة الردة التي قد تُقْدِم عليها .. وبذلك تعزز عند زعماء قريش الإتجاه القائل بفشل المواجهة العسكرية مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وضرورة الصبر حتى يتوفاه الله تعالى !

*       *

وفي هذا الحديث النبوي ، والحادثة الربانية ، مسائل وبحوث عديدةٌ أهمها :

المسألة الأولى : في أن مصادر السنيين روت هذا الحديث

لم تختص بروايته مصادرنا الشيعية بل روته مصادر السنيين أيضاً ، وأقدم من رواه من أئمتهم : أبو عبيد الهروي في كتابه : غريب القرآن .

٢٩٥
 &

ـ قال في مناقب آل أبي طالب ٢ / ٢٤٠ :

أبو عبيد ، والثعلبي ، والنقاش ، وسفيان بن عينيه ، والرازي ، والقزويني ، والنيسابوري ، والطبرسي ، والطوسي في تفاسيرهم ، أنه لما بلَّغَ رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بغدير خم ما بلَّغ ، وشاع ذلك في البلاد ، أتى الحارث بن النعمان الفهري وفي رواية أبي عبيد : جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال :

يا محمد ! أمرتنا عن الله بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وبالصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة ، فقبلنا منك ، ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ! فهذا شئ منك أم من الله ؟! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي لا إلۤه إلا هو إن هذا من الله .

فولى جابر يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . فما وصل اليها حتى رماه الله بحجر ، فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله تعالى : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ .. الآية . انتهى .

وقد أحصى علماؤنا كصاحب العبقات ، وصاحب الغدير ، وصاحب إحقاق الحق ، وصاحب نفحات الأزهار ، وغيرهم .. عدداً من أئمة السنيين وعلمائهم الذين أوردوا هذا الحديث في مصنفاتهم ، فزادت على الثلاثين .. نذكر منهم اثني عشر :

١ ـ الحافظ أبو عبيد الهروي المتوفى بمكة ٢٢٣ ، في تفسيره ( غريب القرآن )

٢ ـ أبو بكر النقاش الموصلي البغدادي المتوفى ٣٥١ ، في تفسيره .

٣ ـ أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري المتوفى ٤٢٧ ، في تفسيره ( الكشف والبيان )

٤ ـ الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب ( أداء حق الموالاة )

٥ ـ أبو بكر يحيى القرطبي المتوفى ٥٦٧ ، في تفسيره

٦ ـ شمس الدين أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي المتوفى ٦٥٤ في تذكرته

٧ ـ شيخ الإسلام الحمويني المتوفى ٧٢٢ ، روى في فرائد السمطين في الباب

٢٩٦
 &

الثالث عشر قال : أخبرني الشيخ عماد الدين الحافظ بن بدران بمدينة نابلس ، فيما أجاز لي أن أرويه عنه إجازة ، عن القاضي جمال الدين عبد القاسم بن عبد الصمد الأنصاري إجازة ، عن عبد الجبار بن محمد الحواري البيهقي إجازة ، عن الإمام ابي الحسن علي بن أحمد الواحدي قال : قرأت على شيخنا الأستاذ أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره : أن سفيان بن عيينة سئل عن قوله عز وجل : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ فيمن نزلت فقال ....

٨ ـ أبو السعود العمادي المتوفى ٩٨٢ ، قال في تفسيره ٨ / ٢٩٢ : قيل هو الحرث بن النعمان الفهري ، وذلك أنه لما بلغه قول رسول الله عليه‌السلام في علي رضي‌الله‌عنه : من كنت مولاه فعلي مولاه ، قال ....

٩ ـ شمس الدين الشربيني القاهري الشافعي المتوفى ٩٧٧ ، قال : في تفسيره السراج المنير : ٤ / ٣٦٤ : اختلف في هذا الداعي فقال ابن عباس : هو النضر بن الحرث ، وقيل : هو الحرث بن النعمان ....

١٠ ـ الشيخ برهان الدين علي الحلبي الشافعي المتوفى ١٠٤٤ ، روى في السيرة الحلبية : ٣ / ٣٠٢ وقال : لما شاع قوله صلى الله عليه وسلم : من كنت مولاه فعلي مولاه في ساير الأمصار وطار في جميع الأقطار ، بلغ الحرث بن النعمان الفهري .... الى آخر لفظ سبط ابن الجوزي .

١١ ـ شمس الدين الحفني الشافعي المتوفى ١١٨١ ، قال في شرح الجامع الصغير للسيوطي : ٢ / ٣٨٧ في شرح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من كنت مولاه فعلي مولاه .

١٢ ـ أبو عبد الله الزرقاني المالكي المتوفى ١١٢٢ ، في شرح المواهب اللدنية ، / ١٣ . انتهى . وسيأتي ذكر بقية مصادر الحديث في بحث أسانيده .

المسألة الثانية : هل أن سورة المعارج مكية أو مدنية

يلاحظ القارئ أن الجو العام للسورة الشريفة الى آية ٣٦ ، أقرب الى جو السور

٢٩٧
 &

المدنية وتشريعات سورة النور والمؤمنين ، وأن جو الآيات ٣٦ الى آخر السورة أقرب الى جو السور المكية ، التي تؤكد على مسائل العقيدة والآخرة .

ولذلك لا يمكن معرفة مكان نزول السورة من آياتها ، حسب ما ذكروه من خصائص للسور المكية والمدنية ، وضوابط للتمييز بينها .. على أن هذه الخصائص والضوابط غير دقيقة ولا علمية !

وإذا صح لنا أن نكتفي بها ، فلا بد أن نقول إن القسم الأخير من السورة من قوله تعالى ( فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) الى آخرها ، نزلت أولاً في مكة ، ثم نزل القسم الأول منها في المدينة ، ووضع في أولها !!

ولكن ذلك ليس أكثر من ظن ! والطريق الصحيح لتعيين مكيتها أو مدنيتها هو النص ، والنص هنا متعارضٌ سواءً في مصادرنا أو مصادر السنيين ، ولكن المفسرين السنيين رجحوا مكيتها وعدوها في المكي .

ولا يبعد أن ذلك هو المرحج حسب نصوص مصادرنا أيضاً .

ـ فقد روى القاضي النعمان في شرح الأخبار ١ / ٢٤١

عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : نزلت والله بمكة للكافرين بولاية علي عليه‌السلام . انتهى .

والظاهر أن مقصوده عليه‌السلام : أنها نزلت في مكة وكان مقدراً أن يأتي تأويلها في المدينة عند اعتراضهم على إعلان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية علي عليه‌السلام .

ـ وقال الكليني في الكافي ٥ / ٤٥٠ :

قال : سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمد بن النعمان صاحب الطاق ، فقال له : يا أبا جعفر ما تقول في المتعة ، أتزعم أنها حلال ؟

قال : نعم .

قال : فما يمنعك أن تأمر نساءك أن يستمتعن ويكتسبن عليك ؟

فقال له أبو جعفر : ليس كل الصناعات يرغب فيها ، وإن كانت حلالاً ، وللناس أقدار ومراتب يرفعون أقدارهم . ولكن ما تقول يا أبا حنيفة في النبيذ ، أتزعم أنه حلال ؟

٢٩٨
 &

فقال : نعم .

قال : فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نباذات فيكتسبن عليك ؟

فقال أبو حنيفة : واحدةٌ بواحدة ، وسهمك أنفذ .

ثم قال له : يا أبا جعفر إن الآية التي في سأل سائل ، تنطق بتحريم المتعة والرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد جاءت بنسخها ؟

فقال له أبو جعفر : يا أبا حنيفة إن سورة سأل سائل مكية ، وآية المتعة مدنية ، وروايتك شاذة ردية .

فقال له أبوحنيفة : وآية الميراث أيضاً تنطق بنسخ المتعة ؟

فقال أبو جعفر : قد ثبت النكاح بغير ميراث .

قال أبو حنيفة : من أين قلت ذاك ؟

فقال أبو جعفر : لو أن رجلاً من المسلمين تزوج امرأة من أهل الكتاب ، ثم توفي عنها ما تقول فيها ؟

قال : لا ترث منه .

قال : فقد ثبت النكاح بغير ميراث . ثم افترقا . انتهى .

وقول أبي حنيفة إن سورة سأل سائل تنطق بتحريم المتعة ، يقصد به قوله تعالى في السورة ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) .

فأجابه مؤمن الطاق بأن السورة مكية وآية ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) مدنية ، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر ؟

ولكن الجواب الأصح : أن المتمتع بها زوجةٌ شرعية ، فهي مشمولةٌ لقوله تعالى ( إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ ) وقد أفتى عدد من علماء السنيين بأنه يجوز للرجل أن يتزوج امرأة حتى لو كان ناوياً أن يطلقها غداً ، وهو نفس المتعة التي يشنعون بها علينا .

بل أفتى أبو حنيفة نفسه بأن الرجل لو استأجر امرأة لخدمته وكنْس منزله وغسل ثيابه ، فقد جاز له مقاربتها بدون عقد زواج ، لا دائمٍ ولا منقطع !! بحجة أن عقد

٢٩٩
 &

الإجارة يشمل ذلك ! وهذا أوسع من المتعة التي يقول بها الفقه الشيعي ، لأن عقد الزواج شرطٌ فيها ، وإلا كانت زنا .

والنتيجة أن المرجح أن تكون سورة المعارج مكية ، ولكن ذلك لا يؤثر على صحة الحديث القائل بأن العذاب الواقع هو العذاب النازل على المعترض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما أعلن ولاية علي عليه‌السلام ، لأن ذلك يكون تأويلاً لها ، وإخباراً من جبرئيل عليه‌السلام بأن هذه الحادثة هي من العذاب الواقع الموعود .

فقد تقدمت رواية شرح الأخبار في ذلك ، وستأتي منه رواية فيها ( فأصابته الصاعقة فأحرقته النار ، فهبط جبرئيل وهو يقول : إقرأ يا محمد : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ) . وهي كالنص في أن جبرئيل عليه‌السلام نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتطبيق الآية أو تأويلها .

بل يظهر من أحاديثنا أن ما حل بالعبدري والفهري ما هو جزءٌ صغيرٌ من ( العذاب الواقع ) الموعود ، وأن أكثره سينزل تمهيداً لظهور الإمام المهدي عليه‌السلام أو نصرةً له ..

ـ وقد أوردنا في معجم أحاديث الإمام المهدي عليه‌السلام : ٥ / ٤٥٨ عدة أحاديث عن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما‌السلام في تفسير العذاب الواقع بأحداثٍ تكون عند ظهور الإمام المهدي عليه‌السلام .

ـ منها ما رواه علي بن ابراهيم القمي في تفسيره : ٢ / ٣٨٥ قال :

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ، قال : سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن معنى هذا ، فقال : نارٌ تخرج من المغرب ، وملكٌ يسوقها من خلفها حتى تأتي دار بني سعد بن همام عند مسجدهم ، فلا تدع داراً لبني أمية إلا أحرقتها وأهلها ، ولا تدع داراً فيها وترٌ لآل محمدٍ إلا أحرقتها ، وذلك المهدي عليه‌السلام .

ـ ومنها ما رواه النعماني في كتاب الغيبة / ٢٧٢ قال :

حدثنا محمد بن همام قال : حدثنا جعفر بن محمد بن مالك قال : حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن الحسن بن علي ، عن صالح بن سهل ، عن أبي عبد

٣٠٠