آيات الغدير

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

آيات الغدير

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-151-6
الصفحات: ٣٧٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ، فكانت له خاصة فقلدها صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً عليه‌السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله ، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان ، بقوله تعالى : قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ ، فهي في ولد علي عليه‌السلام خاصة الى يوم القيامة ، إذ لا نبي بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فمن أين يختار هؤلاء الجهال ! . انتهى .

القول الثاني

قول المفسرين السنيين الموافق لقول أهل البيت عليهم‌السلام :

وأحاديثهم في بيعة الغدير تبلغ المئات ، وفيها صحاح من الدرجة الأولى عندهم وقد جمعها عددٌ من علمائهم القدماء منهم الطبري المؤرخ في كتابه ( الولاية ) فبلغت طرقها ونصوصها عنده مجلدين ، وتنص رواياتها على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أصعد علياً معه على المنبر ، ورفع يده حتى بان بياض إبطيهما ، وبلغ الأمة ما أمره الله فيه ... الخ . وقد انتقد الطبري بعض المتعصبين السنيين لتأليفه هذه الكتاب في أحاديث الغدير ، التي يحتج بها الشيعة عليهم ، ويجادلوهم بها عند ربهم !

وتنص بعض روايات الغدير عندهم على أن آية إكمال الدين نزلت في الجحفة يوم الغدير بعد إبلاغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية علي عليه‌السلام .

لكن ينبغي الاِلتفات الى أن أكثر السنيين الذين صحت عندهم روايات الغدير ، لم يقبلوا الأحاديث القائلة بأن آية إكمال الدين نزلت يوم الغدير ، بل أخذوا بقول الخليفة عمر ومعاوية ، أنها نزلت يوم عرفة ، كما سيأتي .

وقد جمع أحاديث بيعة الغدير عدد من علماء الشيعة القدماء والمتأخرين ، ومن أشهر المتأخرين النقوي الهندي في كتاب عبقات الأنوار ، والشيخ الأميني في كتاب الغدير ، والسيد المرعشي في كتاب شرح إحقاق الحق ، والسيد الميلاني في كتاب نفحات الأزهار .

٢٦١
 &

وقد أورد صاحب الغدير عدداً من الروايات من مصادر السنيين ، ذكرت أن آية إكمال الدين نزلت في يوم الغدير ، بعد إعلان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية علي عليه‌السلام ..

ـ وهذه خلاصة ما ذكره في الغدير : ١ / ٢٣٠ :

ومن الآيات النازلة يوم الغدير في أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا .... ثم ذكر الأميني رحمه‌الله عدداً من المصادر التي روتها ، نذكر منها :

١ ـ الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى ٣١٠ روى في كتاب الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم نزول الآية الكريمة يوم غدير خم في أمير المؤمنين عليه‌السلام ...

٢ ـ الحافظ ابن مردويه الأصفهاني المتوفى ٤١٠ ، روى من طريق أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ... ثم رواه عن أبي هريرة ...

٣ ـ الحافظ أبو نعيم الإصبهاني المتوفى ٤٣٠ ، روى في كتابه ( ما نزل من القرآن في علي ) ... عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس الى علي في غدير خم ، أمر بما تحت الشجرة من الشوك فقمَّ ، وذلك يوم الخميس فدعا علياً فأخذ بضبعيه فرفعهما ، حتى نظر الناس الى بياض إبطي رسول الله ، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .. الآية .. الخ .

٤ ـ الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي المتوفى ٤٦٣ ، روى في تاريخه ٨ / ٢٩٠ ... عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ... قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال عمر بن الخطاب : بخٍ بخٍ يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ، فأنزل الله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .. الآية .

٥ ـ الحافظ أبو سعيد السجستاني المتوفى ٤٧٧ ، في كتاب الولاية بإسناده عن يحيى بن عبد الحميد الحماني الكوفي ، عن قيس بن الربيع ، عن أبي هارون ، عن أبي سعيد الخدري ...

٦ ـ أبو الحسن ابن المغازلي الشافعي المتوفى ٤٨٣ ، روى في مناقبه عن أبي بكر

٢٦٢
 &

أحمد بن محمد بن طاوان قال : أخبرنا أبو الحسين أحمد بن الحسين بن السماك قال : حدثني أبو محمد جعفر بن محمد بن نصير الخلدي ، حدثني علي بن سعيد بن قتيبة الرملي ، قال : .. عن أبي هريرة ....

٧ ـ الحافظ أبو القاسم الحاكم الحسكاني .... عن أبي سعيد الخدري : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزلت هذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، قال : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، وولاية علي بن أبي طالب من بعدي .

٨ ـ الحافظ أبو القاسم بن عساكر الشافعي الدمشقي المتوفى ٥٧١ ، روى الحديث المذكور بطريق ابن مردويه ، عن أبي سعيد وأبي هريرة ، كما في الدر المنثور ٢ / ٢٥٩ .

٩ ـ أخطب الخطباء الخوارزمي المتوفى ٥٦٨ ، قال في المناقب / ٨٠ .... عن أبي سعيد الخدري إنه قال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم دعا الناس إلي غدير خم أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ ، وذلك يوم الخميس ثم دعا الناس الى علي ، فأخذ بضبعه فرفعها حتى نظر الناس الى إبطيه ، حتى نزلت هذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .. الآية ...

وروى في المناقب / ٩٤ .... عن ضمرة ، عن ابن شوذب ، عن مطر الوارق . الى آخر ما مر عن الخطيب البغدادي سنداً ومتناً .

١٠ ـ أبو الفتح النطنزي روى في كتابه الخصايص العلوية ، عن أبي سعيد الخدري بلفظ مر / ٤٣ ، وعن الخدري وجابر الأنصاري ...

١١ ـ أبو حامد سعد الدين الصالحاني ، قال شهاب الدين أحمد في توضيح الدلايل على ترجيح الفضايل : وبالإسناد المذكور عن مجاهد رضي‌الله‌عنه قال : نزلت هذه الآية : اليوم أكملت لكم ، بغدير خم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلم : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، والولاية لعلي . رواه الصالحاني .

٢٦٣
 &

١٢ ـ شيخ الإسلام الحمويني الحنفي المتوفى ٧٢٢ ، روى في فرايد السمطين في الباب الثاني عشر ، قال : أنبأني الشيخ تاج الدين ... الخ . انتهى .

القول الثالث

قول الخليفة عمر بأنها نزلت في حجة الوداع يوم عرفة يوم جمعة ، وهذا هو القول المشهور عند السنيين فقد رواه البخارى في صحيحه : ١ / ١٦

عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا !! قال أي آية ؟ قال : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قائمٌ بعرفة ، يوم جمعة .

ـ وفي البخاري ٥ / ١٢٧

عن طارق بن شهاب إن أناساً من اليهود قالوا : لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، فقال عمر : أية آيةٍ ؟

فقالوا : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا .

فقال عمر : إني لاعلم أي مكان أنزلت ، أنزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة ...

عن طارق بن شهاب : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرؤون آية ، لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً !

فقال عمر : إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت ، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت . يوم عرفة وأنا والله بعرفة ـ قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة ، أم لا ـ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .

٢٦٤
 &

وفي البخاري : ٨ / ١٣٧ :

عن طارق بن شهاب قال : قال رجل من اليهود لعمر : يا أمير المؤمنين لو أن علينا نزلت هذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا .. لاتخذنا ذلك اليوم عيداً !

فقال عمر : إني لاعلم أي يوم نزلت هذه الآية ، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة . سمع سفيان من مسعر ، ومسعر قيساً ، وقيس طارقاً . انتهى .

وقد روت عامة مصادر السنيين رواية البخاري هذه ونحوها بطرقٍ متعددة ، وأخذ بها أكثر علمائهم ، ولم يديروا بالاً لتشكيك بعضهم في أن يكون يوم عرفة في حجة الوداع يوم جمعة ، مثل سفيان الثوري والنسائي ! ولا لرواياتهم المؤيدة لرأي أهل البيت عليهم‌السلام ، التي تقدمت .. وذلك بسبب أن الخليفة عمر قال إنها لم تنزل يوم الغدير بل نزلت في عرفات قبل الغدير بتسعة أيام ، وقوله مقدم عندهم على كل اعتبار .

ـ قال السيوطي في الاِتقان ١ / ٧٥ عن الآيات التي نزلت في السفر :

منها : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ . في الصحيح عن عمر أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع ، وله طرقٌ كثيرة .

لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري : أنها نزلت يوم غدير خم .

وأخرج مثله من حديث أبي هريرة وفيه : أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة مرجعه من حجة الوداع . وكلاهما لا يصح . انتهى .

وقال في الدر المنثور : ٢ / ٢٥٩

أخرج ابن مردويه ، وابن عساكر بسند ضعيف ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يوم غدير خم ، فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .

وأخرج ابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر بسند ضعيف عن أبي هريرة قال : لما كان غدير خم وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فأنزل الله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ انتهى .

٢٦٥
 &

وموقف السيوطي هو الموقف العام للعلماء السنيين .. ولكنه لا يعني أنهم يضعفون حديث الغدير كما تقدم ، بل يقولون إن حديث الغدير صحيحٌ ، ولكن الآية نزلت قبل ذلك اليوم ، تمسكاً بقول الخليفة عمر الذي روته صحاحهم ، حتى لو خالفه حديثٌ صحيحٌ ، وحتى لو خالفه الحساب والتاريخ !

ومن المتعصبين لرأي عمر المذكور : ابن كثير ، وهذه خلاصة من تفسيره : ٢ / ١٤ :

قال أسباط عن السدي : نزلت هذه الآية يوم عرفة ، ولم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ . وقال ابن جرير وغير واحد : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً ، رواهما ابن جرير .

ثم ذكر ابن كثير رواية مسلم وأحمد والنسائي والترمذي المتقدمة وقال :

قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ الآية .

وشك سفيان رحمه‌الله إن كان في الرواية فهو تورُّعٌ ، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا ، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما إخاله يصدر عن الثوري رحمه‌الله فإن هذا أمر معلومٌ مقطوعٌ به ، لم يختلف فيه أحدٌ من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء ، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة ، لا يشك في صحتها ، والله أعلم . وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عمر .

وقال ابن جرير ... عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب قال : قال كعب لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه !!

فقال عمر : أي آيةٍ يا كعب ؟

فقال : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .

فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه ، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ .... ( ورواه في مختصر تاريخ دمشق ٢ جزء ٤ / ٣٠٩ )

٢٦٦
 &

وقال ابن جرير : .... حدثنا عمرو بن قيس السكوني أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ حتى ختمها ، فقال : نزلت في يوم عرفة ، في يوم جمعة ...

وقال ابن جرير : وقد قيل ليس ذلك بيومٍ معلومٍ عند الناس !!

ثم روى من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يقول ليس بيومٍ معلومٍ عند الناس . قال : وقد قيل إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ( الى ) حجة الوداع .

ثم قال ابن كثير :

قلت : وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم ، حين قال لعلي : من كنت مولاه فعلي مولاه . ثم رواه عن أبي هريرة ، وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، يعني مرجعه عليه‌السلام من حجة الوداع .

ولا يصح لا هذا ولا هذا ، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية ، أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، وسمرة بن جندب رضي‌الله‌عنه ، وأرسله الشعبي ، وقتادة بن دعامة ، وشهر بن حوشب ، وغير واحد من الأئمة والعلماء ، واختاره ابن جرير الطبري رحمه‌الله انتهى .

وتلاحظ أن ابن كثير لا يريد الإعتراف بوجود تشكيكٍ في أن يوم عرفة كان يوم جمعة ، لأن ذلك يخالف قول عمر ، وقد صعب عليه تشكيك سفيان الثوري الصريح فالتفَّ عليه ليخربه !!

ومما يدل على أن الرواة كانوا في شكٍّ من أن يوم عرفات كن يوم جمعة ما رواه الطبري في تفسيره : ٤ / ١١١ مما لم يذكره ابن كثير قال :

٢٦٧
 &

حدثنا ابن المثنى قال : ثنا عبد الوهاب قال : ثنا داود قال قلت لعامر : إن اليهود تقول : كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه ؟!

فقال عامر : أو ما حفظته ؟

قلت له : فأي يوم ؟

قال : يوم عرفة أنزل الله في يوم عرفة !!

وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية ، أعني قوله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يوم الإثنين ، وقالوا : أنزلت سورة المائدة بالمدينة .

ذكر من قال ذلك : حدثني المثنى قال : ثنا إسحاق قال : أخبرنا محمد بن حرب قال : ثنا ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش عن ابن عباس : ولد نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الإثنين ، وخرج من مكة يوم الإثنين ، ودخل المدينة يوم الإثنين ، وأنزلت سورة المائدة يوم الإثنين : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ورفع الذكر يوم الإثنين .

ثم قال الطبري : وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روي عن عمر بن الخطاب أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة ، لصحة سنده وهي أسانيد غيره . انتهى .

الموقف العلمي في سبب نزول الآية

بإمكان الباحث أن يفتش عن الحقيقة في سبب نزول الآية في أحاديث حجة الوداع ، لأن هذا الوداع الرسولي المهيب قد تم بإعلانٍ ربانيٍّ مسبق ، وإعدادٍ نبوي واسع .. وقد حضره ما بين سبعين ألفاً الى مئة وعشرين ألفاً من المسلمين ، ونقلوا العديد من من أحداث حجة الوداع ، وأقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأفعاله فيها ، بشئٍ من التفصيل ، ورووا أنه خطب في أثنائها خمس خطب أو أكثر .. وسجلوا يوم حركته من المدينة ، والأماكن التي مر عليها أو توقف فيها ، ومتى دخل مكة ، ومتى وكيف أدى المناسك .. ثم رووا حركة رجوعه وما صَادفه فيها .. الى أن دخل الى المدينة المنورة وعاش فيها نحو شهرين بقية عمره الشريف صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢٦٨
 &

وعلى هذا ، فإن عنصر التوقيت والتاريخ حاسمٌ في المسألة ، وهو الذي يجب أن يكون مرجحاً للرأي الصحيح من الرأيين المتعارضين .

وعنصر التوقيت هنا يرجح قول أهل البيت عليهم‌السلام والروايات السنية الموافقة لهم ، مضافاً الى المرجحات الأخرى المنطقية ، التي تنضم اليه كما يلي :

أولاً : أن التعارض هنا ليس بين حديثين أحدهما أصح سنداً وأكثر طرقاً كما توهموا .. بل هو تعارض بين حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين قولٍ للخليفة عمر .

فإن الأحاديث التي ضعفوها هي أحاديث نبوية مسندة ، بينما أحاديث البخاري وغيره هي قول لعمر ، لم يسنده الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !

فالباحث السني لا يكفيه أن يستدل بقول عمر في سبب نزول القرآن ، ويردَّ به الحديث النبوي المتضمن سبب النزول ، بل لا بد له أن يبحث في سند الحديث ونصه ، فإن صح عنده فعليه أن يأخذ به ويترك قول عمر .. وإن لم يصح رجع الى أقوال الصحابة المتعارضة ، وجمع بين الموثوق منها إن أمكن الجمع ، وإلا رجح بعضها وأخذ به ، وترك الباقي .. ولكنهم لم يفعلوا ذلك مع الأسف !

ثانياً : لو تنزلنا وقلنا إن أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام في سبب نزول الآية والأحاديث السنية المؤيدة لها ليست أكثر من رأي لأهل البيت ومن أيدهم في ذلك ، وأن التعارض يصير بين قولين لصحابيين في سبب النزول ، أو بين قول صحابي وقول بعض أئمة أهل البيت عليهم‌السلام .

فنقول : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصى أمته بأخذ الدين من أهل بيته عليهم‌السلام ولم يوصها بأخذه من أصحابه .. وذلك في حديث الثقلين الصحيح المتواتر عند الجميع ، وهو كما في مسند أحمد : ٣ / ١٤ : عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني تاركٌ فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء الى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض . انتهى .

٢٦٩
 &

ورواه أيضاً في : ٣ / ١٧ ـ ٢٦ و٥٩ ، و : ٤ / ٣٦٦ ، و٣٧١ ، والدارمي : ٢ / ٤٣١ ، ومسلم ٧ / ١٢٢ ، والحاكم ، وصححه على شرط الشيخين وغيرهما في : ٣ / ١٠٩ و ١٤٨ ، والبيهقي في سننه : ٢ / ١٤٨ ، وغيرهم .

وهذا الحديث الصحيح بدرجة عالية يدل على حصر مصدر الدين بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأهل بيته صلى الله عليه وعليهم ، أو يدل على الأقل على ترجيح قولهم عند تعارضه مع قول غيرهم !

ثالثاً : أن الرواية عن الخليفة عمر نفسه متعارضة ، وتعارضها يوجب التوقف في الأخذ بها ، فقد رووا عنه أن يوم عرفة في حجة الوداع كان يوم خميس ، وليس يوم جمعة . قال النسائي في سننه : ٥ / ٢٥١ :

أخبرنا إسحق بن إبراهيم قال : أنبأنا عبد الله بن إدريس ، عن أبيه ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : قال يهودي لعمر : لو علينا نزلت هذه الآية لاتخذناه عيداً : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .

قال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه والليلة التي أنزلت ، ليلة الجمعة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات !

والطريف أن النسائي روى عن عمر في : ٨ / ١١٤ ، أنها نزلت في عرفات في يوم جمعة !

رابعاً : تقدم قول البخاري في روايته أن سفيان الثوري وهو من أئمة الحديث والعقيدة عندهم ، لم يوافق على أن يوم عرفة كان يوم جمعة ( قال سفيان وأشك كان يوم الجمعة أم لا .. ) وهناك عددٌ من الروايات تؤيد شك سفيان ، بل يظهر أن سفياناً كان قاطعاً بأن يوم عرفة في حجة الوداع لم يكن يوم جمعة ، وإنما قال ( أشك ) مداراةً لجماعة عمر ، الذين رتبوا كل الروايات لأحداث حجة الوداع ، بل وأحداث التاريخ الإسلامي كلها .. على أساس أن يوم عرفات كان يوم جمعة ، كما ستعرف .

خامساً : أن عيد المسلمين هو يوم الأضحى ، وليس يوم عرفة ، ولم أجد روايةً

٢٧٠
 &

تدل على أن يوم عرفة عيدٌ شرعي ، فالقول بذلك مما تفرد به الخليفة عمر ، ولم يوافقه عليه أحدٌ من المسلمين ! وهو عند السلفيين يدخل في باب البدعة !

أما إذا أخذنا برواية النسائي القائلة إن عرفة كان يوم خميس ، وأن الآية نزلت ليلة عرفة .. فلا يبقى عيدٌ حتى يصطدم به العيد النازل من السماء ، ولا يحتاج الأمر الى قانون إدغام الأعياد الإلۤهية المتصادمة ، كما ادعى الخليفة ! .

فيكون معنى جواب الخليفة على هذه الرواية أن يوم نزول آية إكمال الدين يستحق أن يكون عيداً ، ولكن آيته نزلت قبل العيد بيومين ، فلم نتخذ يومها عيداً !

وهذا كلام متهافت !

سادساً : أن قول عمر يناقض ما رووه عن عمر نفسه بسندٍ صحيحٍ أيضاً .. فقد فهم هذا اليهودي من الآية أن الله تعالى قد أكمل تنزيل الإسلام وختمه في يوم نزول الآية ، وقبل عمر منه هذا التفسير .. فلا بد أن يكون نزولها بعد نزول جميع الفرائض ، فيصح على رأيه ما قاله أهل البيت عليهم‌السلام وما قاله السدي وابن عباس وغيرهما من أنه لم تنزل بعدها فريضةٌ ولا حكم .

مع أن الخليفة عمر قال إن آية إكمال الدين نزلت قبل آيات الكلالة ، وأحكام الإرث ، وغيرها ، كما تقدم .. فوجب على مذهبه أن يقول لليهودي : ليس معنى الآية كما ظننت ، بل كان بقي من الدين عدة أحكامٍ وشرائع نزلت بعدها ، وذلك اليوم هو الجدير بأن يكون عيداً !

وعندما تتعارض الروايات عن شخصٍ واحد وتتناقض ، فلا بد من التوقف فيها جميعاً ، وتجميد كل روايات عمر في آخر ما نزل من القرآن ، وفي وقت نزول آية إكمال الدين !

ومن جهة أخرى ، فقد أقر الخليفة أن ( اليوم ) في الآية هو اليوم المعين الذي نزلت فيه ، وليس وقتاً مجملاً ولا يوماً مضى قبل سنة كفتح مكة ، أو يأتي بعد شهور

٢٧١
 &

مثلاً . فهو يستوجب رد قول الطبري الذي تعمد اختياره ليوافق عمر ، ويستوجب رد كل الروايات التي تريد تعويم كلمة ( اليوم ) في الآية ، أو تريد جعله يوم فتح مكة .

قال القرطبي في تفسيره : ١ / ١٤٣

وقد يطلق اليوم على الساعة منه قال الله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وجمع يوم أيام وأصله أيوام فأدغم .

وقال في : ٢ / ٦١

واليوم قد يعبر بجزء منه عن جميعه ، وكذلك عن الشهر ببعضه تقول : فعلنا في شهر كذا كذا وفي سنة كذا كذا ، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة ، وذلك مستعملٌ في لسان العرب والعجم .

سابعاً : أن جواب الخليفة لليهودي غير مقنعٍ لا لليهودي ولا للمسلم !

فإن كان يقصد الإعتذار بأن نزولها صادف يوم عيد ، ولذلك لم نتخذ يومها عيداً !

فيمكن لليهودي أن يجيبه : لماذا خرَّب عليكم ربكم هذا العيد وأنزله في ذلك اليوم ؟!

وإن كان يقصد إدغام عيد إكمال الدين بعيد عرفة ، حتى صار جزءً منه !

فمن حق سائلٍ أن يسأل : هذا يعني أنكم جعلتم يوم نزولها نصف عيد ، مشتركاً مع عرفة .. فأين هذا العيد الذي لا يوجد له أثر عندكم ، إلا عند الشيعة ؟!

وإن كان يقصد أن هذا اليوم الشريف والعيد العظيم ، قد صادف يوم جمعة ويوم عرفة ، فأدغم فيهما وذاب ، أو أكلاه وانتهى الأمر !

فكيف أنزل الله تعالى هذا العيد على عيدين ، وهو يعلم أنهما سيأكلانه !

فهل تعمد الله تعالى تذويب هذا العيد ، أم أنه نسي والعياذ بالله فأنزل عيداً في يوم عيد ، فتدارك المسلمون الأمر بقرار الدمج والإدغام ، أو التنصيف !!

ثم من الذي اتخذ قرار الإدغام ؟ ومن الذي يحق له أن يدغم عيداً إلهياً في عيد آخر ، أو يطعم عيداً ربانياً لعيد آخر !

٢٧٢
 &

وما بال الأمة الإسلامية لم يكن عندها خبر من حادثة اصطدام الأعياد الربانية في عرفات ، حتى جاء هذا اليهودي في خلافة عمر ونبههم ! فأخبره الخليفة عمر بأنه يوافقه على كل ما يقوله ، وأخبره وأخبر المسلمين بقصة تصادم الأعياد الإلۤهية في عرفات ! وأن الحكم الشرعي في هذا التصادم هو الإدغام لمصلحة العيد السابق ، أو إطعام العيد اللاحق للسابق !

وهل هذه الأحكام للأعياد أحكامٌ إسلامية ربانية ، أم استحسانية شبيهاً بقانون تصادم السيارات ، أو قانون تصادم الأعياد الوطنية والدينية ؟!!

إن المشكلة التي طرحها اليهودي ، ما زالت قائمة عند الخليفة وأتباعه ، لأن الخليفة لم يقدم لها حلاً .. وكل الذي قدمه أنه اعترف بها وأقرها ، ثم رتب عليها أحكاماً لا يمكن قبولها ، ولم يقل إنه سمعها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !

فقد اعترف خليفة المسلمين بأن يوم نزول الآية يوم عظيمٌ ومهمٌ بالنسبة الى المسلمين ، لأنه يوم مصيري وتاريخي أكمل الله فيه تنزيل الإسلام ، وأتمَّ فيه النعمة على أمته ، ورضيه لهم ديناً يدينونه به ، ويسيرون عليه ، ويدعون الأمم اليه .

وأن هذا اليوم العظيم يستحق أن يكون عيداً شرعياً للأمة الإسلامية تحتفل فيه وتجتمع فيه ، في صف أعيادها الشرعية الثلاث : الفطر والأضحى والجمعة ، وأنه لو كان عند أمة أخرى يوم مثله ، لأعلنته عيداً ربانياً ، وكان من حقها ذلك شرعاً ..

لقد وافق الخليفة محاوره اليهودي على كل هذا ، وبذلك يكون عيد إكمال الدين في فقه إخواننا عيداً شرعياً سنوياً ، يضاف الى عيدي الفطر والأضحى السنويين وعيد الجمعة الأسبوعي .

إن الناظر في المسألة يلمس أن الخليفة عمر وقع في ورطة ( آية علي بن أبي طالب ) من ناحيتين : فهو من ناحية ناقض نفسه في آخر ما نزل من القرآن .. ومن ناحية فتح على نفسه المطالبة بعيد الآية الى يوم القيامة !! وصار من حق المسلم أن يسأل أتباع عمر من الفقهاء عن هذا العيد الذي لا يرى له عيناً ولا أثراً ولا اسماً في تاريخ المسلمين ، ولا في حياتهم ، ولا في مصادرهم .. إلا .. عند الشيعة !

٢٧٣
 &

ثم .. إن الأعياد الإسلامية توقيفية ، فلا يجوز لأحد أن يشرع عيداً من نفسه .. وحجة الشيعة في جعل يوم الغدير عيداً ، أن أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم رووا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يوم الآية أي يوم الغدير عيدٌ شرعي ، وأن جبرئيل أخبره بأن الأنبياء عليهم‌السلام كانوا يأمرون أممهم أن تتخذ يوم نصب الوصي عيداً .

فما هي حجة الخليفة في تأييد كلام اليهودي ، وموافقته له بأن ذلك اليوم يستحق أن يكون عيداً شرعياً للأمة الإسلامية ! ثم أخذ يعتذر له بأن مصادفة نزولها في عيدين أوجبت عدم إفراد المسلمين ليومها بعيد .. الخ .

فإن كان الخليفة حكم من عند نفسه بأن يوم الآية يستحق أن يكون عيداً ، فهو تشريع وبدعة ، وإن كان سمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلماذا لم يذكره ، ولم يرو أحدٌ من المسلمين شيئاً عن عيد الآية ، إلا ما رواه الشيعة ؟!

ثامناً : لو كان يوم عرفة يوم جمعة كما قال عمر في بعض أقواله ، لصلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمسلمين صلاة الجمعة ، مع أن أحداً لم يرو أنه صلى الجمعة في عرفات ، بل روى النسائي وغيره أنه قد صلى الظهر والعصر !

والظاهر أن النسائي يوافق سفيان الثوري ولا يوافق عمر ، فقد جعل في سننه : ١ / ٢٩٠ عنواناً باسم ( الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ) .

وروى فيه عن جابر بن عبد الله قال : سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها ، حتى إذا زاغت الشمس ، أمر بالقصواء فرحلت له ، حتى إذا انتهى الى بطن الوادي خطب الناس ، ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً !! انتهى .

ـ وكذلك روى أبو داود في سننه : ١ / ٤٢٩

عن ابن عمر قال : غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة ، حتى أتى عرفة فنزل بنمرة ، وهي منزل الإمام الذي ينزل بعرفة ،

٢٧٤
 &

حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً ، فجمع بين الظهر والعصر ، ثم خطب الناس ، ثم راح فوقف على الموقف من عرفة . انتهى .

وأما الجواب بأن الجمعة تسقط في السفر ، فهو أمر مختلفٌ عندهم فيه ، ولو صح أن يوم عرفة كان يوم جمعة ولم يصل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة الجمعة ، لذكر ذلك مئات المسلمين الذين كانوا في حجة الوداع !

وقد تمحل ابن حزم في الجواب عن ذلك فقال في المحلى : ٧ / ٢٧٢ :

مسألة : وإن وافق الإمام يوم عرفة يوم جمعةٍ جهرِ وهي صلاة جمعة ! ويصلي الجمعة أيضاً بمنى وبمكة ، لأن النص لم يأت بالنهي عن ذلك ، وقال تعالى : إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ، فلم يخص الله تعالى بذلك غير يوم عرفة ومنى .

وروينا ... عن عطاء بن أبي رباح قال : إذا وافق يوم جمعة يوم عرفة ، جهر الإمام بالقراءة ... فإن ذكروا خبراً رويناه ... عن الحسن بن مسلم قال : وافق يوم التروية يوم الجمعة وحجة النبي عليه‌السلام فقال : من استطاع منكم أن يصلي الظهر بمنى فليفعل ، فصلى الظهر بمنى ولم يخطب ... فهذا خبرٌ موضوعٌ فيه كل بلية : ابراهيم بن أبي يحيى مذكور بالكذب متروك من الكل ، ثم هو مرسل ، وفيه عن ابن الزبير ، مع ابن أبي يحيى الحجاج بن أرطاة ، وهو ساقط ، ثم الكذب فيه ظاهر ، لأن يوم التروية في حجة النبي عليه‌السلام إنما كان يوم الخميس ، وكان يوم عرفة يوم الجمعة ، روينا ذلك من طريق البخارى ...

فإن قيل : إن الآثار كلها إنما فيها جمع رسول الله عليه‌السلام بعرفة بين الظهر والعصر ؟

قلنا : نعم وصلاة الجمعة هي صلاة الظهر نفسها ! وليس في شئ من الآثار أنه عليه‌السلام لم يجهر فيها ، والجهر أيضاً ليس فرضاً ، وإنما يفترق الحكم في أن ظهر يوم الجمعة في الحضر والسفر للجماعة ركعتان . انتهى .

٢٧٥
 &

وجواب ابن حزم : أنه صادر على المطلوب ، لأنه رد الرواية لمجرد مخالفتها لقول عمر بأن يوم عرفة لم يكن يوم جمعة !

فلماذا لم يرد قول عمر بقوله الثاني بأن عرفة كانت يوم خميس ، وروايته صحيحة ؟

أو بقول النسائي والثوري ، والأقوال العديدة التي ذكرها الطبري وغيره ؟

ولو صح ما قاله من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اعتبر ركعتي الظهر في عرفة صلاة جمعة لأنه جهر فيهما ، لاشتهر بين المسلمين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جهر في صلاة الظهر التي لا يجهر بها لتصبح ( أتوماتيكياً ) صلاة جمعة !

بل إن الرواية التي كذبها وهاجمها بسبب مخالفتها لرواية عمر تنص على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى الجمعة في منى ، وهي أقرب الى حساب سفره صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة الذي كان يوم الخميس لأربع بقين من ذي القعدة ، ووصوله الى مكة يوم الخميس لأربع مضين من ذي الحجة ، وأن أول ذي الحجة كان يوم الإثنين ، فيوم عرفة يوم الثلاثاء ، وعيد الأضحى الأربعاء ، ويوم الجمعة كان ثاني عشر ذي الحجة كما سيأتي .. فيكون قول الراوي إن الجمعة كانت في منى قولاً صحيحاً ، ولكنه اشتبه وحسبها قبل موقف عرفات ، مع أنها كانت بعده !

تاسعاً : إن القول بأن يوم عرفة في تلك السنة كان يوم جمعة ، تعارضه رواياتهم التي تقول إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله عاش بعد نزول الآية إحدى وثمانين ليلةً أو ثمانين !

فقد ثبت عندهم أن وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ومن ٩ ذي الحجة الى ١٢ ربيع الأول أكثر من تسعين يوماً .. فلا بد لهم إما أن يأخذوا برواية وفاته قبل ذلك فيوافقونا على أنها في ٢٨ من صفر ، أو يوافقونا على نزول الآية في يوم الغدير ١٨ ذي الحجة .

ـ قال السيوطي في الدر المنثور : ٢ / ٥٩

وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج قال : مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة ، قوله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ انتهى .

ـ وذكر نحوه في : ٢ / ٢٥٧ عن البيهقي في شعب الإيمان .

٢٧٦
 &

ـ وقال ابن حجر في تلخيص الحبير بهامش مجموع النووي : ٧ / ٣

وروى أبو عبيد ، عن حجاج ، عن ابن جريح أنه صلى الله عليه وسلم لم يبق بعد نزول قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ إلا إحدى وثمانين ليلة . ورواه الطبراني في المعجم الكبير برقم ١٢٩٨٤ ، ورواه الطبري في تفسيره : ٤ / ١٠٦ عن ابن جريح قال : حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج قال : مكث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة ، قوله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .

ـ وقال القرطبي في تفسيره : ٢٠ / ٢٢٣ :

وقال ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ثم نزلت : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوماً . ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوماً ، ثم نزل لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ . فعاش بعدها خمسه وثلاثين يوماً . ثم نزل وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً . وقال مقاتل سبعة أيام . وقيل غير هذا . انتهى .

ورواية ابن عمر تؤيد قول أبيه بنزول آية الكلالة بعد آية إكمال الدين ، ولكنه نسي آية الربا التي قال أبوه أيضاً إنها آخر آية ، ومن ناحية أخرى خالف أباه في أن آية إكمال الدين نزلت في عرفة ، وقال إنها نزلت بعد سورة النصر بمنى ، يعني بعد انتهاء حجة الوداع وسفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واقترب من القول بنزولها في الغدير !!

ـ وقال الأميني في الغدير : ١ / ٢٣٠

وهو الذي يساعده الإعتبار ويؤكده النقل الثابت في تفسير الرازي : ٣ / ٥٢٩ عن أصحاب الآثار : إنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً ، أو اثنين وثمانين ، وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازي : ٣ / ٥٢٣ ، وذكر المؤرخون منهم أن وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله في الثاني عشر من ربيع الأول ، وكأن فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الإثنين وثمانين يوماً ، بعد إخراج يومي الغدير والوفاة ..

٢٧٧
 &

وعلى أي فهو أقرب الى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة ، كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما لزيادة الأيام حينئذ . انتهى .

كما تعارض قول عمر بأن يوم عرفات كان يوم جمعة ، رواياتهم التي تنص على أن الآية نزلت يوم الإثنين .. ففي دلائل البيهقي : ٧ / ٢٣٣ : عن ابن عباس قال : ولد نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الإثنين ، ونبئ يوم الإثنين ، وخرج من مكة يوم الإثنين ، وفتح مكة يوم الإثنين ، ونزلت سورة المائدة يوم الإثنين : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وتوفي يوم الإثنين .

ـ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ١ / ١٩٦

رواه أحمد والطبراني في الكبير وزاد فيه : وفتح بدراً يوم الإثنين ، ونزلت سورة المائدة يوم الإثنين : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف ، وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح . انتهى .

وللحديث طرقٌ ليس فيها ابن لهيعة .. ولكن علته الحقيقية عندهم مخالفته لما قاله الخليفة عمر ، كما صرح به السيوطي وابن كثير ! فقد قال ابن كثير في سيرته : ١ / ١٩٨ : تفرد به أحمد ، ورواه عمرو بن بكير عن ابن لهيعة ، وزاد : نزلت سورة المائدة يوم الإثنين : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به ، وزاد أيضاً : وكانت وقعة بدر يوم الإثنين . وممن قال هذا يزيد بن حبيب . وهذا منكرٌ جداً !! قال ابن عساكر : والمحفوظ أن بدراً ونزول : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يوم الجمعة وصدق ابن عساكر . انتهى .

وقد تقدم أن علة نكارته عند ابن كثير أنه مخالف لقول عمر ، وقول معاوية ! وقد كان ابن عساكر أكثر اتزاناً منه حيث لم يصف الخبر بالضعف أو النكارة ، بل قال إنه مخالفٌ للمحفوظ ، أي المشهور عندهم ، وهو قول عمر .

وينبغي الإلفات الى أن الإشكال عليهم بأحاديث نزول الآية في يوم الإثنين إنما هو إلزامٌ لهم بما التزموا به ، وإلا فنحن لا نقبل أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يبق بعد الآية إلا ثمانين يوماً

٢٧٨
 &

لأن المعتمد عندنا أن الآية نزلت يوم الثامن عشر من ذي الحجة ، وأن وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت في يوم الثامن والعشرين من صفر ، فتكون الفاصلة بنحو سبعين يوماً .

وقد ثبت عندنا أن الآية نزلت يوم الخميس ، وفي رواية يوم الجمعة ، كما ثبت عندنا أن بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت يوم الإثنين ، وأن علياً عليه‌السلام صلى معه يوم الثلاثاء ، وأن وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت في يوم الإثنين أيضاً ، وقد تكون سورة المائدة نزلت يوم الإثنين أي أكثرها ، ثم نزلت بقيتها بعد ذلك ، ومنها آية التبليغ ، وآية إكمال الدين .

عاشراً : إن القول بأن يوم عرفة في تلك السنة كان يوم جمعة ، تعارضه الروايات التي سجلت يوم حركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة ، وأنه كان يوم الخميس لأربع بقين من ذي القعدة . وهو الرواية المشهورة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وهي منسجمةٌ مع تاريخ نزول الآية في يوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجة .

وذلك ، لأن سفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في يوم الخميس ، أي في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة ، لأربع بقين من ذي القعدة هي : الخميس والجمعة والسبت والأحد .. ويكون أول ذي الحجة يوم الإثنين ، ووصول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى مكة عصر الخميس الرابع من ذي الحجة في سلخ الرابع ، كما في رواية الكافي : ٤ / ٢٤٥ ، ويكون يوم عرفة يوم الثلاثاء ، ويوم الغدير يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة . وهذه نماذج من روايات أهل البيت عليهم‌السلام في ذلك :

ـ ففي وسائل الشيعة : ٩ / ٣١٨

محمد بن إدريس في ( آخر السرائر ) نقلاً من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأربع بقين من ذي القعدة ، ودخل مكة لأربعٍ مضيْن من ذي الحجة ، دخل من أعلى مكة من عقبة المدنيين ، وخرج من أسفلها .

ـ وفي الكافي : ٤ / ٢٤٥

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين حجة ... إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج ، ثم أنزل الله عز وجل عليه : وأذن في الناس بالحج

٢٧٩
 &

يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍ عميق ، فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحج في عامه هذا ، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب ، واجتمعوا لحج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون ويتبعونه ، أو يصنع شيئاً فيصنعونه ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أربع بقين من ذي القعدة ، فلما انتهى الى ذي الحليفة زالت الشمس فاغتسل ، ثم خرج حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة فصلى فيه الظهر ، وعزم بالحج مفرداً ، وخرج حتى انتهى الى البيداء عند الميل الأول فصف له سماطان ، فلبى بالحج مفرداً ، وساق الهدي ستاً وستين أو أربعاً وستين ، حتى انتهى الى مكة في سلخ أربع من ذي الحجة فطاف بالبيت سبعة أشواط ، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه‌السلام ، ثم عاد الى الحجر فاستلمه ...

ـ وفي المسترشد / ١١٩ :

العبدي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا الناس الى علي عليه‌السلام بغدير خم ، وأمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ ، وذلك يوم الخميس ، ثم دعا الناس ، وأخذ بضبعيه ورفعه حتى نظر الناس الى بياض إبطيه ، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي من بعدي . انتهى .

*       *

ويؤيد قول أهل البيت عليهم‌السلام ما روته مصادر الفريقين من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا يبدأ سفره إلا يوم الخميس ، أو قلما يبدأه في غيره ، كما في صحيح البخاري : ٤ / ٦ وسنن أبي داود ١ / ٥٨٦ ، وتنص رواية ابن سيد الناس في عيون الأثر : ٢ / ٣٤١ على أن سفر النبي من المدينة كان يوم الخميس .

٢٨٠