آيات الغدير

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

آيات الغدير

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-151-6
الصفحات: ٣٧٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الفصل الثالث

قصة الغدير

قريش في حجة الوداع

رأيت في أحاديث حجة الوداع كيف ركز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبه وكلامه وتصرفاته على مقام أهل بيته عليهم‌السلام فبشر الأمة بالائمة الإثني عشر منهم .. وبلغها أن الله تعالى جعل وجوب طاعتهم الى جانب القرآن ، فسماهم مع القرآن ( الثقلين ) ، وأنه تعالى حرم عليهم الصدقات وجعل لهم مالية خاصة هي : الخمس .. الخ .

لقد كانت خطبه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحج ، وما رافقها من أعماله وأقواله ، في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، أقصى ما يمكن أن تتحمله قريش من ترسيخ قيادة بني هاشم ، و ( حرمان ) بقية قبائل قريش من القيادة حسب زعمهم ، بل تكريس قريش عبيداً طلقاء لبني هاشم !!

ولا تذكر المصادر السنية ردة الفعل الصريحة لزعماء قريش المعروفين على هذه الخطب والأعمال النبوية في حجة الوداع .

ومن الطبيعي أن لا تذكر ذلك .. فهل تريد من مصدر قرشي أن يعترف لك بأن

٢٢١
 &

قريشاً لم تكن مرتاحة لكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! وأن سهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية بن خلف ، وحكيم بن حزام ، وصهيب بن سنان ، وأبا الأعور السلمي ... وغيرهم ، وغيرهم .. كانوا مكفهري الوجوه من تمهيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لبني هاشم ، وأنهم نشطوا في اتصالاتهم مع القرشيين المهاجرين ، من غير بني هاشم لمعالجة هذا الإتجاه النبوي الخطير ؟!!

أما مصادرنا الشيعية فتذكر أنهم نشطوا ضد بني هاشم في حجة الوداع ، وأن نشاطهم زاد في منى في أيام التشريق ، وكانت نتيجة مشاوراتهم ومحادثاتهم أن كتبوا بينهم صحيفة تسميها مصادرنا ( الصحيفة الملعونة ) لأنهم تعاهدوا فيها أن لا يسمحوا لبني هاشم أن يجمعوا بين النبوة والخلافة !

وتذكر أن بضعة نفر من ممثليهم انسلوا خفيةً من منى الى مكة ، ووقعوا الصحيفة في داخل الكعبة !

فكانت صحيفة قرشية جديدة ضد بني هاشم ، ولكنها هذه المرة ليست لمحاصرتهم في الشعب باسم اللات والعزى .. بل لعزلهم سياسياً وحرمانهم من القيادة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، باسم الإسلام !!

وذكرت مصادرنا أن الله تعالى أطلع نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله على هذه الصحيفة ، فأخبر أصحابها بفعلتهم ، فارتعدت فرائصهم !

ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله اكتفى بإتمام الحجة عليهم ، وترك لهم حرية العمل وفق قانون تبليغ الأنبياء عليهم‌السلام وواجبهم في إقامة الحجة لله تعالى على عباده !

وإذا كان ما ذكرته الصحاح السنية من لغطٍ وكلامٍ وضجةٍ وصراخٍ في وسط خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في عرفات ، عندما وصل الى نسب الأئمة الإثني عشر من بعده ـ إذا كان ذلك واحداً من فعاليات قريش المنظمة ضد بني هاشم ـ فلا بد أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنبهم عليه أيضاً ، وعرفهم أنه مطلعٌ عليه جيداً !!

٢٢٢
 &

نتائج حجة الوداع

على أي حال ، فقد اعتبر القرشيون أن حجة الوداع مرَّت بسلامٍ نسبياً ، فقد تحدث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كثيراً عن بني هاشم وعن عترته وعن ذريته من فاطمة ، وعن اختيار الله تعالى لهم ، وللأئمة منهم ، وعن تحريم الصدقات عليهم ، وفرض الخمس لهم .. ولكنه لم يتخذ إجراءً عملياً والحمد لله ، ولم يطلب من قريش والمسلمين أن يبايعوا علياً كبير العترة ، بصفته الإمام الأول من العترة !

أما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد اعتبر أنه بلغ رسالة ربه في عترته بأقصى ما يمكنه ، وأن قريشاً لا تتحمل أكثر من ذلك .. فقد وصل الأمر عندها الى آخر حدود الصبر ، ولو طلب منها بيعة علي بخلافته ، فإنها قد تطعن في نبوته وتتهمه بأن هدفه إقامة ملك لبني هاشم ، شبيهاً بملك كسرى وقيصر !!

وبذلك تستطيع قريش أن تقود حركة ردة في العرب ، وتخوفهم من القبول بملك بني هاشم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ملك يبدأ بعلي ثم يكون للحسن ثم للحسين ، ثم لا يخرج من أبناء فاطمة الى يوم القيامة !

وقد سجلت المصادر شبيه هذه العبارات ، على ألسنة زعماء قريش ! وكأن الملك ملك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكأنه هو الذي أعطاه أو يريد أن يعطيه لعترته عليهم‌السلام !!

الوحي يضغط على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من السماء وقريش من الأرض

كان جبرئيل عليه‌السلام في حجة الوداع وظروفها المصيرية ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأوامر ربه ، وقد يكون رافقه طوال موسم الحج ، وأملى عليه عبارات خطبه ...

وكان مما قال له في المدينة :

يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك إنه قد دنا أجلك ، وإني مستقدمك عليَّ ، ويأمرك أن تدل أمتك على حجهم ، كما دللتهم على صلاتهم وزكاتهم وصيامهم .

٢٢٣
 &

وحج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمسلمين ، وعلمهم حجهم ، وواصل تركيز مبادئ الإسلام في نفوسهم ، ومكانة الأئمة من عترته ، كما مر في حديث الأئمة الإثني عشر ، وحديث الثقلين ، وحديث فرض الخمس لهم ، وتحريم الصدقات عليهم .. الخ .

وفي آخر أيام الحج نزل عليه جبرئيل عليه‌السلام أن الله تعالى يأمرك أن تدل أمتك على وليهم ، فاعهد عهدك ، واعمد الى ما عندك من العلم وميراث الأنبياء فورثه إياه ، وأقمه للناس علماً ، فإني لم أقبض نبياً من أنبيائي إلا بعد إكمال ديني ، ولم أترك أرضي بغير حجة على خلقي ...

فأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يفكر في طريقة الإعلان ، نظراً الى وضع قريش المتشنج ، وقال في نفسه : أمتي حديثو عهد بالجاهلية ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل ، ويقول قائل ! لذلك قرر أن ينفذ هذا الأمر الالهي الجديد في عترته ، بعد رجوعه الى المدينة ، بالتمهيد المناسب ، وبمعونة الأنصار ..

الوحي يوقف القافلة النبوية

ورحل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة وهو ناوٍ أن يكون أول عمل يقوم به في المدينة إعلان ولاية عترته ، كما أمره ربه تعالى .

لكن في اليوم الثالث من مسيره ، عندما وصل الى كراع الغميم ، وهو كما في مراصد الإطلاع : موضع بين مكة والمدينة ، أمام عسفان بثمانية أميال .. جاءه جبرئيل عليه‌السلام لخمس ساعات مضت من النهار ، وقال له : يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ، وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) .

فخاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخشع لربه ، وتَسَمَّرَ في مكانه ، وأصدر أمره الى المسلمين بالتوقف ، وكان أولهم قد وصل الى مشارف الجحفة ، وكانت الجحفة بلدةً عامرةً على بعد ميلين أو أقل من كراع الغميم ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد تنفيذ الأمر الإلۤهي المشدد ، فوراً في المكان الذي نزل فيه الوحي .. !

٢٢٤
 &

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله للناس : أنيخوا ناقتي فوالله ما أبرح من هذا المكان حتى أبلغ رسالة ربي .. وأمرهم أن يردوا من تقدم من المسلمين اليه ، ويوقفوا من تأخر منهم حين يصلون اليه ..

ونزل صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ناقته ، وكان جبرئيل الى جانبه ، ينظر اليه نظرة الرضا ، وهو يراه يرتجف من خشية ربه ، وعيناه تدمعان خشوعاً وهو يقول : تهديدٌ .. ووعدٌ ووعيدٌ .. لأمضين في أمر الله ، فإن يتهموني ويكذبوني فهو أهون علي من أن يعاقبنى العقوبة الموجعة في الدنيا والآخرة !

وقبل أن يفارقه جبرئيل أشار اليه فنظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا على يمينه دوحة أشجار ، فودع جبرئيل ومال اليها ، وحطَّ رحال النبوة عند غدير خُمٍّ .

قال بعض المسلمين : فبينا نحن كذلك ، إذ سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ينادي : أيها الناس أجيبوا داعي الله .. فأتيناه مسرعين في شدة الحر ، فإذا هو واضعٌ بعض ثوبه على رأسه .

ونادى منادي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الناس بالصلاة جامعة ، ووقت الصلاة لم يحن بعد ولكن حانت قبلها ( صلاة ) أخرى لا بد من أدائها قبل صلاة الظهر .

إنها فريضة ولاية عترته الطاهرة ، ولا بد أن يبلغها عن ربه الى المسلمين مهما قال فيه قائلون ، وقال فيهم قائلون .. فقد شدد عليه ربه في ذلك : وأفهمه أن مسألة عترته ليست مسألةً شخصيةً تخصه .. وأنك إن كنت تخشى الناس ، فالله أحق أن تخشاه وسيعصمك منهم ، فاصدع بما تؤمر !!

ونزل المسلمون حول نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان ذلك اليوم قائظاً شديد الحر ، فأمرهم أن يكسحوا تحت الأشجار لتكون مكاناً لخطبة الولاية ، ثم للصلاة في ذلك الهجير ، وأمرهم أن ينصبوا له أحجاراً كهيئة المنبر ، ليشرف على الناس ..

ورتب المسلمون المكان والمنبر ، ووضعوا على أحجاره حدائج الإبل ، فصار منصةً أكثر ارتفاعاً ، وحسناً ..

٢٢٥
 &

وورد المسلمون ماء الغدير فشربوا منه ، واستقوا ، وتوضؤوا .. وتجمعوا لاستماع الخطبة قبل الصلاة ، ولم يتسع لهم المكان تحت دوحة الغدير ، وكانت ستَّ أشجارٍ كبيرة ، فجلس كثير منهم في الشمس ، أو استظل بظل ناقته ..

عرف الجميع أن أمراً قد حدث ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سيخطب .. فقد نزل عليه وحيٌ أو حدث أمرٌ مهمٌ أوجب أن يوقفهم في هذا الهجير ، ولا يصبر عليهم حتى يصلوا الى مدينة الجحفة العامرة ، التي تبعد عنهم ميلين فقط !

كان مجموع المشاركين في حجة الوداع من مئة ألف الى مئة وعشرين ألفاً كما ذكرت الروايات ، ولكن هذا العدد كان في عرفات ومنى .. أما بعد تمام الحج فقد توزعوا ، فمنهم من أهل مكة وقد رجعوا اليها ، ومنهم بلادهم عن طريق الطائف فسلكوا طريقها ، وآخرون بلادهم عن طريق جدة وما اليها ..

والذين هم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريق الجحفة والمدينة ألوفٌ كثيرةٌ أيضاً .. نحو عشرة آلاف .. فقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام مؤرخاً تضييع قريش لحادثة الغدير :

العجب مما لقي علي بن أبي طالب ! إنه كان له عشرةُ آلافِ شاهدٍ ولم يقدر على أخذ حقه ، والرجل يأخذ حقه بشاهدين !! الوسائل : ١٨ / ١٧٤ .

*       *

لم يدم طويلاً تطلع المسلمين الى ما سيفعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وما سيقوله .. فقد رأوه صعد على منبر الأحجار والأحداج ، وبدأ باسم الله تعالى ، وأخذ يرتل قصيدةً نبويةً في حمد الله تعالى ، والثناء عليه .. ويشهد الله والناس على عبوديته المطلقة لربه .

ثم قدم لهم عذره ، لأنه اضطر أن ينزلهم في مكان قليل الماء والشجر ، وما أمهلهم حتى يصلوا الى بلدة الجحفة المناسبة لنزول مثل هذا القافلة الكبيرة ، المتوفر فيها ما يحتاج اليه المسافر .. ولا انتظر بهم وقت الصلاة ، بل ناداهم قبل وقتها ، وكلفهم الإستماع اليه في حر الظهيرة ..

٢٢٦
 &

وأخبرهم أنه نزل عليه جبرئيل عليه‌السلام في مسجد الخيف ، وأمره أن يقيم علياً للناس .. ثم قال لهم : إن الله عز وجل بعثني برسالةٍ فضقت بها ذرعاً ، وخفت الناس أن يكذبوني ، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني : أمتي حديثو عهد بالجاهلية ، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي ، يقول قائل ، ويقول قائل ! فأتتني عزيمة من الله بتلة ( قاطعة ) في هذا المكان ، وتواعدني إن لم أبلغها ليعذبني .

وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة من الناس ، وهو الكافي الكريم ، فأوحى إلي : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ، وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ .

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا إله إلا هو ، لا يؤمن مكره ، ولا يخاف جوره ، أقرُّ له على نفسي بالعبودية ، وأشهد له بالربوبية ، وأؤدي ما أوحى إلي ، حذراً من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعةٌ ، لا يدفعها عني أحدٌ ، وإن عظمت حيلته .

أيها الناس : إني أوشك أن أدعى فأجيب ، فما أنتم قائلون ؟

فقالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت .

فقال : أليس تشهدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وأن الجنة حقٌ وأن النار حقٌ وأن البعث حق ؟

قالوا : يا رسول الله بلى .

فأومأ رسول الله الى صدره وقال : وأنا معكم .

ثم قال رسول الله : أنا لكم فرط ، وأنتم واردون عليَّ الحوض ، وسعته ما بين صنعاء الى بصرى ، فيه عدد الكواكب قدحان ، ماؤه أشد بياضاً من الفضة .. فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين .

فقام رجل فقال : يا رسول الله وما الثقلان ؟

قال : الأكبر : كتاب الله ، طرفه بيد الله ، وسبب طرفه بأيديكم فاستمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا .

٢٢٧
 &

والأصغر : عترتي أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض .. سألت ربي ذلك لهما فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم .

أيها الناس : ألستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأني أولى بكم من أنفسكم ؟

قالوا : بلى يا رسول الله .

قال : قم يا علي . فقام علي ، وأقامه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن يمينه ، وأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض إبطيهما ، وقال :

من كنت مولاه فعلي مولاه . اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار .

فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً مفترضاً طاعته على المهاجرين والأنصار ، وعلى التابعين لهم بإحسان ، وعلى البادي والحاضر ، وعلى الأعجمي والعربي ، والحر والمملوك ، والصغير والكبير .

فقام أحدهم فسأله وقال : يا رسول الله ولاؤه كماذا ؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ولاؤه كولائي ، من كنت أولى به من نفسه فعليٌّ أولي به من نفسه !

وأفاض صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيان مكانة علي والعترة الطاهرة والأئمة الإثني عشر من بعده : علي والحسن والحسين ، وتسعة من ذرية الحسين ، واحدٌ بعد واحد ، مع القرآن والقرآن معهم ، لا يفارقونه ولا يفارقهم ، حتى يردوا عليَّ حوضي

ثم أشهد المسلمين مراتٍ أنه قد بلغ عن ربه .. فشهدوا له ..

وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب .. فوعدوه وقالوا : نعم ..

وقام اليه آخرون فسألوه ... فأجابهم ..

*       *

٢٢٨
 &

وما أن أتم خطبته ، حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) . فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : ألله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، وولاية علي بعدي ...

ونزل عن المنبر ، وأمر أن تنصب لعلي خيمة ، وأن يهنئه المسلمون بولايته عليهم .. حتى أنه أمر نساءه بتهنئته ، فجئن الى باب خيمته وهنأنه !

وكان من أوائل المهنئين عمر بن الخطاب فقال له : بخٍ بخٍ لك يا بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة !

وجاء حسان بن ثابت ، وقال : إئذن لي يا رسول الله أن أقول في علي أبياتاً تسمعهن ، فقال : قل على بركة الله ، فأنشد حسان :

يناديهمُ يوم الغدير نبيُّهُمْ

بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديَا

بقول فمن مولاكمُ ووليُّكُمْ

فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا

إلۤهك مولانا وأنت ولينا

ولم ترَ منا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليُّ فإنني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليه

وكن للذي عادى علياً معاديا

أخذنا هذا التسلسل في قصة الغدير من مصادرنا المتعددة مثل : كمال الدين وتمام النعمة للصدوق / ٢٧٦ ، والإحتجاج للطبرسي : ١ / ٧٠ ، وروضة الواعظين للنيسابوري / ٨٩ ، والمسترشد / ١١٧ ، وغيرها .

وقد روت مصادر السنة حديث الغدير قريباً مما في مصادرنا ، وتجد ذلك في كتاب الغدير للأميني .

ونكتفي هنا بنقل رواية مسلم في صحيحه : ٧ / ١٢٢ قال :

عن يزيد ابن حيان قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم ، الى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا اليه قال له حصين :

٢٢٩
 &

لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصليت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً .

حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال : يا ابن أخي ، والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما حدثتكم فاقبلوا ، وما لا ، فلا تكلفونيه .

ثم قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً ، بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ، ثم قال :

أما بعد ، ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين :

أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال :

وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي .

فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟

قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده .

قال : ومن هم ؟

قال : هم آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس .

قال : كل هؤلاء حرم الصدقة

قال : نعم . انتهى . ورواه أحمد في مسنده : ٢ / ٣٦٦ ، وغيره .. وغيره .

ـ وقال الحاكم في المستدرك ٣ / ١٤٨

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وأهل بيتي ، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض .

هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . انتهى .

٢٣٠
 &

وقد رأيت أن مسلماً رواه ، ولكن لفظ الحاكم فيه إخبارٌ نبوي باستمرار وجود إمام من أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله الى يوم القيامة .

ـ وانظر كيف صوَّر ابن كثير القضية في بدايته : ٥ / ٤٠٨ ، قال :

لما تفرغ النبي من بيان المناسك ، ورجع الى المدينة خطب خطبة عظيمة الشأن في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بغدير خم ، تحت شجرة هناك ، فبين فيها أشياء ، وذكر في فضل علي بن أبي طالب وأمانته وعدله وقربه إليه ، وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه ، وقد اعتنى بأمر حديث غدير خم أبو جعفر الطبري ، فجمع فيه مجلدين ، وأورد فيها طرقه وألفاظه ، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة . انتهى .

فقد جعل القضية أن كثيراً من المسلمين كانوا غاضبين من علي بن أبي طالب ، متحاملين عليه في أنفسهم ، فأوقف النبي المسلمين صلى‌الله‌عليه‌وآله في غدير خم ، لكي يثبت لهم براءة علي ويرضِّيهم عنه ، فذكر فضله وقربه منه ( وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه ) وبين في خطبته ( أشياء ) من هذا القبيل ! وكان الله يحب المحسنين !

إن هذا الأسلوب إنما يكتب به مؤرخٌ من عشيرة بني عبد الدار ، الذين قتل علي منهم بضعة عشر فارساً منهم حملوا لواء قريش في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن المؤرخ المسلم لا يستطيع أن يكتب به إلا .. إذا كان مبغضاً لعلي بن أبي طالب !

فهل عرفت لماذا يحب ( السلفيون ) ابن كثير ويهتمون بنشر كتبه ؟!

لماذا الجحفة وغدير خم

والسؤال هنا : لماذا الوحي في طريق المدينة .. والصحراء والظهيرة ؟

والجواب : ظأن الله تعالى قال بذلك لرسوله : المدينة أيها الرسول مثل مكة ، فإن بلغت ولاية عترتك فيها ، فقد تعلن قريش معارضتها ثم ردتها ! فموقفها من عترتك جازم ، ومستميت .. وبما أن واجبك التبليغ مجرد التبليغ ، وإنما بعثت للتبليغ ، فهو ممكنٌ هنا .. والزمان والمكان هنا مناسبان من جهات شتى ، فبلغ ولا تؤخر .

٢٣١
 &

ومن أجل أن تكمل التبليغ وتوصل لهم رسالتي .. سوف أعصمك من قريش ، وأمسك بقلوبها وأذهانها ، وألجم شياطينها الحاضرين ، وأعالج آثار التبليغ ، وأحفظ نبوتك فيها .. ثم أملي لها بعدك ، فتأخذ دولتك وتضطهد عترتك .. حتى يتحقق في أمتك وفي عترتك ما أريد ! ولا أسأل عما أفعل ، وهم يسألون .

*       *

والسؤال هنا : كيف تمت عصمة الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قريش ، فلم يحدث تشويش ، ولم يقم معترض ..! صحيح أن ثقل زعماء قريش كانوا في مكة ، لكن بعضهم كان في قافلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان فيها قرشيون مهاجرون مؤيدون لهم ! فكيف سكتت قريش وضبطت أعصابها ، وهي تسمع تبليغ الرسول في علي والعترة ؟! ثم أشهدها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على تبليغ ذلك .. فشهدت .

ثم طلب منها أن تبلغ الغائبين .. فوعدت .

ثم جاءت الى خيمة علي وهنأته بالولاية ، وإمرة المؤمنين !!

الجواب : أنه تعالى أراد للرسالة أن تصل ، وللحجة أن تقام ، وأن يبقى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله محفوظ الشخصية سالم النبوة .. فأسكت قريشاً بقدرته المطلقة ، وكمَّمَ أفواهها في غدير خم .

والظاهر أن قريشاً أخذت تقنع نفسها بأن المسألة في غدير خم ، ليست أكثر من إعلانٍ وإعلامٍ يضاف الى إعلانات حجة الوداع .. وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مازال حياً .. فإن مات ، فلكل حادثٍ حديث ..

وعندما أرادت قريش أن تخرج عن سكوتها ، وتخطو خطوةً نحو الردة .. أنزل الله على ناطقها الرسمي النضر بن الحارث حجراً من سجيل فأهلكه ، وأرسل على آخر ناراً فأحرقته !! فزاد ذلك من قناعة قريش بالسكوت فعلاً عن ولاية العترة !

أما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان تفكيره رسولياً ، وليس قرشياً ..

٢٣٢
 &

لقد ارتاح ضميره بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره ، واتقى غضب ربه وعذابه ..

واغرورقت عيناه بدموع الفرح والخشوع ، لأن الله رضي عنه بإعلان ولاية علي ، وأنزل عليه آية إكمال الدين وإتمام النعمة ، فأخبره بأن مهمته وصلت الى ختامها ..

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في عيدٍ ، لأنه أدى رسالة من أصعب رسالات ربه ، فرضي عنه ، وقد تكون أصعب رسالةٍ عليه في عمره النبوي على الإطلاق .. وتمت المسألة بسلامٍ ولم تقم قائمة قريش ، ولم يصب جابر بن سمرة وغيره بالصمم من لغط الناس عند سماع كلمة عترتي ، أو كلمة علي ، أو بني هاشم .

ولم تحدث حركة عصيان منظمة ، كما حدثت في المدينة عندما طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل وفاته بأربعة أيام ، أن يأتوه بدواة وقرطاسٍ ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً .. ولم تحدث حركة ردة نهائياً ، والحمد لله !

ارتاح ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره .. وهذه هي الرسالة التي روى الحسن البصري أن الله أمر رسوله بها فضاق بها صدره ، فتوعده ربه بالعذاب إن لم يبلغها ، فخاف ربه وصدع بها .. ولكن الحسن البصري كما قال الراوي راوغ فيها وراغ عنها ، ولم يخبرهم ما هي ! وكل غلمان قريش إخوان الحسن البصري ، من الفرس وغيرهم ، يراوغون فيها وفي أمثالها ، ويخفون ما أنزل الله تعالى في عترة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله !

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يفكر ربانياً بأعلى مستوى من البيعة .. يفكر على مستوى الأمر الإلۤهي والإختيار الإلۤهي ، الذي لا خيرة فيه لأحد ، ولا محل فيه للبيعة ، إلا إذا طلبها من الناس النبي أو الوصي ، فتجب .

فهذا هو منطق التبليغ ، وحسب !

ولذلك لم يشاورهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيعة علي ، لأن اختيار الله تعالى لا يحتاج الى مشورتهم ، ولا بيعتهم ، ولا رضاهم ..

لقد أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يشاورهم ليتألفهم ، ويسيروا معه في الطريق الصحيح .. أما إذا عزمت فتوكل ، ولا تسمع لكلام مخلوق لأنك تسير بهدى الخالق !

٢٣٣
 &

أما إذا عزم الله تعالى واختار للأمة ولياً بعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال لنبيه بلغ ولا تخف ، ولست مسؤولاً عن إطاعة من أطاع ومعصية من عصى .. فهل يبقى للمشاورة محلٌّ من الإعراب ! وهل يبقى للبيعة محلٌّ من الإعراب !

لقد طلب منهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تهنئة علي عليه‌السلام إقراراً بالإختيار الإلۤهي ، وهي تهنئةٌ أقوى من البيعة ، وألزم منها للأعناق .. ثم ليفعلوا بعدها ما يحلو لهم .. فإنما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبلغهم ، وحسابهم على من يملك كل الأوراق ، ويملك الدنيا والآخرة ، ويفعل ما يريد .. سبحانه وتعالى !

وتدل رواياتنا على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب منهم مع التهنئة البيعة ، فيكون معناها أنه طلب منهم أيضاً إعلان التزامهم بإطاعة علي عليه‌السلام .. فأعلنوا !

ولكن الأمر من ناحية شرعية وحقوقية ، لا يختلف ، سواء أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ببيعة علي عليه‌السلام أم أمرهم بتهنئته فقط .. فإن تبليغ الولاية أقوى من التهنئة ، والتهنئة أقوى من البيعة .. فالتبليغ اصطفاء ، والتهنئة خضوع ، والبيعة وعدٌ بالإلتزام .

لقد سكتت قريش آنياً بسبب أنها لم تكن حاضرةً كلها في الجحفة .. وبسبب عنصر المفاجأة ، وظرف المكان والزمان .

ولعلها كانت تقنع نفسها بأن منطق التفكير النبوي يبقي لها مساحة للعمل ..

ذلك أن التبليغ وإتمام الحجة كلامٌ تركيٌّ عند قريش الناطقة بالضاد !

وحتى البيعة المأمور بها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يمكن لقريش أن تجعلها مثل المراسم الدينية الأخرى ، وتجردها من معنى إمامة علي وقيادة عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من بعده !

فالباب في تصور قريش مازال مفتوحاً أمامها للتصرف !!

المنطق النبوي حقق أهدافه وفضح قريشاً

نقلت المصادر السنية ندم الخليفة القرشي أبي بكر على إصداره أمراً بمهاجمة بيت علي وفاطمة عليهما‌السلام في اليوم الثاني أو الثالث لوفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢٣٤
 &

ـ ففي مجمع الزوائد : ٥ / ٢٠٢

عن عبد الرحمن بن عوف قال : دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي توفي فيه ، فسلمت عليه وسألته : كيف أصبحت ؟

فاستوى جالساً فقال : أصبحت بحمد الله بارئاً ، فقال : أما إني على ما ترى وجع وجعلتم لي شغلاً مع وجعي !

جعلت لكم عهداً من بعدي ، واخترت لكم خيركم في نفسي ، فكلكم ورم لذلك أنفه ، رجاء أن يكون الأمر له !

ورأيت الدنيا أقبلت ، ولما تقبل ، وهي خائنة ، وستنجدون بيوتكم بستور الحرير ونضائد الديباج ، وتألمون النوم على الصوف الأذربي ، كأن أحدكم على حسك السعدان ( يقصد أنكم من ترفكم سترون السجاد الأذربيجاني خشناً لمنامكم مثل الشوك ) .

والله لأن يقدم أحدكم فيضرب عنقه في غير حد ، خير له من أن يسبح في غمرة الدنيا .

ثم قال : أما إني لا آسى على شئ إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلهن ، وثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن ، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن .

فأما الثلاث التي وددت أني لم أفعلهن : فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته ، وإن أغلق على الحرب .

ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة ، قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين ، أبي عبيدة أو عمر ، وكان أمير المؤمنين وكنت وزيراً .

ووددت أني حين وجهت خالد بن الوليد الى أهل الردة ، أقمت بذي القصة ، فإن ظفر المسلمون ظفروا ، وإلا كنت ردءاً ومدداً .

وأما الثلاث اللاتي وددت أني فعلتها : فوددت أني يوم أتيت بالأشعث أسيراً ضربت عنقه ، فإنه يخيل إلي أنه لا يكون شرٌّ إلا طار إليه .

٢٣٥
 &

ووددت أني يوم أتيت بالفجاءة السلمي ، لم أكن أحرقته ، وقتلته سريحاً أو أطلقته نجيحاً .

ووددت أني حين وجهت خالد بن الوليد الى الشام ، وجهت عمر الى العراق فأكون قد بسطت يميني وشمالي في سبيل الله عز وجل .

وأما الثلاث اللاتي وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن :

فوددت أني سألته فيمن هذا الأمر فلا ينازع أهله .

ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر سبب ؟

ووددت أني سألته عن العمة وبنت الأخ ، فإن في نفسي منهما حاجة . انتهى .

وغرضنا من النص بيان حالة الخليفة وأنه يقصد بقوله ( وددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته وإن أغلق على الحرب ) أنه نادمٌ على مهاجمة البيت ، حتى لو كان أهله يعدون العدة لحربه !

وخلاصة القصة : أن أبا بكر أرسل الى علي عليه‌السلام يطلب منه أن يبايعه ، فامتنع علي عن بيعته ، وأجابهم جواباً شديداً ، اتهمهم فيه .

وبلغ أبا بكر أن عدداً من الأنصار والمهاجرين اجتمعوا في بيت علي الذي كان يعرف ببيت فاطمة عليهما‌السلام ، فأشار عليه عمر بأن يهاجموا البيت ويهددوهم بإحراقه عليهم ، إن لم يخرجوا ويبايعوا !

وبالفعل هاجمت مجموعة بقيادة عمر بن الخطاب بيت الزهراء عليها‌السلام وحاصروه وجمَّعوا الحطب على باب داره ، وهددوا علياً وفاطمة عليهما‌السلام والذين كانوا في البيت ـ ومنهم مؤيدون لموقف علي ، ومنهم جاؤوا معزين بوفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ هددوهم بأنهم إما أن يخرجوا ويبايعوا أبا بكر ، أو يحرقوا عليهم الدار بمن فيه !

وبالفعل أشعلوا الحطب في باب الدار الخارجي !!

ولم يشأ علي عليه‌السلام أن يخرج اليهم بذي الفقار عملاً بوصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث كان أخبره بكل ما سيحدث ، وأمره فيه بأوامره .. فخرجت اليهم فاطمة الزهراء عليها‌السلام

٢٣٦
 &

فأهانوها وضربوها ، حتى أسقطت جنينها .. الى آخر تلك الأحداث المؤلمة لقلب كل مسلم ..

في ذلك الظرف ، قرر علي وفاطمة عليهما‌السلام أن يستنهضا الأنصار ويطالباهم بالوفاء ببيعة العقبة ، التي شرط عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها أن يحموه وأهل بيته وذريته ، مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم ، فبايعوه على ذلك !

وكانت فاطمة عليها‌السلام مريضة مما حدث لها في الهجوم على بيتها ، فأركبها علي عليه‌السلام على دابة ، وأخذا معهما أولادهما الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم ، وجالوا على بيوت رؤساء الأنصار في تلك الليلة والتي بعدها ، وكلمتهم فاطمة عليه‌السلام فكان قول أكثرهم : يا بنت رسول الله ، لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي بكر ، ما عدلنا بعلي أحداً ! فقالت الزهراء عليها‌السلام :

وهل ترك أبي يوم غدير خمٍّ لأحدٍ عذراً !! ( الخصال/ ١٧٣ )

إن منطق الزهراء عليها‌السلام هو منطق أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تماماً .. فهي بضعةٌ منه ، وهي مطهرةٌ من منطق المثَّاقلين الى الأرض وتفكيرهم .. وكل تكوينها وتفكيرها ومشاعرها وتصرفاتها ربانية ، ولذلك قال عنها أبوها ( إن الله يرضى لرضا فاطمة ، ويغضب لغضبها ! ) ذلك أنها ليس لها شخصيتان : واحدةٌ رسالية والأخرى شخصية ، فتغلبُ هذه مرةً وهذه مرة ، بل وجودها موحدٌ منسجمٌ دائماً .. فهي أَمَةُ هذا الرب العظيم لا غير ، وتابعةُ هذا الرسول والأب الحبيب لا غير .. صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفاطمة الزهراء تعرف أنه سبحانه يتعامل مع الناس بإقامة الحجة عليهم في أصول الإسلام وتفاصيله ، في أسس العقيدة وجزئيات الشريعة ، وفيما يجب على الأمة في حياة نبيها ، وبعد وفاته ..

وقد أقام أبوها الحجة لربه كاملةً غير منقوصة ، في جميع الأمور ، ومن أعظمها حق زوجها علي ، وولديها الحسن والحسين عليهم‌السلام الذين أعطاهم الله حق الولاية على الأمة بعد أبيها !

٢٣٧
 &

بهذا المنطق قالت الزهراء عليها‌السلام للأنصار : إن جوابكم لي جواب سياسي .. ومنطق الحجة الإلهية أعلى من منطق اللعب السياسية ، ومهيمنٌ عليه ، ومتقدم عليه رتبةً ، وفاضحٌ له .. فقد بلَّغَ أبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ربه ، وأخبركم أن المالك العظيم سبحانه قد قضى الأمر ، وجعل لأمة رسوله ولياً .. فمتى كان لكم الخيرة من أمركم حتى تختاروا زيداً أو عمراً ، بعد أن قضى الله ورسوله أمراً !!

فالحجة عليكم تامةٌ من أبي ، والآن مني ، ونعم الموعدُ القيامة ، والزعيمُ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعند الساعة يخسر المبطلون !

*       *

لقد كان إعلان غدير خمٍّ عملاً ربانياً خالداً ، بمنطق التبليغ والأعمال الرسولية .. وكانت الأعمال المقابلة له أعمالاً قويةً بمنطق الأعمال السياسية ، وفرض الأمر الواقع .. والعمل السياسي قد يغلب العمل الرسولي .. ولكنها غلبةٌ سياسيةٌ جوفاء بلا حجة ! ولو استمرت سنين ، أو قروناً ، أو الى ظهور المهدي الموعود عليه‌السلام .

*       *

٢٣٨
 &

الفصل الرابع

آية إكمال الدين

آخر ما نزل من القرآن

ليس من المبالغة القول : إن البحث الجاد في أسباب نزول آيات القرآن وسوره ، من شأنه أن يحدث تحولاً علمياً ، لأنه سيكشف العديد من الحقائق ، ويبطل بعض المسلمات التي تصور الناس لقرون طويلة أنها حقائق ثابتة !

ذلك أن الجانب الرياضي في أسباب النزول أقوى منه في موضوعات التفسير الأخرى ..

فعندما تجد خمس روايات في سبب نزول آية ، وكل واحدة منها تذكر سبباً وتاريخاً لنزولها ، وهي متناقضة في المكان أو الزمان أو الحادثة .. فلا يمكنك أن تقول كلها مقبولة وكل رواتها صحابة ، وكلهم نجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا ..

بل لا بد أن يكون السبب وأحداً من هذه الأسباب ، أو من غيرها ، والباقي غير صحيح !

ولهذه الطبيعة المحددة في سبب النزول ، كانت مادة أسباب النزول مادة حاسمةً في تفسير القرآن .. وإن كانت صعوبة البحث فيها تعادل غناها ، بل قد تزيد عليه أحياناً ، لكثرة التشويش والتناقض والوضع في رواياتها !

٢٣٩
 &

ومهما يكن الأمر ، فلا بد للباحثين في تفسير القرآن وعلومه ، أن يدخلوا هذا الباب بفعاليةٍ وصبر ، ويقدموا نتائج بحوثهم الى الأمة والأجيال ، لأنها ستكون نتائج جديدة ومفيدة في فهم القرآن والسيرة ، بل في فهم العقائد والفقه والإسلام عموماً ..

وأكتفي من هذا الموضوع بهذه الإشارة لنستفيد في موضوعنا من أسباب النزول .

*       *

ليس من العجيب أن يختلف المسلمون في أول آيات نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنهم لم يكونوا مسلمين آنذاك .. ثم إنهم باستثناء القلة ، لم يكتبوا ما سمعوه من نبيهم في حياته ، فاختلفوا بعده في أحاديثه وسيرته .

ولهذا لا نعجب إذا وجدنا أربعة أقوال في تعيين أول ما أنزله الله تعالى من كتابه : أنه سورة إقرأ . وأنه سورة المدثر . وأنه سورة الفاتحة . وأنه البسملة .. كما في الإتقان للسيوطي : ١ / ٩١

ولكن العجيب اختلافهم في آخر ما نزل من القرآن ، وقد كانوا دولةً وأمةً ملتفَّةً حول نبيها ، وقد أعلن لهم نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه راحلٌ عنهم عن قريب ، وحج معهم حجة الوداع ، ومرض قبل وفاته مدةً ، وودعوه وودعهم !!

فلماذا اختلفوا في آخر آيةٍ أو سورةٍ نزلت عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!!

الجواب : أن الأغراض الشخصية والسياسية لم تدخل في مسألة أول ما نزل من القرآن كما دخلت في مسألة آخر ما نزل منه .. كما سترى !!

سورة المائدة آخر ما نزل من القرآن

يصل الباحث في مصادر الحديث والفقه والتفسير الى أن سورة المائدة آخر سورة نزلت من القرآن .. وأن آية ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) نزلت بعد إكمال نزول جميع الفرائض .. وأن بعض الصحابة حاولوا أن يجعلوا بدل المائدة سوراً أخرى ، وبدل آية إكمال الدين ، آيات أخرى !

٢٤٠