آيات الغدير

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

آيات الغدير

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-151-6
الصفحات: ٣٧٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

ثالثاً ، أن عمدة رواياته رواية القبة عن عائشة ، ورواية حراسة العباس .. أما الروايات الأخرى فكلها غير مسندة ، وغرض بعضها تقليل دور أبي طالب في نصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو واضحٌ ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مستغنياً في مكة عن حراسة أبي طالب .

كما يلاحظ في الرواية الأولى أنها تريد إثبات فضيلة للعباس بأنه كان حارس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة بدل أبي طالب ، وأنه هو الذي عصم الله به رسوله من الناس !

وقد كان دور العباس قبل الهجرة دوراً عادياً مثل بقية بني هاشم الذين تضامنوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتحملوا معه حصار الشعب ، ولم يعرف عنهم أنهم أسلموا ، ولم يهاجروا معه الى المدينة مثل علي وحمزة .

ومن المعروف أن العباس قد أسر في بدر وأسلم عند فكاك الأسرى .

هذا مضافاً الى تضعيف الهيثمي وغيره لهذه الرواية ، وما تشاهده من ضعف متنها وركته .

ثالثاً : ما سيأتي في إثبات استمرار حراسته صلى‌الله‌عليه‌وآله ونفي كل ما يدل على إلغائها ومن ذلك رواية القبة ، وسيأتي قول الألباني بعدم صحة نسبتها الى عائشة .

القول الثالث

أنها نزلت في المدينة بدون تاريخ ! فقد روى السيوطي عدة روايات تربط نزول الآية بإلغاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للحراسة ، وليس فيها أن ذلك كان في مكة أو في المدينة ، ولكن يفهم من نص بعضها أو رواة بعضها ، أن نزولها كان في المدينة .

ـ قال في الدر المنثور : ٢ / ٢٩٨ ـ ٢٩٩ :

وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عصمة بن مالك الخطمي قال : كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ، حتى نزلت : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فترك الحرس .

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ

١٨١
 &

الى قوله : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحرسوني ، إن ربي قد عصمني .

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن شقيق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقبه ناس من أصحابه ، فلما نزلت : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فخرج فقال : يا أيها الناس إلحقوا بملاحقكم ، فإن الله قد عصمني من الناس .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يحارسه أصحابه ، حتى أنزل الله : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فترك الحرس حين أخبره أنه سيعصمه من الناس .

وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن الربيع بن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرسه أصحابه ، حتى نزلت هذه الآية : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ الآية ... انتهى .

ـ ورواه ابن شبة في تاريخ المدينة : ١ / ٣٠١ ، عن عبد الله بن شقيق وعن محمد بن كعب القرظي . ورواه الطبري في تفسيره : ٦ / ١٩٩ ، عن عبد الله بن شقيق . وابن سعد في الطبقات : ١ جزء ١ / ١١٣ . والبيهقي في دلائل النبوة : ٢ / ١٨٠ .

ويدل على بطلان هذا القول وغيره من الأقوال التي ربطت نزول الآية بالحراسة :

أن من المجمع عليه في أحاديث سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان يطلب من قبائل العرب أن تحميه وتمنعه مما يراد به من القتل ، لكي يبلغ رسالة الله عز وجل ، وقد بايعه الأنصار بيعة العقبة على أن يحموه ويحموا أهل بيته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم .. فلو أن آية العصمة نزلت في مكة ، لما احتاج الى شئ من ذلك !

وسنذكر في آخر البحث أحاديث طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأنصار أن يحموه ويحرسوه ، وبيعتهم على ذلك !

ثم .. إن مصادر الحديث والتفسير والتاريخ مليئة بالروايات التي ذكرت حراسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنها كانت في مكة والمدينة ، خاصة في الحروب ، الى آخر حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله !

١٨٢
 &

ولذا يجب رفض كل الروايات التي زعمت أنه ألغى الحراسة قبل هذا التاريخ ، لأنها تدعي إلغاءها في السلم والحرب والسفر والحضر !

وقد تقدمت في رواية الحاكم أن ثلث المسلمين كانوا يحرسونه صلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر !

وقد روى أحمد : ٢ / ٢٢٢ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه ، حتى إذا صلى وانصرف اليهم فقال لهم ... الخ .

ورواه في كنز العمال : ١٢ / ٤٣٠ ، عن مسند عبد الله بن عمرو بن العاص . وقال عنه في مجمع الزوائد : ١٠ / ٣٦٧ : رواه أحمد ورجاله ثقات . انتهى .

وغزوة تبوك كانت في آخر سنة من حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي الفصول التي عقدها المحدثون ، وكتَّاب السيرة لحراسته صلى‌الله‌عليه‌وآله وقصصها ، وحراسه وأسمائهم وقصصهم .. ما يكفي لرد هذه المقولة !

والعجيب أنك ترى بعضهم يذكر كل ذلك عن الحراسة ، ثم يقول إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ألغى الحراسة بعد نزول الآية في مكة قبل الهجرة ، أو بعد الهجرة ! وكأنه حلف يميناً أن يبعد آية العصمة من الناس عن يوم الغدير !!

ـ قال صاحب عيون الأثر في : ٢ / ٤٠٢

حرسه يوم بدر حين نام في العريش : سعد بن معاذ ، ويوم أحد : محمد بن مسلمة ، ويوم الخندق : الزبير بن العوام . وحرسه ليلة بنى بصفية : أبو أيوب الأنصاري بخيبر ، أو ببعض طريقها ، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني . وحرسه بوادي القرى : بلال ، وسعد بن أبي وقاص ، وذكوان بن عبد قيس . وكان على حرسه عباد بن بشر ، فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، ترك الحرس !! . انتهى .

وقد حاول أن يجيب على حراستهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تبوك ، ففسر نص الحراسة بأنه يعني انتظارهم انتهاء صلاته !

١٨٣
 &

قال في : ١ / ١١٩ : وفي حديث عمرو بن شعيب : فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى ... والمراد والله أعلم : ينتظرون فراغه من الصلاة ! وأما حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين ، فقد كان انقطع منذ نزلت : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، وذلك قبل تبوك . والله أعلم . انتهى .

ولكنه تفسير مخالفٌ لنص الرواية في الحراسة !

وعلى كل حال ، فإن هذا القول بنزول الآية في المدينة يرد القول الأول الذي جعل تاريخ نزول الآية في مكة !

والنتيجة أن دعوى إلغائه صلى‌الله‌عليه‌وآله للحراسة لا دليل عليها من سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل الدليل على خلافها ، وأن بني هاشم كانوا يحرسونه في مكة حتى هجرته ، ثم كانوا هم وبقية أصحابه يحرسونه في المدينة ، الى آخر عمره الشريف .

وفي اعتقادي أن نفس محاولة تفسير الآية بإلغاء الحراسة دليلٌ على صحة تفسير أهل البيت عليهم‌السلام بأن الآية تقصد العصمة من الإرتداد ، فترى مخالفيهم يصرون على تفسيرها بالعصمة الحسية ويقعون في التناقض مع الواقع !

القول الرابع

أنها نزلت في المدينة في السنة الثانية للهجرة بعد حرب أحد .

ـ قال السيوطي في الدر المنثور : ٢ / ٢٩١ : وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم ، وإني أبرأ الى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله .

فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية موالي .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي : أبا حباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة ، فهو لك دونه !

١٨٤
 &

قال : إذن أقبل ، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، الى أن بلغ الى قوله : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... انتهى .

ويكفي في الدلالة على بطلان هذا القول ما تقدم في الحراسة ، ويضاف اليه أن روايته من كلام عطية بن سعد ولم يسندها الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والآيات المذكورة فيها هي الآيات ١ الى ٦٧ من سورة المائدة ، ولم يقل أحدٌ إن هذا الآيات نزلت في قصة ولاء ابن سلول لليهود ، الذي توفي قبل نزول سورة المائدة !

القول الخامس

أنها نزلت على أثر محاولة شخص اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد تناقضت رواياتهم في ذلك ، فذكر بعضها أن الحادثة كانت في غزوة بني أنمار المعروفة بذات الرقاع ، وأن شخصاً جاء الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقصد اغتياله وطلب منه أن يعطيه سيفه ليراه ، فأعطاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إياه بكل سهولة ..! أو كان علقه وغفل عنه ، أو دلى رجليه في البئر الخ .

ـ قال السيوطي في الدر المنثور : ٢ / ٢٩٨ ـ ٢٩٩

وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار نزل ذات الرقاع بأعلى نخل ، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ! فقال غورث بن الحرث : لأقتلن محمداً ، فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال أقول له أعطنى سيفك ، فإذا أعطانيه قتلته به !

فأتاه فقال : يا محمد أعطني سيفك أشِمْهُ ، فأعطاه إياه فرعدت يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حال الله بينك وبين ما تريد ، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ، الآية .

وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها ، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ قال : الله ، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه ،

١٨٥
 &

قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثرت دماغه فأنزل الله : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ !

وأخرج ابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم دوحة وأظلها فينزل تحتها ، فنزل ذات يوم تحت شجرة ، وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله يمنعني منك ، ضع عنك السيف فوضعه ، فنزلت : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ . انتهى .

وقال بعضهم : إن شخصاً أراد اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقبضوا عليه : ففي الدر المنثور : ٢ / ٢٩٩ : أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقيل هذا أراد أن يقتلك ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم ترع ، ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي .. انتهى .

*       *

ومما يدل على بطلان هذا القول وأن الآية لم تنزل في قصة غورث أو شبهها :

أولاً ، أن غزوة ذات الرقاع أو بني أنمار كانت في السنة الرابعة من الهجرة ( سيرة ابن هشام : ٣ / ٢٢٥ ) وهو تاريخٌ قبل نزول سورة المائدة بسنوات ، كما أن بعض رواياتها بلا تاريخ ، وبعضها غير معقول !

ثانياً ، أن المصادر الأساسية التي روت قصة غورث وغزوة ذات الرقاع ، لم تذكر نزول آية العصمة فيها ، بل ذكر أكثرها تشريع صلاة الخوف والحراسة المشددة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى في الصلاة ، وهو كافٍ لرد رواية نزول الآية فيها !

أما ابن هشام فقد ذكر أن الآية التي نزلت في قصة غورث هي قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ... ( سيرة ابن هشام : ٣ / ٢٢٧ ، تحقيق السقا ) ولكن ذلك لا يصح ، لأن تلك الآية من سورة المائدة أيضاً !

وأما البخاري وغيره فقد رووا فيها تشريع صلاة الخوف وتشديد الحراسة !

١٨٦
 &

ـ قال في صحيحه : ٥ / ٥٣ :

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه ، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه ، قال جابر فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا ، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً ! فقال لي من يمنعك مني ؟ قلت له : الله ، فها هو ذا جالسٌ ، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

عن أبى سلمة عن جابر قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلقٌ بالشجرة ، فاخترطه فقال له : تخافني ؟ فقال لا . قال فمن يمنعك مني ؟ قال الله . فتهدده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقيمت الصلاة ، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الاخرى ركعتين . وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر : اسم الرجل غورث بن الحرث . انتهى .

ـ وروى الحاكم نحوه : ٣ / ٢٩ ، وذكر فيه أيضاً أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى بعد الحادثة صلاة الخوف بالحراسة المشددة! وقال عن الحديث : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . وكذلك روى أحمد قصة غورث في : ٣ / ٣٦٤ ، و ٣٩٠ ، وذكر فيها صلاة الخوف ولم يذكر نزول الآية ! وراجع أيضاً : ٤ / ٥٩ ، ورواها الهيثمي في مجمع الزوائد : ٩ من / ٨ ، وفيها تفصيلاتٌ كثيرة وليس فيها ذكر نزول الآية !!

ـ وروى الكليني صيغة معقولة لقصة غورث ، قال في الكافي : ٨ / ١٢٧ :

أبان عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد ، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه ، فرآه رجل

١٨٧
 &

من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل ، فقال رجل من المشركين لقومه : أنا أقتل محمداً ، فجاء وشد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسيف ثم قال : من ينجيك مني يا محمد ؟ فقال : ربي وربك ، فنسفه جبرئيل عن فرسه فسقط على ظهره ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذ السيف ، وجلس على صدره وقال : من ينجيك مني يا غورث ؟ فقال : جودك وكرمك يا محمد ! فتركه ، فقام وهو يقول : والله لأنت خير مني وأكرم . انتهى .

وهكذا لا تجد أثراً في هذه المصادر لنزول الآية في ذات الرقاع ، أو في قصة غورث ، بل تلاحظ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى بعد الحادثة بالحراسة المشددة !

فهل صار إلغاء الحراسة عند أصحاب هذا القول ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يطمئن قلبه فأمر بتشديد الحراسة ؟!

ومن تخبطهم في قصة غورث وآية التبليغ ، ما تراه من الرد والبدل بين ابن حجر والقرطبي ، فقد قال القرطبي إن كون النبي وحده في القصة يدل على عدم حراسته حينذاك ، وأن الآية نزلت قبلها !!

فأجابه ابن حجر : لا ، فالآية نزلت يومذاك فألغى الحرس ، أما قبلها فكان أحياناً يضغف إيمانه فيتخذ الحرس ، وأحياناً يقوى فيلغيه ، وفي قصة غورث كان بلا حراسة لقوة إيمانه يومذاك !!

ـ قال في فتح الباري : ٨ / ٢٧٥٢

قوله باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والإستظلال بالشجر .

ذكر فيه حديث جابر الماضي قبل بابين من وجهين ، وهو ظاهر فيما ترجم له ، وقد تقدمت الإشارة الى مكان شرحه .

قال القرطبي : هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في هذا الوقت لا يحرسه أحدٌ من الناس ، بخلاف ما كان عليه في أول الأمر ، فإنه كان يحرس حتى نزل قوله تعالى : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .

١٨٨
 &

قلت : قد تقدم ذلك قبل أبواب ، لكن قد قيل إن هذه القصة سبب نزول قوله تعالى : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، وذلك فيما أخرجه بن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : كنا إذا نزلنا طلبنا للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم شجرة وأظلها فنزل تحت شجرة ، فجاء رجل فأخذ سيفه فقال : يا محمد من يمنعك مني ؟ قال : الله ، فأنزل الله : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، وهذا إسناد حسن . فيحتمل إن كان محفوظاً أن يقال : كان مخيراً في اتخاذ الحرس ، فتركه مرةً لقوة يقينه فلما وقعت هذه القصة ونزلت هذه الآية ، ترك ذلك . انتهى .

فاعجب لابن حجر الذي لم يلتفت الى أن الآية من سورة المائدة التي نزلت سنة عشر ، وأن غزوة ذات الرقاع سنة أربع ، وأن مجئ أبي هريرة الى المدينة سنة سبع ، وغفل عن تشديد الحراسة وصلاة الخوف في ذات الرقاع ، وهو مع ذلك يشرح رواية البخاري في صلاة الخوف !!

وما ذلك إلا لأن ذهنه مملوء بما زرَّقوه فيه من ربط آية العصمة بالحراسة ، لإبعادها عن الغدير !!

وأخيراً ، فقد تقدمت روايات حراسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تبوك ، وهي بعد غزوة ذات الرقاع بنحو ست سنوات ، ونضيف اليها هنا حراسته في فتح مكة الذي كان بعد هذه الحادثة ، بنحو أربع سنوات ، فقد روى البخاري أن المسلمين كانوا يحرسون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآلهحينئذ ! قال في صحيحه : ٥ / ٩١ : عن هشام عن أبيه قال : لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشاً ، خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران ، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة ، فقال أبو سفيان ما هذه ، لكأنها نيران عرفة ؟! فقال بديل بن ورقاء : نيران بنى عمرو ! فقال أبو سفيان عمرو أقل من ذلك ! فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأدركوهم فأخذوهم ، فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى .

١٨٩
 &

ونضيف الى ذلك أسطوانة الحراسة التي ما زالت في المسجد النبوي الشريف ، والتي عرفت بهذا الاسم في عام الوفود ، وهو السنة التاسعة كما في سيرة ابن هشام : ٤ / ٢١٤ ، تحقيق السقا .

القول السادس

لم يعين أصحابه تاريخ نزول الآية ، ولا ربطوها بالحراسة ، ولكنهم قالوا إنها عامة تؤكد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجوب تبليغ الرسالة ، وإلا فإنه لم يبلغها !

ـ ففي الدر المنثور : ٢ / ٢٩٩ : وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس ويعصمه منهم ، وأمره بالبلاغ ، وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قيل له : لو احتجبت فقال : والله لا يدع الله عقبي للناس ما صاحبتهم . انتهى .

وهذا القول يشبه القول الأول ، ويرد عليه ما تقدم ، وأن رواياته غير مسندة ، وأنه لا ينطبق على معنى الآية ، ولا يكفي لتصحيح القضية الشرطية فيها ، كما ستعرف .

القول الموافق لرأي لأهل البيت عليهم‌السلام

ـ قال في الدر المنثور : ٢ / ٢٩٨ : وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب .

وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك ـ أن علياً مولى المؤمنين ـ وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ! انتهى .

ـ المعيار والموازنة / ٢١٣

وعن جابر بن عبد الله وعبد الله بن العباس الصحابيين قالا : أمر الله محمداً أن ينصب علياً للناس ويخبرهم بولايته ، فتخوف رسول الله أن يقولوا حابى ابن عمه

١٩٠
 &

وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله إليه : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ . فقام رسول الله بولايته يوم غدير خم . انتهى . وقال في هامشه :

وروى السيوطي في الدر المنثور عن الحافظ ابن مردويه وابن عساكر بسنديهما عن أبي سعيد الخدري قال : لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...

أقول : ورواه أيضاً بأسانيد الحافظ الحسكاني في الحديث ٢١١ وتواليه من شواهد التنزيل ١ / ١٥٧ . ورواه أيضاً ابن عساكر في الحديث ( ٥٨٥ ـ ٥٨٦ ) من ترجمة أمير المؤمنين عليه‌السلام من تاريخ دمشق : ٢ / ٨٥ ط ١ .

وقد روى الخطيب والحافظ الحسكاني وابن عساكر وابن كثير والخوارزمي وابن المغازلي بأسانيد عن أبي هريرة قال : من صام يوم ثماني عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب ، فقال : ألست ولي المؤمنين ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال عمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ، فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ....

ومن أراد المزيد فعليه بما ألفه علماء المسلمين في هذا الحديث قرناً بعد قرن مثل رسالة الحافظ ابن عقدة ، وحديث الغدير للطبري المفسر والمورخ الشهير ، وحديث الغدير للحافظ الدارقطني ، والذهبي ، وعبيد الله الحسكاني ، ومسعود السجستاني وغيرهم . وعليك بكتاب الغدير ، وحديث الغدير من كتاب عبقات الأنوار ، فإن فيهما ما تشتهيه الأنفس . انتهى .

ـ وفي تفسير الميزان : ٦ / ٥٤

وعن تفسير الثعلبي قال قال جعفر بن محمد : معنى قوله : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ، في فضل علي ، فلما نزلت هذه أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه .

١٩١
 &

وعنه بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية قال : نزلت في علي بن أبي طالب ، أمر الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبلغ فيه فأخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .

ـ وفي الغدير : ١ / ٢١٤

نزلت هذه الآية الشريفة يوم الثامن عشر من ذي الحجة ، سنة حجة الوداع ( ١٠ هـ ) لما بلغ النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله غدير خم ، فأتاه جبرئيل بها على خمس ساعات مضت من النهار فقال : يا محمد إن الله يقرؤك السلام ويقول لك : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ـ في علي ـ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ، الآية . وكان أوائل القوم وهم مائة ألف أو يزيدون قريباً من الجحفة فأمر أن يرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ، وأن يقيم علياً صلى‌الله‌عليه‌وآله علماً للناس ، ويبلغهم ما أنزل الله فيه ، وأخبره بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس .

وما ذكرناه من المتسالم عليه عند أصحابنا الإمامية ، غير أنا نحتج في المقام بأحاديث أهل السنة في ذلك . انتهى .

وقد ذكر الأميني رحمه‌الله ثلاثين مؤلفاً من السنيين رووا أن الآية نزلت في ولاية علي عليه‌السلام نذكر عدداً منهم باختصار :

١ ـ الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى ٣١٠ ، أخرج بإسناده في كتاب ( الولاية ) في طرق حديث الغدير ، عن زيد بن أرقم قال : لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بغدير خم في رجوعه من حجة الوداع ، وكان في وقت الضحى وحر شديد ، أمر بالدوحات فقمَّت ، ونادى الصلاة جامعة ، فاجتمعنا فخطب خطبة بالغة ثم قال : إن الله تعالى أنزل إلي : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ....

٢ ـ الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد الحنظلي الرازي المتوفى ٣٢٧ .

١٩٢
 &

٣ ـ الحافظ أبو عبد الله المحاملي المتوفى ٣٣٠ ، أخرج في أماليه بإسناده عن ابن عباس ...

٤ ـ الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازي المتوفى ٤٠٧ ، روى في كتابه ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين ، بالإسناد عن ابن عباس ...

٥ ـ الحافظ ابن مردويه المولود ٣٢٣ والمتوفى ٤١٦ ، أخرج بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت يوم غدير خم في علي بن أبي طالب ، وبإسناد آخر عن ابن مسعود أنه قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ـ أن علياً مولى المؤمنين ...

٦ ـ أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري المتوفى ٤٢٧ ، روى في تفسيره الكشف والبيان ..

٧ ـ الحافظ أبو نعيم الإصبهاني المتوفى ٤٣٠ ، روى في تأليفه : ما نزل من القرآن في علي ....

٨ ـ أبو الحسن الواحدي النيسابوري المتوفى ٤٦٨ ، روى في أسباب النزول / ١٥٠ ....

٩ ـ الحافظ أبو سعيد السجستاني المتوفى ٤٧٧ ، في كتاب الولاية بإسناده من عدة طرق عن ابن عباس ....

١٠ ـ الحافظ الحاكم الحسكاني أبو القاسم روى في شواهد التنزيل لقواعد التفصيل والتأويل ، بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وجابر ....

١١ ـ الحافظ أبو القاسم ابن عساكر الشافعي المتوفى ٥٧١ ، أخرج بإسناده عن أبي سعيد الخدري ....

١٢ ـ أبو الفتح النطنزي أخرج في الخصائص العلوية ، بإسناده عن الإمامين محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق ...

١٣ ـ أبو عبد الله فخرالدين الرازي الشافعي المتوفى ٦٠٦ ، قال في تفسيره الكبير ٣

١٩٣
 &

/ ٦٣٦ : العاشر : نزلت الآية في فضل علي ، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ....

١٤ ـ أبو سالم النصيبي الشافعي المتوفى ٦٥٢ ، في مطالب السؤول / ١٦ ...

١٥ ـ الحافظ عز الدين الرسعني الموصلي الحنبلي المولود ٥٨٩ ....

١٦ ـ شيخ الإسلام أبو إسحاق الحمويني المتوفى ٧٢٢ ، أخرج في فرايد السمطين عن مشايخه الثلاثة : السيد برهان الدين إبراهيم بن عمر الحسيني المدني ، والشيخ الإمام مجد الدين عبد الله بن محمود الموصلي ، وبدر الدين محمد بن محمد بن أسعد البخاري ، بإسنادهم عن أبي هريرة : أن الآية نزلت في علي .

١٧ ـ السيد علي الهمداني المتوفى ٧٨٦ ، قال في مودة القربي : عن البراء بن عازب رضي‌الله‌عنه قال : أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فلما كان بغدير خم نودي الصلاة جامعة ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وأخذ بيد علي ، وقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟

قالوا : بلى يا رسول الله .

فقال : ألا من أنا مولاه فعلي مولاه . اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه . فلقيه عمر رضي‌الله‌عنه فقال : هنيئاً لك يا علي بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة . وفيه نزلت : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الآية .

١٨ ـ بدر الدين بن العيني الحنفي المولود ٧٦٢ والمتوفى ٨٥٥ ، ذكره في عمدة القاري في شرح صحيح البخارى ٨ / ٥٨٤ في قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ . عن الحافظ الواحدي ....

الوهابيون وحديث الغدير

من العجيب أن يبقى القول الموافق لأهل البيت عليهم‌السلام في سبب نزول آية التبليغ حياً في مصادر إخواننا السنيين ، لأنه ينسف الأسس التي بذل القرشيون جهودهم ليقنعوا بها المسلمين في مسألة الإمامة والخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !

١٩٤
 &

ولهذا السبب تجد النواصب يغيظهم وجود حديث الغدير ، وحديث هذه الآية وأمثاله ، ويودون لو أن شيئاً منها لم يكن موجوداً في الصحاح والمصادر .. وتراهم بدل أن يبحثوها بحثاً علمياً على ضوء القرآن والمتفق عليه من السنة .. يكيلون التهم والسباب للشيعة وعلمائهم لأنهم اطلعوا عليها ، وأخرجوها لهم من مصادرهم !!

قال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ٥ / ٦٤٤ :

عصمته في من الناس .

كان يحرس حتى نزلت هذه الآية : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فأخرج رسول الله في رأسه من القبة ، فقال لهم : يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله ) .

أحرجه الترمذي : ٢ / ١٧٥ ، وابن جرير : ٦ / ١٩٩ ، والحاكم : ٢ / ٣ ، من طريق الحارث بن عبيد عن سعيد الجريري ، عن عبد بن شقيق ، عن عائثة قالت : فذكره .

وقال الترمذي : حديث غريب . وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري عن عبد الله بن شقيق قال : كان النبي يحرس .. ولم يذكروا فيه : عن عائشة .

قلت : وهذا أصح ، لأن الحارث بن عبيد ـ وهو أبو قدامة الأيادي ـ فيه ضعف من قبل حفظه ، أشار إليه الحافظ بقوله : صدوق يخطئ .

وقد خالفه بعض الذين أشار إليهم الترمذي ، ومنهم إسماعيل ابن علية الثقة الحافظ ، رواه ابن جرير بإسنادين عنه عن الجريري به مرسلاً .

قلت : فهو صحيح مرسلاً ، وأما قول الحاكم عقب المسند عن عائشة : صحيح الإسناد فمردود ، لما ذكرنا ، وإن تابعه الذهبي .

نعم الحديث صحيح ، فإن له شاهداً من حديث أبي هريرة قال :

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا نزل منزلاً نظروا أعظم شجرة يرونها فجعلوها للنبي فينزل تحتها وينزل أصحابه بعد ذلك في ظل الشجر ، فبينما هو نازل تحت شجرة وقد علق السيف عليها إذ جاء أعرابي فأخذ السيف من الشجرة ثم دنا من النبي وهو نائم فأيقظه ، فقال : يا محمد من يمنعك مني الليلة ؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله . فأنزل الله : يَا

١٩٥
 &

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ . الآية . أخرجه ابن حبان في صحيحه ١٧٣٩ موارد وابن مردويه كما في ابن كثير ٦ / ١٩٨ ، من طريقين عن حماد بن سلمة : حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه . قلت . وهذا إسناد حسن . وذكر له ابن كثير شاهداً ثانياً من حديث جابر رواه ابن أبي حاتم .

وله شاهدان آخران عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي مرسلاً .

واعلم أن الشيعة يزعمون ـ خلافاً للأحاديث المتقدمة ـ أن الآية المذكورة نزلت يوم غدير خم في علي رضي‌الله‌عنه ويذكرون في ذلك روايات عديدة مراسيل ومعاضيل أكثرها ، ومنها عن أبي سعيد الخدري ولا يصح عنه كما حققته في الضعيفة ( ٤٩٢٢ ) والروايات الأخرى أشار إليها عبد الحسين الشيعي في مراجعاته / ٣٨ دون أي تحقيق في أسانيدها كما هي عادته في سرد أحاديث كتابه ، لأن غايته حشد كل ما يشهد لمذهبه سواء صح أو لم يصح ، على قاعدتهم : الغاية تبرر الوسيلة ! فكن منه ومن رواياته على حذر ، وليس هذا فقط ، بل هو يدلس على القراء ـ إن لم أقل يكذب عليهم ـ فإنه قال في المكان المشار إليه في تخريج أبي سعيد هذا المنكر بل الباطل : أخرجه غير واحد من أصحاب السنن كالإمام الواحدي .. !

ووجه كذبه : أن المبتدئين في هذا العلم يعلمون أن الواحدي ليس من أصحاب السنن الأربعة ، وإنما هو مفسر يروي بأسانيده ما صح وما لم يصح ، وحديث أبي سعيد هذا مما لم يصح ، فقد أخرجه من طريق فيه متروك شديد الضعف ! كما هو مبين في المكان المشار إليه من الضعيفة .

وهذه من عادة الشيعة قديماً وحديثاً ، أنهم يستحلون الكذب على أهل السنة عملاً في كتبهم وخطبهم ، بعد أن صرحوا باستحلالهم للتقية ، كما صرح بذلك الخميني في كتابه كشف الأسرار ، وليس يخفى على أحد أن التقية أخت الكذب ولذلك قال أعرف الناس بهم شيخ الإسلام ابن تيمية : الشيعة أكذب الطوائف وأنا

١٩٦
 &

شخصياً قد لمست كذبهم لمس اليد في بعض مؤلفيهم ، وبخاصة عبد الحسين هذا ، والشاهد بين يديك فإنه فوق كذبته المذكورة أوهم القراء أن الحديث عند أهل السنة من المسلمات بسكوته عن علته ، وادعائه كثرة طرقه .

وقد كان أصرح منه في الكذب الخميني فإنه صرح في الكتاب المذكور / ١٤٩ أن آية العصمة نزلت يوم غدير خم بشأن إمامة علي بن أبي طالب ، باعتراف أهل السنة ، واتفاق الشيعة . كذا قال عامله الله بما يستحق . وسأزيد هذا الأمر بياناً في الضعيفة ، إن شاء الله تعالى . انتهى .

ونقول للباحث الألباني : أولاً : دع عنك التهم والشتائم وإصدار الأحكام ، وتصنيف من هم أصدق الطوائف الإسلامية ومن هم أكذبها ، فإن السنيين والشيعيين فيهم أنواع الناس .. ولكن النواصب لهم حكم خاص ..

ولا تنس أيها الباحث أن ابن تيمية الذي لم ينصف علي بن أبي طالب عليه‌السلام لا يمكنه أن ينصف شيعته .. وقد دافعتَ أنت عن علي عليه‌السلام ورددت ظلم ابن تيمية وإنكاره حديث الغدير ( من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ) فصححت الحديث واعترفت مشكوراً بالحق ، وكتبت صفحات في ذلك في أحاديثك الصحيحة ٥ / ٣٣٠ برقم ١٧٥٠ ، ثم قلت في / ٣٤٤ :

إذا عرفت هذا فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث وبيان صحته : أنني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد ضعَّف الشطر الأول من الحديث ، وأما الشطر الآخر فزعم أنه كذب ! وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها ، ويدقق النظر فيها . والله المستعان .

أما ما يذكره الشيعة في هذا الحديث وغيره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في علي رضي‌الله‌عنه : إنه خليفتي من بعدي ، فلا يصح بوجه من الوجوه ، بل هو من أباطيلهم الكثيرة التي دل الواقع التاريخي على كذبها ، لأنه لو فرض أن النبي قاله لوقع كما قال لأنه ( وحي يوحى ) والله سبحانه لا يخلف وعده !! انتهى .

١٩٧
 &

ونلاحظ أن الشيخ الألباني تسرع أخيراً وجعل الإخبار التشريعي إخباراً غيبياً ! وشتان ما بينهما .. فلو صح ذلك لانتقض حديثه الذي صححه وأحكمه ، وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) فهو أيضاً ( وحيٌ يوحى ) فوجب على قوله أن يكون علي ولياً لكل المسلمين وسيداً لهم ، وأن يكونوا معه كالعبيد كما كانوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .. ولكن ذلك لم يتحقق ، بل لقد هاجموا بيت علي وفاطمة عليهما‌السلام في اليوم الثاني لوفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الثالث ، وهددوا المعتصمين بإحراقه عليهم إن لم يخرجوا ويبايعوا .. ثم أجبروا علياً إجباراً على البيعة كما هو معروف ..

فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : عليٌّ خليفتي من بعدي مثل قوله : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وإذا كان الأول إخباراً عما سيقع فكذلك الثاني ، فكيف تحقق عكسه وصار معنى : من كنت سيده فعلي سيده ، أنَّ الرعية أجبروا سيدهم على بيعتهم ؟!

إن الإخبار في الحديثين تشريعي أيها المحدث ، وبيانٌ لتكليف المسلمين وما يجب عليهم ، وليس هو إخباراً غيبياً ، حتى لا يصح وقوع غيره !

ونقول له ثانياً : عندما ضعَّفت حديث سبب نزول آية ( وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) هل جمعت طرقه ودققت النظر فيها فقلت ( مراسيل ومعاضيل أكثرها ) ؟

هل رأيت طرق الثعلبي ، وأبي نعيم ، والواحدي ، وأبي سعيد السجستاني ، والحسكاني ، وأسانيدهم ؟ فوجدتها كلها مرسلةً أو ضعيفةً أو معضلةً ، ووجدت في رواتها من لم تعتمد أنت عليهم ! أم وقعت فيما وقع فيه ابن تيمية مما انتقدته عليه ؟!

على أي حالٍ ، لم يفت الوقت ، فنرجو أن تتفضل بملاحظة ما كتبناه في تفسير الآية ، وأن تدقق الطرق والأسانيد التي قدمناها ، وتبحثها بموازينك التي تريدها ، بشرط أن لا تناقض ما كتبته في كتبك ، ولا تضعِّف راوياً هنا لأنه روى فضيلةً لعلي ، وقد اعتمدت عليه وقبلت روايته في مكان آخر !

ونذكر فيما يلي أسانيد مصدرٍ واحد هو : كتاب شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني

١٩٨
 &

عبيد الله بن عبد الله بن أحمد العامري القرشي ، تلميذ الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك . قال في كتابه المذكور ، بتحقيق المحمودي : ١ / ٢٥٠ ـ ٢٥٧ :

٢٤٤ ـ أخبرنا أبو عبد الله الدينوري قراءة ( قال : ) حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق ( بن ابراهيم ) السني قال : أخبرني عبد الرحمان بن حمدان قال : حدثنا محمد بن عثمان العبسي قال : حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون قال : حدثنا علي بن عابس عن الاعمش عن أبي الجحاف ( داود بن أبي عوف ) عن عطية : عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) .

٢٤٥ ـ أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ جملة ( قال : أخبرنا ) علي بن عبد الرحمان بن عيسى الدهقان بالكوفة قال : حدثنا الحسين بن الحكم الحبري قال : حدثنا الحسن بن الحسين العرني قال : حدثنا حبان بن علي العنزي قال : حدثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الآية ( قال : ) نزلت في علي أمر رسول الله صلى الله عليه أن يبلغ فيه فأخذ رسول الله بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه .

٢٤٦ ـ رواه جماعة عن الحبري وأخرجه السبيعي في تفسيره عنه فكأني سمعته من السبيعي ورواه جماعة عن الكلبي .

وطرق هذا الحديث مستقصاة في كتاب دعاء الهداة الى أداء حق الموالاة من تصنيفي في عشرة أجزاء .

٢٤٧ ـ أخبرنا أبو بكر السكري قال : أخبرنا أبو عمرو المقري قال : أخبرنا الحسن بن سفيان قال : حدثني أحمد بن أزهر قال : حدثنا عبد الرحمان بن عمرو بن جبلة قال : حدثنا عمر بن نعيم بن عمر بن قيس الماصر قال : سمعت جدي قال : حدثنا عبد الله بن أبي أوفى قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم غدير خم وتلا هذه

١٩٩
 &

الآية ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) ثم رفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ثم قال : ألا من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . ثم قال : اللهم اشهد .

٢٤٨ ـ أخبرنا عمرو بن محمد بن أحمد العدل بقراءتي عليه من أصل سماع نسخته قال : أخبرنا زاهر بن أحمد قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى الصولي قال : حدثنا المغيرة بن محمد قال : حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال : حدثني أبي قال : سمعت زياد بن المنذر يقول : كنت عند أبي جعفر محمد بن علي وهو يحدث الناس إذ قام إليه رجل من أهل البصرة يقال له : عثمان الاعشى ـ كان يروي عن الحسن البصري ـ فقال له : يا ابن رسول الله جعلني الله فداك إن الحسن يخبرنا أن هذه الآية نزلت بسبب رجل ولا يخبرنا من الرجل ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) . فقال : لو أراد أن يخبر به لأخبر به ولكنه يخاف إن جبرئيل هبط على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على صلاتهم ، فدلهم عليها . ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على زكاتهم ، فدلهم عليها . ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على صيامهم ، فدلهم . ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على حجهم ، ففعل . ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على وليهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم ليلزمهم الحجة في جميع ذاك . فقال رسول الله : يا رب إن قومي قريبو عهد بالجاهلية ، وفيهم تنافس وفخر ، وما منهم رجل إلا وقد وتره وليهم ، وإني أخاف ، فأنزل الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) يريد فما بلغتها تامة ( وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فلما ضمن الله ( له ) بالعصمة وخوفه أخذ بيد علي بن أبي طالب ثم قال : يا أيها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه .

٢٠٠