آيات الغدير

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

آيات الغدير

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-151-6
الصفحات: ٣٧٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

ولو كانت قبل فتح مكة وقبل ( دخول ) قريش في الإسلام لما قالوا في مطالبتهم بأولادهم وعبيدهم المهاجرين ( سنفقههم ) فهذا لا يقوله إلا الطلقاء الذين يدعون الاسلام وفقه الإسلام !

كما أن بعض الروايات قد صرحت بأن الحادثة كانت بعد فتح مكة !

ـ قال الحاكم في المستدرك : ٢ / ١٣٨

عن ربعي بن حراش عن علي رضي‌الله‌عنه قال : لما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة ، أتاه ناس من قريش فقالوا : يا محمد إنا حلفاؤك وقومك ، وإنه لحق بك أرقاؤنا ليس لهم رغبة في الإسلام ، وإنما فروا من العمل فارددهم علينا !

فشاور أبا بكر في أمرهم فقال : صدقوا يا رسول الله !

فقال لعمر ما ترى ؟ فقال مثل قول أبي بكر .

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا معشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للايمان ، فيضرب رقابكم على الدين !

فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله ؟

قال : لا .

قال عمر : أنا هو يا رسول الله ؟

قال : لا ، ولكنه خاصف النعل في المسجد ، وقد كان ألقى نعله الى علي يخصفها .. هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .

وروى نحوه في ٤ / ٢٩٨ ، وصححه على شرط مسلم وفيه ( لما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة أتاه ناس من قريش ... يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلاً فيضرب أعناقكم على الدين ، ثم قال : أنا ، أو خاصف النعل ، قال علي : وأنا أخصف نعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ) انتهى . ورواه في كنز العمال : ١٣ / ١٧٤ ، وقال : ( ش وابن جرير ، ك ، ويحيى بن سعيد في إيضاح الإشكال ) .

١٦١
 &

في هذه الحادثة الخطيرة حقائق مهمة وكبيرة :

الأولى : أنهم جاؤوا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى المدينة .. وهذا يعني أنهم بعد فتح مكة وخضوعهم وإعلانهم الإسلام تحت السيف ، وعتق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لرقابهم ، وما فعلوه في حرب حنين .. جاؤوا الى ( محمد ) في عاصمته يطالبونه بالإعتراف العملي باستقلالهم السياسي .. وهي وقاحةٌ ما فوقها وقاحة !!

صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا له صلى‌الله‌عليه‌وآله ( يا محمد ) كما رأيت في صحيح الحاكم على شرط مسلم ! وكما في سنن أبي داود : ١ / ٦١١ ولكن رواية الترمذي جعلتها ( يا رسول الله ) !

وقد مر ما يدل على أن الحادثة كانت في المدينة ففي مسند أحمد : ٣ / ٨٢

عن أبي سعيد الخدري قال : كنا جلوساً ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج علينا من بعض بيوت نسائه ، قال : فقمنا معه فانقطعت نعله ، فتخلف عليها علي يخصفها ، فمضى رسول صلى الله عليه وسلم ثمتَ ومضينا معه ، ثم قام ينتظره وقمنا معه ، فقال : إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله !! فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر فقال : لا ، ولكنه خاصف النعل ! قال فجئنا نبشره قال : وكأنه قد سمعه . انتهى . وقال عنه في مجمع الزوائد : ٩ / ١٣٣ ( رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة ، وهو ثقة ) . انتهى .

الثانية : أنهم اعتبروا أن فتح مكة ( ودخولهم ) في الإسلام لا يعني خضوعهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذوبانهم في الأمة الإسلامية ، بل هو تحالف مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ضد أعداء دولته من القبائل التي لم تدخل تحت سيطرتها ، والى حد ما ضد الروم والفرس . فهو تحالف الند للند ، وإن كان تم بفتح مكة بقوة السيف !!

وقد عملوا بزعمهم بهذا التحالف ، فحاربوا معه صلى‌الله‌عليه‌وآله في حنين ، فعليه الآن أن يعترف بكيانهم القرشي المستقل ! وقد اختاروا أول مطلب لهم أو علامة على ذلك : أن يعيد هؤلاء الفارين اليه من أبنائهم وعبيدهم ! يعيدهم من دولته الى دولتهم !!

١٦٢
 &

الثالثة : أن القرشيين الذين هاجروا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ما عدا بني هاشم ـ وافقوهم على ذلك ! فهذا أبو بكر بن أبي قحافة التيمي ، وعمر بن الخطاب العدوي يؤيدان مطلب قريش مئة بالمئة !!

وتتفاوت الروايات هنا في التصريح في موافقة أبي بكر وعمر على مطلب قريش فبعضها كما رأيت في رواية الحاكم الصحيحة ينص على أن أبا بكر قال ( صدقوا يا رسول الله ! ) وقال عمر مثل قوله : صدقوا يا رسول الله ردهم اليهم !!

وبعضها لا تذكر تصديقهما لمطلب قريش وشهادتهما بأنه حق ، بل تقتصر على سؤالهما إن كانا هما اللذين سيبعثهما الله ورسوله لتأديب قريش ! كما في رواية الترمذي المتقدمة ، وكما في مستدرك الحاكم : ٣ / ١٢٢ ، وكما في مجمع الزوائد : ٩ / ١٣٤ و : ٥ / ١٨٦ ، وقال ( رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح ) .

وقد غير بعض الرواة القرشيين ( الأذكياء ) اسم الشيخين الى ( ناس ) ففي مستدرك الحاكم :٢ / ١٢٥ ( فقال ناس : صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم !! وكذا في كنز العمال : ١٠ / ٤٧٣ وقال الهندي عن مصادره : أبو داود وابن جرير وصححه ، ق ض ) .

وبعضهم حذفوا اسم أبي بكر وعمر كلياً من الحادثة ! كما رأيت في سنن أبي داود ، وكما في كنز العمال : ١١ / ٦١٣ ، حيث رواه بعدة روايات عن أحمد ، وعن مصادر متعددة ، وليس فيه ذكر لأبي بكر وعمر !

الرابعة : يتساءل الباحث ما هي العلاقة التي كانت تربط أبا بكر وعمر بسهيل بن عمرو ، ولماذا أيدا مطلب قريش المفضوح ؟!

ويتساءل : مادام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهم خطة القرشيين وغضب ورفض مطلبهم وهددهم بالحرب ثانية ، بل وعدهم بها .. فلماذا استشار أبا بكر وعمر في الموضوع ؟!

على أي حال ، إن أقل ما تدل عليه النصوص : أن زعامة قريش كانت متمثلةً في ذلك الوقت بهؤلاء الأربعة ، الذين جمعتهم هذه الحادثة وهم :

١٦٣
 &

رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وسهيل بن عمرو العامري ، زعيم المشركين بالأمس وزعيم قريش اليوم .

وأبو بكر التيمي وعمر العدوي ، الممثلان لقبيلتين صغيرتين لا وزن لهما في قريش ، ولكن لشخصيتيهما وزناً مهماً لصحبتهما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أيدا مطلب سهيل !

ولا بد للباحث أن يفترض علاقةً واتفاقاً مسبقاً بين وفد قريش وبين الشيخين ، بل يفهم من بعض الروايات أن سهيلاً ووفد قريش نزلوا في المدينة في ضيافة عمر ، ثم جاء وأبو بكر معهم الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمساعدتهم على مطلبهم .

الخامسة : تضمن الموقف النبوي من الحادثة أربعة عناصر :

الأول ، الغضب النبوي من تفكير قريش الكافر ووقاحتها ، وقد ذكرته الروايات ولم تصفه بالتفصيل .

الثاني ، يأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أن تصلح قريش ويحسن إسلامها ، بل يأسه من أن تترك قريش تعقيد بني عمها إسحاق وفرعنتهم ، وتخضع للحق ، إلا بقوة السيف !!

ففي عدد من روايات الحادثة كما في الحاكم : ٢ / ١٢٥ ( فقال : ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا ) أي على الإسلام ! وكذا رواه أبو داود : ١ / ٦١١ ، والبيهقي في سننه : ٩ / ٢٢٩ ، وكنز العمال : ١٠ / ٤٧٣ ! وهو تصريح بأنهم لم يسلموا ، ولن يسلموا إلا تحت السيف !!

الثالث ، تهديدهم بسيف الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي ترتعد منه فرائصهم ، لأنهم ذاقوا منه الأمرين ، فقد قتل مجموع المسلمين في حروبهم مع قريش نصف أبطالها ، وقتل علي وحده نصفهم أو أكثر !

ونلاحظ هنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كنَّى عن ذلك الشخص الذي سيبعثه الله على قريش فيضرب أعناقهم على الدين ، بأنه أنا أو رجل مني ( مجمع الزوائد : ٩ / ١٣٣ ) ثم سماه عندما سأله أبو بكر وعمر عنه فقال ( أنا أو خاصف النعل ـ كنز العمال : ٧ / ٣٢٦ وغرضه من التكنية ثم التسمية ، أن لا تتصور قريش أن المسألة بعيدة فتطمع في مشروعها !

١٦٤
 &

بل ينبغي أن تحتمل أن الأمر قد يصدر غداً الى علي بغزو مكة وقتل فراعنة قريش !

وغرضه صلى‌الله‌عليه‌وآله من تعبير ( مني ) أن يبين مكانة علي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن تعلم قريش أنه مؤمنٌ وأنه هاشمي من ذلك الفرع الذي ما زالت تحسده ، وتموت منه غيضاً !!

فلو أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم : إن علياً سيقاتل قريشاً على تأويل القرآن بعد ربع قرن ، كما قاتلتها أنا على تنزيله بالأمس ، لطمعت قريش وقالت : إذن عندنا فرصة ربع قرن من الزمان ، ولكل حادثٍ حديث !

بل روى في مجمع الزوائد حديثاً قال عنه : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح : أن علياً عليه‌السلام كان يعلن في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تهديده لقريش ، ولكل من يفكر بالردة ، بأنه سوف يقاتلهم الى آخر نفس ، وهو عملٌ وقائي بتوجيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمنع قريش أن تفكر بالردة ! قال في مجمع الزوائد : ٩ / ١٣٤

وعن ابن عباس أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل يقول : أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ، والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى . والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت . لا والله .. إني لأخوه ، ووليه ، وابن عمه ، ووارثه ، فمن أحق به مني ؟!

ـ وروى في نفس المكان حديثاً آخر ينص على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هدد قريشاً بعلي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد فتح مكة مباشرةً ، قال : وعن عبد الرحمن بن عوف قال : لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انصرف الى الطائف فحاصرها سبع عشرة أو ثمان عشرة لم يفتتحها ، ثم أوغل روحةً أو غدوةً ، ثم نزل ثم هجَّرَ فقال :

يا أيها الناس إني فرطٌ لكم وأوصيكم بعترتى خيراً ، وإن موعدكم الحوض . والذي نفسي بيده ليقيموا الصلاة ، وليؤتوا الزكاة ، أو لأبعثن اليهم رجلاً مني ، أو لنفسي ، فليضربن أعناق مقاتليهم ، وليسبين ذراريهم .

قال فرأى الناس أنه أبو بكر أو عمر ، وأخذ بيد علي فقال : هذا هو . رواه أبو يعلى وفيه طلحة بن جبر ، وثقه ابن معين في رواية ، وضعفه الجوزجاني ، وبقية رجاله ثقات .

١٦٥
 &

الرابع : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حكم بكفر أصحاب هذا الطلب ، ولعمري إن مجرد طلبهم كافٍ لإثبات ذلك . ويؤكده الغضب النبوي وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( ما أراكم تنتهون يا معشر قريش ) وقوله بأن الله سيبعث عليهم رجلاً يضرب أعناقهم على الدين ، مما يدل على أنهم ليسوا عليه . بل لا يسكتون عنه إلا تحت السيف !!

ولكن الفقهاء يريدون دليلاً أكثر لمساً ، وقد أعطاهم إياه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأبى أن يرد عليهم عبيدهم المملوكين ، وأخبرهم أنه أعتقهم فصاروا عتقاء الله تعالى !

فلو كان هؤلاء الطلقاء مسلمين ، وكانت ملكيتهم محترمة ، فكيف يجوز للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعتدي على ملكيتهم ، وهو أتقى الأتقياء ، وهو القائل : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه .. والقائل : إن أموالكم ودماءكم عليكم حرام .. الخ .

أثر هذه الحادثة على قريش

الظاهر أن هذه الحادثة كانت آخر محاولات قريش لانتزاع اعتراف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باستقلالها السياسي ، ولو بصيغة التحالف معه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو بصيغة الحكم الذاتي تحت لواء دولته ! فهل سكتت قريش بعد هذه الحادثة ؟

الذين يقرؤون التاريخ المكتوب بحبر الخلافة القرشية ، والإسلام المفصل ؟ بمقصات رواتها .. يقولون : من المؤكد أن قريشاً تابت بعد هذه الحادثة ، وأسلم زعماؤها وأتباعهم وحسن إسلامهم ، وتصدقوا وأعتقوا وحجوا ، وأكثروا من الصوم والحج والصلاة !

ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال ( ما أراكم تنتهون يا معشر قريش ) !! وطبيعة قريش ، وطينة زعامتها تؤكد أنهم واصلوا العمل على كل الجبهات الممكنة !!

نعم .. لقد رأت قريش أن حديدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حامية ، وأن التفكير بالإستقلال السياسي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله تفكيرٌ خاطئ ، وأن محمداً لا يقعقع له بالشنان ، فهو من علياء هاشم وذروة شجعانها ، ومعه ابن عمه قَتَّال قريشٍ ومجندل أبطالها ، ومعه الأوس والخزرج ، الذين تجرؤوا لأول مرة في تاريخهم على حرب قريش ..

١٦٦
 &

لقد تراجع عند قريش منطق الإستقلال السياسي عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتأكد عندها المنطق القائل إن دولة محمد شملت كل المنطقة ، وهي تتحفز لمقارعة الروم والفرس ، وقد وعد محمد المسلمين بذلك وتطلعوا اليه .. فلا معنى لأن تطالبه قريش بحكم مكة ومن أطاعها من قبائل العرب !

إنه لا بد من التأقلم مع الوضع الجديد ، والعمل الجاد بالسياسة وبالعنف المنظم ، لكي ترث قريش كل دولة محمد ! صلى‌الله‌عليه‌وآله

فمحمد من قريش ، وقريش أولى بسلطان ابنها ، ولا كلام للأنصار اليمانية ، ولا لغيرهم من القبائل .

أما مسألة بني هاشم الذين يسميهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله العترة والقربى ، وتنزل عليه فيهم آيات القرآن ، ويصدر فيهم الأحاديث ، ويجعل لهم خمس ميزانية الدولة .. فلا بد من معالجة أمرهم بأي طريقة ممكنة !

نعم .. هذا ما وصلت اليه قريش التي أعتقها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من القتل والرق !

وهذا ما جازته به في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله !

وقد ساعدها عليه من ساعدها من أصحابه !!

الخليفة عمر يشهد بفساد قريش !

ـ قال الطبري في تاريخه : ٣ / ٤٢٦ :

عن الحسن البصري قال : كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان ، إلا بإذنٍ وأجل ، فشكوه ، فبلغه ، فقام فقال : ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير ، يبدأ فيكون جذعاً ، ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سديساً ، ثم بازلاً ، ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان .

ألا فإن الإسلام قد بزل ، ألا وإن قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله مغوياتٍ دون عباده ألا فأما وابن الخطاب حيٌّ فلا ، إني قائمٌ دون شعب الحرة ، آخذٌ بحلاقيم قريش

١٦٧
 &

وحجزها أن يتهافتوا في النار !! انتهى . ورواه في كنز العمال : ١٣ / ٧٥ ، وفي تاريخ المدينة لابن شبة : ٢ / ٧٧٩ ، وفيه ( ألا وإني آخذٌ بحلاقيم قريش عند باب الحرة أن يخرجوا على أمة محمد فيكفروهم ) . انتهى . ونحوه في : ٢ / ٤٠١ .

وهذا الموقف من الخليفة عمر يتضمن عدة أمور ، نكتفي بالإشارة اليها :

فهو أولاً ، كلام زعيمٍ لا يشك أحدٌ في ولائه لقريش ، لأنه حمل راية قريش وأحقيتها بخلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقابل الأنصار وبني هاشم ، وخاض صراعاتٍ شديدة ، حتى خلَّص الخلافة من عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقدمها على طبقٍ الى قبائل قريش !

وهو ثانياً ، شهادةٌ منه بحق المهاجرين القرشيين بأنهم أناسٌ مضلون ، يجب أن يحبسوا في المدينة حتى لا يضلوا المسلمين ويخرجوهم من الإسلام !!

وإذا كان حال القرشيين المسلمين المهاجرين هذا ، فما هو حال الطلقاء ؟!

وهو ثالثاً ، يتضمن تصوراً لانتهاء الإسلام في مدةٍ قليلة ، وكأن الإسلام دورةٌ سياسية تمر على الجزيرة والمناطق التي امتد اليها ، ثم تنتهي !

وقد ثبت عن الخليفة عمر أنه كان يرى أنه سوف لا تمر سنين طويلة حتى تأخذ الأمم الأخرى مناطق المسلمين بما فيها مكة ، ويهجرها أهلها وتخرب !!

ولعله اقتنع بهذا الرأي من كعب الأحبار .. وهو بحثٌ خارجٌ عن موضوعنا .

*       *

١٦٨
 &

الفصل الثاني

آية الأمر بالتبليغ

نص الآية مع سياقها

* وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّـهِ مَغْلُولَةٌ ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ، وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ، وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّـهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ، وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ .

* وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ . وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم . مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ .

* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ، وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ، وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ .

* قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَئ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ، وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ، فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ .

١٦٩
 &

* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .

* لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ . المائدة ٦٤ ـ ٧٠

مكان الآية في القرآن

إذا قلنا بحجية السياق القرآني ، فلا بد أن نأخذ في تفسير الآية أمرين :

الأول ، أنها من سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت من القرآن .

والثاني ، أنها وقعت في وسط آيات تتحدث عن أهل الكتاب .

والنتيجة : أن الآية تقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : بلغ ولا تخف أهل الكتاب ، فنحن متكفلون بعصمتك منهم ، فلن يستطيعوا أن يضروك .

ولكن هذا التفسير لا يقبله علماء المسلمين ، لا السنة منهم ولا الشيعة ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يبلغ اليهود والنصارى في الشهرين اللذين عاشهما بعد الآية شيئاً إضافياً بارزاً ولأن خطرهم عليه عند نزولها كان قد زال ، وقد خضعوا لحكمه .

وبذلك ينفتح البحث للسؤال عن مكان الآية ، وهل أن هذا مكانها من الأصل ؟ أم أنها وضعت هنا باجتهاد أحد الصحابة ؟

نحن لا نقبل القول بوقوع تحريف في كتاب الله تعالى ، معاذ الله ، لكن ورد أن الصحابة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اجتهدوا في وضع آياتٍ في سور من القرآن .. والظاهر أن وضع هذه الآية هنا من اجتهاداتهم ، أو من المصادفات .

أقوال العلماء السنيين

اختلف المفسرون والفقهاء السنيون في سبب نزول الآية وفي تفسيرها ، على أقوال عديدة ، أهمها سبعة أقوال ، أحدها موافقٌ لتفسير أهل البيت عليهم‌السلام ، وستة مخالفة .. ونورد فيما يلي الأقوال المخالفة مع مناقشاتها :

١٧٠
 &

القول الأول

أنها نزلت في أول البعثة ، حيث خاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على نفسه فامتنع عن تبليغ الاسلام ، أو تباطأ ! فهدده الله تعالى وطمأنه .. فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتبليغ !

وهذا يعني أن الآية نزلت قبل ٢٣ سنة من نزول سورة المائدة !

وقد ذكر الشافعي هذا التفسير بصيغة ( يقال ) مما يدل على أنه غير مطمئن اليه قال في كتاب الأم : ٤ / ١٦٨ :

قال الشافعي رحمه‌الله : ويقال والله تعالى أعلم : إن أول ما أنزل الله عليه : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، ثم أنزل عليه بعدها ما لم يؤمر فيه بأن يدعو إليه المشركين ، فمرت لذلك مدة . ثم يقال : أتاه جبريل عليه‌السلام عن الله عز وجل بأن يعلمهم نزول الوحي عليه ويدعوهم الى الإيمان به فكبر ذلك عليه وخاف التكذيب وأن يتناول ، فنزل عليه : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فقال يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حين تبلغ ما أنزل إليك ما أمر به ، فاستهزأ به قوم فنزل عليه : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ . انتهى .

ويكفي للرد على هذا القول :

أولاً ، أن الآية في سورة المائدة ، وقد عرفت أنها آخر ما نزل من القرآن أو على الأقل من آخر ما نزل ، بينما يدعي هذا القول أن الآية من أوائل ما نزل !!

وثانياً ، أن الشافعي قد ضعف هذا الوجه ، لأنه نقله بصيغة يقال ويقال ، ولم ينسبه الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل لم يتبناه .

وثالثاً ، أنه لا يمكن قبول هذه التهمة السيئة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه تلكأ أو امتنع عن تبليغ رسالات ربه ، بسبب خوفه من التكذيب والأذى والقتل ، حتى جاءه التهديد الإلۤهي بالعذاب ، والتأمين من الأذى ، فتحرك وبلغ !!

فهذا التصور لا يناسب شخصية المسلم العادي ، فضلاً عن النبي المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو أعظم الناس إيماناً وشجاعةً .

١٧١
 &

كما تعارضه الآيات التي تصف حرصه صلى‌الله‌عليه‌وآله على تبليغ الرسالة ، وهداية الناس أكثر مما فرض الله تعالى عليه .

روايات ( يقال ) التي ذكرها الشافعي

ـ قال السيوطي في الدر المنثور : ٢ / ٢٩٨

أخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً ، وعرفت أن الناس مكذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني ، فأنزل : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ . ( وكذا في أسباب النزول : ١ / ٤٣٨ )

وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشاً فأنزل الله : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فاستلقى ثم قال : من شاء فليخذلني ، مرتين أو ثلاثاً .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : لما نزلت : بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ، قال : يا رب إنما أنا واحدٌ كيف أصنع يجتمع علي الناس ؟! فنزلت : وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ! . انتهى .

ـ ورواه الواحدي في أسباب النزول : ١ / ١٣٩ ، والطبري في تفسيره : ٦ / ١٩٨

ـ وقال النيسابوري في الوسيط : ٢ / ٢٠٨ : وقال الأنباري : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة ، ويخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من شر المشركين اليه والى أصحابه ... انتهى .

ويكفي لرد هذه الروايات مضافاً الى أن الآية جزء من سورة المائدة التي نزلت قبيل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنها روايات غير مسندة ، بل هي قولٌ للحسن البصري ومجاهد وابن جريح وأمثالهم ، لا أكثر . وستعرف أن الحسن البصري يقصد رسالةً معينة ، وأنه أخذ هذا التعبير من خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم الغدير ، وخاف أن يرويها على حقيقتها !

روايات ( يقال ) تتحول الى رأي يتبناه العلماء !

مع أن المفسرين يعرفون أن الآية نزلت في أواخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويعرفون أن تفسيرها بحدث في أوائل البعثة إنما هو قول مفسرين من متفقهة التابعين في العصر

١٧٢
 &

الأموي ، أو روايات ضعيفة السند . لكن مع ذلك .. تراهم يفسرونها بهذا الوجه ويقدمون نزول الآية جهاراً نهاراً ٢٣ سنة ! ويزداد تعجبك عندما ترى منهم مفسرين محترمين مثل الزمخشري والفخر الرازي !

والسبب في ذلك أنهم يريدون الفرار من تفسيرها ببيعة الغدير ، ولا يجدون مفراً إلا بأحد أمرين :

إما تفسيرها بأول البعثة والقول بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خاف وتباطأ في تبليغ الرسالة فهدده الله تعالى وطمأنه بالعصمة من الناس ! وإما تفسيرها بروايات رفع الحراسة المزعومة التي لا يؤيدها التاريخ ، ولا يساعد عليها نص الآية ، كما سترى .

ـ قال الزمخشري في الكشاف : ١ / ٦٥٩

والله يعصمك : عِدَةٌ من الله بالحفظ والكلاءة ، والمعنى : والله يضمن لك العصمة من أعدائك ...

فإن قلت : أين ضمان العصمة ، وقد شُجَّ في وجهه يوم أحد ؟! ... قلت المراد : أنه يعصمه من القتل ! .

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بعثني الله برسالته فضقت ذرعاً ، فأوحى الله الي إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك ، وضمن لي العصمة فقويت . انتهى . ونحوه في الوسيط : ٢ / ٢٠٨

ـ وقال الرازي في تفسيره : ٦ جزء ١٢ / ٤٨ ـ ٥٠

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ... روي عن الحسن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس يكذبوني ، واليهود والنصارى ، وقريش يخوفوني فلما أنزل الله هذه الآية ، زال الخوف بالكلية ....

في قوله : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ سؤال : وهو كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه شج وجهه ، وكسرت رباعيته .

والجواب من وجهين : أحدهما أن المراد يعصمه من القتل ... وثانيها : أنها نزلت بعد يوم أحد . انتهى .

١٧٣
 &

ومما يلاحظ على الرازي أنه قد لم يراعِ الأمانة في النقل ، فقد حشر في نقله عن الحسن البصري اليهود والنصارى ، لأنه يريد تفسير الآية بالعصمة من اليهود والنصارى ، ويبعدها عن قريش !! ولا نلومه على حبه لقريش ولجده أبي بكر بن أبي قحافة ، ولكن نطالبه بالأمانة العلمية ! فقد تتبعت المصادر التي نقلته عن البصري فلم أجد ذكراً لليهود والنصارى ! وستعرف أن البصري أخذ روايته من حديث الغدير !!

وقد شت ابن كثير كثيراً ، فزاد على الرازي وغيره ، قال في البداية : ٣ / ٥٣ :

روى ابن أبي حاتم في تفسيره ، عن أبيه ، عن الحسن بن عيسى بن ميسرة الحارثي ، عن عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث قال : قال علي : لما نزلت هذه الآية : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبناً ، وادع لي بني هاشم ، فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل ، أو أربعون ورجل ، فذكر القصة نحو ما تقدم ، الى أن قال : وبدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال : أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي ؟ قال فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله ، قال : وسكتُّ أنا لسن العباس .

ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس ، فلما رأيت ذلك ، قلت : أنا يا رسول الله ! قال : أنت ...

ومعنى قوله في هذا الحديث : من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي ، يعني إذا مت ، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة الى مشركي العرب أن يقتلوه ، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله ، ويقضي عنه ، وقد أمنه الله من ذلك في قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ . الآية .

والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر يدعو الى الله تعالى ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ، لا يصرفه عن ذلك صارف ، ولا يرده عن ذلك راد ، ولا يصده

١٧٤
 &

عنه ذلك صاد ، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم ومواقف الحج ... انتهى . وذكره بلفظه تقريباً في السيرة : ١ / ٤٦٠

ويلاحظ أنه خلط في كلامه كثيراً ، وتعصب أكثر ..

فقد بتر حديث ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) وحذف منه اختيار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خليفته من عشيرته الأقربين بأمر ربه تعالى ، وأورد بدله حديثاً محرفاً ، وفسر الحديث المحرف بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخاف أن يقتله القرشيون ، فطلب من بني هاشم شخصاً يكون خليفته في أهله ويقضي دينه ، فقبل ذلك علي عليه‌السلام ، ثم انتفت الحاجة الى ذلك بنزول الآية !!

لقد تجاهل ابن كثير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مأموراً في تلك المرحلة بدعوة عشيرته الأقربين فقط ، ولم يكن مأموراً بعدُ بدعوة قريش وبقية الناس ! فلا محل لما حبكته الرواية من خوفه من القتل والأذى !

ثم إن ابن كثير تفرد بربط آية العصمة بآية الأقربين ، ولم أجد أحداً سبقه اليه ، ولا ذكر من أين أخذه ؟!

وكأن المهم عنده أن يحرِّف كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث الدار ونصه على أن علياً أخوه ووزيره وخليفته من بعده ! ويبعد الآية عن سورة المائدة ويوم الغدير !!

وهذا قليلٌ من كثير من عمل ابن كثير ، وإليك الحديث الذي بتره :

ـ قال الأميني في الغدير : ١ / ٢٠٧ :

وها نحن نذكر لفظ الطبري بنصه حتى يتبين الرشد من الغي :

قال في تاريخه : ٢ / ٢١٧ من الطبعة الأولى :

إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟

قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت ـ وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً ـ : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه .

١٧٥
 &

فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع .

ـ وقال الأميني : ٢ / ٢٧٩ :

وبهذا اللفظ أخرجه أبو جعفر الاسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي المتوفى ٢٤٠ في كتابه نقض العثمانية ، وقال : إنه روي في الخبر الصحيح .

ورواه الفقيه برهان الدين في أنباء نجباء الأبناء / ٤٦ ـ ٤٨

وابن الأثير في الكامل ٢ / ٢٤

وأبو الفدا عماد الدين الدمشقي في تاريخه ١ / ١١٦

وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا للقاضي عياض ٣ / ٣٧ ( وبتر آخره ) وقال : ذكر في دلايل البيهقي وغيره بسند صحيح .

والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره / ٣٩٠

والحافظ السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه ٦ / ٣٩٢ نقلاً عن الطبري

وفي / ٣٩٧ ، عن الحفاظ الستة : ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي .

وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٥٤ . انتهى .

ثم شكا صاحب الغدير من تحريف الذين حرفوا الحديث لإرضاء قريش ، ومنهم الطبري ، الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه ، لكنه أبهم كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حق علي عليه‌السلام ، فقال : ثم قال : إن هذا أخي وكذا وكذا . وتبعه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية : ٣ / ٤٠ ، وفي تفسيره : ٣ / ٣٥١ . انتهى .

القول الثاني

أنها نزلت في مكة قبل الهجرة بدون تحديد ، فاستغنى بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن حراسة عمه أبي طالب ، أو عمه العباس !

١٧٦
 &

وهذا القول هو المشهور في مصادر السنيين ، ورواياته نوعان : نوعٌ نص على تاريخ نزولها تصريحاً أو تلويحاً ، وأنه في مكة .

ونوعٌ لم يصرح بذلك ولم يربط نزولها بحراسة أبي طالب أو العباس ، ولكنه ربطه بإلغاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لحراسته فحملناه عليه ، لأن أصله رواية الترمذي عن عائشة ، وقد فهم منها البيهقي وغيره أنها تقصد مكة ، كما ستعرف .

فالنوع الأول : كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور : ٢ / ٢٩٨ ـ ٢٩٩ ، قال :

أخرج ابن مردويه والضياء في المختارة ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي آية أنزلت من السماء أشد عليك ؟

فقال : كنت بمنى أيام الموسم ، واجتمع مشركوا العرب وأفناء الناس في الموسم فنزل علي جبريل فقال : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ . قال فقمت عند العقبة فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة ؟ .

أيها الناس قولوا لا إلۤه إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، وتنجوا ، ولكم الجنة .

قال فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة ، ويبصقون في وجهى ، ويقولون كذاب صابىٔ ، فعرض علي عارضٌ فقال : يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم ، كما دعا نوح على قومه بالهلاك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني الى طاعتك ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه .

قال الأعمش : فبذلك تفتخر بنو العباس ....

وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه ، حتى نزلت والله يعصمك من الناس ، فذهب ليبعث معه ، فقال : يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لي الى من تبعث !!

وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر عن

١٧٧
 &

ابن عباس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه ، فقال : يا عم إن الله عصمني لا حاجة الى من تبعث ! انتهى . والرواية في معجم الطبراني الكبير : ١١ / ٢٠٥

ـ وفي مجمع الزوائد : ٧ / ١٧ :

قوله تعالى : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه ، فلما نزلت : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس . رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه عطية العوفي وهو ضعيف .

وعن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم ، حتى نزلت هذه الآية : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : يا عم إن الله قد عصمني من الجن والإنس .

رواه الطبراني وفيه النضر بن عبد الرحمن وهو ضعيف .

والنوع الثاني : أصله ما رواه الترمذي في سننه : ٤ / ٣١٧ : عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس ، حتى نزلت هذه الآية : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة ، فقال لهم : يا أيها الناس انصرفوا ، فقد عصمني الله . هذا حديث غريب .

وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، ولم يذكروا فيه عن عائشة . انتهى .

ـ ورواه الحاكم في المستدرك : ٢ / ٣١٣ عن عائشة أيضاً وقال عنه : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . انتهى .

والظاهر أن حديث عائشة يقصد أن الآية نزلت في مكة أيضاً ومعنى ( فأخرج رأسه من القبة ) أي من الخيمة التي كان فيها ، وقال لحراسه انصرفوا .

١٧٨
 &

ويؤيد ذلك أن البيهقي رواه في سننه : ٩ / ٨ وعقب عليه بقول الشافعي المتقدم فقال : قال الشافعي : يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حتى تبلغهم ما أنزل اليك فبلغ ما أمر به فاستهزأ به قوم فنزل : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين . انتهى .

ويؤيده أيضاً أن المراغي نقل في تفسيره : ٢ جزء ٤ / ١٦٠ رواية السيوطي الأولى عن ابن مردويه عن ابن عباس ، ورواية الطبراني أيضاً ثم قال : روى الترمذي وأبو الشيخ .... أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية ...

وكذلك ذكر غيره ، مع أنه لا يوجد في رواية عائشة في الترمذي ما يدل على أنها تقصد مكة ، فلعل كلمة في مكة حذفت من نسخة الترمذي الفعلية !

ـ وقال السيوطي في الدر المنثور : ٢ / ٢٩١ عن حديث عائشة :

وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل ، وابن مردويه ، عن عائشة ...

وروى السيوطي عدة روايات بنفس مضمونه عن غير عائشة ، وبعضها قد يفهم منه أن نزول الآية في المدينة ، فجعلناه في القول الثالث .

قال في الدر المنثور : ٢ / ٢٩٨ ـ ٢٩٩ : وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس .

وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن أبي ذر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام إلا ونحن حوله من مخافة الغوائل ، حتى نزلت آية العصمة : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ . انتهى .

وقد أخذ بهذا القول كثير من المفسرين والمؤلفين في السيرة فقد ذكره الزمخشري في الكشاف : ١ / ٦٥٩ ، وكأنه قبله ، وكذلك فعل الرازي في تفسيره : ٦ جزء ١٢ / ٥٠ ! مع أنهما

١٧٩
 &

قالا كما رأيت بنزول الآية في مكة! وبذلك يكونا حملا حديث عائشة على أول البعثة ، كما حملا قول الحسن البصري وأمثاله !

ـ وقد أخذ بهذا القول أيضاً السهيلي في الروض الأنف : ٢ / ٢٩٠ ، والقسطلاني في إرشاد الساري : ٥ / ٨٦ ، وابن العربي في شرح الترمذي : ٦ جزء ١١ / ١٧٤ ، والعيني في عمدة القاري ٧ جزء ١٤ / ٩٥ ، وابن جزي في التسهيل : ١ / ٢٤٤ ، والنويري في نهاية الإرب : ٨ جزء ١٦ / ١٩٦ ، و ١٩ جزء ١٨ / ٣٤٢ ، والنيسابوري في الوسيط : ٢ / ٢٠٩ ، والدميري في حياة الحيوان : ١ / ٧٩ .. وغيرهم ، وغيرهم .

ـ وممن أخذ بهذا القول صاحب السيرة الحلبية : ٣ / ٣٢٧ وقد اغتنم فرصة الآية وارتباطها بحراسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لإثبات فضيلة لأبي بكر بن أبي قحافة فقال : حراسه صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن ينزل عليه قوله تعالى : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .... سعد بن معاذ حرسه ليلة يوم بدر ، وفي ذلك اليوم لم يحرسه إلا أبو بكر شاهراً سيفه حين نام بالعريش . انتهى .

وبذلك ناقض صاحب الحلبية نفسه وجاء بدليل على ضد مراده ، لأن إلغاء الحراسة إذا كان قبل الهجرة ، فلم تبق حاجة لحراسة أبي بكر وغيره في بدر !

على أن الظاهر أنه لم يكن للمسلمين عريشٌ في بدر ! وقد روى الحاكم رواية وصححها على شرط مسلم ، تذكر أن ثلث المسلمين حرسوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر ، وهو أمر معقول ، لأن المسلمين نزلوا بالعدوة القصوى وهي منطقة مكشوفة . قال الحاكم : ٢ / ٣٢٦ : عن عبادة ابن الصامت رضي‌الله‌عنه قال سألته عن الأنفال ، قال : فينا يوم بدر نزلت ، كان الناس على ثلاث منازل ، ثلثٌ يقاتل العدو ، وثلث يجمع المتاع ويأخذ الأسارى وثلث عند الخيمة يحرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما جمع المتاع اختلفوا فيه .... فجعله الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقسمه على السواء . انتهى .

ويدل على بطلان هذا القول : أولاً ، ما تقدم في القول الأول .

ثانياً : نفس روايات القول الثالث وغيره ، التي تنص على أن إلغاء الحراسة المزعوم حصل في المدينة ، وليس في مكة .

١٨٠