نفحات القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-88-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٠

شرح المفردات :

إنّ كلمة «روح» ـ وكما جاء في قواميس اللغة ـ في الأصل اشتقت من مادة «ريح» ويطلق على التنفس كذلك ، وبما أنّ هناك علاقة وثيقة بين التنفس وبقاء الحياة ونفس الإنسان استعملت الروح بمعنى النفس ، ومن ثم بمعنى تلك الحقيقة المجرّدة التي يتوقف بقاء الإنسان عليها.

إنّ «روْح» على وزن «لَوْح» تعني النسيم البارد ، وكذلك اللطف والرحمة ، ومنه اشتُقّت كلمة «الرائحة» و «المروحة».

وَإنّ كلمة «تفقهون» مشتقة من مادة «فقه» وقد جاءت ـ كما في لسان العرب ـ بمعنى الاطلاع على شيءٍ وفهمه ، لكنها تطلق اطلاقاً خاصاً على علم الدين (أو علم الأحكام) ، وذلك لرفعة وأهميّة هذا العلم ، والراغب في مفرداته يقول : «الفقه يعني الاطلاع على شيء خفي بواسطة الاطلاع على أمرٍ ظاهر ومكشوف» وعلى هذا مفهومه أخص من مفهوم العلم.

وَمعنى كلمة «غَيْب» ـ وكما جاء عن ابن منظور في لسان العرب ـ هو «الشك» ويطلق على كل شيءٍ خفي عمله عن الإنسان ، (ولعل ذلك بسبب أنّ الأشياء الخفية غالباً ما تقع مجالاً للشك).

يقول الراغب عند تفسيره لجملة «يؤمنون بالغيب» : إنّ الغيب شيء خارج عن دائرة الحس والعقل الابتدائي ويعرف بواسطة إخبار الأنبياء.

وكلمة «نفدت» أُخذت من مادة «نَفَدَ» على وزن (حَسَدَ) ، «والنفاد» كما يستخلص من المفردات ولسان العرب ـ يعني الفناء والدمار ، و «مُنَافِد» تُطلق على الشخص القوي للغاية في استدلالاته بحيث يدحض جميع حجج خصمه ، و «نفاد» جاءت بمعنى نضوب ماء البئر.

جمع الآيات وتفسيرها

كان عدد من المشركين أو أهل الكتاب يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن «الروح» ، فأمر الله سبحانه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكما جاء ذلك في الآية الاولى ـ أن يجيبهم بأنّ «الروح» من أمر ربي

٨١

ويضيف لهم بأنهم ما أُوتوا من العلم إلّاقليلاً ، ولهذا فلا قابلية لهم لإدراك حقيقة «الروح» (١).

وفي هذه الآية إشارة واضحة إلى كون العلم البشري محدوداً (وذلك لأنّ الروح المقصودة فيها هي روح الإنسان) وهي أقرب شىء إلى الإنسان وذلك لأنّ الإنسان ما استطاع الاحاطة علماً بجوهر روحه التي هي أقرب إليه من الحقائق والموجودات في الكون ، وأنّ ما يعرفه عنها هو معرفة سطحية وإجمالية ، فكيف يمكنه معرفة حقائق العالم الاخرى؟!

* *

أمّا الآية الثانية والتي هي آخر آية من سورة لقمان ، تكشُف عن علوم خاصة بالله تعالى وأشارت إلى خمسة منها : قيام الساعة ، نزول المطر ، الجنين الذي في رحم الام ، الحوادث المستقبلية التي تتعلق بأعمال الإنسان والمكان الذي يموت فيه الإنسان ، وقد أُشير إلى هذه العلوم الخمسة في الروايات تحت عنوان «مفاتيح الغيب الخمسة» التي لا يعرف عنها أحد إلّا الله (٢).

وقد يعلم الإنسان علماً إجمالياً عن هذه الأمور الخمسة بالاستعانة بالقرائن ، إلّاأنّ الجزئيات لا تتضح لأحد أبداً ، فلا يعلم ـ مثلاً ـ ما هي قابليات الجنين الجسمية والروحية وهل هو جميل أم قبيح وأنّه سليم أم سقيم ، وحتى جنسه (المذكر والمؤنث) لا يمكنه معرفته إلى مراحل متأخرة من حياته في الرحم.

إنَّ القرآن يخاطب الإنسان في هذه الآية ويقول : يا أيّها الإنسان أنّك لا تعلم عن غدك شيئاً ولا تعلم في أي أرض تموت ، وعليه فكيف تتوقع أن تعرف عن جميع ما في العالم وعلمك محدود؟!

__________________

(١). إنّ جملة (ما أُوتيتم من العلم إلا قليلاً) فُسّرت من قبل أغلب المفسرين بكونكم أُوتيتم قليلاً من العلم ، إلّاأنّ البعض فسّرها بأنّ قليلاً منكم أُوتي علماً ، إلّاأنّ هذا التفسير الأخير يتنافى مع ظاهر الآية التي تجعل المشركين وأهل الكتاب السائلين عن الروح مخاطباً لها فتأمل.

(٢). تفسير مجمع البيان ، ج ٨ ، ذيل الآية ٣٤ من سورة لقمان.

٨٢

وقد تحدثت الآية الثالثة عن تسبيح وحمد جميع الكائنات لله ، فجميعها بلسان حالها وبالنظام الدقيق والعجيب الذي يهيمن عليها ـ تحمد وتثني على الله وتشهد بنزاهته عن أي نقص وعيب ، وتملأ العالم بلسان حالها ـ أو بقولها إضافة إلى لسان حالها ـ بهمهمة التسبيح والتحميد ، وكل ذرة في هذا العالم بلا استثناء لها عقل وعرفان وشعور خاص بها ، تحمد الله وتثني عليه بمعرفة ، وقد شرحنا هذين الرأيين في التفسير الأمثل (١).

وعلى أيّة حال ، فنحن لا نستطيع فهم لسان حال الموجودات لأننا لا نعرف كل شيء عن أسرار هذا العالم ونظامه ، كما لا نستطيع فهم ما تقول أيضاً.

ومن هنا يتّضح أنّ العالم مليءٌ بالهمهمة والألحان الإلهيّة ونحن غافلون عن ذلك لأننا لم نحط به خبراً ، وهذا دليل واضح على كون علمنا البشري محدوداً.

* *

وتحدثت الآية الرابعة عن «الجهاد» وتقول للذين يكرهون الجهاد : أنتم تجهلون «الخير» و «الشر» ولا تميزون بينهما ، فانّكم أحياناً ما تكونون في حرب مع مصالحكم وقد تتقدمون نحو الشر حبّاً ورغبةً فيه ، وهذا دليل واضح على علمكم المحدود حيث إنّكم لا تميزون أحياناً بين ما هو شرٌ لكم وما هو خيرٌ لكم ، إلّاأنّ الله يعلم ذلك وقد اوضح بواسطة الوحي (الذي هو أحد مصادر المعرفة) وبيّنَ لكم ما فيه خير وما فيه شر.

إنّ الآية الخامسة مع إشارتها إلى عظمة خلق السموات والأرض أشارت إلى حقيقة أن خلقهما أعظم وأهم من خلق الإنسان ، وأشارت أيضاً إلى عدم معرفة أكثر الناس لهذه القضية ، هذا في الوقت الذي كانت فيه معلومات الإنسان بصورة عامة وفي الحجاز بصورة خاصة محدودة تجاه خلق السموات والأرض ، ولعلهم كانوا يتصورون النجوم آنذاك مسامير فضية في كبد السماء ، واليوم حيث توسعت معلوماتنا تجاه خلق السموات والأرض ، فانّها لا زالت محدودة.

__________________

(١). التفسير الأمثل ، ذيل الآية ٤٤ من سورة الاسراء.

٨٣

والآية السادسة بعد أن أشارت إلى قضية الطلاق والعدّة وضرورة بقاء المطلقة في بيت الزوج عند إعتدادها بالعدة الرجعية ، تقول : قد يحدث الله أمراً جديداً في هذه الأثناء أي اثناء مجاورتها لزوجها السابق ، الأمر الذي قد يؤدّي إلى الصلح بينهما.

والملفت للنظر هنا هو أنّ مخاطب الآية نفس الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع علمه الواسع يُخَاطَب بخطاب كهذا فما حال باقي أفراد البشر؟!

وهذا دليل على قصور العلم البشري إلى مستوى بحيث لا يستطيعون أن يعلموا بمستجدات يومهم اللاحق.

* *

وفي الآية السابعة يؤمر الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يقول : إنّي لا أملكُ لنفسي نفعاً ولا ضرّاً ، وأن يعترف :

إنّي لا أعلمُ الغيب (إلّا ما علمني الله) واني لو كنت أعلمُ الغيب لاستكثرت وازددتُ من الخير لنفسي وما مسني ضرٌّ وما حصلت لي مشكلةٌ.

إنّ هذا الحديث قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما كان أهل مكة يسألونه عمّا إذا كان يوحى إليه فلِمَ لا يعلم ما سيؤول إليه امر ارتفاع وانخفاض اسعار السِّلع أو الجفاف وهطول الغيث في المناطق المختلة كي يستزيد من الخير وينتفع أكثر ، فأجابهم : إنّ عالم الغيب هو الله وهو صاحب العلم غير المحدود.

عندما يعترف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مع علمه الواسع حيث يقول الله تعالى فيه (... وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ ...). (النساء / ١١٣)

بأني لا أعلم من الغيب (وهو الأمر الخارج عن الحس) إلّا ما علمني الله فكيف حال بقيّة البشر؟

* *

٨٤

والآية الثامنة بعد أن بينت أحكام إرث الأولاد والأب والأم في حالات مختلفة ذكرت : حتى أنفسكم لا تعلمون أيّاً من الأب والأم أو الأولاد أنفع لكم؟ وأيهم أحق بأموالكم كي يخصص له سهم أكثر.

نعم ، لستم على بينة بمصالحكم الشخصية ، لهذا السبب لا تستطيعون أن تسنّوا قوانين دقيقة تليق بمقام الارث وغيره ، إنّ المُقنّن يجب أن يكون الهاً محيطاً بِكل أسرار الوجود ، نعم ، إنّ قصور علم البشر بدرجة لا يستطيع أن يسن قوانين تحافظ على مصالحه ، ولهذا نرى أنّ القوانين البشرية في حالة تغيير دائمي ، فإذا كان الإنسان يجهل مصيره إلى هذا الحد ، فكيف به تجاه الموجودات الاخرى الموجودة في الكون؟

وأخيراً ، فإنّ الآية التاسعة والأخيرة في البحث هذا تحدثت عن العلم الإلهي اللامتناهي ، وصوّرت اللانهاية في الأذهان بحيث يستطيع حتى الذي لم ينل من العلم إلّا القليل بل وحتى الأُمي أن يرسم في ذهنه صورة عنها ، بالرغم من صعوبة تصور اللانهاية حتى للعلماء ، حيث قالت : لو أنّ ما في الأرض من شجر يصير أقلاماً رغم أن الأشجار قد يصل عددها إلى مليارات (بل قد يُصنع الملايين من الأقلام من شجرة واحدة : وبالرغم من أنّ حوضاً صغيراً قد يملأ الملايين من الدواة فكيف بالمحيطات والبحار ، وإضافة إلى هذا كله ، لو اجتمعت الملائكة وكُتاب الانس والجن على أن يكتبوا بهذه الأقلام وهذا الحبر كلمات الله وعلمه ما استطاعوا وسوف تنصرم الأقلام وينتهي الحبر وما زالت كلمات الله جلّ جلاله وعلومه في بداية الدفتر ، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى فأنّنا نعلم أنّ المراد من كلمات الله هو الكائنات الموجودة في العالم ، وعلى هذا فالآية دليل واضح على سعة العالم وقصور علم البشر.

* *

نتيجة البحث :

إنّ ما يستخلص من الآيات السابقة هو أنّ معرفة الإنسان وعلومه رغم سعتها بحدّ ذاتها

٨٥

ورغم أنّ علوم ومعارف البشر في حالة ازدياد في كل يوم بل كل ساعة ولحظة ، ورغم امتلاء الدنيا بالمدارس والجامعات والمكتبات ومراكز التحقيق ، رغم هذا كله فإنّ هذه المعلومات بالقياس إلى المجهولات كالقطرة بالنسبة للبحر.

إذا لم يكن الإنسان عارفاً بخيره وشرّه ونفعه وضره ولا بِكُنْهِ روحه التي هي أقرب إليه من أي شيءٍ آخر ، ولا بالحوادث المقبلة عليه ، ولا بساعة موته ، فكيف يمكنه أن يعرف ما يدور في الكواكب البعيدة في العالم اللا متناهي.

ومما لا شك فيه أنّ جهل الإنسان بهذه الامور لا لعجزه بل لسعة الكون ، وقد يكون انكار البعض لنظرية إمكان المعرفة نشأ من خلطهم بين هذه المسألة ومسألة قصور العلم البشري واقترانه بالاخطاء.

إنّ القرآن كما يدعو إلى العلم والمعرفة ويؤكّد على أن باب العلم مفتوح للجميع ، يصرح بقصور العلم البشري ، هذا النقص والقصور اللذان يدعوانه إلى الاعتراف بعظمة الكون وخالقه وبحاجته إلى الرسل وأصحاب الوحي.

ونختم هذا الحديث بمقطع من دعاء الإمام الحسين عليه‌السلام المعروف بدعاء يوم عرفة ، حيث يقول :

«إلهي أنا الفقير في غناي ، فكيف لا أكون فقيراً في فقري ، الهي أنا الجاهل في علمي ، فكيف لا أكون جهولاً في جهلي».

* *

٣ ـ الفلاسفة والعلماء يشهدون بقصور العلم البشري

إنّ كون علم البشر محدوداً أمرٌ مسلم به وبديهي ولا يحتاج إلى دليل أو برهان لإثباته ، إلّا أنّه بالالتفات إلى النقاط التالية يتّضح لنا الأمر أكثر :

١ ـ إنّ قدرة حواس الإنسان محدودة ، فالعين رغم أنّها أهم وسيلة للمعرفة في الامور الحسية فهي لا تستطيع رؤية شيءٍ من بعيد ، إضافة إلى أنّ عدد الألوان التي يشاهدها

٨٦

الإنسان محدودٌ جدّاً لأنّ الألوان ما فوق البنفسجية وما تحت الحمراء بالرغم من كثرتها فلا قدرة للعين على رؤيتها.

كذلك بالنسبة للاذن فانّها لا تسمع كل شيءٍ بل تسمع أمواجاً صوتية محدودة ، وبمجرّد ارتفاع أو هبوط درجة تردد الأمواج فسوف لا تسمع شيئاً ، وكذا الحال في بقية الحواس.

إنّنا بالعين المجرّدة نستطيع رؤية عدّة آلاف من النجوم في السماء فقط ، بينما هناك المليارات من النجوم موجودة في السماء.

صحيح أنّ الوسائل العلمية ضاعَفَت من قدرة الحواس ، إلّاأنّها هي بدورها محدودة القدرة أيضاً.

٢ ـ إنّ قدرة إدراكاتنا وأفكارنا محدودة وما وراءها فهو مجهول عندنا على الاطلاق ، وهذا الأمر يصدق حتى بالنسبة إلى أكثر الناس علماً وذكاءً فإنّ قدرة فكره وإدراكه تكون محدودة أيضاً.

٣ ـ من جهة اخرى فإنّ العالم واسع بدرجة لا يمكننا استيعابه ، ونستطيع أن نقول : إنّ علمنا كلما إزداد ، ازدادت عظمة العالم في أذهاننا.

ولإدراك عظمة هذا العالم (إلى المستوى الذي يصل إليه فكرنا) يكفي أن نعرف أنّ المنظومة الشمسية والنجوم التي نشاهدها حولنا جزء من المجرّة التي تسمى بدرب التبّانة (المجرّات أو مدن النجوم مجموعة ضخمة من النجوم التي تشكل عالماً خاصاً بحد ذاتها).

وفي هذه المجرة ـ على ما يقول العلماء ـ يوجد أكثر من مائة مليارد نجمة! والشمس بالرغم من عظمتها ونورانيتها فانّها تعتبر من النجوم المتوسطة الحجم في هذه المجرة.

ونفس هؤلاء العلماء يقرّون ـ وبالاستعانة بالتلسكوب والحسابات الكمبيوترية ـ أنّ هناك مليارد مجرة في هذا العالم تقريباً! (١)

__________________

(١). جاء في كتاب (هل وكيف ولماذا) أنّ الفكليين يعتقدون بوجود عدد كبير وهائل من المجرات قرب مجرتنا وبعضها أكبر والبعض الآخر أصغر حجماً وقد كشفت التلسكوبات القوية والحاسوبات العادية للنجوم عن وجود مليارد مجرة تقريباً في هذا العالم.

٨٧

إنّ ذكر هذه الأرقام سهل على اللسان لكن ما أصعب تصورها؟! وينبغي أن لا ننسى أنّ معلوماتنا عن هذه المجرات والنجوم الهائلة تدور حول محور الأرض فكيف بنا إذا تجاوزنا هذا المحور؟!

٤ ـ ومن جهة ثانية فإنّ عالمنا هذا له بداية ونهاية فلا يعلم أحد عن المليارد سنة الماضية ولا عن المستقبل شيئاً ، فهو كالسلسلة بدايتها الأزل وتمتد إلى عمق الأبد ، وما نعرفه هو حلقة واحدة من هذه السلسلة وهي الحلقة التي نعيش فيها ، وما ماضيها أو مستقبلها إلّاكشبح مرسوم في أذهاننا.

صحيح أن الإنسان ـ وبدافع من فطرته ـ في سعي مستمر لتحصيل علم أكمل وأشمل عن نفسه وعن العالم ، وأنه قد جمع خلال آلاف السنين الماضية معلومات كثيرة ادخرها في خزائن مكتبات العالم الكبيرة والصغيرة.

وصحيح أنّ بعض المكتبات كبيرة إلى مستوى بحيث يصل مجموع طول رفوف الكتب فيها إلى مائة كيلومتر (كما هو الحال بالنسبة لمكتبة المتحف الانجليزي)! وقد يصل عدد الكتب في بعضها إلى ستةُ ملايين كتاباً (كما هو الحال بالنسبة لمكتبة باريس) ، بل قد يصل عدد الكتب في بعضها إلى خمسة وعشرين مليوناً (كما هو الحال بالنسبة للمكتبة الأمريكية المعروفة) ، وقد تصل فهارس الكتب فيها إلى حجم مكتبة كبيرة ، وقد يصل الأمر بالبعض أن يستعمل وسائل النقل للتنقل فيها من مكان إلى آخر! لكن بالرغم من كل هذه المعلومات عن العالم وأسراره ، فإنّ مجموعها لا يشكل إلّاكقطرةٍ من محيط كبير للغاية.

* *

ولا بأس أن نشير هنا إلى شهادات بعض العلماء في هذا المجال كي يعرف القارىء أنّ ما ذهبنا إليه معترف به عند الجميع.

١ ـ يقول «كريس موريس» الطبيب والعالم النفساني في كتابه «سر خلق الإنسان» :

«عندما نفكر بالفضاء اللامتناهي ، أو الزمان السرمدي ، أو الطاقة العجيبة المودعة في

٨٨

الذرة ، أو بالعوالم غير المحدودة والتي تسبح فيها كواكب كثيرة ، أو بقدرة تشعشع بعض الكواكب ، أو بقوة جاذبية الأرض ، أو بالقوانين الاخرى التي يرتبط قوام العالم بها ، عندما نفكر بهذه ندرك مدى ضعفنا ونقصان علمنا» (١).

٢ ـ ويذكر الدكتور «الكسيس كارل» في كتابه «الإنسان ذلك المجهول» :

«إنَّ المساعي التي بذلت في العلوم التي اطلع عليها الإنسان لم تصل إلى نتيجة مطلوبة ، ومعرفتنا لأنفسنا ما زالت ناقصة إلى حدٍ كبيرٍ» (٢).

ولهذا السبب جعل «الإنسان ذلك المجهول» عنواناً لكتابه القيّم ، فإذا كانت معرفة الإنسان عن نفسه محدودة إلى هذه الدرجة ، فواضح حال معرفته عن الأكوان والعوالم الأخرى.

٣ ـ ويقول العالم المعروف «وليام جيمس» :

«علمنا قطرة ، وجهلنا بحر عظيم».

٤ ـ ويقول الفكلي المعروف «فلا ماريون» :

«أستطيعُ أن أهييء أسئلة ولمدة عشر سنوات عن مجهولات لا تستطيعون الإجابة عليها» (٣)!

٥ ـ ويضيف في كلام آخر له :

«نحن نفكر لكن ما هو فكرنا؟ ونمشي ، لكن ما هو عملنا العضلي هذا؟ لا أحد يعلم بذلك.

أرى أنّ إرادتي قدرة غير مادية ، لكنني عندما أريد أن أرفع يدي أرى أنّ الإرادة غير المادية تحرك يدي والتى هي عضو مادي ، كيف يحصل هذا؟ وما هي الواسطة التي تحول

__________________

(١). سرّ خلق الإنسان ، ص ٨٧ (بالفارسية).

(٢). الإنسان ذلك المجهول ، ص ٥.

(٣). على اطلال المذهب المادي ، ص ١٣٨.

٨٩

الطاقة غير المادية إلى مادية؟ لا يوجد من يجيب على هذا السؤال» (١).

إذا كانت معلوماتنا تجاه أوضح وأبسط الامور العادية هكذا ، فما هو الحال بالنسبة للقضايا المعقدة أو البعيدة عن متناول أيدينا زماناً ومكاناً.

٦ ـ يقول (انشتاين» الرياضي المعروف والمكتشف للنظرية النسبية والبُعد الرابع ، في أحد كتبه :

«لقد علّمنا كتاب الطبيعة الذي نقرأه الكثير من الأمور وقد عَرفْنَا أُسس لغة الطبيعة ... لكن رغم قراءتنا للمجلدات وفهمنا لها فإنّنا مازلنا بعيدين عن كشف أسرار الطبيعة» (٢).

وينبغي هنا اضافة هذه الجملة على الشهادات السابقة :

من العجيب حقّاً أن كل اكتشاف جديد يحصل في هذا العالم يزيد من مجهولات الإنسان ، وبعبارة اخرى إنّ اكتشافات العلماء في مختلف المجالات كاكتشاف مكتبة جديدة ، أو اكتشاف كنز قيم في نقاط مختلفة من الأرض.

وبديهي فإننا إذا اطلعنا على وجود مكتبة في احدى المدن ، أو كنز قيم في خربةٍ فقد أزلنا النقاب عن مجهول واحد ، لكن الآلاف من المجاهيل تكشف عن نفسها من خلال هذا الاكتشاف ، مثل عدد الكتب ومحتواها وكُتّابها وشخصياتهم وقضايا اخرى من هذا القبيل ، كذا الحال بالنسبة للكنز فإذا اطلعنا على وجوده تبلورت في أذهاننا مجاهل اخرى عنه مثل نوعيته ومحتواه ....

ولا نذهب بعيداً ، فإنّ عالم الكائنات المجهرية (المكروبات والبكتريا والفايروسات) كان في يوم ما مجهولاً كلياً ، وعندما خطا (باستور) الخطوة الاولى عند كشفه لبعضٍ من هذه الكائنات تجلى أمامه عالم كبير من المجهولات.

إنّ اكتشاف الكواكب «اورانوس» و «نبتون» و «بلوتون» في المنظومة الشمسية وكذا كشف المجرات الجديدة كلها من قبيل كشف (باستور) لعالم الكائنات المجهرية ، ومن هنا

__________________

(١). على اطلال المذهب المادي ، ص ١٣٨.

(٢). خلاصة الفلسفة النسبية.

٩٠

يجب الاذعان والاعتراف بأنّ العلوم البشرية كنور شمعةٍ وان حقائق هذا العالم العظيم كنور الشمس بل أعظم من ذلك!

ومن هنا ينبغي القول : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلّا مَا عَلَّمْتَنا). (البقرة / ٣٢)

ونختم هذا الحديث بكلام عظيم لمتكلم عظيم ألا وهو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث يقول في خطبة الأشباح :

«واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السُّدَدِ المضروبة دون الغيوب ، الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله ـ تعالى ـ اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً ، فاقتصر على ذلك ولا تُقدّر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين»! (١).

* *

تذكير :

إنّ الالتفات إلى كون علم البشر محدوداً لهُ آثار ونتائج إيجابية بنّاءة ، نذكرها هنا :

١ ـ الحد من الغرور العلمي : نعلم أنّ البشر قد واجه مصائب كثيرة من جراء الغرور العلمي ، ومثاله ما ظهر في حدود القرن الثامن عشر الميلادي في اروبا فعندما حصلت قفزة في العلوم الطبيعية آنذاك ، تصور بعض العلماء أنّ جميع ألغاز الكون قد حلت وأنّ أسراره قد كُشفت ، ولهذا أنكروا كل شيء يكمن وراء معلوماتهم ، بل سخروا من جميع الامور التي لا تدخل في اطار معلوماتهم ، وقد وصل انكارهم إلى حدٍ سخروا من وجود الروح حيث قال بعضهم : لا نؤمن بوجود الروح مالم نشاهدها تحت سكاكين الجراحة في غرفة العمليات ، أو بما أنّ الله لا يدرك بالحس فلا وجود له!

إنّ هذا النوع من الغرور خلق مشاكل كثيرة ، والأمر الوحيد الذي يمكنه أن يحطم هذا

__________________

(١). نهج البلاغة ، الخطبه ٩١.

٩١

الغرور العلمي هو الالتفات إلى ضآلة العلوم البشرية بالقياس إلى المجهولات ، طبقاً للأدلة التي ذكرت سابقاً.

إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة هو الذي جعل العلماء المتعمقين يعترفون بما قاله أحدهم : «إنّ علمي وصل إلى مستوىً بأنّي أعلم أنّي لا أعلم» و «معلوماتي صفر والمجهولات بالقياس لها غير متناهية».

٢ ـ الحركة العلمية الأسرع : إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة يسوق الإنسان نحو السعي الحثيث والجهاد المخلص والمتواصل لحل ألغاز عالم الوجود ، خاصة وأنّه يرى أنّ أبواب العلم مفتوحة أمامه ، ولا ييأس من الحصول على علوم أكثر.

وَمن الواضح أنّ الإنسان لا يسعى وراء الكمال مالم يشعر بالنقص ، ولا يبحث عن الدواء ما لم يحس بألم المرض ، ولهذا يقال : إنّ الاحساس بالألم احدى نِعَم الله العظيمة ، وان أسوء الأمراض هي تلك التي لا يصحبها الألم لأنّ المريض لا يطّلع على المرض إلّابعد أن ينقض عليه ويهلكه.

إنّ الالتفات إلى ظئالة العلم البشري يخلق عند الإنسان ردّ فعل إيجابيّ يدفعه نحو التحقيق والتفحص أكثر فأكثر ، وقد يكون هذا الأمر هو أحد أهداف القرآن الكريم عند تأكيده على نقصان العلم البشري.

٣ ـ الالتفات إلى مبدأ أسمى : من الآثار الإيجابية التي يتركها الاحساس بالنقص العلمي عند كل فرد هو أن الإنسان شاء أم أبى يجد نفسه بحاجة إلى مبدأ أعظم تكون عنده جميع أسرار العالم مكشوفة ، وألغازه محلولة ، إنّ هذه القضية تهييء الأرضية لقبول دعوة الأنبياء ، وتفتح أمامه سبلاً للاهتمام بالمصادر والطرق العلمية التي تفوق علم البشر.

على أيّة حال ، إنّ الالتفات إلى كون علم البشر محدوداً مع غض النظر عن كونه حقيقة ، له آثار تربوية وإيجابية جمة.

٩٢

مصادر وسُبُل المعرفة

(مصادر المعرفة الستة)

الحس والتجربة.

العقل والتحليل المنطقي.

التاريخ والآثار التاريخية.

الفطرة والوجدان.

الوحي السماوي.

الكشف والشهود.

٩٣
٩٤

تمهيد :

بعد ما ثبت لنا إمكان المعرفة وإمكانية الوصول إليها إجمالاً ، جاء الدور للبحث عن سبل المعرفة ، وبتعبير آخر عن مصادرها ومنابعها التي تمكننا من معرفة الحقائق الموجودة في العالم ، لأنّنا بالاستعانة بهذه السُبُل يمكننا تبديل «الواقعيات» إلى «حقائق» ، بواسطة هذه المعالم وذلك لأنّ كلاً من هذه السُبلُ معلم وهادٍ يرفع الحجاب عن أسرار العالم ومجهولاته.

وقبل كلّ شيء ينبغي معرفة رأي القرآن في هذه المسألة ، لأنّ محور دراستنا هذه هو التفسير الموضوعي والتحقيق حول تعليمات القرآن الكريم.

وقد وصلنا بالتحقيق والتتبع الدقيق في الآيات المختلفة والمنتشرة في القرآن الكريم إلى هذه النتيجة وهي أنّ طرق المعرفة ومصادرها في القرآن الكريم تتلخص في ستة أمور :

١ ـ الحس والتجربة (الطبيعة).

٢ ـ العقل والتحليل المنطقي.

٣ ـ التاريخ والآثار التاريخية.

٤ ـ الفطرة والوجدان.

٥ ـ الوحي السماوي.

٦ ـ الكشف والشهود.

٩٥
٩٦

١ ـ الحس والتجربة

لنمعن النظر خاشعين في البداية إلى الآيات الكريمة التالية :

١ ـ (افَلَمْ يَنْظُرُوا الَى السَّمَاءِ فَوقَهُم كَيْفَ بَنَينَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَها مِنْ فُرُوجٍ). (ق / ٦)

٢ ـ (اوَ لَمْ يَنْظُروا فِى مَلَكُوتِ السَّموَاتِ وَالارْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَىءٍ ...). (الاعراف / ١٨٥)

٣ ـ (افَلَا يَنْظُرُونَ الَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَالَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعتْ* وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَالَى الارْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ). (الغاشية / ١٧ ـ ٢٠)

٤ ـ (فَانْظُر الَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مُوتِها ...). (الروم / ٥٠)

٥ ـ (فَلْيَنْظُرِ الْانْسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَّاءٍ دافقٍ). (الطارق / ٥ ـ ٦)

٦ ـ (فَلْيَنْظُرِ الْانْسَانُ الَى طَعامِهِ* انَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبّاً* ثُمّ شَقَقْنَا الْأَرضَ شَقّاً* فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً* وَعِنَباً وَقَضْباً). (عبس / ٢٤ ـ ٢٨)

٧ ـ (اوَ لَمْ يَرَوا الَى الْارْضِ كَمْ انْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ). (الشعراء / ٧)

٨ ـ (اوَ لَمْ يَرَوا انَّا نَسُوقُ المَاءَ الَى الارْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تأْكُلُ مِنْهُ انْعَامُهُم وَانْفُسُهُمْ افَلَا يُبْصِرُونَ). (السجدة / ٢٧)

٩ ـ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ انَّهُ الحَقُّ ...). (فصلت / ٥٣)

١٠ ـ (اوَ لَمْ يَرَوا الَى الطَّيرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ الَّا الرَّحْمنُ انَّهُ بِكُلِّ شَىءٍ بَصِيرٌ). (الملك / ١٩)

١١ ـ (وَفِى الارْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ* وَفِى انْفُسِكُمْ افَلَا تُبْصِرُونَ). (الذاريات / ٢٠ ـ ٢١)

٩٧

١٢ ـ (وَاللهُ اخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ امَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالابْصَارَ وَالْأَفئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشكُرُونَ). (النحل / ٧٨)

* *

إنَّ الآيات الواردة في هذا المجال كثيرة جدّاً ، وما ذكر هنا نماذج واضحة في مجالات مختلفة (١).

شرح المفردات :

إنَّ كلمة «ملكوت» ـ على ما يقوله الراغب في مفرداته ـ مصدر «مَلَك» وقد اضيفت لها التاء ، وتستعمل في الإشارة إلى (ملك الله) فقط دون غيره ، بينما جاء في «مجمع البحرين» و «لسان العرب» أنّ الملكوت يعني «العزة والسلطنة» ، ويقول البعض : إنّها اشتقت من «مُلك» على وزن «حُكْم» وتعني «الحكومة والملكية» ، واضيفت لها التاء والواو للمبالغة.

وكلمة «قضب» على وزن (جَذْب) ـ وكما جاء في لسان العرب ـ في الأصل تعني «قطع» بحيث قال بعض المفسرين : إنّها تعني الخضروات التي تُحصد في فصول مختلفة (٢).

وكلمة «جُرُ» تعني الأرض الفاقدة للنباتات ، أو الأرض التي لا ينبت فيها نبات ، و «جَرَزَ» على وزن (مَرَض) وتعني القَطع ونقل صاحب «لسان العرب» عن بعض أئمّة اللغة أنّ الأرض الجرز تطلق على الأرض التي قلع نباتها أو انقطع عنها المطر.

__________________

(١). يمكن الرجوع إلى الآيات التالية : الاعراف ، ١٨٥ ؛ ويوسف ، ١٠٩ ؛ الروم ، ٩ ؛ غافر ، ٦ ؛ النحل ، ٧٩ ؛ الشعراء ، ٧ ؛ الاحقاف ، ٣٣ ؛ الملك ، ١٩ ؛ يس ، ٧٧ ؛ الأنعام ، ٦ ؛ النحل ، ٧٨ ؛ المؤمنون ، ٧٨ ؛ ق ، ٣٧ ؛ الاحقاف ، ٢٦ ؛ هود ، ٢٤ ؛ غافر ، ٢١ ؛ محمد ، ١٠.

(٢). تفسير الميزان ، ج ٢ ، ص ٣١٦ ؛ تفسير مجمع البحرين ، ج ١٠ ، ص ٤٤٠. نُقِلَ عن ابن عباس أنّ المراد من «القضب» في الآية هو «الرُطَب» الذي يقتطف من النخيل لكن بالنظر إلى الآية الاخرى التي أشارت إلى نفس الكلمة فإنّ هذا التفسير بعيد. وقال البعض : يحتمل أن يكون المراد منها هو فواكه الشجيرات مثل الخيار والرقي ، أو جذور بعض المزروعات مثل الجزر والبطاطس.

٩٨

وأمّا كلمة «افئدة» جمع «فؤاد» وتعني القلب ـ كما يقول الراغب ـ إلّاأنّ الفؤاد يطلق على القلب الذي له حالة إنارة وإضاءة ، وهذا أمرٌ ملفت للنظر حيث يعد الله القلب المنَّور والمنير من مواهبه ، وجدير بالذكر أنّ صاحب «لسان العرب» ذكر أنّ أصلها جاء من «فأد» على وزن «وَعْد» ويعني المشوي ، وعلى هذا تكون كلمة «فؤاد» إشارة إلى العقول التي تتحلى بالأفكار الناضجة!

* *

جمع الآيات وتفسيرها

في الآية الاولى يدعو الله الإنسان إلى الالتفات إلى السموات والأرض وجمالهما وكيفية بنيانهما والنظام الذي يتحكم بهما وإحكامهما واتقانهما وخلوهما من العيب.

وفي الآية الثانية يدعو الله الناس إلى مشاهدة نظام السموات والأرض والكائنات ، وذلك لإيقاظ القلوب للسير في طريق التوحيد ومعرفة الخالق.

والآية الثالثة تلقي نظرة من السماء إلى الأرض حيث تلفت نظر الإنسان إلى شيئين : أحدهما خلق الإبل وعجائب هذا الخلق (بالخصوص لُاناس يعيشون في محل نزول القرآن).

والآخر تسطيح الأرض بحيث تصلح الحياة عليها ، ويعتبر القرآن المشاهدة في جميع هذه المراحل منبعاً مهماً للمعرفة.

وفي الآية الرابعة والتي يخاطب الله فيها الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله يلفت نظره إلى مسألة نزول الغيث وإحياء الأرض بعد موتها ويقول له : (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها).

وفي الآية الخامسة يشير الله إلى مبدأ خلق الإنسان وأنّه يجب أن ينظر من أي شيءٍ خُلِقَ؟ قد خلق من ماء دافق ، ويذكر المشاهدة هنا كوسيلة للمعرفة كذلك.

وفي الآية السادسة يأمر الله الإنسان بأن ينظر إلى غذائه وطعامه كيف نبت وشق الأرض

٩٩

وخرج النبت من التربة بواسطة نزول المطر فصارت الحبوب والفواكه والخضروات ، فإذا نظرنا إليها ودققنا في كل ورقة من أوراقها لوجدناها كتاباً وسفراً يحكي لك عن معرفة الله.

* *

والآيات الست السابقة تدعو إلى «النظر» بينما الآيات الخمس التي بعدها تدعو إلى «الرؤية» بالرغم من أنّ كلاً من هذين الاصطلاحين في كثير من الأحيان يستعملان بمعنى واحد ، إلّاأنّه كما يستفاد من قواميس اللغة المعروفة ـ يطلق «النظر» على حركة العين والتفحص والدقة في مشاهدة شيءٍ ، بينما تطلق «الرؤية» على نفس المشاهدة (١) ، بالطبع أنّ كلا المفردتين تستعملان بمعنى المشاهدة الحسية تارة وبمعنى المشاهدة الذهنية والفكرية تارة اخرى ، إلّاأنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ المعنى الأولي لهما هو المشاهدة الحسية.

وعلى أيّة حال ، فإنّ الآية السابعة تدعو المشركين لمشاهدة مختلف النباتات التي تنبت أزواجاً أزواجاً في أرجاء المعمورة.

والآية الثامنة تدعو المشركين كذلك إلى رؤية مياه البحار ومصدرها تلك القطرات العالقة في الغيوم وهطولها منها على الأرض اليابسة وخروج الزرع الذي يستفيدون منه هم وأنعامهم.

وقد أشارت الآية التاسعة إلى جميع آيات «الآفاق» و «الأنفس» ، وهي آيات الله في هذا العالم العظيم وفي العالم الصغير وهو وجود الإنسان ، وقالت : نحن نريكم آيات الآفاق والأنفس كي يتبين لكم الحق ويتضح.

والآية العاشرة دعت إلى مشاهدة الطيور وكيفية طيرانها في السماء ، فتارة صافّات اجنحتها وتارة اخرى قابضات ، وهذا الأمر هو الذي يجعلها تطير في السماء خلافاً لجاذبية الأرض ، كما أنّ طيرانها بسرعة تارة بصف الأجنحة واخرى بقبضها ، وكأنّ هناك قدرة خفية تدفعها إلى الأمام ، ولكلٍ من الطيور شكلها الخاص بها والوسائل الضرورية لحياتها.

__________________

(١). يراجع مفردات الراغب ولسان العرب مادة «نظر».

١٠٠