نفحات القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-88-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٠

نعم إنَّ ذنبهم العظيم هو أنّهم لم يستفيدوا من عقولهم وعطلوها عن النهوض بمهامها ، ولم يصغوا لقول الحق وبهذا أغلقوا أبواب المعرفة والعلم ، وفتحوا أبواب جهنم ليدخلوها داخرين.

إنّ سياق الآية الثانية التي تنسب الإثم إلى أصحاب السعير وهم يعترفون بأنّ مصيرهم ما كان هذا لو أنهم استفادوا من عقولهم ، وهذا الاعتراف الكاشف عن الندم ، دليل على أنّ سلوكهم لهذا الطريق كان باختيارهم ، وإذا زعم بعض المفسّرين كالفخر الرازي عند تفسيره للآية الاولى أنّها دليل على الجبر ، فإنّ الثانية تنفي مزاعمه وتصلح لأنّ تكون مفسرةً للاولى لأنّ «القرآن يفسر بعضه بعضاً».

وعلى أيّة حال فإنّ العلاقة بين «جهنم» و «الجهل» لاجدال فيها في القرآن وسوف تتضح في الأبحاث القادمة أكثر (١).

٢٧ ـ الجهل مصدر انحطاط البشر

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لَايَعْقِلُونَ). (الأنفال / ٢٢)

إنَّ هذه الآية والتي قبلها تُشيران إلى موضوع واحد لكن الأخيرة تشير له صراحة والسابقة تلميحاً ، والموضوع هو : إنّ الإنسان متى ما ترك الاستعانة بوسائل المعرفة التي منحها الله له فانّه سينحط ويسقط إلى مستوى يجعله أضل من جميع الدواب التي على وجه الأرض ، ولَم لا يكون كذلك مَن بإمكانه أن يصل إلى أعلى عليين في جوار ربّ العالمين ، وأن يصل إلى مقام «لا يرى به إلّا الله» ، ولكن بتركه جميع المواهب والمِنَح الإلهيّة فإنّه سيسقط إلى أسفل سافلين.

إضافةً إلى هذا ، فإنّ الإنسان الذي لا يسير في جادة الخير والهداية ، فانه ربّما يستخدم تلقائياً جميع المواهب والقابليات الإلهيّة في طريق الشر ، وسيرتكب جرائم مفجعة ويخترع

__________________

(١). في حديث للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه : «إنّ الله أوحى إليَّ أنَّه مَن سلك مسلكاً يطلب فيه العلم سهلت له طريقاً الجنة». (بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١٧٣).

٦١

وسائل رهيبة لم يدنُ إلى مستوى وحشيته أيٌّ من الحيوانات المفترسة ، كما نشاهد نماذجه في عصرنا الحاضر عند أُناس بعيدين عن الله والبشرية (١).

٢٨ ـ الجهل عمى

(افَمَنْ يَعْلَمُ انَّمَا انْزِلَ الَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ اعْمَى انَّمَا يَتَذَكَّرُ اولُوا الْالْبَابِ). (الرعد / ١٩)

تضع الآية الكريمة العلماء وذوى الفكر في مقابل العُمي ، والتقابل هذا يكشف عن أنّ العمى والجهل سواء ، وقد جاء هذا المعنى في آيات اخرى بأسلوب آخر :

(وَمَا يَسْتَوِى الْاعْمَى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ* وَلا الظِّلُّ وَلَاالحَرُورُ* وَمَا يَسْتَوِى الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ...) (٢). (فاطر / ١٩ ـ ٢٢)

٢٩ ـ الحياة مع الجهل هي أرذل العمر

(وَمِنْكُمْ مَّنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ...). (الحجّ / ٥)

وقد جاء في سورة النحل الآية ٧٠ نفس ما جاء في هذه الآية من معنىً مع اختلاف ضئيل.

إنَّ كلمة «أرذل» مشتقة من مادة «رذل» وتعني الموجود الضال ، كما في كثير من معاجم اللغة مثل «المقاييس» و «صحاح اللغة» و «المفردات» وغيرها ، وبتعبير آخر الشيء الذي لا يُعتنى به أو لا قيمة له.

__________________

(١). يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الجهل مطية شموس من ركبها زلَّ ومن صحبها ضلَّ». (غرر الحكم ، ج ١ ، ص ٨٥).

(٢). يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من لم يصبر على ذلّ التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً». (بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١٧٧).

٦٢

وعليه فالمراد من «أرذل العمر» أيّام وساعات من العمر التي تقلّ قيمةً عن بقية أيّام العمر ، وقد نعت القرآن الأيّام الأخيرة من الشيخوخة التي تتزامن مع نسيان العلوم وفقدانها ب «أرذل العمر» ، وعليه فأفضل أيّام العمر وساعاته هي الأيّام والساعات التي تكون مقرونه بالعلم والمعرفة (١).

٣٠ ـ الجهل مصدر الكفر

(وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَا إِلهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ). (الأعراف / ١٣٨)

إنَّ ما يثير العَجب هو أنّ بنى اسرائيل شاهدوا بأم أعينهم الإعجاز والعظمة الإلهيّة في غرقِ الفراعنة ، ونجاتهم عندما عبروا النيل ، وبالرغم من ذلك كله يقترحون على موسى أن يجعل لهم صنماً يعبدونه.

لكن موسى أجابهم أنَّ جهلكم دعاكم إلى عبادة الأصنام.

وفي الحقيقة أنّ عبادة الأصنام دائماً تنشأ عن الجهل ، وإلّا فكيف يمكن للإنسان أن يعبد ما يصنع بيده؟ وكيف له أن يطلب حل المعضلات والمشاكل الكبرى التي تعتري حياته من قطعة من خَشب أو معدن؟!

إنَّ تاريخ عبادة الأصنام يكشف عن أنّ هذا العمل القبيح نَما وتطور تحت ظلِّ من الخرافات والأوهام ، وكلما تقدمت الشعوب في مجال العلوم والتقنية كلما تراجع الشرك وعبادة الأصنام وازدادت أنوار التوحيد ضياءً :

إنَّ النبي العظيم «هود» كان يصرح لقوم «عاد» بهذا الأمر إلّاأنّه عندما شاهد فيهم الإصرار على عبادة الأصنام طلب من الله سبحانه أن يُنزل العذاب عليهم قال :

(إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَاللهِ وَأُبَلّغُكُم مَّا أُرسِلْتُ بِهِ وَلكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ). (الاحقاف / ٢٣)

__________________

(١). يقول الإمام علي عليه‌السلام : «الجهل في الإنسان أضرّ من الأكلة في الأبدان» (غرر الحكم).

٦٣

إنَّ التعبير بـ «تجهلون» أي بصيغة المضارع الذي عادة ما يدل على الاستمرار ، يوضح أنّ «الجهل المستمر» كان منبع الشرك وعبادة الأصنام ، وفي الحقيقة إنَّ تعاضد ثلاثة أنواع من الجهل ولدت هذه الحالة الاجتماعية ، وهي : الجهل بالله وبأنّه لا كفو ولا مثيل له ، والجهل بمقام الإنسان وأنّه أشرف المخلوقات ، والجهل بالطبيعة وأنّه لا قيمة للجمادات في قبال موجود كالإنسان.

ترى! كيف سمح الإنسان لنفسه أنْ يجعل قطعة من الحجر اقتطعت من الجبل تارة في درجات السلّم في منزلة يسحقها بأقدامه ، وتارة يصنع منها صنماً يركع ويسجد له ويطلب منها حل مشكلاته الكبرى؟ ، يعدون هذا جهلاً (١)؟

٣١ ـ الجهل السبب الأساسي للفشل

(يَا ايُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنينَ عَلَى الْقِتَالِ انْ يَكُنْ مِّنْكُمْ عِشْرونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِأَتَيْنِ وَانْ يَكُنْ مِّنْكُمْ مِأَةٌ يَغْلِبُوا الْفاً مِّنَ الَّذينَ كَفَرُوا بِانَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَفْقَهُونَ). (الأنفال / ٦٥)

الظاهر أنّ الآية ناظرة إلى معركة «بدر» وعدم تساوي عدد المشركين والمؤمنين فيها ، وهي تنفي اسطورة توازن القوى ، كإيعاز إسلامي إلهي تأمر الآية بعدم التراجع في المعركة حتى لو كان عدد جنود الإسلام عُشْرَ جنود العدوّ! لكن الذي يسدُّ النقص الكمي في القوات الإسلامية ـ كما تصرح الآية ـ هو شيئان : الأول هو الصبر والاستقامة والثبات عند المؤمنين ، والثاني هو جهل وحماقة الأعداء.

وهذا يدل بوضوح على أنّ الاستقامة والصبر هما الطريق للنصر ، وأنّ الجهل هو سبب الخسران والفشل.

الجهل بالقابليات والطاقات الإلهيّة المودعة في ذات الإنسان.

__________________

(١). يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الجاهل لا يرتدع ، وبالمواعظ لا ينتفع». (غرر الحكم ، ج ١ ، ص ٦٨). ويقول الإمام الصادق عليه‌السلام : «ليس بين الإيمان والكفر إلا قلّة العقل». (اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢٨).

٦٤

الجهل بقدرة الله عزوجل وعظمته.

الجهل بتقنيات وقواعد المعركة ، وأنواع اخرى من الجهالة (١).

٣٢ ـ الجهل مصدر لاشاعة الفساد

(أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّنْ دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ). (النمل / ٥٥)

إنّهم قوم لايؤمنون بالله يجهلون بهدف الخلق وقوانينه ، ويجهلون الآثار السيئة لهذا الإثم والعار يعني «اللواط»

إنّ هذا الحديث الذي نطق به النبي العظيم «لوط» يشير بوضوح إلى أنّ ميل أولئك القوم إلى هذا العمل البشع والقبيح (اللواط) نشأ عن الجهل وعدم المعرفة.

والنبي يوسف عليه‌السلام يُشير إلى هذا المعنى باسلوب آخر :

(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِّنَ الْجَاهِلينَ). (يوسف / ٣٣)

إنَّ ذكر النساء بصيغة الجمع يدل على أنّ نساء مصر كُنَّ يُردنَ أن يُخرجنَ يوسف عن جادة العفاف وليس امرأة عزيز مصر (زليخا) فقط ، ويوسف عليه‌السلام كان مستعداً لتقبل السجن برحابة صدر على الابتلاء بحبِّ نساء مصر له.

إنَّ الجملة الأخيرة من الآية السابقة تُشير إلى أنَّ العشق الملوّث بالإثم والانحرافات الجنسية (على الأقل في كثير من الموارد) ناشيءٌ عن الجهل ، الجهل بالقيم المجبول عليها الإنسان ، الجهل بالآثار القيمة للعفاف والطهارة والنزاهة ، والجهل بمردودات الإثم ، وأخيراً الجهل بالأوامر والنواهي الإلهيّة.

وكما نرى في قصة يوسف بوضوح أنّ السبب الأساسي في ارتكاب الجريمة من قِبَلِ

__________________

(١). يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من عمل على غير علم كان ما يُفسدُ أكثر ممّا يصلح». (مشكاة الأنوار ، ص ١٣٥).

٦٥

إخوانه هو الجهل وعدم معرفتهم :

(قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ انْتُمْ جَاهِلُونَ). (يوسف / ٨٩)

نعم أنتم الذين عذبتم أخاكم أولاً ، ثم ألقيتموه في الجب عن جهل ثانياً! أنتم الذين كذبتم على أبيكم ذلك الشيخ العجوز وأَدْمَيْتُمْ قلبه عندما أخفيتم ابنه عنه ، وفي النهاية بيعه بعدة دراهم بخسة كما يُباع الرق ولم تفوا بعهدكم الذي عاهدتم به أباكم تجاه الأخ الآخر «بنيامين» عندما اتُّهِمَ بالسرقة فتركتموه وحيداً.

وجهلكم هو وحده منشأ جميع هذه الأفعال (١).

٣٣ ـ الجهل أساس التعصب والعناد

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ...). (الفتح / ٢٦)

إنَّ كلمة «حمية» مشتقة من مادة «حَمْي» على وزن «حَمْد» ، وكما يذكر الراغب في «مفرداته» أنّ معناها الأولي هو الحرارة الناشئة من أشياء مثل النار والشمس والقوة الباطنية في جسم الإنسان (الحرارة الذاتية والباطنية للأشياء) ، ولهذا يقال لارتفاع درجة حرارة المريض (حُمّى) على وزن (كُبْرى) ، وبما أنَّ التعصب والغضب يولدان حرارة وحرقة في باطن الإنسان قيل «حمية» ، وقد جاء في كتاب «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» أنّ «الحمية» هي شدة الحرارة والعلاقة والتعصب في الدفاع عن النفس (٢).

إنَّ هذه الآية نزلت في حوادث صلح الحديبية وتوضيح قصة سبب النزول : أنَّ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله قصد مكة للحج في السنة السادسة من الهجرة ، إلّاأنّ المُشركين منعوا المسلمين من دخول مكّة تعصباً لجاهليتهم ، مع أنَّ السماح بزيارة مكة كان مباحاً للجميع

__________________

(١). يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فقيه واحد أشدُّ على إبليس من ألف عابد». (بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١٧٧).

(٢). «هي شدة الحرارة ، والعلاقة والتعصب في الدفاع عن نفسه والتعفّف والترفع». (مادة حمى).

٦٦

حسب قوانينهم وسننهم المتعارفة ، فهم بهذا انتهكوا حرمة الحرم الإلهي ، ونقضوا سنتهم ، إضافة إلى أنّهم وضعوا حائلاً ضخماً بينهم وبين الحقائق.

إنّ إضافة «الحمية» إلى «الجاهلية» من قبيل إضافة «السبب» إلى «مسببه» ، التعصب والعناد والغضب ينشأُ عن الجهل دائماً ، لأنّ الجهل لا يسمحُ للإنسان أن يفكر بعواقب أعماله ، ولا يسمحُ له قبول أن فكرته قد تكون خاطئة ، وأنَّ هناك علماً أوسع وأكبر من علمه ، ولهذا نرى أنّ شدّة عناد وتعصّب الأقوام الجاهلة أكثر منها في الأقوام الاخرى ، ولهذا السبب نجد أن الأنبياء والرسل عندما يبعثون إلى قوم بالرسالات والأَنوار الإلهيّة الساطعة ، يواجهون مقاومة عنيفة ، ويتهمون بمختلف التهم ، وقد أورد القرآن الكريم نموذجاً من ذلك : (وَعَجِبُواْ أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ وَقالَ الكَافِرونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ* أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هَذا لَشَىءٌ عُجَابٌ* وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَىءٌ يُرَادُ* مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ). (ص / ٤ ـ ٧)

حيث ترى أنّ حديثهم مملوء بالعناد ، الناشيءُ عن الجهل والغرور (١).

٣٤ ـ الجهل مصدر لاختلاق الحجج

(وَقَالَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَاْتِينَا آيَةٌ كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). (البقرة / ١١٨)

هناك قضية تتكرر دائماً في تاريخ الأنبياء والرسل وهى أنّ الجاهلين والمعاندين يختلقون الحجج الواهية من أجل الهروب من الإيمان بالأنبياء والرسل والتسليم للحق الذي يرونه بأم أعينهم من خلال المعاجز الإلهيّة ووسائل الاقناع التي يأتي بها الرسل فتراهم تارة يقولون لِمَ بَعثَ اللهُ بشراً رسولاً؟ لِمَ لَمْ يأت مَلَك محله؟

__________________

(١). يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «العلم أصل كل خير والجهل أصل كُل شر». (غرر الحكم ، ص ٢٠ و ٢١).

٦٧

وتارة يقولون : لِمَ لم ينزل علينا كتاباً نقرأُه؟

وأُخرى يقولون : لن نؤمن ما لَمْ نرَ اللهَ والملائكة جهرة.

وتارة اخرى يقولون : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنّة من نخيل وعنب وتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، كما في سورة (الإسراء) في الآيات ٩٠ ، ٩٣.

كما أنّ هناك أمثلة ونماذج اخرى ذكرت في القرآن الكريم.

في الحقيقة أنّ ذوي العلم يكتفون بدليل منطقي واحد ، وإذا تعددت الأدلة عندهم ازدادوا رسوخاً وإيماناً.

لكن المتعصبين والجاهلين المعاندين غير مستعدين للتخلي عن عقائدهم وخرافاتهم ، فيتمسكون كل يوم بحجّة في سبيل الهرب من الحقيقة ، وإذا ما دُحِضَتْ حجتهم تركوها وتمسكوا بحجة اخرى ، ذلك لأنّ هدفهم ليس طلب الحقيقة بل التملص منها (١).

٣٥ ـ الجهل هو سبب التقليد الأعمى

(إِذْ قَالَ لِابيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِى انْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنا لَهَا عَابِديِنَ* قَالَ لَقَدْ كُنْتُم انْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِى ضَلَالٍ مُّبينٍ). (الأنبياء / ٥٢ ـ ٥٤)

إنَّ كلمة «التماثيل» جمع «التمثال» والتي تعني الموجود الذي له وجه ، وتطلق على التماثيل المنحوتة والرسوم.

وكلمة «عاكفون» مشتقة من مادة «عكوف» وتعني التوجه المستمر نحو شيءٍ والمتزامن مع التعظيم ، واصطلاح «اعتكاف» يطلق على العبادة الخاصة المعروفة التي تقام في المسجد وهي مشتقة من نفس المادة.

نعم ، إنَّ عبدة الأصنام لم يكن لهم دليل منطقيٌّ على عملهم القبيح هذا ، وغالباً ما كانوا

__________________

(١). يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الجاهل صغير وإن كان شيخاً كبيراً والعالم كبير وإن كان حدثاً». (بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١٨٣).

٦٨

يقتنعون بتقليدهم الأعمى ، ولهذا نعتهم ابراهيم عليه‌السلام بأنهم وآباءهم في ضلالٍ مبينٍ.

إنّ ابراهيم عليه‌السلام في بقية محاكمته التاريخية لعبدة الأصنام في بابل يقول : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَايَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ)؟! ثم يضيف (أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). (الأنبياء / ٦٦ ـ ٦٧)

يعني أنّ هذا التقليد الأعمى ناشيءٌ عن عدم التعقل والتأمل وهو نابع من الجهل ، ودليله واضح ، فإنّ ذوي العلم يتمتعون باستقلال فكري ، واستقلالهم الفكري هذا لا يسمحُ لهم بالتقليد الأعمى ، بينما الجاهلون تراهم مرتبطون بهذا وذاك وبشكل أعمى فيتبعون الآخرين على غير بصيرة.

٣٦ ـ الجهل عامل الخلاف والفرقة

(لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَميعاً الّا فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ اوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُم جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِانَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَعْقِلُونَ). (الحشر / ١٤)

إنَّ كلمة «قرى» تعني جمع «قرية» ومعناها الأماكن المعمورة أعم من الأرياف والمدن ، وقد تطلق على مجموعة يسكنون في مكانٍ ما ، و «قرىً محصَّنةٍ» تعني المناطق الآمنة من العدو بسورٍ أو ابراج أو خنادق أو غيرها.

إنَّ هذه الآية تتحدث عن طائفة «بني النضير» (إحدى ثلاث طوائف يهودية تقطنُ المدينة) حيث تكشف عن فزعهم وخوفهم الباطني واختلافهم وفرقتهم ، فتصرح الآية للمسلمين : إنّكم تحسبونهم جميعاً ومتحدين لكنّ الواقع أنّ شملهم متفرق بسبب جهلهم وعدم معرفتهم.

إنّ الاختلاف ينشأ عن الجهل ، والاتحاد ينشأ عن المعرفة دائماً ، فالجاهلون لا يجهلون الأخطار الجسيمة للفرقة ، ولا يجهلون فوائد الاتحاد وبركاتِهِ فحسب ، بل يجهلون اسس التعايش السلمي ، واسلوب التعاون وشروط النشاطات المشتركة ، وهذه المسألة أدّت بهم إلى الاختلاف والفرقة.

٦٩

إنّ المتعصبين والمعاندين والمتكبرين والحاقدين والسفهاء ، لا يمكنهم الاتحاد مع الآخرين ، لأنّ كلاً من هذه الصفات تكون مانعاً كبيراً امام الوحدة ، ويجب أن نعلم بان منشأ جميع هذه الرذائل هو الجهل (١).

٣٧ ـ الجهل هو سبب سوءالظن بالآخرين

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِّنْكُمْ وَطَائِفةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ...). (آل عمران / ١٥٤)

تحدثت هذه الآية عن الليلة المضطربة والملتهبة التي عاشها المسلمون بعد معركة أُحُد ، حيث احتمل بعض المسلمين هجوم قريش في تلك الليلة مرّة اخرى لتدمير آخر ما تبقى من مقاومة المسلمين بعد ما أُنهكوا في المعركة نهاراً.

في هذه الأثناء أنزل الله على المسلمين نعاساً مهدئاً لهم ، إلّاأنّ ضعيفي الإيمان قد تاهوا في أفكارٍ رهيبة فما استطاعوا النوم آنذاك ، وكانوا يتساءلون : يا ترى هل أن وعود الرسول حقّةٌ؟ هل أننا سننتصر في النهاية مع ما حصل لنا في أحد؟ هل سننجو من هذه المهلكة؟ أو أنّ كل ما قيل لنا كان كذباً؟ وما إلى ذلك من الوساوس وإساءة الظن الجاهلي.

لكن الحوادث التي حصلت فيما بعد بينت لهم خطأهم الفاحش ، وأنّ كافة الوعود الإلهيّة حقة ، ولو أنّهم انفصلوا عن أفكار الجاهلية تماماً لَما أساءوا الظن بالله ورسوله.

والتعبير في الآية يوحي بأنّ الجهل هو أحد أسباب إساءة الظن ، وأنّ عدم قدرتهم على التحليل الصحيح للحوادث جعلهم يسيئوون الظن ، ولو كانت لهم القدرة الكافية على تحليل الحوادث وفهمها لما وقعوا في شباك سوء الظن.

* *

__________________

(١). يقول الإمام علي عليه‌السلام : «لو سكت الجاهل ما اختلف الناس». (بحار الأنوار ، ج ٧٨ ، ص ٨١).

٧٠

٣٨ ـ سوء الأدب ينشأ عن الجهل

(انَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ). (الحجرات / ٤)

كان البعض يضايق الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث كانوا يقفون عند باب بيته منادين بصوت عالٍ : «يا محمد!» «يا محمد! اخرج إلينا» فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتأذى من اسلوبهم هذا ، ولكنّه كان يكظم غيظه وذلك لما كان يتصف به من خُلُقٍ عظيم ، إلى أن نزلت هذه الآية ، فعلمتهم أدب الحديث مع الرسول ومحاطبتِهِ (في سورة الحجرات).

والتعبير ب (أكثرهم لا يعقلون) إشارة جميلة إلى أنّ سوء الأدب غالباً ما ينشأ عن الجهل فكلما فُقِد العلم حل سوء الأدب مكانه ، وكلما تواجد العلم تواجد الأدب معه.

(وَاذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ انَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ انْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ انْ اكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ). (البقرة / ٦٧)

إنَّ الآية تتعلق بقضية قتلٍ حدثت في بني اسرائيل كادت أن تجر إلى معارك كبيرة بين قبائل بني اسرائيل لجهلهم بالقاتل : فأمر الله أن يذبحوا بقرة ويضربوا بقسمٍ منها المقتول كي ينطق ويُعرفهم قاتله.

وبما أنّ هذه القضية كانت معجزة ومدهشة للغاية بالنسبة لبني اسرائيل ، فقد قالوا لموسى ابتداءً : أتتخذنا هزواً؟

فأجاب موسى عليه‌السلام : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين أي أنّ الاستهزاء من معالم الجهل ودليل على العجب والتكبر والغرور ، فإنّ الذين يتمتعون بهذه الصفات يتخذون الآخرين هزواً كي يحقّروهم ، ونعلم أن التكبر والعجب ينشآن عن الجهل حتى أن كثيراً من الجاهلين يستهزئون بالعلماء (١).

٣٩ ـ الجهل سبب الندم والمشاكل الاجتماعية

(يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ان جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَاٍ فَتَبَيَّنُوا انْ تُصِيْبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى

__________________

(١). يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم». (بحار الأنوار ، ج ٧٨ ، ص ٨١).

٧١

مَا فَعَلْتُمْ نَادِمينَ). (الحجرات / ٦)

إنَّ هذه الآية تمثل قاعدة أساسية تأمر المسلمين بأنْ يتبيّنوا ويتأكّدوا من كون الرواة ناقلي الأخبار من الثقات ويحققوا في الخبر الذي وصلهم من فاسق أو شخص لا يُعتمد عليه فلا يستعجلوا باتخاذ الإجراءات على ضوء ما نُقِلَ لهم من خبر ، لأنّه قد يوجب لهم كثيراً من الندم والمشاكل والمصائب الاجتماعية.

فمن البديهي أنَّ الجاهلَ لا يُمكنه أنْ يتّخذ موقفاً صحيحاً تجاه مختلف القضايا ، وعدم معرفته هذه تؤدّي به إلى كثير من المآسي والمشاكل الاجتماعية والتي نهايتها النّدم.

٤٠ ـ الجهلُ وتبدّل القيم

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى انْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى انْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُو شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمْ وَانْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ). (البقرة / ٢١٦)

إنَّ نشاطات الإنسان وفعالياته تنسجم دائماً مع القيم التي يعتقد بها ، ومعرفة هذه القيم لها دور أساسي في تبلور وتوجيه نشاطات الإنسان وفعالياته.

فالجهلُ وعدم المعرفة قد يؤدي به إلى الوقوع في الخطأ عند التمييز بين (القيم) وبين (أضدادها) ، أي أنْ يشخص ما هي القيم التي تكون سبباً في التقدّم والخير والبركة ، ويفرق بينها وبين ما هو عامل الشرّ والشقاء والانحطاط.

إنّ الآية السابقة تقول : إنّ للجهاد في سبيل الله قيمة ـ فهو سبب للعزة وصيانة ماء الوجه والفخر والموفقية ـ ، لكنكم تكرهونه لجهلكم وعدم معرفتكم بآثاره ، وتعتبرون القعود وترك الجهاد قيمةً وعاملاً للسلامة والسعادة ، لكنه عامل وسبب لشقائكم.

وعلى هذا ، فالجهل هو سبب الخطأ في تمييز القيم ، وهو عامل اتخاذ المواقف غير الصحيحة وغير المدروسة تجاه القضايا المختلفة والحوادث المتنوعة التي تحدث في الحياة اليرمية وعامل للافراط والتفريط (١).

__________________

(١). يقول الإمام علي عليه‌السلام : «لا ترى الجاهل إلَّا مفْرِطاً أو مُفَرِّطاً». (نهج البلاغة الكلمات القصار ، الكلمة ٧٠).

٧٢

الخلاصة والنتيجة :

إنّ المستخلص من البحوث القرآنية السابقة والتي دُرجت تحت أربعين عنواناً ، ولربّما تكون أكثر حيث (لا ندعي تحديدها بهذه العناوين أبداً) والتي تحثُ على طلب العلم والمعرفة ، تمثل اهتمام القرآن البالغ بمسألة المعرفة في جميع المجالات ، سواء في مجال معرفة الذات والصفات الإلهيّة ، أو في مجال معرفة الكون والسماوات والأرض وجميع الكائنات والإطّلاع على أسرار المخلوقات الأرضية والسماوية الطبيعيّة أو ما وراء الطبيعة ، ومعرفة النفس والأِلمام بمختلفِ العلوم.

ومن خلال البحث في الآيات السابقة نستخلص بوضوح الأُمور التالية :

١ ـ إنَّ طريق العلم والمعرفة ميسر للناس كافة ، وكلٌّ حسب استعداده وسعيه يستطيع أن يطوي ما أمكنه منه ، وبدون ذلك فالدعوة للعلم والتأكيد على أهميته لا معنى لها.

٢ ـ إنَّ قيمة الإنسان لها علاقة مباشرة بمقدار معرفته لله وأسرار عالم الوجود.

٣ ـ إنَّ أكبر مفخرة وموهبة للإنسان هو قابليته واستعداده لتقبل المعارف بالرغم من ضعفه الجسماني.

٤ ـ إنَّ طلب العلم هو طريق الانتصار والغلبة على مختلف المشاكل : وهو طريق تزكية النفس.

٥ ـ من أجل مواجهة الشقاء ومختلف المفاسد نحتاج إلى العلم والمعرفة قبل أي شيءٍ آخر.

نؤكّد أنَّ هذه الآيات نزلت في زمان خيمت فيه غيوم الجهل السوداء ، وغطت أفق المنطقة بل العالم ظلاماً ، في حين أنّ شمس العلم قد غابت وغرق الناس في أمواج الجهل.

حقّاً إنَّه لشيءٌ عجيب أن تكون مثل هذه البيئة مهداً لهذه الرسالة ذات التعاليم السامية أن يكون إنساناً امياً رسولاً لمثل هذه المدرسة العظيمة مدرسة الإسلام الخالد وهذا دليل حي على حقانية القرآن.

إنَّ الملفت للنظر هو احصاء سبعمائة آية من قبل بعض المحققين تتحدث عن العلم

٧٣

والمعرفة وأرضياتها ومصادرها ، وبالقياس إلى آيات الأحكام والتي تقدر بخمسمائة آية ، نستطيع أن نستنتج أن القرآن أولى أهميّة كبرى للعلم والمعرفة فاقت الأهميّة التي أَوْلاها للأحكام الشرعية.

* *

توضيحات

١ ـ إمكانية المعرفة من وجهة نظر فلسفية

إنَّ وجود عالم خارج الذهن أمر مسلم وبديهى لايحتاج إلى برهان ، ويعترف بهذا عملياً حتى السوفسطائيون أو المثاليون الذين ينكرون وجود الأعيان الخارجية.

لكن البحث ينصب في هل من سبيل إلى معرفة هذه الواقعيات؟

وإذا كان الجواب بالايجاب فما هي سُبُل المعرفة ووسائلها؟

ما هي شروط الوصول إلى المعرفة؟

وبتعبير آخر ، هل يمكن تبديل الواقعيات الخارجية إلى حقائق ذهنية ، أي انعكاس صورة ما في الخارج عيناً في الذهن أم لا؟ إنَّ جميع تعاريف المعرفة والاختلافات الحاصلة حول ذلك ترجع إلى هذا الموضوع (١).

ومن جهة اخرى فإنّ جذور جميع العلوم والمعارف البشرية تكمن في الإجابة عن هذا السؤال.

وبالرغم من أنّ أغلب الفلاسفة (سواء الماديين منهم أو الإلهيين) يؤيدون إمكانية معرفة الواقعيات الخارجية ، إلّاأنّ البعض منهم لا يعتقد بإمكانيتها ، وقد ذكرت أربعة أدلة لإثبات مرادهم :

__________________

(١). وعلى هذا يكون تعريف المعرفة عبارة عن : تبديل الواقعيات الخارجية إلى حقائق ذهنية ، وانعكاسها في مرآة الذهن كما هي.

٧٤

١ ـ إنّ الحواس هي أهم وسائل المعرفة ، والبصر يقع في الدرجة الاولى من حيث الأهميّة ، لكننا نجد الكثير من الأخطاء تصدر عن هذه الحاسة!

فالشهاب المشتعل في المساء نراه كخط من النور الممتد ، بينما هو عبارة عن نقطة ضوئية متحركة لا أكثر!

وإذا كنّا نمشي في شارع مُشجّر الطرفين ، وابتعدنا عن الأشجار رأيناها تقترب من بعضها البعض ، وتتصل وتشكل زاوية في نقطة بعيدة عنّا بينما الأشجار لم تلتقِ على طول الطريق ولم تُشكل أية زاوية ، والفاصلة بينها متساوية في جميع نقاط الشارع.

وإذا كانت احدى يديك باردة والاخرى حارة ووضعتهما في ماء دافيء ، فانّك تحس بالحرارة باليد الباردة ، وبالبرودة باليد الحارة ، فيرتسم في الذهن إحساسان متضادان اتجاه الماء في آن واحد.

ولدينا الكثير من الأمثلة عن عدم إمكان الاعتماد على حاسة البصر وبقيّة الحواس (اللامسة وغيرها).

ومع وجود هذا النقص فكيف نعتمد على حواسنا؟! بل إنَّ عالم الخارج يمكن أن يكون وهماً أو أضغاث أحلام ولا غير ، وهل أنّ الذي نراه في الرؤيا ونعتبره حقيقة في ذلك الحين ، يُمثل الحقيقة؟

٢ ـ لا نكاد نرى اثنين من العلماء أو المفكرين في هذا العالم يتفقان في جميع المسائل ، وما هذه الاختلافات بين العلماء إلّادليلاً على فقداننا الطريق الذي يهدينا إلى معرفة الحقائق.

فالذي رأه واقعاً عينياً قد يكون برأي الآخرين وهماً وخيالاً لا أكثر والعكس صحيح.

وحتى الإنسان الواحد قد تتغير رؤيته وأفكاره تجاه قضية معينة تحت ظروف مختلفة ، وهذا يزلزل أسس قضية المعرفة.

٣ ـ إنّ الموجودات في العالم كلّها في حركة مستمرة ، وينتج عن هذه الحركة تحول أوضاع الموجودات وحتى أفكارنا ومعارفنا وعلومنا خاضحة لهذه الحركة ، فكيف يمكن

٧٥

أن تحصل لنا معرفة حقيقية لهذه الموجودات والعلاقات بينها ، مع أنّ المعرفة تستدعي الاستعاذة بأمرِ ثابت.

٤ ـ نعلم أنّ العالم يُمثل نظاماً موحداً ومترابطاً ، ومعرفة جزء منه تستدعى معرفة الكل ، وعليه ، فإنّ فقدان حلقة من السلسلة المترابطة للعالم يُخلّ بمعرفتنا ويحول دون معرفة أي جزء منه.

ومن جهة اخرى فإنّ الواقعيات التي لايمكن للبشر إدراكها كثيرة ولا يحصى عددها بالقياس إلى حجم المعلومات البسيطة.

وعلى هذا ، فكيف يمكن لنا أن نعد معرفة العالم أمراً متيسراً؟ إذن يجب الاعتراف بأنّ ما في أذهاننا مجرّد تصورات لها قيمة علمية فقط ، وليست لها أية قيمة واقعية.

* *

الجواب :

يمكن الإجابة على هذه الاستدلالات بثلاث طرق :

١ ـ إنّ جميع الذين يقولون بعدم إمكان المعرفة الواقعية ، يؤمنون بالكثير من المسائل الواقعية ، فهم يمسكون بأقلامهم ليبرهنوا ويستدلوا في مؤلفاتهم على صحة ما ذهبوا إليه وخطأ مخالفيهم ، ومن خلال انكارهم فانّهم عرفوا المئات من المسائل الواقعية ، ومن خلال هذه المعرفة دقوا طبول الحرب ضد مخالفيهم واستفادوا في حربهم هذه من الكثير من الامور الواقعية مثل ، القلم ، والورق ، الخطوط ، الكلمات ، الجمل والعبارات ، الكتب ، دور الطبع والنشر والمكتبات ، المخالفين أنفسهم ، المخاطبين ، الأمواج الأثيرية ، النور وغيرها ، كل ذلك يمثل اموراً واقعية استفادوا منها في معرفتهم ليشنوا بها حرباً على المعرفة ، فلقد استعانوا بالمعرفة ضد المعرفة وهو خطأ فاضح يستدعي الدقة والتأمل.

٢ ـ إنَّ خطأهم الكبير هو عدم تمييزهم بين مسألة كون معرفة الإنسان محدودة وبين أصل مسألة المعرفة ، فأن استدلالاتهم لا تنفي إمكانية المعرفة مطلقاً ، غاية الأمر أنّها تثبت

٧٦

أنّ معرفة الإنسان محدودة أو مقرونة بالاخطاء أحياناً.

أَجَل ، لا يمكنهم إنكار وجود «الشهاب» بل إنّ ما يقولونه في هذا المجال هو أنّ الخط النوراني الذي نراه ليس خطاً نورانياً بل نقطةٌ نورانيةٌ ، والتصور الخاطىء هذا نشأ عن خطأٍ في حاسة البصر ، إذ ليس الخطأ في وجود نفس الشهاب بل في تصور خطٍ ممتدٍ ملتهبٍ.

كما أنّ الخطأ ليس في نفس وجود الشارع والأشجار على طرفيه بل الخطأ في أنّ الأشجار كلما ابتعدنا عنها اقتربت من بعضها البعض في أبصارنا ، وكذا الأمر بالنسبة للماء الدافيء ، فليس الخطأ في نفس وجود الماء ودرجة حرارته المعينة ، بل في تمييز درجة الحرارة.

ولكنّا ـ كما سبقت الإشارة ـ لا ندعي إدراكنا لجميع حقائق الوجود ، كما لا ندعي أن معرفتنا منزهة عن أي خطأ ، بل ما نريد إثباته هو إمكانية المعرفة على سبيل القضية الجزئية ، وقد نشأ خطأ أصحاب الرأي القائل بعدم إمكان المعرفة من ادعائهم القاطع الجازم بعد وجود المعرفة.

والملفت للنظر هو أن ما ذكره مخالفو إمكانية المعرفة من أدلة يمكن أن يستخدم كدليل ضدهم ، لأنّهم عندما يبحثون مسألة خطأ الحواس ، فإنّ مفهوم ادعائهم أن هذه الحقيقة اكتشفناها بحواسنا الاخرى أو بطرق عقلية ، فندرك خطأ الحاسة المعيَّنة في ذلك المورد ، وهذا اعتراف صارخ بصحة بعض المعارف.

فعندما نقول مثلاً : إنّ الخط الملتهب الممتد الذي نراه عند ظهور الشهاب في السماء خطأٌ ، فذلك بسبب إنا لاحظنا بحواسنا الاخرى إنَّ الشهاب قطعة حجر تحترق عند وصولها إلى الأرض وذلك لسرعتها واحتكاكها بطبقة الهواء ، وعندما تبدو لنا كالنقطة النيرة ، وبما أنّها تتحرك بسرعة هائلة فتخطأ العين في التمييز ونراه خطاً ممتداً وملتهباً ، مستقيماً منحنياً.

كذلك الأمر بالنسبة للخطين المتوازيين عندما نراهما متقاطعين من بعيد ، بينما رأيناهما من قريب متوازيين فعند مقارنة المعلومات التي حصلنا عليها من بعيد ومن قريب نعترف بخطأ أبصارنا من بعيد.

٧٧

إذن يجب القول بأنّ أي حكم بخطأ بعض المعلومات ، دليل على معرفة كثيرٍ من الحقائق (دقّق النظر في ذلك).

٣ ـ إنّهم في الحقيقة لم يميزوا جيداً بين «البديهيات» و «النظريات» ولا بين «المعرفة الإجمالية» و «المعرفة التفصيلية» ولا بين «الامور المطلقة» و «الامور النسبية» ، ولأجل عدم معرفتهم الدقيقة وتمييزهم لهذه المواضيع الثلاثة وقعوا فيما وقعوا فيه من خطأ.

* *

إيضاح :

إنّ هناك حقائق لا يشك بها أحد إلّاالسوفسطائيون وكما قلنا سابقاً أنّهم ينكرون الحقائق بالسنتهم ويعتقدون بها في قلوبهم وهي الحقائق التي لا حاجة إلى التفكير في إثباتها ، فالكل يعرف مثلاً أنّ اثنين زائداً اثنين يساوي أربعة ، وأنّه لا يمكن أن يحصل الليل والنهار أو الصيف والشتاء في آن ومكان واحد ، أو شخصاً واحداً يكون في مكة والمدينة في آن واحد وحتى أولئك الذين يعدّون اجتماع النقيضين أو الضدين ممكناً ، فانّهم يتلاعبون بالألفاظ فقط ، ويذعنون لهذه الحقائق قلبياً ، فمثلاً بالنسبة ل «اجتماع الضدين» يقولون بإمكان أن يكون الجو ممطراً في ساعة ومشمساً في ساعة اخرى ، إذن اجتماع الضدين أمر ممكن ، أمّا إذا سألناهم هل يمكن أن يكون الجو ممطراً ومشمساً في ساعة ومكان واحد؟ فسيجيبون : لا.

وفي مقابل هذه المعلومات البديهية هناك قسم آخر من المعلومات وهي «المعلومات النظرية» التي تحتمل الخطأ والترديد ، وما ذكره المنكرون من عدم إمكانية المعرفة فانّه يتعلق بهذا النمط من المعلومات.

كما أنّ هناك مجموعة من الحقائق مطلقة ولا نسبية فيها كالأمثلة السابقة (العلاقات الرياضية بين الأعداد وامتناع اجتماع النقيضين والضدين).

ولكن لا يمكن إنكار أنّ هناك مجموعة من المفاهيم النسبية التي تتغير بتغير الظروف ،

٧٨

فمثلاً الحرارة والبرودة أمران نسبيان ، فكل شيءٍ حرارته أكثر من حرارة جسم الإنسان فهو حار ، وكل شيءٍ حرارته أقل من حرارة جسم الإنسان فهو بارد ، فإذا ما تغيرت درجة حرارة أجسامنا تتغير مفاهيم الحرارة والبرودة عندنا ، ولهذا قد يجلس شخصان في غرفة يشعر أحدهما بالبرودة فيطلب تشغيل المدفئة والآخر يشعر بالحرارة فيطلب فتح الأبواب.

بالطبع ، في هذا المجال توجد حقيقتان وهما درجة حرارة الجسم ودرجة حرارة الغرفة وتصورنا عن الحرارة والبرودة ينشأ عن المقارنة بين هاتين الحقيقتين فيختلف الحكم تجاه المسألة.

كما أنّ في العالم هناك حقائق ثابتة وحقائق متغيرة ، والأمثلة التي ذكرناها سابقاً وما شابهها تدخل تحت عنوان الحقائق الثابتة ، وحتى الماركسيون القائلون بتغير وتبدل الحقائق في العالم يستثنون حقيقة التحول والتغير كقانون ثابت ، ويعتقدون أنّ كل ما في العالم في تحولٍ وتغيّر مستمر إلّانفس قانون التحول والتغير فانّه ثابت دائماً (بالطبع هناك مجموعةً اخرى من القوانين يفرضون ثباتها اضافةً إلى هذا القانون).

وإذا تجاوزنا الأمر السابق فإنّ هناك «معرفةً إجماليةً» ومعرفةً تفصيليةً» هناك حقائق لا نعرف عنها إلّاشيئاً إجمالياً ، فلا معرفة لنا بخصائصها وعلاقاتها بالأشياء الاخرى في العالم تفصيلاً ، لكن عدم معرفتنا التفصيلية عنها لا يعني نفي المعرفة الإجمالية عنها.

فمثلاً العين جزء من الجسم ، وما لم نعرف الجسم بجميع أعضائه جيداً لا نتمكن من معرفة علاقة العين بأعضاء الجسم الاخرى ، لكن عدم معرفتنا للعين تفصيلاً لا يمنع من معرفتنا لها إجمالياً وأنّها تقع في الرأس وتحت الجبين ، ولها سبع طبقات ، وكل طبقة مهمّة خاصة بها ، وفائدتها رؤية المناظر واللقطات المتنوعة.

وبالنظر لما تقدم يتضح أنّ أدلة المخالفين لنظرية المعرفة نشأت من عدم دقتهم في التقسيمات السابقة ، فعندما يقولون : إنّ العالم كتلة واحدة ، وعدم معرفتنا لمفردة من مفرداته يفقدنا المعرفة بأي جزء منه ، فقولهم هذا خلطٌ في الحقيقة بين المعرفة التفصيلية والإجمالية ، لأنّا إذا أردنا معرفة جزءٍ ما في العالم بجميع علاقاته بباقي أجزاء العالم يجب

٧٩

علينا معرفة جميع أجزاء العالم بدقّة ، فهذه معرفة تفصيلية ، بينما المعرفة الإجمالية لا تستدعي ذلك كله ، ومعرفتنا للأرض والسماء وأفراد البشر والكائنات التي من حولنا هي كلها من هذا القبيل من المعرفة (١).

وهناك ايضاحات أكثر في هذا المجال سنعرض لها في الفصل اللاحق إن شاء الله تعالى.

* *

٢ ـ العلم البشري المحدود

١ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ امْرِ رَبّى وَمَا اوتِيتُمْ مِّنَ العِلْمِ الَّا قَلِيلاً). (الاسراء / ٨٥)

٢ ـ (... وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدَاً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِاىِّ ارْضٍ تَمُوتُ ...). (لقمان / ٣٤)

٣ ـ (وَانْ مِّنْ شَىْءٍ الَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَّاتَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ ...). (الاسراء / ٤٤)

٤ ـ (وَعَسَى انْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى انْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَانْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ). (البقرة / ٢١٦)

٥ ـ (لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالْارْضِ اكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ). (غافر / ٥٧)

٦ ـ (... لَاتَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ امْراً). (الطلاق / ١)

٧ ـ (قُلْ لَّاامْلِكُ لِنَفْسى نَفْعاً وَلَا ضَرّاً الَّا مَا شآءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ ...). (الاعراف / ١٨٨)

٨ ـ (... آبَائُكُمْ وَابْنَائُكُمْ لَاتَدْرُونَ ايُّهُمْ اقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ...). (النساء / ١١)

٩ ـ (وَلَوْ انَّمَا فِى الارْضِ مِنْ شَجَرَةٍ اقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ ابْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله انَّ اللهَ عَزيزٌ حَكيمٌ). (لقمان / ٢٧)

__________________

(١). قد يقال إنّ منكري المعرفة لا ينكرونها كلياً ، وعلى هذا فالنزاع بينهم وبين المؤيدين لنظرية المعرفة يكون نزاعاً لفظياً.

٨٠