نفحات القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-88-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٠

«هل مررت بطريق مليء بالأشواك في يوم ما؟ قال السائل : نعم ، قال : الم تجمع ثيابك وترفع اذيالك وتسعى للخلاص من الأشواك؟ فحالتك هذه هي التقوى».

نعم ، إنّ الطريق إلى الله مليءٌ بالأشواك كأشواك الشهوات والميول والأهواء والآمال البعيدة والكاذبة ، ومن هنا ينبغي على الإنسان أن يحافظ على ثباته فيتجنب أن يكون عرضة لهذه الأشواك ، وينبغي أن لا تشغله عن مسيره إلى الله سبحانه وتعالى.

وهذا لايكون إلا باليقظة والمعرفة والخبرة ومراقبة النفس على الدوام.

وبتعبير أبسط : إنّ التقوى هي الوقاية من الآفات التي تعترض الروح في سيرها التكاملي ، وتجنّبُ الذنوب والشبهات حتى الوصول إلى الملكة.

وقد ذكر بعض المفسرين معانيَ عديدة للتقوى ، وجاؤوا بشاهد من القرآن لكلٍ منها ، وفي الحقيقة أنّ كلاً منها مصداق من مصاديق التقوى ، مثل التوبة والطاعة والإخلاص والإيمان (العبادة والتوحيد) (١).

ويقول البعض : إنّ حقيقة التقوى هي أن يجعل الإنسان حائلاً أو مانعاً أمام آفة ما ، فكما يدفع الإنسان تأثير ضربات العدو بالدرع ، كذلك المتقون فانهم يصونون أنفسهم من عذاب الله بواسطة درع طاعة الله (٢).

نقسّم التقوى إلى ثلاث مراحل : التقوى عن الكفر ، والتقوى عن الذنب ، والتقوى عما ينسي الإنسان ذكر ربّه (٣).

ولكن ـ كما هو واضح ـ فإنَّ المعاني هذه كلها ترجع إلى المعنى الأساسي الذي ذُكر للتقوى في البداية.

* *

__________________

(١). وجوه القرآن ، ص ٥٥ ؛ التفسير الكبير ، ج ٢ ، ص ٢٠.

(٢). تفسير روح البيان ، ج ١ ، ص ٣٠ و ٣١.

(٣). المصدر السابق.

٣٤١

جمع الآيات وتفسيرها

اتقوا كي يسطع نور العلم على قلوبكم!

يقول الله عزوجل في الآية الاولى : (ذلِكَ الْكِتَابُ لَارَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) والتعبير هذا يثبت بوضوح تأثير التقوى على المعرفة كمؤهل لها.

وهذه هي الحقيقة ، فما لم تحصل في باطن الإنسان مرحلة من مراحل التقوى ، لا يمكنه الاستفاضة من ينابيع الكتب السماوية ، وأقل التقوى هو أن يسلم الإنسان نفسه إلى الحق ويترك العناد ، فإنّ الذين يفتقدون هذه المرحلة من التقوى ، سوف لا يرتفعون إلى أدنى درجة من درجات المعرفة ولا يتقبلون الهداية أبداً.

طبيعي أنّ الإنسان كلما كانت روح التقوى والتسليم إلى الحق وقبول الحقائق والواقعيات قوية عنده كانت استفاضته من ينبايع الهداية أكثر.

إنّ ينابيع الهداية وعلى رأسها القرآن المجيد كالغيث الذي يحيي الأرض ويفتح أزهار المعرفة فيها ، وهذا يحدثُ في الأرض الخصبة فقط لا في كل أرض.

إنّ التعبير بـ «هدى» أي بصيغة المصدر ، تأكيد لحقيقة أنّ روح التقوى إذا استيقظت عند الإنسان وأصبحت فعالة ، فإنّ القرآن سيصبح الهداية ذاتا (تأمل جيداً).

وفي هذا المجال يقول بعض المفسرين العظام :

«إنّ الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الاولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة ، فإنّ الفطرة إذا سلمت لم تنفك من أن تنتبه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى أمرٍ خارج عنها ، وكذا احتياج كل ما سواها ممّا يقع عليه حس أو وهم أو عقل إلى أمر خارج تقف دونه سلسلة الحوائج ، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس ، منه بدأ الجميع وإليه ينتهون ويعودون ، وأنّه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلق كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الأعمال والاخلاق وهذا هو الاذعان بالتوحيد والنبوة والمعاد وهي اصول الدين» (١).

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ٤٢.

٣٤٢

كما يقول الفخر الرازي :

«والبعض الآخر ذكر في حصر الهداية بالمتقين لأنّ الله تعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنّهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال : (إِنَّمَا انْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا). (النازعات / ٤٥)

وقال : (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ). (يس / ١١)

وقد كان عليه‌السلام منذراً لكل الناس ، فذكر هؤلاء الناس لاجل أنّ هؤلاء هم الذين انتفعوا بانذاره» (١).

وقد استنتج الفخر الرازي في بعض عباراته :

«ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلّاما في قوله تعالى (هدى للمتقين) كفاه لانه تعالى بيّن أنّ القرآن هدى للناس في قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لّلنَّاسِ ...). (البقرة / ١٨٥)

ثم قال : إنّه هدى للمتقين فهذا يدل على أنّ المتقين هم كل الناس فمن لا يكون متقياً كانه ليس بانسان» (٢).

وبالرغم من عدم تعارض التفاسير الماضية ، إلّاأنّ التفسير الأول يبدو أوضح ، ومن هنا يعرف عدم صحة الرأي القائل (بحمل «المتقين» في الآية على المجاز ، والقول بأنّ المراد منهم سالكو طريق التقوى ، وذلك للحيلولة دون الوقوع في إشكال (تحصيل حاصل) ، وذلك لأنّ للتقوى ـ وكما قلنا ـ مراحل ودرجات ، فمرحلة منها تؤهل لهداية القرآن ، والمراحل الرفيعة الاخرى تكون وليدة هداية القرآن.

ويُطرح هنا سؤال وهو : إنّ الآيات التي جاءت بعد «هدىً للمتقين» عرفت المتقين بالذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، وعلى هذا ، أفلا تكون هداية القرآن تحصيلاً للحاصل يا ترى؟!

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتضح بالالتفات إلى نقطة في هذا المجال وهي : إنّ الوصول إلى هذه المراحل المذكورة في السؤال ليست نهاية الطريق ، بل هناك مراحل كثيرة اخرى ينبغي طيها لبلوغ المرحلة التكاملية اللائقة بالإنسان ، وهذه المرحلة عند

__________________

(١). التفسير الكبير ، ج ٢ ، ص ٢١.

(٢). المصدر السابق.

٣٤٣

المتقين ستهديهم إلى مراحل ارفع واسمى بالاستعانة بهداية القرآن.

وتوجد تعبيرات في القرآن تشبه ما جاء في الآية السابقة ، مثلما جاء في الآية : (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ). (الحاقة / ٤٨)

فعدت الآية الاولى القرآن «هدى» للمتقين وسبباً لهدايتهم ، والثانية «تذكرة» لهم ، ونعلم أنّ «التذكر» من مقدّمات «الهداية» ، ولهذا عندما وصل عدد من المفسرين إلى هذه الآية أرجعوا الحديث فيها إلى نفس الحديث في بداية سورة البقرة.

وعلى أيّة حال ، فإنّ هذه الآيات شاهد ناطق على دور التقوى كممهّد للمعرفة والهداية.

* *

وقد وضحت الآية الثانية علاقة التقوى بالمعرفة توضيحاً أكثر من الآية السابقة وصرحت : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا انْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَّكُمْ فُرْقَاناً).

إنَ «الفرقان» ـ كما يقول بعض أئمة اللغة ـ : (اسم مصدر) ، وادعى بعض آخر (مصدر) إلّاأنّ أغلب المفسرين يصرحون بأن له ـ في موارد كهذا المورد ـ معنى فاعلياً مقروناً بالتأكيد (أشبه ما يكون بمفهوم صيغة المبالغة) ، ومعناه الشيء الذي يفرق بين الحق والباطل ، وله مفهوم واسع يشمل القرآن المجيد ومعجزات الأنبياء والأدلة العقلية الواضحة وشرح الصدر والتوفيق والنورانية الباطنية وغير ذلك (١).

وبهذا ، فالقرآن يقول بأنّ «التقوى» هي الأرضية التي تعد للمعرفة والتي يمكن الاستدلال بها تماماً في بعض المراحل ، وتنطوي في المراحل الاخرى ضمن الامدادات الإلهيّة المعنوية.

سمى القرآن المجيد يوم معركة بدر «يوم الفرقان» ، وذلك من حيث إنّه يوم شهد آيات الله البارزة تؤيد جند الإسلام ضد جند الشرك ، فبالرغم من عِدَّة وعدد المشركين الذي يقدر بثلاثة أضعاف عدد المسلمين ، تحملوا ضربات قاسية من المسلمين لم يتوقعها أحد.

__________________

(١). راجع المفردات ، وكتاب العين ، ولسان العرب ، ومجمع البحرين ، والميزان ، والكشاف في ذيل الآية نفسها.

٣٤٤

إضافة إلى هذا ، فإنّ معركة بدر كانت أول مواجهة مسلحة بين المسلمين والمشركين انفصلت بها صفوف المسلمين عن المشركين ، ولذا سميت ب «يوم الفرقان».

وينبغي الالتفات إلى أنّ «فرقاناً» جاءت بصيغة نكرة ومطلقة ، فدلّت على عظمة ذلك النور الإلهي وعلى سعته ، بحيث يشمل المسائل الاعتقادية والعملية وكل ابداء رأي تجاه امور الحياة المهمّة ، وعلى هذا ، فثمرة شجرة التقوى هي الولوج في كل خير وبركة والابتعاد عن كل شرٍّ وفساد.

يقول الفخر الرازي في شرحه لهذه الآية : بما أنّ لفظ الفرقان مطلق فينبغي حمله على كل ما يفرق المؤمنين عن الكافرين ، فهذا الفرقان إمّا في أحوال الدنيا وإمّا في أحوال الآخرة ، والذي يتعلق بأحوال الدنيا إما أنّه يتعلق بالقلب وهي الاحوال الباطنة أو في الأحوال الظاهرة ، فبالنسبة للقلب والباطن فالله يهدي قلوب المؤمنين ويلقي فيها المعرفة ويشرح صدورهم ويمحو عنها الحقد والحسد والبغض والعداوة ، بينما يمتليء قلب المنافق والكافر من هذه الرذائل والصفات السيئة ، لأنّ القلب إذا تنور بنور الإيمان زالت ظلمات هذه الرذائل عنه ، أمّا الذي يتعلق بالظاهر ، فالله ينصر المسلمين ويفتح لهم ويمنحهم الرفعة (١).

* *

والآية الثالثة التي هي جزء صغير من أطول آية ، أي بعد أن بيّنت عدداً من الأوامر الإلهيّة قالت : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ). (البقرة / ٢٨٢)

يقول القرطبي في تفسيره :

«إنّه وعدٌ من الله تعالى بأنّ من اتقاه علّمه ، أي يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يُلقى إليه ، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقاناً ، أي فصلاً يفصل به بين الحق والباطل» (٢).

__________________

(١). التفسير الكبير ، ج ١٥ ، ص ١٥٣ (بتلخيص).

(٢). تفسير القرطبي ، ج ٣ ، ص ٤٠٦.

٣٤٥

إنّ هذا الحديث لا يعني ترك كسب العلم ، والاكتفاء بتهذيب النفس ـ كما يقول بعض الصوفية وأشخاص منحرفون ـ بل المراد هو أنّ التقوى تهييء الأرضية لكسب العلم الحقيقي أشبه ما يكون بالأرض الخصبة والمُعدَّة لبذر البذور.

صحيح أنّ جملة «اتقوا الله» ليست شرطاً وأن جملة «يعلمكم الله» ليست جزاء لها (ولهذا أنكر البعض العلاقة بين التقوى والعلم المستفادة من هذه الآية) ، لكن ممّا لا شك فيه هو أن اقتران أحدهما بالآخر لم يكن اعتباطاً ، بل هو تلميح إلى العلاقة الموجودة بين هذين الاثنين ، وإلّا فيعرض انسجام الآية للسؤال.

* *

إنّ رابع وآخر آية بيّنت العلاقة بين التقوى والمعرفة بوضوح ، فبينت ثلاثة أجور للذين يتقون الله ويؤمنون برسوله.

الأول يؤتيهم الله كفلَيْنِ أو نصيبين من رحمته ، نَصيباً لإيمانهم ونصيباً لتقواهم ، أو نَصيباً لأجل إيمانهم بالأنبياء السالفين ونصيباً لأجل إيمانهم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالرغم من أنّ المخاطبين في الآية مؤمنون إلّاأنّ الله يأمرهم أن يؤمنوا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أنّ شأن نزول الآية يبيّن أنّها بصدد فريق من نَصارى الحبشة الذين سمعوا القرآن وآمنوا بنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

والثاني : هو جعل الله لهم نوراً ـ لأجل ايمانهم وتقواهم ـ يهتدون به في صراطهم : (وَيَجْعَلْ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ).

وبالرغم من أنّ البعض أراد تقييد مفهوم الآية والقول بأنّ النور الذي ذُكِرَ فيها إشارة إلى النور الذي يسعى بين أيدي المؤمنين وبإيمانهم في يوم القيامة (كما تشير إلى ذلك الآية ١٢ من سورة الحديد : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَينَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم). (الحديد / ١٢)

لكن لا دليل لهم على هذا التقييد ، بل إنّ مفهومها ـ وكما يقول صاحب الميزان ـ واسع

__________________

(١) «الكِفْل» ما يعيل الإنسان ويرفع حاجته ، ويعتقد البعض أنّ هذه المفردة حبشية دخيلة على العربية.

٣٤٦

يشمل الأنوار الإلهيّة كلها في الدنيا والآخرة ، وعلى هذا فتكون الآية شاهداً على العلاقة بين «التقوى» و «المعرفة».

أمّا الأخير فهو : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وهذا كله لأجل إيمانهم وتقواهم.

توضيحات

١ ـ علاقة العلم بالتقوى في الروايات الإسلامية

وفي الروايات الإسلامية أيضاً تمّ بيان مدى تأثير التقوى على مسألة العلم ، هذه الروايات تبيّن بوضوح أنّ تطهير القلب والروح بالتقوى يعد الأرضية لتلقي المعارف الإلهيّة.

نذكر هنا الأحاديث التالية كنماذج لما جاء في الروايات الإسلامية :

ونقرأ في حديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال :

«من غرس أشجار التقى جنى ثمار الهدى» (١).

٢ ـ وجاء أيضاً في احدى خطب نهج البلاغة أنّه عليه‌السلام قال :

«أمّا بعد فانّي أُوصيكم بتقوى الله .. فإنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم وبصر عمى افئدتكم وشفاء مرض أجسادكم وصلاح فساد صدوركم وطهور دنس أنفسكم وجلاء عشا أبصاركم» (٢).

٣ ـ وفي حديث عنه أيضاً أنّه عليه‌السلام قال :

«للمتقي هدىً في رشاد وتحرّج عن فساد» (٣).

٤ ـ ونقرأ أيضاً في نهج البلاغة أنّه عليه‌السلام قال :

__________________

(١) غرر الحكم.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ١٩٨.

(٣) غررر الحكم.

٣٤٧

«اين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى والأبصار اللامحة إلى منار التقوى» (١).

٥ ـ ونختم حديثنا بحديث ذي معنى عميق عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال : جاء في وصيّة الخضر لموسى عليه‌السلام : «يا موسى وطِّن نفسك على الصبر تلق الحلم واشعر قلبك التقوى تنل العلم وَرَضّ (روّض) نفسك على الصبر تخلص من الإثم» (٢).

٢ ـ كيفية الارتباط بين ينابيع العلم والتقوى؟

ما هو تأثير التقوى واجتناب الذنوب وترك التلوث بها على مسألة المعرفة؟ وبتعبير آخر : ما هي العلاقة المنطقية بين العلم والأخلاق؟

في الحقيقة أنّ لهذين الاثنين علاقة تقارب قوية ، وأي علاقة أقرب وأوثق من العلاقة المتبادلة بين هذين الاثنين؟ فالتقوى ينبوع العلم ، كما أنّ العلم ينبوع التقوى ، وليس هذا بأمر طبيعي فحسب بل إنّه أصل أساسي للسير في طريق المعرفة.

فيمكن الاستدلال على تأثير التقوى على العلم بالطرق التالية :

أ) إنّ السنخية والتنسيق تسببان الجاذبية والإرتباط دائماً.

فعندما تتطهر روح الإنسان وتزكى بالتقوى تحصل جاذبية قوية بينها وبين المعارف والعلوم الحقيقية «فالسنخية تبعث على الإرتباط العجيب».

ب) إنّ منجل التقوى يحصد جميع الأشواك من مزرعة روح الإنسان ، ويُعدّ القلب وبهيئه لنمو بذور العلم والمعرفة ، بل إذا دققنا النظر فإنّ بذور العلوم جميعها قد بذرها الله في هذه المزرعة ، والمهم في الأمر هو حصد الأعشاب المزاحمة وإرواء المزرعة.

وقد جاء في حديث للمسيح عليه‌السلام مخاطباً فيه أنصاره قائلاً :

«ليس العلم في السماء فينزل اليكم ، ولا في تخوم الأرض فيصعد عليكم ، ولكن العلم

__________________

(١). نهج البلاغة ، خطبة ١٤٤.

(٢). منية المريد للشهيد الثاني (ينقل عن بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ٢٢٧).

٣٤٨

مجبول في قلوبكم مركوز في طبائِعكم ، تخلقوا باخلاق الروحانيين يظهر لكم» (١).

ج) نعلم أنّه لا وجود للبخل والحسد في مبدأ عالم الوجود ، وعلى ما جاء في الآية : (وَانْ مِّنْ شَىْءٍ الَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ الَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُوْمٍ). (الحجر / ٢١)

فإنّ خزائن النعم غير المتناهية عند الله ، ما ينقصه زيادة كرمه وكثرته شيئاً ، بل إنّ جوده وكرمه يتجلّى أكثر «وَلا يَزِيدُهُ كَثْرَةُ العَطاءِ إلّاجُوداً وَكَرَما».

وعليه ، فإنّ الحرمان سببه عدم أهلية الأشخاص ، إنّ التقوى تجعل الإنسان أهلاً للفيض الإلهي ، وأي فيضٍ أرفع شأناً من المعارف والعلوم الإلهيّة؟

إنّ القلوب كالأوعية كما يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنَّ هذِهِ الْقُلُوب أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُها أوعاها» (٢) والمهم هو أنّ نوسع هذه الأوعية ، وأن لا تكون مقلوبة لا تسع ولو لقطرة واحدة ، وهذا الأمر ممكن في ظل التقوى.

أمّا التأثير المتبادل بين العلم والتقوى : فهو أنّ العلم الحقيقي يمحو جذور الرذائل الأخلاقية وينابيع الإثم والذنب ، ويمثل أمامه عواقب الامور ، وهذه المعرفة تعين الإنسان على تبلور التقوى في قلبه وعلى ابتعاده عن الإثم ، ويتضح من هنا أنّ العلم ينبوع للتقوى ، كما أنّ التقوى ينبوع للعلم ، غاية الأمر أنّ مرحلة من التقوى تسبب مرحلة من العلم ، وتلك المرحلة من العلم تسبب مرحلة أرفع من التقوى ، وعلى هذا المنوال فإنّ كلاً منهما يوثر في الآخر تأثيراً متبادلاً ، وقد تكون الآية : مشيرةً إلى هذه النقطة :

(انَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ). (الاعراف / ٢٠)

أي أنّ التقوى تكون في البداية ، ثم التذكر ، ثم البصيرة ، والنتيجة هي النجاة من وساوس الشياطين.

* *

__________________

(١). تفسير الصراط المستقيم ، ج ١ ، ص ٢٦٧.

(٢). نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ١٤٧.

٣٤٩

٣ ـ استغلال العلاقة بين «العلم» و «التقوى»

بالرغم من أنّ علاقة المعرفة بالتقوى علاقة لا يمكن انكارها ، سواء من وجهة نظر القرآن المجيد ، أو من وجهة نظر الدليل والعقل (وقد بينا ذلك بالتفصيل) ، إلَّا أن هذا الحديث لا يعني ترك طرق كسب العلم والمعرفة المتعارفة ، والاستغناء بتهذيب النفس بحجّة أنّ تهذيب النفس سيقذف العلم والمعرفة في صدورنا كما ظن ذلك عدد من الصوفية الذين اتخذوا هذه المسألة حجة لمقارعة المعرفة وكسب العلم وظلوا في جهل دامس.

إنّ الإسلام أوجب كسب العلم بدرجة حيث اعتبر الحضور في مجلس العلم كالحضور في روضة من رياض الجنّة : «مجلس العلم روضةٌ من رياض الجنة».

كما عدَّ النظر إلى وجه العالم عبادة : «النظر إلى وجه العالم عبادة» (١) ، وكل خطوة يخطوها في سبيل العلم فهي خطوة نحو الجنة (٢).

وقد عدَّ مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء (٣).

وحفظ الحديث وكتابته من الفضائل العظيمة (٤).

ويدعو الإسلام ـ من جهة اخرى ـ إلى تهذيب النفس وتزكيتها لأجل تهيئتها لقبول المعارف والعلوم الإلهيّة.

وعلى هذا ، فأولئك الذين تركوا طلب العلم وأوصوا زملاءهم وأتباعهم بتركه ، والتوجه إلى تصفية الباطن وتزكيتها على خطأٍ ، لأنّ التزكية هذه غالباً ما تنحرف عن جادة الصواب بسبب عدم اقترانها بالعلم والمعرفة ، وكذلك أولئك الذين انهمكوا في كسب العلوم الرسمية وأهملوا تهذيب النفس ، فانهم في ضلالة ، نعم ينبغي السعي نحو كليهما.

* *

__________________

(١). غرر الحكم.

(٢). بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١٦٤.

(٣). المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٤.

(٤). المحجة البيضاء ، ج ١ ، ص ١٥.

٣٥٠

٢ ـ الإيمان والمعرفة

تمهيد :

إنّ روح الإيمان هي التسليم للحق والخضوع أمام الحقائق ، وبما أنّ أكبر حقيقة في عالم الوجود هي ذات الله المقدّسة ، فإنّ روح الإيمان تتمحور حول التوحيد ومعرفة الله.

إنّ الإيمان يفسح المجال أمام عقل الإنسان لأنّ يدرك الحقائق كما هي حقاً ، سواء كانت مرّة أو حلوة ، وسواء كانت ملائمة لمزاجه وطبعه أم لا.

إنّ معلومات أولئك الذين لم يسلموا للحق هي تصوّرٌ وتمثلٌّ لرغباتهم وأهوائهم ، لا لنفس الحقائق الموجودة في الخارج ، أنّهم يرون الدنيا بالشكل الذي يرغبون فيه ، ولا يرونها بشكلها الواقعي.

وبهذا التمهيد تتضح علاقة الإيمان بالمعرفة اجمالاً ، ونتأمل الآن خاشعين في آيات القرآن في هذا المجال :

١ ـ (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِى بِهِ فِى النَّاسِ كَمَنْ مَّثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجِ مِّنْهَا ...). (الأنعام / ١٢٢)

٢ ـ (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّنْ فَوقِهِ مَوْجٌ مِّنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ اذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُّورٍ). (النور / ٤٠)

٣ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ورُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ اجْرُهُمْ وَنُورُهُم ...). (الحديد / ١٩)

٤ ـ (افَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّنْ رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ). (الزمر / ٢٢)

* *

٣٥١

جمع الآيات وتفسيرها

تأثير الإيمان على الرؤية الصحيحة :

تحدثت الآية الاولى عمّن كانوا موتى ثمّ أحياهم الله وجعل لهم نوراً يهتدون به في الطريق.

والمراد من الموت والحياة هنا هو الإيمان بعد الكفر ، كما جاء ذلك في الآية : (يَا أَيُّهُا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ اذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ). (الانفال / ٢٤)

وعلى هذا فالحياة هي حياة الإيمان الحقيقي والصادق ، الحياة المقترنة بالنور والضياء والمعرفة.

والجانب المقابل لجانب الأحياء ، هو جانب أولئك الذين ضلوا في ظلمات الكفر ولم يخرجوا منها أبداً (كَمَنْ مَّثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا).

يعتقد كثير من المفسرين أنّ هذا النور هو نور القرآن ، وقد فسّره بعضهم بنور الدين ، وبعضهم بنور الحكمة (١) ، وقد أضاف البعض على ذلك نور الطاعة (٢) ، لكن المسلم أنّ لهذا النور مفهوماً واسعاً يشمل جميع أنواع المعرفة ، ومن البديهي أنّ مراد القرآن هو اكمل مصاديقه.

إنّ التعبير بـ «يمشي به في الناس» يتناسب كثيراً مع الحياة الاجتماعية في الدنيا ، كما يكشف عن أن «الإيمان» يَعِدُّ أرضية «المعرفة» في قلب الإنسان ويحول دون ارتكاب الأخطاء في الحياة الدنيا.

* *

وقد شبهت الآية الثانية غير المؤمنين (أو أعمالهم) بظلمات أعماق بحرٍ لُجّي تتلاطم الأمواج على سطحه ، وسمائه ملبدة بالغيوم بحيث إذا أخرج شخص يده لم يكد يراها أحد.

__________________

(١). التفسير الكبير ، ج ١٣ ، ص ١٧٢ ؛ تفسير القرطبي ، ج ٤ ، ص ٢١٤ ؛ تفسير المنار ، ج ٨ ، ص ٣٠.

(٢). تفسير روح الجنان ، ج ٥ ، ص ٥٠.

٣٥٢

وقد أكدت في النهاية : أنّ الذين لم يجعل الله لهم نوراً فمالهم من نور أبداً.

إنّ عبارات هذه الآية تثبت بوضوح أنّ الكفر وعدم الإيمان ظلمات ، وأنّ الإيمان والإسلام نور.

إنّ الأخطاء التي تصدر من غير المؤمنين ومن المنحرفين بدرجة من الكثرة بحيث يحارُ الناظر اليهم كيف أنّهم لا يكادون يرون حتى موضع أقدامهم؟! وكيف أنّهم لا يستطيعون تمييز ما ينفعهم عما يضرهم؟

حقاً أنّه لا ظلام أشدّ من الظلام الذي رسمته الآية ، فإنّ طبيعة أعماق البحار هي الظلام ، لأنّ نور الشمس لا ينفذ إلّا لمدى أقصاه سبعمائة متر ، وبعد ذلك لا شيء سوى الظلام الدامس ، هذا إذا لم يكن البحر لجياً ، وإلَّا فلا تنفذ أشعة الشمس إلّالمدى قريب جداً من سطح البحر ، وفضلاً عن هذا فإنّ الغيوم تمنع من وصول أشعة الشمس أساساً.

ويقول البعض : إنّ المراد من الظلمات الثلاثة في الآية هي ظلمات الكفار في الاعتقاد ، وظلماتهم في الكلام ، وظلماتهم في العمل.

ويعتقد بعض أنّ المراد منها هو : ظلمات القلب وظلمات الباصرة وظلمات السمع ، وأضاف بعض آخر : أنّ هذه الظلمات عبارة عن : أنّه لا يعلم ولا يعلم أنّه لا يعلم ، ويظن أنّه يعلم (١) ، ولكن لا منافاة بين هذه التفاسير ، ومفهوم الآية يسع جميع هذه التفاسير.

* *

والآية الثالثة ، بعدما وصفت المؤمنين بـ «الصديقين» و «الشهداء» أضافت : «لهم أجرهم ونورهم».

إنّ «الصدّيق» صيغة مبالغة لصادق ، وتعني كثير الصدق ، ويقول البعض : إنّها تعني الشخص الذي لم يصدر منه كذب أبداً ، ويعتقد بعض آخر : إنّها تعني الذي اعتاد على الصدق بحيث يمتنع عليه الكذب عادةً ، وبتعبير آخر : حصلت له طبيعة ثانوية على أساس الصدق وعدم الكذب.

__________________

(١). التفسير الكبير ، ج ٢٤ ، ص ٨.

٣٥٣

ويقول البعض : إنّها تعني الشخص الصادق في اعتقاده وكلامه ، يكشف سلوكه عن صدق اعتقاده (١).

وتجتمع جميع هذه المعاني في القول بأنّها صيغة مبالغة لصادق ، لأنّ المفهوم آنذاك يكون شاملاً لجميع المعاني المتقدمة ، وعلى هذا فالمسلم أنّ المراد ليس جميع المؤمنين بل المؤمنون أصحاب الدرجات الرفيعة في ايمانهم.

أمّا «الشهداء» فقد يكون المراد من ذلك هو أنّ المؤمنين الصديقين لهم أجر كأجر الشهداء ، كما جاء ذلك في حديث للإمام الصادق عليه‌السلام عندما جاءه شخص يطلب الدعاء له بالشهادة ، فاجابه الإمام عليه‌السلام : «إنّ المؤمن شهيد» ثم تلا الآية : (وَالَّذِيْنَ آمَنُوا ...) (٢).

كما يحتمل أن يكون المراد من الشهداء ، هو الشهداء على أعمال الناس ، لأنّ المستشفَّ من آيات عديدة هو أن فريقاً من المؤمنين (الأنبياء والأئمّة) يشهدون على الأمم.

ولا يبعد الجمع بين هذين المعنيين (٣).

إنّ «الأجر» في عبارة «لهم أجرهم ونورهم» تعني جزاء الأعمال ، أمّا «النور» ففسّرَه البعض بأنّه النور الذي يسعى بين أيدي المؤمنين الذي يفتح الطريق نحو الجنة يوم القيامة ، إلَّا أنّه لا دليل على هذا التحديد ، وقد جاء هنا مطلقاً ، فينبغي القول بعمومية مفهومه وشموله للنور الذي يجعله الله للمؤمنين في الدنيا كما يشمل النور الذي يهتدي به المؤمنون إلى الجنة يوم القيامة (٤).

__________________

(١). المفردات ومجمع البحرين مادة (صدق) ، تفسير الميزان ، ج ١٩ ، ص ١٨٦ ؛ تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ١٧٤ ؛ تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٣٦.

(٢). تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٣٨.

(٣). احتمل البعض أنّ جملة (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ليست عطفاً على الجملة التي سبقتها ، وأنّها جملة مستقلة مركبة من مبتدأ وخبر ، إلّاأنّ هذا الاحتمال بعيد جدّاً.

(٤). الظاهر من تعبير بعض المفسرين أن الضمائر في جميع هذه الجمل ترجع إلى المؤمنين ، بينما يصرح صاحب الميزان بأنّ الضمير في «لهم» يرجع إلى «الذين آمنوا» والضميرين الآخرين يرجعان إلى «الصديقين» و «الشهداء» ، أي أولئك الذين لهم أجر الصديقين والشهداء ولهم نورهم ، إلّاأنّ هذا الاحتمال بعيد.

٣٥٤

وقد طرحت الآية الرابعة والأخيرة استفهاماً تقريرياً قائلة : (افَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّنْ رَّبِّهِ)؟ وهذا دليل واضح على أنّ قبول الإيمان متزامن ومقترن مع شرح الصدر ، وشرح الصدر أرضية خصبة للنور الإلهي ، النور الذي يضيء العالم أمام أعين المؤمن ، ويكشف له حقائقه كما هي.

إنّ المراد من «شرح الصدر» هو اتساع الروح إلى درجة تكون مستعدة لاستيعاب حقائق كثيرة ، وما يقابل شرح الصدر هو «ضيق الصدر» أي تضيق الروح بدرجة لا تتمكن من استيعاب شيءٍ من الحقائق ، وبتعبير آخر : إنّ شرح الصدر هو اتساع وعظمة الروح الذي يُعَدُّ الإرتباط بالذات اللامتناهية أحد عوامله ، نعم إنّ الروح التي تتخذ صبغة الله وتتسع تكون أهلاً لقبول العلوم والمعارف الإلهيّة.

إنّها لا تتسع فحسب ، بل تلين وتختصب وتتهيء لنثر بذور المعرفة فيها ، ولهذا صرحت الآية في النهاية : (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّنْ ذِكْرِ الله).

* *

توضيح

علاقة الإيمان بالعلم في الروايات الإسلامية :

١ ـ جاء في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ المؤمن ينظر بنور الله» (١) فطلب أحد الصحابه بيان معنى الحديث فقال عليه‌السلام : «هذا إنّما هو لأجل أنّ الله تعالى قد خلق المؤمن من نوره واحاطه برحمته».

٢ ـ ونقرأ في حديث آخر عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :

«اتقوا فراسة المؤمن فانّهُ ينظر بنور الله ثم تلا : إنّ في ذلك للمتوسمين» (٢).

٣ ـ وفي رواية اخرى عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام عن آبائه الكرام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١). بحار الأنور ، ج ٦٤ ، ص ٧٤ ، ح ٢.

(٢). المصدر السابق ، ح ٤.

٣٥٥

قال : «إيّاكم وفراسة المؤمن فانّه ينظر بنور الله تعالى» (١).

٤ ـ ونجد أنّ هذه الأمثال اتخذت أهميةً كبرى كما هو المشاهد في بعض الروايات حيث ينقل نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «اتقوا ظنون المؤمنين فإنّ الله سبحانه جعل الحق على السنتهم» (٢).

٥ ـ وجاء عنه عليه‌السلام في نهج البلاغة أيضاً أنّه قال : «وبالصالح يستدل على الإيمان وبالإيمان يعمر العلم» (٣).

٦ ـ ونختم البحث بحديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام يقول فيه : «ما من مؤمن إلّاوله فراسة ينظر بنور الله على قدر إيمانه» (٤).

وكما قلنا في بداية البحث ، فإنّ الإيمان الصادق يجعل الإنسان عاشقاً للحق والحقيقة ومذعناً أمام الواقعيات والحقائق ، وبهذا تتحرر روح الإنسان من جميع القيود وتتهيأ لقبول جميع المعارف.

٣ ـ علاقة «الصبر والشكر» بـ «المعرفة»

في البداية نقرأ خاشعين الآيات الشريفة التالية :

١ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ الىَ النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِايَّامِ اللهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ). (ابراهيم / ٥)

٢ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ). (لقمان / ٣١)

٣ ـ (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ

__________________

(١). بحار الانوار ، ج ٦٤ ، ص ٧٥ ، ح ٨.

(٢). نهج البلاغة الكلمات القصار ، الكلمة رقم ٣٠٩.

(٣). نهج البلاغة ، خطبة ١٥٦.

(٤). عيون الأخبار ، ج ٢ ، ص ٢٠٠ (ينقله عن كتاب الحياة ، ص ٩٢).

٣٥٦

وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ). (سبأ / ١٩)

٤ ـ (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ* انْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَضْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ). (الشورى / ٣٢ ـ ٣٣)

* *

جمع الآيات وتفسيرها

السير في الآفاق والأنفس مع الصابرين :

تحدثت الآية الاولى عن «بني اسرائيل» ، حيث بُعثَ فيهم موسى عليه‌السلام بمعاجز وآيات إلهية واضحة ، وكان موظَّفاً بأن يخرجهم من ظلمات الشرك والكفر والفساد إلى نور التوحيد الذي هو ينبوع جميع البركات والخيرات ، ولأن يذكرهم بأيام الله ، ثم قالت الآية في النهاية : (إنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ).

ما المراد من أيام الله؟

هناك بحث بين المفسرين في هذا المجال ، فمنهم من فسرها بالنِّعَم والابتلاءات الإلهيّة (١) ، ومنهم من فسرها بأيام انتصار الرسل والأمم الصالحة ، ومنه مَنْ اعتبرها إشارة إلى أيّام عذاب الأقوام الطاغية والعاصية والظاهر عدم التعارض للأيّام بين هذه التفاسير لأنّها كلها من «أيّام الله».

إنّ معناها الواضح ، واضافتها إلى الله «اضافة تشريفية» ، والمراد منها هو جميع الأيّام المهمّة من حيث أهميّتها البالغة ، أو من حيث إنّ فيها نعمة إلهية شملت أقواماً صالحين كالانتصارات العظيمة على جند الشرك والظلم ، وكالنجاة من الظَّلَمَة والطواغيت وكالموفقية لأداء الجهاد أو فريضة عظيمة اخرى.

أو من حيث شمول عذاب الله ونقمته لأقوام عصاة وهلاكهم ، أو شمول نبذة من العقاب الإلهي لهم ليستيقظوا من غفلتهم ويعوا ، كل هذه هي «أيّام الله» وداخلة في مفهومها الواسع.

__________________

(١). لقد جاء هذا التفسير في عدد من الاحاديث النبوية. تفسير الميزان ، ج ٥ ، ص ١٥ و ١٦ ؛ تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٥٢٦.

٣٥٧

أما سبب كون هذه الآيات عبرة للصابرين والشاكرين فقط دون غيرهم (ينبغي الالتفات هنا إلى أنّ «صبور» و «شكور» صيغةٌ مبالغةٌ ، الاولى تعني كثير الصبر والثانية كثير الشكر) ، فذلك لأجل أنّ دراسة دقائق هذه الحوادث وجذورها من جهة ، ونتائجها من جهة اخرى يحتاج إلى صبر وتأنٍ.

إضافة إلى هذا ، فانّه لا يستفيد من هذه الحوادث إلّاأولئك الذين يقدِّرون نعَم اللهِ ويشكرونه عليها ، وعلى هذا ، فالصبر والشكر أرضيتان ملائمتان للمعرفة والعلم.

كما يحتمل أن يكون تقارن الصبر مع الشكر لأجل أنّ هؤلاء مجهزون بالصبر عند المصائب ، وبالشكر عند النِعَم ، وعلى هذا فلا يركعون أمام المصائب ، ولا يغترون عند نزول النِعَم ، فلا يضِلون أنفسهم على أيّة حال ، فهم مؤهلون لتقبل المعرفة وأخذ العِبَر والدروس من هذه الحوادث العظيمة.

في الآية الثانية والرابعة جاءت هذه العبارة : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَآياتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ) ، وقد ذُكِرَت بعد التعرض لحركة السفن في البحار والمحيطات التي تتم بايعاز من الله وبالاستعانة بالرياح فتطوي المسافات البعيدة وتصل إلى مقاصدها بسرعة.

بديهي أنّ هذا الموضوع هو إحدى آيات الله التكوينية ، وآية من آيات النظام الإلهي وقدرة الله.

لكن هل يا ترى يكون استثمار هذه الآيات الإلهيّة الموجودة في عالم الوجود وحتى الكامنة في هبوب الرياح ممكناً للجميع ، أو أنّه خاص بأُولئك الذين يدرسون ويتابعون نظام الخلق العجيب بدقة وصبرٍ وتأنٍ إلى المستوى الذي يتيح لهم العلم البشري فرصةَ الاستثمار ، ومن جهة اخرى فإنّ الدافع نحو «شكر المُنعِمِ» نفسه عامل للسعي والحركة في طريق المعرفة.

يقول «القرطبي» في تفسيره :

«والآية : العلامة ، والعلامة لا تتبين في صدر كل مؤمن إنّما تتبين لمن صبر على البلاء وشكر على الرخاء» (١).

__________________

(١). تفسير القرطبي ، ج ١٤ ، ص ٧٩.

٣٥٨

وقد جاء في تفسير «روح البيان» :

«مبالغ في الصبر على المشاق فيتعب نفسه في التفكر في النفس والآفاق» (١).

والجميل هنا هو أنّ الهواء الذي يحيط بالكرة الأرضية من ألطف الموجودات ، وبالرغم من ذلك فهو عندما يتحرك ويتنقل فانه لا يحرك السفن العظيمة في البحار فحسب ، بل كذلك الغيوم التي تُعَدُّ ينابيعَ للغيث ، فيأخذ بها نحو الصحارى والأراضي الميتة فيحييها ، كمابانتقال الهواء الحار إلى المناطق الباردة والهواء البارد إلى المناطق الحارة تتهيأ الأراضي الميتة للحياة ، واضافة إلى هذا فإنّ الهواء يلقح النباتات كالزهور والأشجار ويحمل احياناً البذور فتُزرع في الأماكن التي تسقط فيها ، ألَمْ تكن هذه من آيات الله؟ ومن يمكنه استثمار هذه الآيات غير الصابرين والشاكرين؟

وقد جاء في حديث للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الإيمان نصفان نصفه صبر ونصفه شكر» (٢) وهذا الحديث تأكيد لما جاء في الآيات.

* *

وأخيراً فإنّ الآية الثالثة أشارت إلى قوم سبأ ، حيث شملهم التوفيق الإلهي فاستطاعوا أن يوجدوا سداً عظيماً بين الجبال في «اليمن» : وادخروا فيه الماء الكثير ، وتمكنوا من ايجاد بساتين كثيرة ، فغُمروا في النِعَم والفرح ، إلّاأنّهم سلكوا طريق كفران النعمة ، فتسلطت الأقوام المرفهة على الأقوام الضعيفة ظلماً وجوراً فَعَمَّ مساكنَهُم الخرابُ والدمار ، بحيث هلك الحرث والنسل لانفجار السد ، فتفككوا وتشتتوا بشكل حيث جعلهم الله أحاديث للآخرين (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) وأهلكهم جميعاً (وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ، ثم أضاف القرآن : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَآياتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ).

وذلك لأنّهم يستخلصون الدروس والعِبر بدقتهم وتأنيهم.

__________________

(١). تفسير روح البيان ، ج ٧ ، ص ٩٨.

(٢). تفسير مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٣٢٣ ؛ تفسير الكبير ، ج ٢٥ ، ص ١٦٢ ؛ تفسير المراغي ، ج ٢١ ، ص ٩٧ ؛ تفسيرالقرطبي ، ج ٥ ، ص ٣٥٧١ وتفاسير اخرى.

٣٥٩

ومن جهة فإنّ هذه الحقيقة تثبت ، وهي : أنّ بين الحياة والممات مسافة قصيرة جدّاً ، بحيث يمكنك البحث عن الممات في قلب الحياة ، فإنّ وفرة الماء التي سببت تقدم قوم سبأ وإزدهار بلادهم وتطور حضارتهم ، سبب هلاكهم يوماً ما!

ومن جهة اخرى فإنّ هذا يكشف عن شدة ضعف هذا الإنسان المغرور ، وذلك لأنّه يقال إنّ السدّ (الذي اطلق عليه سدّ مأرب) ، قد ثُقب بواسطة الجرذان الصحراوية ثقباً صغيراً في البداية ثم توسع الثقب إلى أن أدّى بالسدّ لأنّ ينهدم بالكامل ، وبهذا نرى أن جرذاناً صحراوية أبادت حضارة عظيمة.

ومن جهة ثالثة ، فإنّ المستكبرين من قوم سبأ الذين لم يَرُق لهم رؤية المستضعفين بقربهم ، وحسبوا أنّه ينبغي وجود فاصلة أو سد عظيم كسد مأرب بين أقلية الأشراف والأكثرية المستضعفة ، طلبوا من الله أن يبعد مدنهم عن مدن المستضعفين كي لا يتمكنوا من السفر مع المستكبرين ، ويبقى امتياز السفر خاصاً بهم (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) ، (سبأ / ١٩) إلّاأنّ الله فرقهم بشكل حيث لا هم بقوا ولا ظنونهم الباطلة.

ومن جهة رابعة ، فإنّ حياتهم المرفهة أغفلتهم عن ذكر الله ، وما صحوا إلّابعد أن انتهى كل شيء.

وعلى هذا ، فيمكننا بالتأمل والدقّة والاستعانة بالعقل أن نستشف آيات كثيرة من هذه القصة وهذا الحديث (١).

النتيجة :

إنّ المستشف من الآيات الأربع الماضية هو : أنّ كل من كان أدق وأكثر صبراً في دراسته لاسرار الخلق والحياة الاجتماعية ، ولكل من كان شاكراً للنعم ومستعيناً بوسائل المعرفة فإنّ له نصيباً أوفر وأكثر من المعرفة ، ولهذا كان الصبر والشكر أرضيتين ممهدتينِ للمعرفة.

* *

__________________

(١). ينبغي الالفتات إلى أنّ مفردة «أحاديث» التي جاءت في الآية ، منتهى الجموع وتكشف عن وجود أحاديث وقصص كثيرة في ماضي قوم سبأ لا قصة واحدة.

٣٦٠