نفحات القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-88-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٠

يقول الراغب في مفرداته) وقد فسر كثير من المفسرين الاسترهاب بالارهاب أي ايجاد الخوف والاضطراب ، والتعبير هذا يكشف بوضوح عن استعانتهم بوسائل الاعلام والتلقين إضافة إلى سحر (وغالباً ما يستعين السحرة بهذين الأمرين ، بل القسم الأعظم من موفقيتهم يرجع اليهما وإلى حسن القيام بهما).

وقد نقل أنّ مساحة المحل الذي عُدَّ لهذا الأمر كان ميلاً في ميل (١) ، كما نقل أيضاً أنّهم أعدوا جبلاً من الحبال والعصي التي تبدو وكأنّها أفاعي تسعى (٢).

ثم خاطب السحرة الناس بأقاويل مثل : أيها الناس ابتعدوا عن الساحة لكي لا تمسكم الأفاعي بضرر لأنّها خطرة ومخيفة! وأمثال هذه التعابير التي أُشير إليها في بعض التفاسير (٣) ، وقد تأثر بهم الناس كثيراً لأنّهم سحروا أعينهم وقلوبهم ، وبهذا ألقوا بحجبهم على حواس الناس وعلى عقولهم للحيلولة دون إدراك الحقائق والواقعيات.

* *

لقد كشفت الآية الرابعة عن احدى المؤامرات الاعلامية التي حاكها اليهود ضد الإسلام ، والتي كان هدفها تضعيف عقيدة المسلمين بالإسلام ، وقصتها : أنّ فريقاً منهم أسلموا وآمنوا ظاهراً في النهار وارتدوا عن الإسلام في الليل ، وعندما سئلوا عن سبب رجوعهم عن الإسلام قالوا : إنا لاحظنا صفات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من قريب فوجدناها لا تتطابق مع كتبنا الدينية وأحاديث علمائنا فرجعنا عنه.

إنّ هذه الحملة الاعلامية سببت في ارتداد قوم من المسلمين عن الإسلام ، إذ قالوا : إذا ارتدّ عن الإسلام أهل الكتاب الذين هم أفهم منّا ويعرفون القراءة والكتابة ، فلابدَّ وأنّ الدين باطل ولا أسس قوية له ، وبهذا استطاعوا أن يشوشوا على أفكار البسطاء من الناس

__________________

(١). تفسير روح المعاني ، ج ٩ ، ص ٢٢.

(٢). تفسير المنار ، وقد نقل هذا الحديث عن مفسر باسم ابن اسحاق ، ج ٩ ، ص ٦٦.

(٣). التفسير الكبير ، ج ١٤ ، ص ٢٠٣.

٣٢١

ويلقوا بحجاب فتنتهم على عقولهم.

إنّ مفردة «طائفة» في عبارة «وقالت طائفة» من مادة «طواف» وتعني فريقاً من الناس بشكل حلقة ، وكأنّهم يطوفون حول موضوع ما ، والمراد منها على ما يقول بعض المفسرين : هو الاثنا عشر يهودياً من يهود خيبر أو المدينة أو نجران ، حيث تألموا كثيراً عند تغير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، فحاكوا هذه المؤامرة (١).

إنّ التعبير بـ «وجه النهار» إشارة إلى بداية النهار لأنّ الوجه أول شيء يواجهه الإنسان ، وهو أشرف عضو ، بالطبع أنّ الآية حكت المسألة كاقتراح اقترحه البعض ولم تتكلم عن تنفيذ هذا الاقتراح ، إلّاأنّ القرائن أثبتت أنهم نفذوا مؤامرتهم بعد ما حاكوها ، وإلّا فيُستبعد أن يذكره القرآن باهتمام بالغ ، والآيات اللاحقة تحكي عن هذه الأهميّة.

لكننا نعلم على أيّة حال ، أنّ خطتهم الإعلامية هذه لم تترك أثراً ملحوظاً في قلوب المؤمنين الذين طهُرت قلوبهم.

* *

إنّ الآية الخامسة والأخيرة بيّنت كذلك جانباً من جوانب مقارعة موسى عليه‌السلام لفرعون ، فعندما اتّجهت الأنظار إلى موسى وكادت القلوب أن تهتدي والأفكار أن تُصحح ، قام فرعون بحملةٍ اعلامية شديدة سعياً منه لحرف الناس عن اتجاههم نحو دين موسى ، وقد انعكس في هذه الآية جانب من جوانب الاعلام الفرعوني المضلل.

اعتمد اعلامه في البداية على ذكر شرفه العائلي ونسبه ، وقال : «أنا خير من هذا الشخص مشيراً إلى موسى» الذي ينحدر من عائلة فقيرة حيث يعمل راعياً وعبداً من عبيد بنى اسرائيل.

وهو لا يملك قدراً من الفصاحة وأنا افصح منه.

وفضلاً عن ذلك «فلو لا القي عليه اسورة من ذهب» أي لِمَ لم يكن له سوار من ذهب

__________________

(١). التفسير الكبير ، ج ٨ ، ص ٨٥ ؛ تفسير روح المعاني ، ج ٣ ، ص ١٧٦ ؛ تفسير القرطبي ، ج ٢ ، ص ١٣٥٤.

٣٢٢

الذي كان يُعد علامة وبيان لشخصية صاحبه.

ثم انّه إذا كان صادقاً لِمَ لم يأتِ بملائكة معه كي تكون شاهداً وعلامة على صدق كلامه؟

وبهذه الحجج الأربع ادّعى بطلان نبوة موسى عليه‌السلام.

يقول القرآن في هذا المجال : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فأَطَاعُوهُ).

إنّ «استخف» من مادة «خفيف» والمراد منه هنا هو أنّ فرعون سعى لأنّ يستخف عقول قومه ، جاء في تفسير مجمع البيان : إنّ فرعون استخف عقول قومه فأطاعوه فيما دعاهم إليه لأنّه احتج عليهم بما ليس بدليل وهو قوله : أليس لي ملك مصر ... الخ (١) (واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لاغرابة فيه ؛ فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة ، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها ولا يعودون يبحثون عنها ؛ ويلقون في روعهم ما يشاؤون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة ، ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك ، ويلين قيادتهم ، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين) (٢).

والجدير بالذكر أنّ القرآن يقول في نهاية الآية : إنّهم أطاعوه واستسلموا لإعلامه ، وذلك لأنّهم مذنبون وفاسقون ، وهو يشير بذلك إلى أنّ المؤمن الهادف والواعي لا يكون عرضة لظاهرة غسل الأدمغة ، بل الفسق والذنوب هي التي تهيىء الأرضية لتقبل إعلام باطل كهذا.

وبتعبير آخر : فإنّ «النفس الامارة» من الداخل ، و «الوساوس الشيطانية» من الخارج يتعاضدان فيكتمان المعرفة عن الإنسان.

* *

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ، ص ٥١.

(٢). تفسير في ظلال القرآن ، ج ٧ ، ص ٣٤٠.

٣٢٣

توضيح :

الجوانب المتعددة للإعلام المضلل :

إنّ هذه القضية في عصرنا الحاضر أوضح من أن تبحث أو تُناقش ، كما أنّها لم تخفَ على الناس في العهود الغابرة.

إنّ الجبابرة الذين أرادوا فرض إرادتهم وحاكميتهم على الناس ، توسلوا بوسائل إعلامية مختلفة لغسل أدمغة الناس ، بدءً بالمكاتيب القديمة وانتهاءً بالمحاريب والمنابر ، وأخذاً برواة القصص والأساطير في المقاهي ، وانتهاءً بالكتب العلمية.

والخلاصة : إنّهم استعانوا بجميع الوسائل المضلِّلة للوصول إلى مآربهم ، من تحريف التاريخ ، وأشعار الشعراء ، وثناء المداحين ، ومراكز التقديس والاحترام عند الناس ، واختلاق الأساطير والكرامات والقيم غير الواقعية ، وغيرها من الوسائل ، فانّهم يستطيعون بوسائل الاعلام هذه أن يصوروا الشيطان ملكاً أو إنساناً محترماً ، وذلك كله من أجل الوصول إلى مآربهم.

وقد جاء في بعض التواريخ الإسلامية المعروفة أن طاعة أهل الشام لمعاوية بلغت درجة عجيبة ، وننقل هنا عبارة المسعودي في هذا المجال :

«لقد بلغ من أمرهم في إطاعتهم له أنّه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء» (١).

والقصة التالية قصة معروفة (وَلَوْ لَمْ تكن مرويّةً في كتب التاريخ لكان قبولها صعباً) ، حيث إنّ رجلاً من أهل الكوفة قدم دمشق راكباً جملاً في وقت كان أهل الشام يرجعون من صفين ، فرآه رجل دمشقي فقال له : إنّ هذه الناقة لي وأنت أخذتها مني في صفين ، فتنازعا فاشتكى الشامي عند معاوية (وكأنّها اتخذت صبغة سياسية) وجاء بخمسين شاهداً على أنّ هذه الناقة له ، فقضى له معاوية على أساس الشهود.

فصرخ الكوفي قائلاً لمعاوية : إنّ هذا جمل وليس ناقة (انثى الجمل) ، وطلب منه أن

__________________

(١). مروج الذهب ، ج ٢ ، ص ٧٢.

٣٢٤

يلاحظها بنفسه ، فأدرك معاوية صدق الكوفي فيما يقوله ، لكن رغم ذلك قال له : إنّ الحكم صدر وانقضى ، وبعد ما تفرّق الناس أرسل معاوية رجلاً إلى الكوفي ، فأتاه وأعطاه ضعف قيمة جمله ، وقال له : «أبلغ علياً أنّي اقابله بِمِائةِ ألفٍ ما فيهم من يُفرق بين الناقة والجمل» (١).

وخلاصة القول : إنّ في التاريخ شواهد ونماذج كثيرة تكشف عن كيفية إغواء الطغاة والساسة لأُمم عظيمة وغسل أدمغتهم بحيث ضلوا حَيارى في متاهات الدروب ، وابتلوا بمصائب كثيرة ، وعند استتباب الأوضاع ورجوعها إلى حالتها الطبيعية ، وعند سقوط الجبار المضل ، وارتفاع حجب الاعلام ، يستيقظ بعض الناس وينتبهون لماضيهم فيتأسفون ويندمون كثيراً.

وفي العصر الحاضر اكتسب الاعلام قدرة عظيمة بدرجة انَّ في بعض الدول المتقدمة ـ اصطلاحاً ـ تأخذ وسائل الاعلام بأيدِ الشخصيات العلمية والمفكرين الواعين نسبياًصناديق الاقتراع ليصوتوا للشخصيات التي تدعو إليها وسائل الاعلام تلك ، وقد يتصور أنّهم احرار على الاطلاق ، بينما لا خيار لهم من جراء وسائل الاعلام تلك.

إنّ اتساع وسائل الاعلام المسموعة والمرئية واستعانتها بفنون علم النفس يزيد في تأثير الاعلام على النفوس بدرجة يَحارُ فيها الخارجون عن دائرة الاعلام والمتمكّنون من متابعة الامور من دون رأي مسبق فيها.

إنّ هذا الأمر لم ينحصر في الامور السياسية فحسب ، بل في الامور الاقتصادية كذلك ، فإنّ وسائل الاعلام يمكنها بحملة إعلامية أن تسوق المجتمع نحو استهلاك سلعة قد تكون اعتباطية أو مضرة أحياناً ، وبهذا يُفرض على المجتمع اقتصادٌ سقيم.

إنّ الاستعانة بعناوين وقيم كاذبة مثل الاستعانة بعنوان «موديل» أحد أوسع وأعقد الطرق للوصول إلى هذه الأهداف غير المشروعة.

كما أنّه يستعان بالاعلام الثقافي الغامض لفرض المذاهب الفكرية المختلفة على الشعوب ، فتارة يُفرض مذهب باطل وعارٍ عن الاسس المنطقية ، وكأنه مذهب فلسفي منطقي إنساني.

__________________

(١). مروج الذهب ، ج ٢ ، ص ٧٢ ؛ الإمام علي صوت العدالة الإنسانية ، ج ٤ ، ص ٩٥٦.

٣٢٥

وعلى أيّة حال ، فمما لا شك فيه أنّه ينبغي رفع هذه الحجب عن المجتمع وتصحيح اتّجاه المعرفة فيه ، كما ينبغي عدم ترك وسائل الاعلام أن تفكر وتقرر بدلاً عن المجتمع ، بل يحدد عملها في توعية الناس ، وتهيئة الأرضية لهم لاتخاذ القرارات الصحيحة.

ينبغي أن لا يكون هدف وسائل الأعلام الجماعية هو وضع الحجب على عقول الناس والتعتيم عليهم ، بل ينبغي أن يكون الهدف هو رفع حجب التعصب والجهل والغفلة والتقليد العشوائي عن العقول ، وهذا هو البرنامج الراقي لوسائل الاعلام في مجتمع رشيد ونموذجي ، والمؤسف في عصرنا الحاضر هو قلة مثل هذه المجتمعات.

إنّ النقص في وسائل الاعلام هو أنّها بيد الساسة ، والأسوء من ذلك أنّها بيد العمالقة الاقتصاديين الذين يوجهون الناس أين ما شاءوا.

* *

٤ ـ حجاب وساوس الشياطين

في البداية نتمعن خاشعين في الآيات الشريفة التالية :

١ ـ (فَلَوْلَا اذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). (الأنعام / ٤٣)

٢ ـ (وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَايَهْتَدُونَ). (النمل / ٢٤)

٣ ـ (وَعَاداً وَثَمُودَا وَقَدْ تَّبَيَّنَ لَكُمْ مِّنْ مَّساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ). (العنكبوت / ٣٨)

٤ ـ (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَانَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُّهْتَدُونَ). (الزخرف / ٣٦ ـ ٣٧)

٥ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ الى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (الأنعام / ١١٢)

٦ ـ (انَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى ادْبَارِهِمْ مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ

٣٢٦

وَأَمْلَى لَهُمْ). (محمد / ٢٥)

٧ ـ (يَا ايُّهَا النَّاسُ انَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَاتَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ). (فاطر / ٥)

شرح المفردات :

كلمة «الشيطان» خلافاً لما يظنّ البعض ـ ليس اسماً خاصاً بابليس وعلماً له ، بل له مفهوم عام ، وعلى ما يُصطلح عليه فهو «اسم جنس» يشمل كل موجود متمرد وباغ ومخرّب ، سواء كان من الجن أو الانس أو شيئاً آخر.

وهنالك قولان في أصل هذه المفردة :

القول الأول هو القائل بأنه من مفردة «شُطُون» أي البُعد ، ولهذا قيل للبئر العميق والبعيد قعره عن متناول الأيدي «شَطون» ، ويقول «خليل بن أحمد» : إنّ شَطَن تعني الحبل الطويل ، وبما أنّ الشيطان بعيد عن الحق وعن رحمة الله استعملت هذه المفردة فيه.

والقول الثاني هو القائل بأنه من مادة «شَيْط» ويعني الالتهاب والاحتراق غضباً ، وبما أنّ الشيطان خلق من نار واشتعل غضباً عندما أُمر بالسجود إلى آدم عليه‌السلام أطلقت هذه المفردة عليه وعلى الموجودات الاخرى من أمثاله (١).

«الغَرور» : من مادة «غُرور» أي الخدعة والحيلة والغفلة عند اليقظة ، وقد اطلقت هذه المفردة على الشيطان لأنّه يغرّ الناس بخدَعِه وحِيَله ويخرجهم عن الطريق الصواب ، ويغيّر رؤيتهم للحق والباطل.

«الغَرور» : كل شيء يغرّ ويخدع ، وهو أعمّ من المال والمقام والشهوة والشيطان ، وإذا فسّر أحياناً بالشيطان فقط فذلك لأنّه أخبث الخادعين والماكرين.

أمّا «التسويل» فمن مادة «سُؤْلَ» وفي الأصل يعني الحاجة والامنية التي ترغب النفس

__________________

(١). التحقيق في كلمات القرآن الحكيم ؛ مفردات الراغب ؛ لسان العرب ومجمع البحرين مادة (شيطان).

٣٢٧

فيها ، والتسويل يعني تزيين الشيء بشكل حيث تشتاق إليه النفس ، كما جاء بمعنى تزيين الأشياء القبيحة.

هذا التفسير ذكره الراغب في مفرداته ، إلَّاأنّه يستفاد من صِحاح اللغة وكتاب العين ، أن معناها في الأصل هو الاسترخاء المتزامن مع الغرور والغفلة ، ولهذا اطلقت هذه المفردة على تزيين الامور غير السائغة واظهار عكس ما هي عليه وبشكل سائغ ، بحيث يُخدع الإنسان من جرائها ويسترخي.

وعلى أيّة حال ، فإنّ المراد من تسويلات الشيطان في الآيات هو إظهار القبح حسناً بشكل يخدع الإنسان ويحرفه.

جمع الآيات وتفسيرها

كيف يُزيّن الباطل؟ وكيف تُسحر العيون؟

تحدثت الآية الاولى عن فريق من الأقوام السالفة الذين أُرسل إليهم رسلٌ ليؤمنوا ويسلموا أنفسهم للحق ، إلّاأنّهم اعرضوا عن ذلك ، فأنزل الله عليهم بأسه ، فابتلاهم بمختلف المشاكل والمصائب والحوادث الصعبة ، والفقر والمرض والقحط وغير ذلك ، كي يوقظهم من غفلتهم ، ولكي يخضعوا للحق ، إلّاأنّهم اتخذوا السبيل المنحرف بدل سبيل الرشاد والرجوع إلى الحق والتوبة.

يقول القرآن في هذا المجال : لماذا لم يتضرعوا بالرغم من مجيء بأسنا لهم؟ ثم يعدُّ أسباب هذا الأمر ويقول : الأول هو (قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فما كادت تخضع للحق.

والثاني هو : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، بحيث أصبحوا يرون المعاصي صواباً والقبح جمالاً ، وقد نفذ الشيطان هنا من طريق عبادة الهوى.

وبتعبير آخر : لم تؤثر فيهم لا مواعظ الأنبياء اللفظية ، ولا مواعظ الله العملية والتكوينية ، وعامل هذا الحجاب هو قسوة القلوب من جهة ، ومن جهة اخرى تزيين الشيطان لهم ، بحيث سلب منهم روح التضرع والخضوع.

٣٢٨

هناك بحث بين المفسرين في المراد من «تزيين الشيطان» ، فيقول البعض : إنّه الوساوس الشيطانية التي تبدو المحاسن فيها قبائحاً والقبائح فيها محاسناً ، أو العوامل الخارجية التي تزين للإنسان سوءَ أعماله ، كما تُجعل المواد السامة في غلاف مُغرٍ وجميل ، وكما يُدعى للانحرافات الكبيرة تحت غطاء التمدن والأفكار النيرة والحرة.

وتحدثت الآية الثانية عن هدهد سليمان عندما قدم من رحلته إلى بلاد الملكة سبأ ، فبعد حكايته لقصة سبأ وحضارة بلادها العظيمة قال : (وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ).

إنّ هذه الآية تكشف عن أنّ الهدهد بالرغم من محدودية عقله وذهنيته الخاصة به وبعالمه يدرك بالاجمال حجب المعرفة ، ويعرف أنّ الشيطان يجعل ستاراً على فكر الإنسان يحول دون تمكنه من إدراك الحقائق ويغلق أبواب المعرفة عنه ويحول دون وصول الإنسان إلى مراده المنشود.

وقد بحثنا امكانية اطلاع الحيوانات على عالم الإنسان ، كما بحثنا مدى معرفتها لهذا العالم في تفسير الأمثل ذيل الآية ١٨ من سورة النمل ، وفي ذيل الآية ٣٨ من سورة الأنعام.

كما تحدثنا في ذيل الآية نفسها عن كيفية طي الهدهد المسافة الطويلة بين الشام واليمن ووصوله إلى بلاد سبأ.

* *

وقد تحدثت الآية الثالثة عن قوم عاد وثمود وطغيانهم وعصيانهم ثم هلاكهم ، كما عرضت على عرب الحجاز مدنهم الخربة التي يمرون بها عند رحلاتهم إلى الشام واليمن كعبرة لهم ، ثم أشارت إلى السبب الأساسي في إهلاكهم وهو تزيين الشيطان لأعمالهم بحيث ما كادوا يبصرون شيئاً ولا يعقلون رغم امتلاكهم للابصار والعقول ، وقد قالت الآية : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ).

إنّ عبارة (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) ـ كما يقول كثير من المفسرين ـ تعني غفلتهم وعدم

٣٢٩

تدبرهم في الحقائق بالرغم من امتلاكهم للعقول والحواس واقتدارهم على الاستدلال والتمييز بين الحق والباطل (١).

وقد جاء في تفسير الميزان : «إنّهم كانوا يعرفون طريق الحق بفطرتهم إلّاأنّ الشيطان زيَّن لهم أعمالهم فمنعهم عنه» (٢).

ويقول البعض : إنّ المراد من العبارة هو معرفتهم للحق بواسطة دعوة الأنبياء وتعاليمهم (٣).

إنّ الآية بجميع تفاسيرها (سواء قبلنا أحدها أو قبلنا الجميع لعدم المنافاة بينها) شاهد على ما قلناه من أن تزيين الشيطان يجعل حجاباً على عقل الإنسان وفكره.

* *

وقد بينت الآية الرابعة بصورة عامة مصير الذي يعشو عن ذكر الله ويغفل عنه وقالت : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمانِ ... وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).

ذَكر المفسرون وأئمة اللغة معنيين لفعل «يَعْشُ» ، فقال بعض : إنّه ظلام خاص يحلُّ في ا لعين يفقد الإنسان من جرائه بصره ويكون أعمى أو أعشى (أي لا يرى في الليل) وهو من مادة «عَشَى» ، كما يقال «عشواء» للجمل الذي لا يرى أمامه ويخطأ عند المشي ، وعبارة «خبط عشواء» إشارة إلى هذا المعنى.

وعلى هذا فيكون معنى الآية الشريفة هو : إنَّ الذي لا يرى آيات الله في الكون بعينه ، ولا يسمع من انبيائه ، فانه سيقع في فخّ الشيطان وتسويلاته.

وقال بعض آخر : إنّها من مادة «عَشْو» ، وعندما تستعمل مع «إلى» فتعني الهداية ببصر ضعيف ، وعندما تستعمل مع «عن» فتعني الإعراض (٤).

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٨٣ ؛ تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٦٨ ، كما نقل هذا عن بعض المفسرين في تفسير القرطبي.

(٢). تفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ١٣١.

(٣). التفسير الكبير ، ج ٢٥ ، ص ٦٦.

(٤). يقول بعض المفسرين : إنّ هذه المفردة إن كانت من مادة (عَشَا ، يَعْشو) ، فتعني التعامي من دون أن تكون علة في ـ

٣٣٠

وعلى هذا فيكون المراد من الآية هو : إنّ الذين يعرضون عن ذكر الله فَنُقَيِّضُ ونسلط الشيطان عليهم (١).

إنّ «نُقَيّضُ» من مادة «قَيْض» وتعني قشر البيض ثم استعملت بمعنى الاستيلاء ، واستعمال هذه المفردة في الآية أمرٌ مثير ، حيث يكشف عن أنّ الشيطان عندما يَنْقَضُّ على الإنسان يحيط به من جميع الجهات ، ويقطع اتصاله بالخارج بالكامل كما تفعل قشرة البيض بالبيض ، وهذا أسوء أنواع حجب المعرفة التي يُبتَلى بها الإنسان ، كما أنّ هناك مثلاً عند العرب يقرب معنى الآية للأذهان «استيلاء القيض على البيض».

والأسوء من هذا هو أنّ احاطة الشيطان بالإنسان واستيلاءه عليه ومقارنته له تستمر إلى درجة تجعله يفتخر بضلالته ويحسب أنّ طريقه هو طريق الحق والهداية (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).

* *

وقد تحدثت الآية الخامسة عن شياطين الانس والجن الذين نصبوا العداء للأنبياء والذين أعدوا أنفسهم لابطال فاعلية تعليم الأنبياء ، ويوحي بعضهم إلى بعض أقاويل مزخرفةً باطلةً لا أساس لها من الصحة ، كما يعلّم بعضهم البعض طرق المكر والخداع ، وذلك لاغفال الناس وكتم الحقائق وجعل الحجب عليها ، وإبعاد الناس عن تعاليم الأنبياء.

وينبغي ذكر هذه النقطة هنا وهي : إنّ العدو ذكر بصيغة المفرد ، بينما الشياطين بصيغة الجمع ، وهذا قد يكون من حيث إنّ الشياطين متحدون ومتفقون في سبيل إغفال الناس وخداعهم وكأنّهم عدو واحد.

ويقول البعض : إنّ «عدو» هنا بمعنى أعداء أي بمعنى الجمع (٢).

__________________

ـ بصره ، أمّا إذا كانت من مادة (عَشَى : يَعْشا) ، فتعني حصول علة في بصره ، تفسير روح البيان ، ج ٨ ، ص ٣٦٨ ، وينبغي الالتفات هنا إلى أنّها في الآية من باب (عَشَا ، يَعْشو).

(١). راجع لسان العرب ومفردات الراغب وتفاسير القرطبي وروح البيان والميزان.

(٢). تفسير روح المعاني ، ج ٨ ، ص ٤.

٣٣١

كما صرح بعض آخر : إنّ «العدو» تطلق على المفرد والمثنى والجمع (١).

والآية السادسة هي من آيات سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله التي أُشير فيها إلى حجب متعددة من حجب المعرفة ، فتارة تعدّ الفساد في الأرض وقطع صلة الرحم سبباً للعمى الباطني لهم الآية ٢٣ ، وتارة اخرى تعد ترك التدبر في القرآن بمثابة الأقفال على القلوب.

والآية المذكورة تعدُّ تزيين الشيطان وتسويلاته سبباً لارتداد الضالين ، حيث يتبين لهم الحق ويؤمنون به أولاً ، ثم ينحرفون عنه من جراء تسويلاته وتزيينِهِ لهم إلى درجة يفتخرون فيها بضلالتهم الأخيرة.

من هم المشار إليهم في الآية؟

هذا ما بحثه المفسرون وانقسموا من جرائه إلى فريقين ، فبعض يقول : إنّهم اليهود ، حيث كانوا مؤمنين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل ظهوره وذلك لوجود العلامات المذكورة في كتبهم عن ذلك الرسول ، ثم سلكوا سبيل العناد والمخالفة له بعد ظهوره ، ويُعدُّ هذا نوعاً من الارتداد. وبعض يقول : إنّها تشير إلى المنافقين الذين آمنوا في البداية ثم ارتدوا بعد ذلك ، أو أنّهم آمنوا ظاهراً وهم كافرون باطناً ، لكن مع الالتفات إلى كون الآيات التي سبقت هذه الآية والتي تليها ناظرة إلى المنافقين ، لا يبعد أن تكون هذه الآية تشير إليهم كذلك فالمراد من الآية ـ إذن ـ المنافقون الذين آمنوا في البداية ثم ارتدوا بعد ذلك.

إنّ «أملى لهم» من مادة «املأ» أي الإِمهال (٢) ، والمراد منها هو الآمال البعيدة التي يوحيها الشيطان للإنسان ، الآمال التي تشغل فكر الإنسان وتزين له الباطل وتبعده عن الحق.

* *

أمّا الآية السابعة والأخيرة فقد أنذرت الناس ـ بتعبير وافٍ ـ بأن وعد الله حق ، ثم ذكر

__________________

(١). تفسير المنار ، ج ٨ ، ص ٥.

(٢). ينبغي الالتفات هنا إلى أنّ أصل هذه المادة هو (مَلْو) لا (مَلأَ) ـ بالهمزة ـ.

٣٣٢

عاملين للضلالة والانحراف عن الحق ، الأول : الدنيا (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) ، والثاني : الشيطان (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) فتارة يؤملكم بكرمه وينسيكم غضبه ، وتارة اخرى يغويكم بشكل بحيث تنسون الله وتعاليمه ، أو تبدو لكم تعاليمه بشكل معكوس.

إنّ» غرور» ـ كما أشرنا سابقاً ـ هو كل ما خدع الإنسان ، سواء كان مالاً أو جاهاً أو شهوات أو غير ذلك ، وبما أنّ الشيطان أوضح مصداق للخداع ، أطلق عليه ذلك كثيراً ، وفُسِّر به (١).

يعتقد كثير من المفسرين أنّ عبارة (لَايَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) تلميح إلى أنَّ الشيطان غَرَّ الإنسان بَعفو الله وكرمه بدرجة يمكّنه من ارتكاب أي معصية أراد ، ويبلغ به الأمر أن يعتقد بأنّ هذا ناشيء عن كمال معرفته لصفات الله! وهذا أمر عجيب.

وحاله كحال من يتصور أنّ جسمه قوي وذو مناعة تمكنه من مقاومة جميع السموم المهلكة ، فيخدعه تصوره ويتناول السم فيموت.

وهذا هو أحد حجب المعرفة.

* *

توضيحات

١ ـ من هو الشيطان؟

إنّ «الشيطان» ـ وكما قلنا سابقاً ـ ليس اسماً خاصاً أو علماً لإبليس ، بل إنّ إبليس الذي امتنع عن السجود لآدم هو أحد الشياطين.

إنّ لإبليس جنوداً كثيرة من جنسه ومن الناس ، وتطلق مفردة الشيطان على الجميع ، وعلى هذا فقادة الكفر والشرك والظلم والفساد في الأرض ، والعاملون في الاجهزة الظالمة كلهم من جنود الشيطان ، ولقد جاء في رواية أن هناك شياطينَ من الانس أسوء من شياطين الجن ، حيث سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أباذر يوماً : «هل تعوّذت بالله من شر شياطين الجن

__________________

(١). إنّ «الغرور» صيغة مبالغة.

٣٣٣

والإنس»؟

فقال أبوذر : وهل من الناس شياطين؟

فأجابه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نعم هم شرٌ من شياطين الجن» (١).

كما أنّ المستشفَّ من القرآن هو أن للشيطان جنوداً فرساناً وراجلين كما جاء ذلك في الآية : (وَاجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ). (الاسراء / ٦٤)

إنّ «اجلب» من مادة «إجلاب» ويعني التجمع السريع أو الضجيج والصياح لحثّ مجموعة ما على الحركة.

أمّا المراد من «خيلك ورَجِلك» ، فيقول الكثير من المفسرين : إنّه الراجل أو الفارس الذي يخطو في معصية الله ، أو قاتل في هذا السبيل (٢).

ويقول البعض : إنّ للشيطان أعواناً وأنصاراً راجلين وفرساناً حقاً.

وحمل البعض العبارة على الكناية ، وقال : المراد من الآية هو أنّ الشيطان أعدَّ العِدَّة ووفّر جميع الوسائل لصراع ومجابهة الناس (٣).

كما يحتمل أن يكون المراد من الخيل هو قادة الكفر والظلم والفساد ، ومن الرجل ، الشخصيات المتوسطة الأضعف من الشخصيات السابقة.

كما يحتمل أن يكون المراد من الخيل هو الشهوات والصفات الذميمة التي تتغلب على روح الإنسان وتمتطيها ، والمراد من الراجلين هو العوامل الخارجية التي تسعى لانحراف الإنسان عن الصراط المستقيم.

* *

٢ ـ الإجابة عن سؤال

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ١٣ ، ص ١٥٤.

(٢) نقل القرطبي هذا التفسير عن أكثر المفسرين.

(٣) ذكر الفخر الرازي هذا التفسير كاحتمال في تفسير الكبير ، ج ٢١ ، ص ٦ ، وقد جاء ما يشبه هذا الاحتمال في تفسير في ظلال القرآن ، ج ٥ ، ص ٣٤٣.

٣٣٤

هناك سؤال يرتبط ببحثنا وهو : كيف يمكن أن يتركنا الله لوحدنا نواجه جنود الشيطان القوية والقاسية؟ وهل يتفق هذا مع حكمة الله وعدله؟

يمكننا الإجابة عن هذا السؤال بالالتفات إلى نقطة ، وهي : إنّ الله ـ وكما جاء في القرآن الكريم ـ يجهز المؤمنين بجنود رحمانية ، أي الملائكة ، ويوظف القوى الغيبية التي في العالم يؤازرونهم وينصرونهم في طريق جهاد النفس والعدو :

(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ الَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنْتُمْ تُوْعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الْآخِرَةِ ...). (فصلت / ٣٠ ـ ٣١)

٣ ـ النقطة المهمّة الاخرى

هي : إنّ الشيطان لا يدخل قلوبنا فجأة ولا يعبر حدود دولة الروح من دون جواز ، إنّ هجومه ليس مباغتاً بل يدخل برخصتنا ، نعم إنّه يدخل من الباب لا من النافذة ، ونحنُ نفتح له الباب ، كما يقول القرآن في هذا المجال : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* انَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ). (النحل / ٩٩ ـ ١٠٠)

في الحقيقة إنّ أعمال الإنسان هي التي توفر الأرضية لنفوذ الشيطان ، وذلك ما يقوله القرآن : (انَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا اخْوَانَ الشَّيَاطِينِ). (الاسراء / ٢٧)

إلّا أنّه لا طريق للنجاة من مكائد الشياطين المتنوعة وجنودهم في أشكالها المختلفة من الشهوات ومراكز الفساد والسياسات الاستعمارية والمذاهب المنحرفة والثقافات الفاسدة ، إلّااللجوء إلى الإيمان والتقوى والتظلّل بألطاف الله والتوكل على ذاته المقدّسة ، وكما يقول الله تعالى : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا

٣٣٥

قَلِيلاً). (النساء / ٨٣)

وقد انتهت إلى هنا حجب المعرفة العشرون ، فننتقل معاً إلى مؤهلات المعرفة.

٣٣٦

مؤهلات المعرفة

٣٣٧
٣٣٨

مؤهلات المعرفة

تمهيد :

كما أنّ البذور تنمو في الأراضي الخصبة ، وكما أنّ الأزهار لا تتفتح في الأراضي المالحة بالرغم من استعمال أفضل البذور ، ونزول المطر المتوالي عليها ، كذلك بذور المعرفة فانّها لا تنمو إلّافي القلوب الصالحة والمؤهلة ، ولا تتفتح أزهارها إلّافي الأرواح الطاهرة.

ولهذا السبب فإنّ الاطلاع على الروحيات والأعمال التي تهييء وتُعِدّ أرضية المعرفة يعد من أهم البحوث التي تتعلق ب «المعرفة» ، وقد استعمل القرآن في هذا المجال تعابير ذات معانٍ عميقة وإشارات جميلة.

وبالرغم من أنّ المؤهلات للمعرفة كثيرة ، إلّاأنّ الاسس المهمّة والتي أشار إليها القرآن عبارة عن الامور التالية :

١ ـ علاقة التقوى بالمعرفة.

٢ ـ الإيمان والمعرفة.

٣ ـ علاقة الصبر والشكر بالمعرفة.

٤ ـ المعرفة تهىء الأرضية للمعرفة.

٥ ـ علاقة الخوف بالمعرفة

وسنبحث كلاً من هذه الامور في فصل خاص بعد ذكر الآيات التي تتعلق بها ، كما سنستعين بالروايات الإسلامية في هذا المجال كمؤكد وموضّح لها إن شاء الله.

٣٣٩

١ ـ علاقة التقوى بالمعرفة

في البداية نتأمل خاشعين في الآيات المباركة التالية :

١ ـ (الم* ذلِكَ الْكِتَابُ لَارَيْبَ فِيْهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ). (البقرة / ١ ـ ٢)

٢ ـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا انْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَّكُمْ فُرْقَاناً). (الأنفال / ٢٩)

٣ ـ (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ). (البقرة / ٢٨٢)

٤ ـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفِلَينِ مِنْ رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). (الحديد / ٢٨)

* *

شرح المفردات :

إنّ «التقوى» من مادة «وِقاية» وتعني ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ حفظ الشيء من الآفات.

ثم يضيف : إنّ التقوى بمعنى حفظ الروح والنفس ممّا يخشى مضرته ، ثم اطلقت على الخوف ، كما أنّ التقوى في الشرع تطلق على التحفظ من المعاصي ، وكمالها ترك بعض المباحات المشكوكة (١).

ولباقي أئمّة اللغة تعابير تشبه ما جاء في المفردات ، فقد فسرها بعض بالصيانة (٢) ، وبعض اخر ب «الامتناع عن القبائح والأهواء» (٣).

وقد نقل عدد من المفسرين حديثاً عن بعض الصحابة أنّهم سألوا عن حقيقة التقوى فاجابوا :

__________________

(١). مفردات الراغب مادة (وقى).

(٢). لسان العرب نفس المادة.

(٣). مجمع البحرين ، نفس المادة ، كما ينبغي الالتفات إلى أن أصل مفردة التقوى هو «وَقى» فانقلبت الواو تاءً ، كما ذكر ذلك الخليل بن أحمد في كتابه «العين».

٣٤٠