نفحات القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-88-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٠

الأحيان في مجال الافساد والتخريب ، كما استعملت هذه المفردة في مجال الكذب والشرك والظلم (١).

أمّا «غرّهم» فمن مادة «غرور» ومشتقة من «غُر» بمعنى ظاهر الشيء ، ولهذا قيل للأثر الظاهر في جبين الحصان «غُرة» ، كما تستخدم في القماش إذا طُوي بشكل حيث تظهر عليه آثار الطوي ، كما تستعمل هذه المفردة بمعنى الخداع ، وكأنّ الطرف المخدوع يُطوى كالقماش (٢).

أما «غَرُور» فيعني الشخص والشي الذي يخدع الإنسان ، كما تطلق على الشيطان الخادع (٣).

وقد قيل في كيفية أن الكذب والافتراء يخدعان الإنسان ويحجبان عنه المعرفة وما ذكر صاحب الميزان :

«إنّ الإنسان يجري في أعماله وأفعاله على ما تحصل عنده من الأحوال أو الملكات النفسانية والصور التي زينتها ونمقتها له نفسه دون الذي حصل له العلم به ، كما أنّ المدمن على استعمال المواد المخدرة ونحوها يستعملها وهو يعلم أنّها مضرّة غير لائقة بشأنه وذلك لأنّ حالته وملكته النفسانية زيّنت له هذه الامور واضفت عليها نوعاً من الجاذبية بحيث لم تدع له مجالاً للتفكر والاجتناب.

وبعبارة اخرى أنّهم كرروا الكذب ولم يزالوا يكررونه ويلقنونه أنفسهم حتى اذعنوا به أي اطمأنوا وركنوا إليه بالتلقين الذي يؤثر أثر العلم كما بينه علماء النفس فصارت الفرية الباطلة بالتكرار والتلقين تغرهم في دينهم وتمنعهم عن التسليم لله والخضوع للحق الذي أنزله في كتابه(٤).

__________________

(١). مفردات الراغب مادة (فري).

(٢). مفردات الراغب مادة (غرور).

(٣). لسان العرب مادة (غرور).

(٤). تفسير الميزان ، ج ٣ ، ص ١٢٥.

٣٠١

إنّ هذا مجربٌ ، فتارة يتفوه الإنسان بحديث كذب ويعلم أنّه كذب وافتراء ، وعلى ضوءِ اعادة الحديث يقع في شك منه ، ثم يعيده مرات اخرى فيصدق به ، حتى يبلغ درجة الاعتقاد بالرغم من عدم واقعيته ، فيصير حجاباً أمام رؤيته العقلية السليمة.

وعلى هذه فلا مجال للقول بأنّ الكذابين هم فريق من اليهود وأنّ المخدوعين يمثلون فريقاً آخر.

* *

وقد أشارت الآية الثانية إلى قوم عاد ، وهم قوم ذو قدرة ، كانوا يعيشون في الاحقاف (جنوب أو شمال الجزيرة العربية) ، وابتلوا بالريح العاصف إثر تكذيبهم لرسولهم «هود» وإثر ظلمهم وفسادهم في الأرض.

فالآية تقول : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيْمَا انْ مَّكَّنَّاكُمْ فِيْهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً ... وَحَاقَ بِهِمْ مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ).

إنّ الآية تؤكد أن تكذيبهم المتوالي لآيات الله سبَّب سلب إدراكهم ومعرفتهم ، فابصارهم ترى وآذانهم تسمع وأفكارهم تعقل ظاهراً ، إلّاأنّ الستار الحاجب حال دون استعانتهم بوسائل المعرفة هذه فابتلوا بعذاب الله.

«يجحدون» من مادة «جحود» ويعني في الأصل نفي شيء تيقن الإنسان من وجوده أو إثبات شيءٍ يؤمن الإنسان بعدمه ، وبتعبير آخر : الجحود يعني انكار الواقعيات عمداً وعن معرفة (١).

إنّ التجربة أثبتت أنّ الإنسان إذا ما استمر في انكار الحقيقة ، فستصبح القضايا التي يؤمن بها بشكل قطعي مورد شك وبشكل دائم ، وإذا استمر الانكار أكثر فإنّ قدرته على التمييز تتبدل بحيث يرى الحق باطلاً والباطل حقاً.

__________________

(١). مفردات الراغب مادة (جحد) ، كما يقول الجوهري : إنّ الجحود هو الانكار مع العلم. كما ذكر ذلك صاحب مجمع البحرين في مادة (جحد).

٣٠٢

وهناك أسباب وعلل لهذا العمل (أي انكار الواقعيات مع العلم والمعرفة) ، فتارة ينشأ عن العناد ، وتارة اخرى عن التعصب ، وتارة عن الكبر والغرور ، وتارة يقدم الإنسان عليه حفاظاً على مصالحه المادية التي تتعرض للخطر إذا ما كشف عن الحقائق ، وتارة لأجل شهوات اخرى ، وعلى أيّة حال فإنّ لهذا العمل مردودات سلبية ، وهو حدوث حجاب على العقل والفطرة فتنقلبُ قدرة التمييز عند الإنسان رأساً على عقب.

* *

٧ ـ حجاب الظن القاتم

إنّ اتباع الظنون والخيالات الباطلة يغير العقل تدريجياً ويحرفه عن جادة المعارف الأصيلة ، ويجعل حجاباً أمام عينيّ الإنسان واذنيه.

في البداية نقرأ معاً خاشعين الآية الكريمة التالية :

(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيْرٌ مِّنْهُم وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ). (المائدة / ٧١)

جمع الآيات وتفسيرها

إنّ هذه الآية ناظرة إلى فريق من اليهود الذين عاهدوا الله على أن يتبعوا دعوات الأنبياء ويخضعوا لها ، إلّاأنّهم كلما جاءهم رسول يأمرهم بما يخالف أهواءهم النفسية نهضوا ضده أو قتلوه.

ثم تضيف الآية : إنّهم حسبوا أن لا تكون فتنة ولا عذاب ، وهذا ظن باطل نشأ عن حب الدنيا والكبر والغرور ، ظن باطل تدعو إليه الشياطين والأهواء النفسية ، وهذا الظن هو الذي ألقى بحجابه على أفئدتهم وأبصارهم وسمعهم فحال دون أن يعقلوا شيئاً ، فلم تعد أبصارهم تدرك الآثار المتبقية من المصير المؤلم للاقوام السالفة ولم تعد آذانهم تمتلك

٣٠٣

قدرة سماع ما يُنقل عنهم ، وبهذا فقدوا هاتين الوسيلتين المهمتين للمعرفة ـ السمع والبصر ـ من الناحية العملية وظنوا أنّهم في أمان من عذاب الله ، وقد حصل لهم هذا الظن من خِلال السير في الأرض ودراسة التاريخ والأقوام السالفة ، فما سمعوا عن تلك الأقوام بآذانهم ، ولا شاهدوا بأعينهم ، بل إنّ ابصارهم وآذانهم وأفئدتهم عاطلة عن العمل فحسبوا أن لا عذاب لهم.

إلّا أنّه بعد انقضاء وطر من الزمن أدركوا خطأهم والتزموا طريق التوبة ، وقد وسعتهم رحمة الله فقبل توبتهم.

ومرة اخرى خدعتهم ظنونهم الباطلة فظنوا أنّهم شعب الله المختار في أرضه (بل أبناء الله) ، فأسدلت ستائر العمى والصم والجهل على ابصارهم وسمعهم وطُردوا من رحمة الله تارة اخرى.

إنّ هذه الآية تبين بوضوح أنّ الظنون الباطلة وخاصة ظن الأمان من عذاب الله يجعل غشاوة على الباصر والمسع ويعطلهما عن العمل.

وعلى هذا ، فالمراد من «فعموا وصموا» هو أن أعينهم ما بصرت آيات الله والآثار الباقية من الأقوام السالفة ، وأنّ آذانهم ما صغت لمواعظ الرسل.

وبديهي أنّ اتباع الظن الباطل لمرة أو مرات لا يترك هذا المردود السلبي لدى الإنسان ، بل الاستمرار عليه هو السبب في ذلك.

وهناك أقوال في سبب عطف الجملة الثانية على الاولى ب «ثم» التي تدل على الفاصل الزمني.

فقال البعص : إنّ استعمالها للاشارة إلى مصيرين مختلفين لليهود ، أحدهما عندما هاجمهم أهل بابل ، والثاني عندما هاجمهم الإيرانيون والروميون وأسقطوا حكومتهم (١) ، وقد جاء شرح ذلك في التفسير الأمثل في بداية سورة بني اسرائيل.

وقال البعض : إنّ الجملة الاولى إشارة إلى عهد زكريا ويحيى وعيسى حيث خالفهم

__________________

(١). تفسير المنار ، ج ٦ ، ص ٤٨١.

٣٠٤

اليهود آنذاك ، والعبارة الثانية إشارة إلى عهد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أنكروا نبوته ورسالته (١).

وقال البعض : إنّ العبارة الاولى تبين أنّ الله لعنهم وطردهم من رحمته وأعماهم وأصمهم لأجل ظنهم الباطل من أنهم شعب الله المختار ، وقد شملتهم رحمة الله بعد ذلك فتاب عليهم ورفع عن قلوبهم ذلك الظن الباطل ، فأبصرهم وأسمعهم تارة اخرى كي يلتفتوا إلى حقيقةٍ هي : عدم وجود فرق بينهم وبين غيرهم إلَّابالتقوى.

إلّا أنّ حالة الوعي واليقظة هذه لم تستمر عندهم ، وتورط بعضهم بنفس الحسبان الخاطيء القائم على أساس التفرقة العرقية تارة اخرى ، فأعماهم وأصمهم الله ثانية (٢).

والجمع بين هذه التفاسير ليس متعذراً ، ونتيجتها جميعاً واحدة وهي : إنّ الظن الباطل (كظن اليهود أنّهم شعب الله المختار) يمنع الإنسان تدريجياً عن الإدراك والفهم ويحرفه عن جادة الصواب ، وإذا كان هذا الظن في بدايته فيقظة العقل محتملة ، ورجوعه عن هذا الحسبان ممكن ، أمّا إذا تفاقمت الظنون وتأصلت في ذاته فيصبح الرجوع عنها أمراً غير ممكن.

* *

__________________

(١). وقد ذكر هذا التفسير كاحتمال في تفسير الكبير ، ج ١٢ ، ص ٥١٦ وكذا في تفسير روح المعاني ، ج ٦ ، ص ١٨٤.

(٢). تفسير الميزان ، ج ٦ ، ص ٧١.

٣٠٥
٣٠٦

٣ ـ الحُجُب الخارجية

١ ـ حجاب القادة الضالين والمفسدين

إنّ الحجب الخارجية هي الحجب التي تكمن وراء أعمال الإنسان وصفاته وتؤثر على العقل والإدراك والشعور وملكة التمييز وتحول دون معرفة الحقائق ، وهي عديدة تشكل مساحة واسعة ، وقد أشار اليها القرآن بأساليب متعددة وجميلة.

١ ـ (وَقَالُوا رَبَّنَا انَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَظَلُّونَا السَّبِيلَا* رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً). (الأحزاب / ٦٧ ـ ٦٨)

٢ ـ (... وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا انْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ اذْ جَاءَكُم بَلْ كُنْتُمْ مُّجْرِمِينَ). (سبأ / ٣١ ـ ٣٢)

٣ ـ (قَالَ ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى اذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ اخْراهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هؤُلَآءِ اضَلُّونَا فَآتِهِم عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لَّا تَعْلَمُونَ). (الأعراف / ٣٨)

٣٠٧

جمع الآيات وتفسيرها

شجار أصحاب النار :

إنّ الآية الاولى تبيّن حال فريق من الكفار عندما يرون نتيجة أعمالهم عند الله ، فيقولون : (رَبَّنَا انَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَظَلُّونَا السَّبِيلَا) ، فما كنا نُبتَلى بهذا المصير لولاهم ، ثم يقولون : (رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ) (عذاباً لكفرهم وعذاباً لأنّهم أضلونا) (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً).

فهم لا يريدون سوى تبرير أعمالهم بكلامهم هذا ، صحيح أنّ لرؤسائهم دوراً في انحرافهم ، لكن هذا الأمر لا يسلب عنهم المسؤولية تجاه أعمالهم.

وصحيح أنّ وسوسة القادة المفسدين والزعماء الضالين والمضلين جعلت حجاباً على عقولهم وأفكارهم فحال دون تفكيرهم الصحيح ، إلَّاأنّ مقدّمات هذا الأمر هم هيأوها بأنفسهم لأنّهم سلموا أنفسهم عشوائياً إلى هؤلاء من دون احراز أهليتهم للقيادة.

وهناك خلاف بين المفسرين في الفرق بين سادتنا وكبراءنا ، أو بالأحرى هل هناك فرق بينهما أم لا؟

يعتقد البعض أنّ «سادتنا» إشارة إلى ملوك وسلاطين المدن والدول ، «وكبراءنا» إشارة إلى الرؤساء المحليين ، حيث عُدت طاعة السادة مكان طاعة الله ، وطاعة الكبراء مكان طاعة الرسول ، فقدرة وصلاحية الفريق الأول أكثر من الفريق الثاني ولهذا قُدِّم.

ويعتقد البعض أنّ السادة إشارة إلى الملوك وأصحاب القدرة ، والكبراء إشارة إلى كبار السن ، ولهذا يتبعهم بعض الناس.

ويعتقد آخرون أنّ كليهما بمعنى واحد وأنّهما قد وردا للتأكيد (١).

ويبدو أنّ المعنى الأخير أنسب من جميع المعاني السابقة.

وتجدر الإشارة إلى أنّ «سادة» جمع «سيد» والسيد يعني رئيس السواد (أي الجمع الغفير من الناس ، وقد اطلق عليه سواداً من باب أنّه يبدو أسود اللون من بعيد) ثم اطلقت

__________________

(١). راجع تفسير روح المعاني ، ج ٢٢ ، ص ٨٧ ؛ تفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ٣٦٩ ؛ الكبير ، ج ٢٥ ، ص ٢٣٢.

٣٠٨

هذه المفردة على كل رجلٍ كبير.

وقد تحدثت الآية الثانية عن الكفار الظالمين الذين إذا ما رأوا نتيجة أعمالهم في الآخرة سعى كلٌّ منهم لإلقاء ذنبه على الآخر ، فيقول حينها المستضعفون (أي المغفّلون) للمستكبرين (أي الظلمة وأصحاب السلطة الذين أضلوا الآخرين بأفكارهم الشيطانية) : لولا وساوسكم المغرية والشيطانية لَكُنّا في صفوف المؤمنين ، لقد غسلتم أدمغتنا ، واتّبعناكم جهلاً ، وجعلتمونا آلة بأيديكم لتحقيق مآربكم الشيطانية ، وقد فهمنا الآن أنا كنّا على خطأ.

بالطبع لم يخرس المستكبرون عندها ، بل يجيبون : (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ اذْ جَاءَكُم) الرسل بالبينات والحجج الكافية؟ إنّكم مخطئون ونحن غير مسؤولين عن ضلالتكم ، (بَلْ كُنْتُمْ مُّجْرِمِينَ) ومذنبين لأنّكم تركتم ما دعتكم إليه الرسل واتبعتم الأقاويل الباطلة بالرغم من إرادتكم واختياركم.

* *

وقد أشارت الآية الثالثة إلى شجار «القادة» و «الأتباع» الضالين في جهنم ، فكلما دخلت امّة لعنت الاخرى واعتبرتها هي المسؤولة عن شقائها وعذابها في الآخرة ، ويقول الأتباع يومذاك : (رَبَّنَا هؤُلَاءِ اضَلُّونَا فَآتِهِم عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) عذاباً لأنّهم ضالّون وعذاباً لأنّهم أضلونا وأغوونا.

فيجيبهم الله : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِن لَّاتَعْلَمُونَ).

إنّ مضاعفة العذاب لقادة الباطل أمر متوقع وليس عجيباً ، إلّاأنّ مضاعفة العذاب لأتباعهم أمر قد يبدو غريباً للوهلة الاولى ، لكنا إذا دققنا في الأمر نجد ضرورة مضاعفة العذاب لهم ، عذاب : لأجل أنّهم ضالون ، وعذاب : لأجل اعانتهم أئمّة الكفر والذود عنهم والقتال دونهم ، كما جاء ذلك في حديث للإمام الصادق عليه‌السلام عندما جاءه أحد أصحابه مُعلناً توبَتُه عمّا قدمة لبني أمية من خدمات ، يقول فيه :

٣٠٩

«لَوْلا أَنَّ بَنِي اميَّةَ وَجَدُوا مَنْ يَكْتُبُ لَهُم ويُجْبِي لَهُمْ الفَيءَ وَيُقاتِلُ عَنْهُمْ وَيَشْهَدُ جَماعَتَهُمْ لَما سَلَبُونا حَقَّنا» (١).

توضيحان :

١ ـ «المستضعفون» و «المستكبرون» في القرآن المجيد

تحدث القرآن المجيد مراراً عن المستكبرين «والمستضعفين» وهو موضوع مهم وجدير بالانتباه ويمكن أن يشكل أحد المباحث المستقلة في التفسير الموضوعي ، إلّاأنّه ينبغي هنا الإشارة إليه بصورة عابرة مع بيان الآيات التي وردت في هذا البحث.

يقول الراغب في مفرداته : إنّ الكبر والتكبر والاستكبار لها معانٍ متقاربة ، ثم يضيف : إنّ للاستكبار معنيين أحدهما : أن يتحرّى الإنسان ويطلب أن يصير كبيراً وذلك متى كان على ما يجب وفي المكان الذي يجب وفي الوقت الذي يجب والثاني أن يتشبّه فيظهر من نفسه ما ليس له وهذا هو المذموم وعلى هذا ما ورد في القُرآن ، وهو قوله تعالى : (أبَى وَاسْتَكْبَرَ). (البقرة / ٣٤)

ثم يضيف الراغب : قابلَ المستكبرين بالضعفاء تنبيهاً إلى أنّ استكبارهم كان بما لهم من القوة من البدن والمال (٢).

إنّ الاستضعاف يقابل الاسكتبار وهو يعني طلب الضعف وقلة الحيلة ، لكن بما أنّ هذه المادة غالباً ما تستعمل في القرآن بصفة (فعل مبني للمجهول) أو (اسم مفعول) ، فتعني الضعف الذي فرض عليهم من قبل المستكبرين.

وقد استعملت في القرآن بصيغة الفعل المبني للمعلوم كما جاء ذلك في فرعون الذي استضعف بني اسرائيل :

(انَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُم). (القصص / ٤)

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٧٢ (٧٥) ، ص ٣٧٥ ؛ سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ١٠٧ مادة (ظلمة).

(٢). مفردات الراغب ، مادة (كبر).

٣١٠

كما ينبغي ذكر هذه النقطة وهي : أنّ القرآن استعمل مفردة (مُستضعَف) بمعنيين : الأول المظلومون في الأرض ، وهم المشمولون بألطاف الله ، كما جاء ذلك بالنسبة إلى مستضعفي بني اسرائيل حيث قال الله فيهم :

(وَنُرِيدُ أَنْ نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ). (القصص / ٥)

والمعنى الثاني وهو المستعمل غالباً في القرآن المجيد : الضعفاء فكرياً بسبب جهلهم وتقليدهم الأعمى وتعصبهم ، فيتبعون الظلمة والقادة الضالين عشوائياً ، وهؤلاء هم الذين أشارت الآيات المذكورة في أول البحث إلى شجارهم مع المستكبرين في يوم القيامة وصرحت أنّهم يستحقون العذاب المضاعف كالمستكبرين : عذاباً لأجل أنّهم ضالون وعذاباً لاجل أنّهم ساهموا في تثبيت اسس حكومة الجبارين.

٢ ـ دور القادة والامراء في التأثير على الناس

لقد جاء في حديث للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الناس بامرائهم أشبه منهم بآبائهم» (١).

إنّ هذا الشبه يمكن أن يكون من حيث إنّ فريقاً من الناس يتبعون الامراء ويقتدون بهم جهلاً وغفلة ويجعلون قلوبهم ودينهم رهناً لإشارات هؤلاء الامراء وايعازاتهم ، ولهذا اشتهر الحديث «الناس على دين ملوكهم».

إنّ هؤلاء الامراء في رأي بعض الناس أبطال وقدوات نموذجية واسوات حسنة وأرفع شأناً من أن يُنتقدوا ، وقد يقلّد البعض أنفسهم مناصب مقدسة فيغرروا ببعض الجهلة والعوام ، ويجعلوا حجاباً أمام أفكارهم وعقولهم.

ومن المتعارف أنّ هناك فريقاً يعتبر «القدرة» دليلاً على «الحقانية» ، ويعتبر المنتصر هو المحق فرداً كان أو جماعة ، وهذا الاسلوب من التفكير جعلهم فريسة للكثير من الأخطاء

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٤٦ كتاب الروضة كلمات علي عليه‌السلام ، ح ٥٧.

٣١١

والانحرافات في حساباتهم الاجتماعية.

إنّ الملوك والقادة الجبارين أينما دخلوا أفسدوا ، وذلك لاستغلال الضعف والعجر الفكري لدى بعض الناس ، كما جاء ذلك في القرآن على لسان ملكة سبأ : (قَالَتْ انَّ الْمُلُوْكَ اذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ اهْلِهَا اذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ). (النمل / ٣٤)

وبالرغم من أنّ هذا الحديث تفوهت به ملكة ظالمة ، إلّاأنّ ذكره في القرآن من دون أي نقدٍ من جهة ، وصدوره من شخصية ظالمة وخبيرة بما عليه الظّلَمَة من أمثالها من جهة اخرى دليل على واقعية هذا الحديث الشبيه بالاعتراف.

ولهذا أرادت ملكةُ سبأ أن تختبر سليمان هل هو ملك أو نبي حقاً؟ فأرسلت إليه هدايا كي تعرف ردّ فعله تجاهها ، وذلك لأنّها تعرف أنّ أفكار الملوك وقلوبهم رهن الهدايا والذهب والفضة والشأن والمقام ، بينما الأنبياء لا يهمهم شيءٌ سوى صلاح الامم.

٢ ـ حجاب الأصدقاء الضالين

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يَا وَيْلَتى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ اذْ جَاءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولا). (الفرقان / ٢٧ ـ ٢٩)

جمع الآيات وتفسيرها

إنّ هذه الآيات تشرح مشهداً من مشاهد يوم القيامة ، وهي لحظات تأسف الظالمين وتأثرهم من أعمالهم إلى درجة حيث يعضون على أيديه.

إنّ تعبير «يعضّ» من مادة «عضّ» ومعناها واضح ، والتعبير ب (يعضّ) في العربية

٣١٢

وكذا في الفارسية كناية عن شدة التأسف والانزجار ، وقد شوهد أنّ كثيراً من الناس إذا ما واجهوا مصيبة عظيمة ناشئة عن سوء عملهم وجهلهم عضّوا على أيديهم أو أصابعهم أو ظاهر أكفّهم ، وكأنّهم يريدون عقاب أيديهم لأجل قيامها بهذا العمل.

إلّا أنّ المصيبة إذا لم تكن شديدة جدّاً اكتفوا بعضّ أناملهم كما قال القرآن حاكياً حال الكفار في الآية ١١٩ سورة آل عمران : (وَاذَا خَلَوا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) ، أو اكتفوا بعضّ ظهر احدى اليدين ، أمّا اذا كانت المصيبة شديدة جدّاً فتارة يعضّون أيديهم اليسرى واخرى أيديهم اليمنى ، والذي جاء في الآية الكريمة هو «يَدَيْه» وهذا يكشف عن أنّ المصيبة عظيمة للغاية يوم القيامة ، وغالباً ما يقترن العضّ بالتفوه بجمل وأقاويل مفهومها التوبيخ للنفس ، ويتحد حينها الكلام مع السلوك في ابراز الغضب.

ويقولون عندها : (لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ معَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يَا وَيْلَتى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ اذْ جاءَنِى) إلّاأنّ هذا الخليل ما سمح لهم باليقظة.

وعلى هذا ، فهم يعدّون الخليل الضال هو السبب الأساسي لشقائهم ، حيث جعل حجاباً أمام أفكارهم وعقولهم حال دون رؤيتهم لجمال الحق.

وهنا أقوال في المراد من «فلان» :

احتمل البعض أنّه الشيطان ، حيث ينتخبه الإنسان ـ أحياناً خليلاً ، وذلك بقرينة قوله في ذيل الآية : (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً).

ويقول البعض : إنّ المراد منه هو نفس الشخص الذي نزلت في شأنه الآية ، أي «عقبة» وهو أحد الكفار المعروفين ، أَسْلَمَ وارتد عن الإسلام وتخلى عن الرسول لأجل خليله «أبي» ، وقتل في معركة بدر ، بينما قُتِل أبي في معركة أُحد (١).

لكن الظاهر أنّ مفهوم الآية ـ كما يقول البعض ـ كلّي شامل لجميع الأصدقاء الضالين والموسوسين ، وأنّ شأن النزول لا يُخصّصُ الآية أبداً ، خصوصاً وأنّ لمفردة

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ذيل نفس الآية مورد البحث ويقول البعض : إنّ «أُبي» الإنسان الوحيد الذي قتله الرسول بيده طيلة عمره الشريف (تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٢٠٥).

٣١٣

«الشيطان» معنى واسعاً يشمل شياطين الجن والانس ، كما أنّ ذكر كلمة «فلان» وبصيغة النكرة قرينة واضحة على اطلاق المفهوم (١).

وقد قيل في تفسير «شركاء المشركين» الذين ذُكروا في الآية ١٣٧ من سورة الأنعام : (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِيْنَهُمْ) ، أنّهم المتولون لمعابد الأصنام ، حيث كانوا يغوون الناس ويغرونهم لتضحية أولادهم للاصنام ، وبهذا التبس عليهم الحق ، والقي حجاب على عقولهم وأفكارهم.

وعلى هذا التفسير ، فإنّ الآية تُعدُّ شاهداً واضحاً على بحثنا أي أنّ الأصدقاء المضلين يشكلون حجاباً للعقل يمنعه عن المعرفة.

* *

توضيح :

دور الأصدقاء في التأثير على طريقة التفكير عند الآخرين :

يشاهد في الروايات الإسلامية تعابير كثيرة في هذا المجال ، تكشف عن أنّ الأصدقاء المنحرفين والمستشارين الضالين يمكنهم السيطرة على فكر الإنسان وتغيير موازين عقله وإغلاق طريق الحق عليه ، ونذكر هنا نماذج من الروايات التي تشير إلى ذلك : ١ ـ نصح الإمام علي عليه‌السلام ابنه الحسن يوماً قائلاً له :

«يا بُني إياك ومصادقة الأحمق فانّه يريد أن ينفعك فيضرك ... وإياك ومصادقة الكذاب فانه كالسراب يُقرّبُ عليك البعيد ويُبعِد عليك القريب» (٢).

٢ ـ وقد جاء في عهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر حول المستشارين :

«ولا تُدْخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل وَيعِدك الفقر ولا جباناً

__________________

(١). تفسير في ظلال القرآن ، ج ٦ ، ص ١٥٦.

(٢). نهج البلاغة الكلمات القصار الكلمة ٣٨.

٣١٤

يُضعفك عن الامور ولا حريصاً يزين لك الشرَه بالجور» (١).

ويستفاد من التعبير الأخير أنّ المستشارين المنحرفين يمكنهم التأثير في فكر الإنسان ويحولون دون الإدراك والمعرفة.

٣ ـ وقد جاء في حديث آخر للإمام على عليه‌السلام :

«مجالسة الأشرار تُورَثُ سوء الظن بالأخيار» (٢).

٤ ـ وقد جاء في حديث للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«المرءُ على دين خليله وقرينه» (٣).

وبهذا يتضح تأثير الصديق الصالح أو غير الصالح على كيفية المعرفة واسلوب التفكير.

* *

٣ ـ حجاب الاعلام والوسط الاجتماعي

في البداية نتأمل خاشعين في الآيات الكريمة التالية :

١ ـ (قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَومَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرىُّ* ... فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَآ الهُكُمْ وَالهُ مُوسَى فَنَسِىَ). (طه / ٨٥ ـ ٨٨)

٢ ـ (فَخَرَجَ عَلَى قَومِهِ فِى زِيْنَتِهِ قَالَ الَّذِيْنَ يُريدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارُونُ انَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). (القصص / ٧٩)

٣ ـ (قَالَ أَلْقُوْا فَلَمَّا الْقَوا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ). (الأعراف / ١١٦)

٤ ـ (وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِى انْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). (آل عمران / ٧٢)

__________________

(١). نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

(٢). سفينة البحار ، ج ١ ، ص ١٦٨.

(٣). اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٧٥ ، باب مجالسة أهل المعاصي ، ح ٣.

٣١٥

٥ ـ (أَمْ انَا خَيْرٌ مِّنْ هذَا الَّذِىْ هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ* فَلَوْلَا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ* فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُم كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ). (الزخرف / ٥٢ ـ ٥٤)

جمع الآيات وتفسيرها

الإعلام المسموم :

إنّ الآية الاولى أشارت إلى قصة السامري طالب الشأن والمقام ، الذي استغل غيبة موسى عليه‌السلام اثناء ذهابه إلى طور سيناء (للقاء ربه) لمدّة أربعين يوماً ، فجمع ذهب وحُلي بني اسرائيل وصنع منها صنماً في صورة عجل! ويظهر أنّه وضعه باتجاه الريح بحيث يُخرج صوتاً كرُغاءَ البقرة عند هبوب الرياح ، وقد عبر القرآن عن هذا الصوت ب «خوار» أي صوت البقرة البطيء.

إنّه انتهز الفرصة بأُسلوب خاص ، حيث قام بعمله هذا بعد مضي خمسة وثلاثين يوماً من غيبة موسى ، أي عندما أخذت أنوار التبليغ التوحيدي تتضاءل في قلوب بني اسرائيل ، حيث كان المفروض أن يَرجِعَ موسى من طور سيناء بعد ثلاثين يوماً ، إلّاأنّ الله اخّر ميعاده لامتحان بني اسرائيل فاتمهن أربعين يوماً.

يقول القرآن في هذا المجال : (قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَا قَومَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرىُ).

وعلى أيّ حال فإنّ انحراف بني اسرائيل (الذين ينقل أنّ عددهم بلغ الستمائة ألف) عن طريق التوحيد الخالص إلى الشرك والكفر وعبادة الأصنام ليس بالأمر الهين ، إنّ الآيات التي جاءت في هذا المجال في سورة «طه» وغيرها من السور وكذا التواريخ والتفاسير تكشف عن أنّ السامري كان يستعين بأسلوب خاص من الاعلام والتبليغ للإستحواذ على أفكار الناس وغسل أدمغتهم ، بحيث جعل حجاباً على عقولهم ، فظنوا (بسبب ذلك

٣١٦

الحجاب) أنّ هذا العجل هو إله موسى؟!

والعجيب هنا أنّ الأمر بلغ ببني اسرائيل إلى حَدٍّ حيث رددوا ما قاله السامري : «هذا إله موسى» ، والتعبير ب «قالوا» شاهدٌ على هذا.

والتعبير الأخير دليل واضح على تأثير إعلام السامري الشديد ، إنّه كان يستثمر إعلامه في الجهات التالية :

١ ـ انتهاز فرصة غيبة موسى.

٢ ـ تمديد غيبته إلى أربعين يوماً.

٣ ـ الاستعانة بالذهب والحلي التي كانت ثمينة بالنسبة لبني اسرائيل.

٤ ـ استثمار الأرضية المساعدة والنمحرفة مثل طلبهم من موسى جعل صنمٍ إلهاً عندما نجوا من الغرق في النيل ، ومرّو بقوم يعبدون الأصنام : (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَا إِلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ). (الأعراف / ١٣٨)

٥ ـ مكانته الاجتماعية عند بني اسرائيل واعتمادهم عليه إلى حدٍ حيث كانوا يولون له قدسية خاصة ويعدونه ربيب جبرئيل (١)!

٦ ـ حب ضعفاء الفكر لألهٍ محسوس ، وعدم التفاتهم إلى أنّ الله بعيد عن التجسيم والصفات الجسمانيه ، حيث بلغ بهم الأمر أن طلبوا من موسى رؤية الله جهرة كما عكس القرآن ذلك في الآية الخامسة والخمسين من سورة البقرة.

إنّ هذه الامور واموراً اخرى سببت انحراف بني اسرائيل عن جادة التوحيد بالكامل ، واغواءهم بتبليغ السامري واعلامه وفي النهاية عبادتهم للأصنام.

ولهذا ، عندما رجع موسى وعلم بهم ، وبيّن القبح الشديد لعملهم هذا ، استيقظوا من غفوتهم وصرخوا قائلين : ندمنا! ندمنا! واستعدوا لأجل قبول توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً كفارة لذنبهم العظيم (البقرة / ٥٤).

__________________

(١). تفسير روح الجنان ، ج ٧ ، ص ٤٨٢ ؛ تفسير روح البيان ، ج ٥ ، ص ٤١٤ ؛ دائرة المعارف ـ دهخدا ـ مادة (ساري) ، (بالفارسية).

٣١٧

وعلى أيّ حال ، فإنّ الآية دليل واضح على حجاب الاعلام المضلل.

* *

وتحدثت الآية الثانية عن «قارون» الغني والمعروف في بني اسرائيل الذي قام يوماً باستعراضٍ لثروته أمام بني اسرائيل.

لقد نُقِل في التواريخ قصص كثيرة في هذا المجال ، فكتب بعضهم : ظهر قارون مع فريق يُعدّ بأربعة آلاف رجل وامرأة من الخدم والحشم والجاريات ، فالرجال على خيولٍ أَصيلة ، بألبسة حمراء ، والجاريات على بغال بيض سروجها من ذهب ، والجميع مزينون بالحلي والحلى والذهب والمجوهرات (١).

وقد قدر البعض عدد أفراد قارون بسبعين ألفاً ، وإذا لم نعتبر هذه الأرقام واقعية ، فتعبير القرآن : (فَخَرَجَ عَلَى قَومِهِ فِى زِيْنَتِهِ) يكشف عن عظمة تلك اللقطة ، وقد يكون عمله هذا من أجل تحدي واغضاب موسى عليه‌السلام ، أو تثبيتاً لقدرته في بني اسرائيل ، أو أنّه جنون عرض القوة والثروة اللتين يُبتَلى بهما كثير من المتمولين والأغنياء ، وعلى أيّ حال ، فإنّ تلك اللقطات والاعلام المتزامن معها كان بدرجة من العظمة سلبت عقول الكثير من بني اسرائيل وَأَلْقَتْ بستار على أرواحهم حتى جعلتهم يتمنون أن تكون لهم ثروتهُ وقدرته ، ويعدونه سعيداً و «ذو حظٍ عظيم».

وبعد ما جاء ذلك اليوم الذي خسف الله الأرض بقارون وثروته بسبب جرائمه وأعماله المشينة ، وعلم الجميع بما حَلَّ بِهِ استيقظوا من غفلتهم وأبدوا سرورهم من حيث إنّهم لم يكونوا مثل قارون.

إنّ تأثير الاعلام لا ينحصر على ذلك الزمان فحسب ، بل يشمل في كل عصر وهذا أمرٌ لا يُنكر ، وان كثيراً من جبابرة الماضي والحاضر يستعينون باستعراض قوتهم وامكانياتهم كاستعراض قارون لأجل تخدير أفكار الناس ، وتسخيفها ، وسحر أعينهم ، وقد

__________________

(١). راجع تفاسير الكبير والقرطبي وروح المعاني في ذيل الآيات في سورة القصص.

٣١٨

جَنَوا ثمار مثل هذه الاستعراضات ولا يزالون ، وإنَّ العلماء والمفكرين الراسخين هم فقط القادرون على رفع هذه الحجب عن أفكارهم وأفكار غيرهم ، وتبيان الوجوه الحقيقية لهؤلاء الجبابرة.

* *

وقد بينت الآية الثالثة جانباً من جوانب مقارعة موسى للسحرة ، الذين دعاهم فرعون من جميع أرجاء مصر واغراهم بالكثير من الوعود ، والذين يقدر عددهم بعشرات الآلاف من السحرة طبقاً لبعض الروايات ، وبخمسة عشر الف ساحر طبقاً لرواياتٍ اخرى (يحتمل أن يكون هذا العدد متعلقاً بنفس السحرة وأعوانهم وعمالهم ، كما ينبغي الالتفات إلى أنّ السحر كان رائجاً في ذلك العصر بكثرة).

وقد اجتمع لأجل ذلك جمعٌ غفير من الناس عند الضحى في يوم كان عندهم عيداً (كما عبّر عنهُ القرآن «يوم الزينة» و «ضحى» في الآية ٥٩ من سورة طه ، وقد كشفت القرائن عن أنّ فرعون كان واثقاً من انتصار السحرة على موسى عليه‌السلام ، وذلك لأنّه كان قد سخر جميع وسائل الاعلام لخدمة هذه القضية.

تقول الآية : (فَلَمَّا الْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ).

وينبغي هنا معرفة مفردتي «الاسترهاب» و «السحر» جيداً لفهم الآية.

جاء «السحر» ـ لغة ـ بمعنيين ، الأول هو الخدعة ، والثاني هو الشيء الذي غمضت عوامله وكانت غير مرئية ، وقد أرجع البعض كلا المعنيين ، إلى معنى واحد وقالوا : إنّ حقيقة السحر هي قلب الشيء من حقيقته إلى شكل آخر (١).

وكما قلنا في المجلد الأول من التفسير الأمثل عند تفسير الآية ١٠٢ من سورة البقرة : أنّ السحر غالباً ما يعتمد على الخواص الكيمائية والفيزيائية للمواد التي لم يعرفها الناس إلّا أنّ السحرة يعرفونها جيداً وقد اعتمدوا عليها كلياً ، كما أنّه جاء في التفاسير حول قصة

__________________

(١). راجع قاموس اللغة ، ومفردات الراغب ، والتحقيق في كلمات القرآن الكريم ، وتاج العروس.

٣١٩

مقارعة موسى عليه‌السلام للسحرة ، إذ يحتمل أنّ ما جاء به السحرة هو مجموعة من العصي والحبال الجلدية الجوفاء والمليئة بمادة الزئبق الفرّار ، وبما أنّ الحركة والتمدد الشديد من خواصه عند ارتفاع درجة حرارته ، فعندما ألقوا هذه العصي والحبال بدأت بالحركة والقفز والتقلص والانبساط بفعل حرارة الشمس أو الحرارة المنبعثة من المكان الذي يحتمل وجود مصدر حرارتي تحته (١).

وقد يستعين السحرة في عروضهم ـ أحياناً ـ بالشعوذة وخفة اليد ، فيرى الناسُ أشياءً لا واقع لها ، وقد شاهد كثير من الناس نماذج من هذه العروض ، وقد ينشرون مواد كيميائية خاصة عن طريق العطور وتبخير اعشاب معينة بحيث تؤثر على الحاسة الباصرة وحاسة السمع بل وحتى على اعصاب الحضور لتمثيل صورٍ غير واقعية أمامهم.

كما يحتمل أنّهم يستعينون بالتنويم المغناطيسي والتلقين بحيث تتمثل صور غير واقعية أمام الناس.

بالطبع هناك قسم آخر من السحر يحتمل استعانة السحرةُ به وهو تسخير الجن أو بعض الأرواح (وهذه خمسة طرق رئيسية للسحر).

وقد يطلق السحر على معنى أوسع من المعاني السابقة ، فيقال لمن حسن بيانه «له بيان ساحر» كما جاء في الحديث : إنّ الفتنة سحر ، لأنّها تفرق بين الأحبّة ، إلَّا أن الذي جاء في الآية هو «سحروا أعين الناس» وهو التلاعب بباصرة الحضور بحيث يجعلهم يرون اموراً لا واقع لها ، فيرون حية تسعى وإن لم يكن هناك حية أبداً ، والشاهد على هذا الحديث هو الآية : (فَإِذا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ الَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى). (طه / ٦)

(مع أنّها لا تسعى ولا تتحرك لكن الزئبق ـ احتمالاً ـ هو الذي جعلها تبدو هكذا).

وأمّا «استرهبوا» فمن مادة «رَهْب» وهو الخوف المتزامن مع التحفظ والاضطراب (كما

__________________

(١). راجع تفسير روح المعاني ، ج ٩ ، ص ٢٢ ؛ التفسير الكبير ١٤ ، ص ٢٠٣ ؛ تفسير روح البيان ، ج ٣ ، ص ٢١٣ ؛ تفسير المنار ، ج ٩ ، ص ٦٦ وتفاسير اخرى.

٣٢٠