نفحات القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-88-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٠

كما نقل عن نفس الإمام في هذا المجال أنّه قال : «غرورُ الأملِ يفسدُ العلم» (١).

والخلاصة أنّ من يريد الاطلاع على جمال الحقيقة كما هي ويصل إلى ينبوع المعرفة الصافي ، ينبغي له أن لا يغطي عقله بحجاب الأماني السميك ، وأن لا يضل في متاهات طريقها.

ونختم هذا البحث بحديث آخر للإمام أميرالمؤمنين عليه‌السلام حيث يقول فيه :«واعلموا أن الأمل يُسهي العقل ويُنسي الذكرَ فاكذبوا الأمل فإنّه غرورٌ وصاحبه مغرور» (٢).

* *

__________________

(١). غرر الحكم (حرف ج ، رقم ٥٥).

(٢). نهج البلاغة ، الخطبة ٨٦.

٢٨١
٢٨٢

٢ ـ الأعمال التي تحجب عن المعرفة

١ ـ حجب الذنوب

نتأمل خاشعين معاً في الآيات التالية :

١ ـ (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَومِ الدِّينِ* وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ الَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيْمٍ* اذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ* كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ). (المطففين / ١١ ـ ١٤)

٢ ـ (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُوْلئِكَ الَّذِيْنَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ). (محمد / ٢٢ ـ ٢٣)

٣ ـ (أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِيْنَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِم وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُم لَا يَسْمَعُونَ). (الأعراف / ١٠٠)

٤ ـ (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِيْنَ أَسَاؤُا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ). (الروم / ١٠)

جمع الآيات وتفسيرها

الذنب يُعمي الإنسان ويصمه :

أشارت الآية الاولى إلى أولئك الذين أنكروا القيامة بالكامل ، وأضافت : أنّ القيامة لا ينكرها إلّاالمعتدون والآثمون ، فانّهم لا يخضعون أمام الحق ولا يسلمون إليه أنفسهم أبداً ، ولهذا إذا تُليت عليهم آيات الله قالوا : أساطير الأولين.

٢٨٣

وَيصرح القرآن : أنّ الأمر ليس كما يتوهم هؤلاء ، وقولهم هذا سببه الصدأ الذي أحاط قلوبهم وحال دون أن يعقلوا شيئاً.

لقد استخدمت مفردة «رَيْن» في هذه الآية الكريمة ، وقد قلنا سابقاً : أنّ لها معاني ثلاثة (على ما يدعيه أئمّة اللغة) الأول : الصدأ الذي يعلو الأشياء القيّمة ، الثاني : الصدأ الذي يعلو الفلزات وهو علامة تآكل وفساد ذلك الفلز ، الثالث : كل شيءٍ غلب على شيءٍ آخر ، ولهذا تستعمل هذه المفردة في مجال غلبة الشراب المسكر على العقل وغلبة الموت على الأحياء ، وغلبة النوم على العيون (١).

وبالطبع يمكن جمع هذه المعاني الثلاثة في مفهوم واحد وهو الصدأ الذي يستحوذ على الأشياء ويعلوها ، ثم اطلقت هذه المفردة على غلبة كل شيءٍ على شيءٍ آخر.

ونستشف من هذه الآية أنّ الإثم يعكر صفاء القلب بحيث يمنع انعكاس الحقائق في هذه المرآة الإلهيّة ، وإلّا فإنّ آيات الله خصوصاً في مسألة المبدأ والمعاد واضحة ولا تقبل الانكار.

ولهذا فقد قال بعض المفسرين : يظهر من هذه الآية أولاً : أنّ الأعمال القبيحة تُوجِد نقوشاً وصوراً في نفس الإنسان ، وثانياً : أنّ هذه الصور والنقوش تحول دون إدراك الحق. وثالثاً : إنّ روح الإنسان ـ وحسب طبيعتها الأولية ـ صافية وشفافة ، وتدرك الحقائق كما هي ، وتميز بين الحق والباطل وبين التقوى والفجور ، كما جاء ذلك في الآيات (وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (٢). (الشمس / ٧ ـ ٨)

وقد حلل مفسرون آخرون المسألة بشكل ملخص آخر.

عندما يكرر الإنسان عملاً ما فإنّ ملكة نفسانية لذلك العمل ستحصل عنده تدريجياً ، كالقراءة والكتابة ، ففي البداية يشق عليه الأمر ، وبعد الممارسة يتمكن منهما بدرجة لا يحتاج فيهما إلى فكر ودراسة.

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ٣١ ، ص ٩٤ ؛ تفسير روح المعاني ، ج ٣ ، ص ٧٢.

(٢). تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٣٤٩.

٢٨٤

وكذلك الأمر بالنسبة للذنوب ، فبالاصرار عليها وارتكابها مرات عديدة تحصل هذه الملكةُ عند الإنسان ، ونعلم أنّه لا حقيقة للذنب غير إشغال القلب بغير الله ، والتوجه لغير الله ظلمة ، وعندما تتراكم الظلمات على القلب تسلبه صفاءَه وشفافيته ، وإنّ لهذه الظلمات درجات ومراحل ، المرحلة الاولى هي مرحلة «الرَيْن» أو الصدأ ، والمرحلة الثانية هي مرحلة «الطبع» والمرحلة الثالثة هي مرحلة «الأقفال» وهي أشد المراحل.

* *

والآية الثانية ناظرة إلى المنافقين الذين يَدّعون الإيمان ، فإذا ما نزلت آية في الجهاد تمارضوا وتذرّعوا بذريعة من هو على وشك الموت ، فيخاطبهم القرآن قائلاً ، إنّ استمراركم في مخالفتكم هذه وإعراضكم عن العمل بكتاب الله ، سيؤدي بكم إلى أن تفسدوا في الأرض ، وأن تقطعوا أرحامكم ، ولا يأمن شركم حتى أرحامكم ، ثم يضيف : (أولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) (بذنوبهم) (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) فما كادوا يسمعون الحق ولا يرونه.

وقد كشفت هذه الآيات عن أنّ النفاق حجاب للقلب والروح من جهة ، ومن جهة اخرى عن التأثير السلبي للذنوب خصوصاً (الفساد في الأرض) و (قطع صلة الرحم) و (الظلم والجور) على إدراك الإنسان وتمييزه بين الحق والباطل.

ولقد فسّر البعض عبارة «إن توليتم» بالاعراض ، وفسرها بعض آخر بالولاية والحكومة ، أي أنَّ مقاليد الامور إذا أصبحت بأيديكم فستفسدون وتريقون الدماء وتقطعون الأرحام (١) ، ولهذا جاء عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام : أنّ الآية نزلت في بني امية (٢) ، وهذا تلميح إلى أنّهم عند استلام زمام الامور والحكومة الإسلامية سوف لا يرحمون صغيراً ولا كبيراً ، ولم يسلم من ظلمهم أحد حتى أقاربهم وذووهم.

__________________

(١). ورد كلا التفسيرين في تفاسير روح المعاني ومجمع البيان والميزان في ذيل الآيات المذكورة في البحث.

(٢). تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٠ ، ح ٥٩.

٢٨٥

وسواء كان معنى «التولي» هنا هو الإعراض عن الجهاد أو استلام مقاليد الامور في الحكومة والفساد في الأرض ، فإنّ ذلك لا يضر ببحثنا ، لأنّ الآية على أيّة حال تبين أنّ الذنوب حجاب للقلوب.

* *

وقد أشارت الآية الثالثة إلى أولئك الذين ورثوا الاسلاف من دون أن يعتبروا بمصيرهم الذي ابتلوا به ، فخاطبتهم : (لو نَشآءُ أَصَبْناهُم بِذُنوبِهِمْ ونَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُم لَا يَسْمَعُونْ).

عطف العقاب على الذنوب مع الطبع على القلوب والآذان ، تلميح إلى العلاقة بين هذين الاثنين.

ويقول البعض : إنّ الله إذا شاء عذّبهم بأحد العذابين : إِمّا بإهلاكهم بسبب ذنوبهم ، وإمّا بإبقاءهم أحياء مع سلب قدرة تمييز الحق عن الباطل منهم ، وهذا عذاب أتعس من عذاب الهلاك الإلهي.

إلّا أنّه بالالتفات إلى مجيء «أصبناهم» بصيغة الماضي و «نطبع على قلوبهم» بصيغة المضارع ، نفهم أنّ الجملة الثانية مستقلة وليست عطفاً على ما قبلها ، فيكون معنى الآية هكذا : (سواء عجلنا بعذابهم أم لم نعجل فَنحن نطبع على قلوب هؤلاء ونلقي حُجباً عليها) (١).

* *

أشارت رابع وآخر آية إلى عاقبة الذين يرتكبون الأعمال السيئة فقالت : (ثُمَّ كَانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ أَساؤا السُّوأَى أنَ كَذَّبُوا بآياتِ اللهِ) لِمَ لا يكون مصيرهم هذا والذنب كالمرض الذي ينقض على روح الإنسان فيتآكل الإيمان من جرائه؟ ولِمَ لا يكون هكذا

__________________

(١). جاء هذا كاحتمال في تفسير الكبير ، في ذيل نفس الآية ، إلّاأنّ صاحب تفسير الميزان عَدَّ الجملة الثانية معطوفة على «أصبناهم» التي تفيد الاستقبال ، لكن الظاهر أنّ التفسير الأول أنسب.

٢٨٦

وهو كالحجاب الذي يغطي القلب ويعميه؟ والأسوأ أنّه لا يكفر فحسب ، بل يفتخر بكفره ، وقد شهد التاريخ الكثير من هؤلاء.

وخلاصة الحديث ، إنّ القرآن يعدُّ الذنوب والمعاصي من موانع المعرفة ، وهذه حقيقة ملموسة ومجربة عند كثير من الناس ، فبمجرّد صدور ذنب أو معصية منهم يشعرون بظلمات خاصة في قلوبهم ، وإذا ما مالوا إلى الطهارة والتقوى يشعرون بأنوار ترتاح لها قلوبهم.

* *

توضيح :

إنّ الذنب حجاب في الروايات الإسلامية

لقد انعكست هذه الحقيقة في الروايات الإسلامية بشكل واسع نذكر هنا نماذج منها :

١ ـ جاء في حديث للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه :

«إنّ العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب صَقُل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه ، وهو الرّان (الرين) الذي ذكر الله في كتابه : (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

٢ ـ ونقرأ في حديث الإمام الصادق عليه‌السلام : أنّه قال فيه :

«كان أبي يقول : ما من شيء أفسدُ للقلب من خطيئة ، إنّ القلب لَيُواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله» (٢).

بديهي أنّ المراد من (أعلاه أسفله) تغير قدرة الإنسان على التمييز ـ بسبب الانس بالذنوب ـ حيث يرى الحسن قبحاً والقبح حسناً ، وهي أخطر مرحلة.

٣ ـ وقد جاء في حديث آخر للإمام الصادق عليه‌السلام أيضاً يقول فيه :

__________________

(١). تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٧٠٥٠ ، روح المعاني ، تفسير ج ٣ ، ص ٧٣ ، وتفسير الكبير ، ج ٣١ ، ص ٩٤.

(٢). اصول الكافي ، ج ٢ باب الذنوب ، ح ١.

٢٨٧

«إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فان تاب انمحت ، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يُفلحُ بعدها أبداً» (١).

واضح ، أنّ الشرط الأول للفلاح هو إدراك الحقائق ، فالذي تعطّل قلبه (عقله) عن العمل كيف يمكنه الوصول إلى السعادة والفلاح؟!

وقد جاء نفس المضمون في رواية اخرى عن الإمام الباقر عليه‌السلام في تفسير الآية (كَلّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ، وتم التعبير فيه بالنكتة السوداء والنكتة البيضاء حيث تتغلب السوداء ـ نتيجة تراكم الذنوب ـ على البيضاء النورانية وتغطيها (٢).

٤ ـ وفي حديث آخر للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه :

«كَثْرَةُ الذُنُوبِ مُفْسِدةٌ لِلْقَلْبِ» (٣).

٥ ـ وقد نقل في كتاب الخصال حديث عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله جاء فيه :

«أربع خصال يُمتن القلب : الذنب على الذنب ...» (٤).

ولهذا ، فإنّا أُمرنا ـ لمحو آثار الذنوب ـ قراءة ودراسة أحاديث الأئمّة إضافة إلى التوبة ، كما نقل ذلك في نور الثقلين عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإنّ الحديث جلاء للقلوب وَإنّ القلوب لترين كما يرين السيف ، وجلاءه الحديث» (٥).

٦ ـ وقد أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام لهذه الحقيقة في خطبة له مخاطباً بها بعض عمي القلوب :

«قد خرقتِ الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه وولهت عليها نفسه فهو عبد لها» (٦).

__________________

(١). اصول الكافي ، ج ٢ باب الذنوب ، ح ١٣.

(٢). المصدر السابق ، ح ٢٠ ، وقد نقل نفس المضمون في مجمع البحرين في مادة (ارين) أيضاً.

(٣). تفسير در المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٢٦.

(٤). الخصال ، ج ١ ، ص ٢٥٢ ، ح ٦٥ ، وقد جاء مضمون يشبه هذا في تفسير در المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٢٦.

(٥). تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٣١ ، ح ٢٣.

(٦). نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٣.

٢٨٨

٧ ـ وقد نقل الإمام الصادق عليه‌السلام عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :

«إذا ظهر العلم واحترز العمل وائتلفت الألسن واختلفت القلوب وتقاطعت الأرحام هنالك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم» (١).

٨ ـ وقد صُرّح بهذا الأمر بالنسبة لبعض الذنوب كما جاء ذلك في حديث لأميرالمؤمنين عليه‌السلام مخاطباً به أولئك الذين تركوا الجهاد :

«ألبسه الله ثوبَ الذل ... وضُرب على قلبه بالأسهاب وأُديل الحق منه بتضييع الجهاد» (٢).

٢ ـ حجاب الكفر والأعراض

في البداية نمعن خاشعين في الآيات الكريمة التالية :

١ ـ (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ). (الأعراف / ١٠١)

٢ ـ (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِّيْثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ الَّا قَلِيلاً). (النساء / ١٥٥)

٣ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ انَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ اكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً وَانْ تَدْعُهُمْ الى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً). (الكهف / ٥٧)

٤ ـ (وَالَّذِيْنَ لَايُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِم وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُوْلئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ). (فصلت / ٤٤)

__________________

(١). تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤١ ، ح ٦٣.

(٢). نهج البلاغة ، الخطبة ٢٧.

٢٨٩

جمع الآيات وتفسيرها

لِمَ يحجب الذنبُ القلوبَ عن الفقه؟

إنَّ الآية الاولى بعد إشارتها إلى تاريخ وقصص خمسة أقوام من الأقوام السالفة وهم (قوم نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب) حيث نزل عليهم العذاب الإلهي لتكذيبهم آيات الله ، قالت : (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ ...).

إنّ جملة (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرينَ) لا تشير إلى أي كافر كان ، وذلك كثيراً من المؤمنين كانوا في صفوف الكفار والتحقوا بصفوف المؤمنين بعد سماعهم لدعوة الأنبياء ، فالمراد ـ إذن ـ ذلك الفريق من الكافرين الذين ألحوا وأصروا على كفرهم ، فان كفرهم هذا يحول دون معرفتهم ورؤيتهم للحق.

والشاهد على هذا الكلام هو قوله : (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) أي أنّ تعصبهم بلغ درجةً لا تسمح لهم بتغيير طريقتهم والرجوع عن الباطل إلى الحق ، وقد ذكرت خمسة وجوه في تفسير هذه الجملة في تفسير الميزان والفخر الرازي (١) ، إلّاأنّ أظهرها هو ما تقدم اعلاه.

والآية الثانية بعد ما أشارت إلى سلوك فريق من اليهود وعدائهم للأنبياء قالت : (فَبَما نَقْضِهِمْ مِّيْثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ ...).

يقول القرآن : إنّهم لا يفقهون شيئاً وذلك لكفرهم فطبع الله على قلوبهم من جراء ذلك.

بديهي أنّ المراد من الكفر هنا هو الكفر المتزامن مع العناد ، والكفر المتزامن مع العداء للأنبياء ، والكفر المتزامن مع نقض المواثيق باستمرار والاستهزاء بآيات الله ، ومسلم أن كفراً كهذا يجعل حجاباً على عقل الإنسان لا يسمح لصاحبه أن يدرك الحقائق ، وهذا شيء صنعته أيديهم ولا جبر في البين.

ويظهر أنّ مرادهم من «قلوبنا غلف» هو الاستهزاء بآيات الله وبشخصية موسى بن عمران ، لا أنّهم يعتقدون أنّ قلوبهم خُلِقت مغلَّفةً لا تفهم الحقائق (كما جاء ذلك في بعض

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ٨ ، ص ٢١٥ ؛ تفسير الكبير ، ج ١٤ ، ص ١٨٦.

٢٩٠

التفاسير) (١) ، إلّاأنَّ الله أخذ كلامهم بالجد وأجابهم : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ ...).

وهناك احتمال آخر وهو أنّ مرادهم من الجملة هو أن قلوب كلٍّ منهم كالوعاء المليء بالعلم والغمد الذي فيه السيف فلا تحتاج لعلوم الآخرين (٢) ، إلّاأنّ هذا الاحتمال بعيد جداً.

وعلى هذا ، فهناك ثلاثة احتمالات في تفسير الآية والأول أنسب من الآخرين ، وقد نقل في بعض التفاسير حديث ذا مغزىً عميق عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه : «الطابَعُ مُعَلّق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمة وعُمِل المعاصي واجتُريء على الله تعالى بَعَثَ الله تعالى الطابع فطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئاً» (٣).

والجدير بالذكر هو أنّ «طابع» اسم فاعل للطبع و «طابَع» اسم آلة الطبع ، ويظهر في الحديث أنّ الكلمة الاولى بالفتح والثانية بالكسر.

وهذا الحديث يؤكد بوضوح الحقيقة التالية : أنْ لا جبر هنا ، وأنّ حجب القلوب نتيجة لأعمال الإنسان نفسه.

* *

وَطرحت الآية الثالثة سؤالاً تقريرياً حيث قالت : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ ...).

إنّ دليل اعتبار القرآن هؤلاء أظلم الناس واضح لأنّهم ظلموا أنفسهم كما ظلموا الآخرين كذلك فإنّ ظلمهم هذا وقع في محضر الساحة القدسية الإلهيّة مع وجود تعاليمه الحقة ، وعليه فالآية لا تدل على عدم الجبر فحسب ، بل تدل على اصالة الاختيار.

وما يلفت النظر هنا هو أنّ الفخر الرازي بالرغم من كونه من القائلين بالجبر ، لكنهُ

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ٥ ، ص ٣٨ ؛ تفسير القرطبي ، ج ٣ ، ص ٢٠٠٤.

(٢). لقد جاء هذا الاحتمال في التفاسير التالية : في تفاسير الكبير ، ج ١١ ، ص ٨٧ ؛ والقرطبي ، ج ٣ ، ص ٢٠٠٤ ؛ وروح المعاني ، ج ٦ ، ص ٨.

(٣). تفسير روح المعاني ، ج ٦ ، ص ٨.

٢٩١

عندما يصل إلى هذه الآية يقول : إنّ آخر الآية دليل لمؤيدي الجبر ، بينما صدرها دليل لمؤيدي الاختيار! ثم يضيف : قلّما نجد آية في القرآن تؤيد أحد الفريقين ، وإذا ما وجدنا آية مؤيدة لفريق وجدنا قبالها آية تؤيد الفريق المقابل ، والتجربة شاهد على ما نقول ، وهذا امتحان صعب من الله للعباد ، وذلك لكي يتميز الراسخون في العلم عن المقلِّدين (١)! ياله من اعتراف عجيب؟!

ونضيف إلى ما قاله الفخر الرازي : أنّ كلاً من آيات القرآن لا يمكن دراستها وملاحظتها لوحدها من دون ملاحظة ودراسة الآيات الاخرى فضلاً عن صدر وذيل الآية الواحدة ، كما نقول : إنّ الآية بصدرها وذيلها دليل على مسألة الاختيار لا شيء آخر ، وذلك لأنّ صدرها يقول : إنّ الإعراض عن آيات الله واقتراف الذنوب من أفعال الإنسان وهو فاعلها باختياره ، بينما ذيل الآية يقول : إنّ الله يعاقب المُصرّين على السير في هذا الطريق ، وعقابهم هو جعل الأكنة على قلوبهم.

وبتعبير آخر : إنّ الله جعل لهذه الذنوب آثاراً ومردودات ، وهذه الآثار تعكّر صفاء القلب ، وتسلب قدرة التمييز عند الإنسان ، فأيّ جبر في هذا الحديث؟!

مثله كمثل الخبير الذي يعلم بأن السم قاتل ، وبالرغم من ذلك يتناوله ، فهل هذا التأثير القهري للسم جبر؟!

* *

وقد أشارت الآية الأخيرة إلى المعاندين الذين يختلقون الحُجج ويسألون ـ أحياناً ـ هذا السؤال : لِمَ لَمْ ينزل القرآن أعجمياً كي نعيره أهميّة أكبر ولكي لا ينحصر في العرب؟

(قد يكون غرضهم الأساسي من هذا هو عدم فهم عامة الناس له والاقبال عليه إذا ما كان أعجمياً).

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ٢١ ، ص ١٤٢ ، والعجيب أنّ الآلوسي في روح المعاني عندما نقل عبارة الفخر الرازي ادعى أنّ الفخر الرازي قال : إنّ هذه الآية من أدلة القائلين بالجبر والآية التي قبلها من أدلة القائلين بالاختيار. وقد نقل صاحب الميزان العبارة من روح المعاني ، بينما مراد الفخر الرازي صدر وذيل الآية نفسها (تأمل جيداً).

٢٩٢

فأجابهم القرآن في صدر الآية : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْ لَافُصِّلَتْ آيَاتُهُ). (فُصّلت / ٤٤)

أي لأشكلتم اشكالاً آخر وهو : أنّ القرآن مبهم وغامض ، ثم يضيف القرآن : (ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌ) أي هل يصحّ لنبي عربي أن يأتي بقرآن أعجمي؟

ثم أمر الله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يجيبهم هكذا : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشَفَاءٌ وَالَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِم وَقرٌ وَهوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولئِكَ يُنادَونَ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ).

وقد بيّنت الآية بوضوح أنّ اختلاق الحجج والعناد والإصرار على الكفر يجعل حجاباً على القلوب يمنعها عن الإدراك والفهم (١).

٣ ـ حجاب الاعتداء والعدوان

(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً الَى قَومِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِيْنَ). (يونس / ٧٤)

جمع الآيات وتفسيرها

بيّنت الآيات السابقة لهذه الآية من سورة يونس قصة نوح ، حيث كان يدعو قومه لله ويسعى لهدايتهم وانذارهم من عذاب الله ، إلّاأنّهم كذبوه ، فاغرقهم الله بطوفانه وأهلكهم ، وأنقذ المؤمنين منهم بالسفينة فورثوا الأرض.

ثم يضيف الله في الآية : إنا أرسلنا ـ بعد نوح ـ رسلاً كلاً إلى قومه مع معاجز وأدلة واضحة ومنطقية ورسائل يشهد محتواها على أحقيتهم ، إلّاأنّهم لم يخضعوا للحق واستمروا في تكذيبهم.

__________________

(١). فسّر البعض عبارة : «وهو عليهم عمىً» بأنّ القرآن سبب لعمى هذا الفريق ، بينما قال ابن منظور في لسان العرب والراغب في المفردات : إنّ جملة (عمى عليه) تعني اشتبه عليه حتى صار كالأعمى (تأمل جيداً).

٢٩٣

ويقول الله في ذيل الآية : (كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) ، وهذه إشارة إلى أنّ الاعتداء والعدوان يترك حجاباً في القلب يحول دون معرفة القلب لآيات الله وتمييزه بين الحق والباطل.

إنّ الطبع الإلهي على القلوب بالاضافة إلى كونه عقاباً إلهيّاً للمعتدين ، كذلك يكون أثراً من آثار الاستمرار في الاعتداء ، والمراد من الاعتداء هنا هو الاعتداء في الساحة الإلهيّة واستمرار المعصية واقتراف الذنوب ومعاداة الرسل.

إنّ جملة : (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) إشارة إلى أن بعض الرسل جاءوا أقوامهم فكذبوهم ، ثم أرسل الله إليهم رسلاً آخرين مع أدلة واضحة فما آمنوا بهم أيضاً ، وذلك لأنّ عنادهم نسج حاجباً سميكاً على عقولهم فأصبحوا لا يفقهون شيئاً ولا يعقلون.

ويقول البعض : إنّ المراد من المكذبين في الآية قوم نوح الذين أُغرقوا بالطوفان ، والمراد من القوم الذين لم يؤمنوا الأقوام التي جاءت بعد قوم نوح وقد سلكوا مسلك قوم نوح في الاعتداء على الرسل وتكذيبهم (١).

ويبدو هذا التفسير بعيداً عن الواقع لأنّه لازمه اختلاف مرجع الضميرين في (كذّبوا وليؤمنوا) ، ولهذا فالافضل هو التفسير الأول.

ويحتمل أن يكون المراد هو : الأقوام التي جاءت بعد نوح والتي قد نُقِلت لها حقائق عن دعوة الأنبياء السالفين فكذبوا تلك الحقائق ، ثم جاءتهم رسل فكذبوهم كذلك ، وعلى هذا فالتكذيب الأول يتعلق بما نُقِلَ وحُكِي لهم ، والتكذيب الثاني يتعلق بالامور التي شاهدوها من الأنبياء بأُم أعينهم (٢) ويبدو أنّ هذا التفسير مناسب ، ولا يبعد الجمع بين التفسيرين.

* *

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ١٢٥.

(٢). تفسير روح المعاني ، ج ١١ ، ص ١٤٣.

٢٩٤

٤ ـ حجاب الرؤية السطحية وترك التدبر

١ ـ (وَيَدْعُ الْانْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً). (الإسراء / ١١)

٢ ـ (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). (محمد / ٢٤)

جمع الآيات وتفسيرها

أقفال القلوب الثقيلة :

في الآية الاولى يذكر الله سبحانه وتعالى أحد أسباب الكفر وعدم الإيمان بالله وهو عدم دراسة الامور بدقّة وتبحر ، ويقول : إنّهم وبسبب إضطرابهم وتسرعهم يتجهون أحياناً نحو الشر بشكل وكأنهم يتجهون نحو الخير والسعادة ، ويتجهون نحو الهاوية بشكل وكأنّهم يتجهون نحو مكان آمن ويتجهون نحو الذل والعار كما لو كانوا يتجهون نحو طريق الفخر والعز.

أي أنّ تفكيرهم السطحي وتركهم التدبر يجعل حجاباً على عقولهم يحول دون إدراكهم الصحيح ، فيرون ـ لأجل ذلك ـ الشرّ خيراً والشقاء سعادة ، والضلال صراطاً مستقيماً.

وقد جاء في تفسير الميزان : أنّ المراد بكون الإنسان عجولاً هو : أنّه لا يأخذ بالاناة إذا أراد شيئاً حتى يتروى ويتفكر في جهات صلاحه وفساده حتى يتبين له وجه الخير فيما يريده من الأمر فيطلبه ويسعى إليه ، بل يستعمل هواه في طلبه بمجرد تعلقه به فربّما كان شراً فتضرر به ، لكن جنس الإنسان عجول لا يفرق بين الخير والشر بسبب عجلته ، بل يطلب كل ما لاح له ويسأل كل ما بدا له فتعلق به هواه من غير تمييز بين الخير والشر (١).

أمّا المراد من «يَدْعُ» هنا؟ فيقول البعض : أنّه الطلب سواء كان في صورة دعاء أو طلب

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٤٩ (ملخص).

٢٩٥

من الله أو كان بصورة طلب عملي أي ، السعي لتحصيل الشيء وبذل الجهود لِنَيْلِهِ (١).

إلّا أنّ المستفاد من بعض التفاسير أنّ المراد هو الدعاء اللفظي والطلب من الله ، ولهذا قيل في شأن نزول الآية : إنّها نزلت في حق النضر بن الحارث وهو من مشركي العرب المعروفين حين قال : (اللهُمَّ انْ كَانَ هَذَآ هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) ، فاستجاب الله هذا الدعاء وأهلكه (٢).

وقد ذكر المرحوم الطبرسي كلا التفسيرين في مجمع البيان ويظهر أنّ معنى الآية يسع كلا التفسيرين.

وقد جاء في حديث للإمام الصادق عليه‌السلام في تفسيره لهذه الآية قال فيه : (وَاعْرِفْ طَرِيْقَ نَجاتِك وَهَلَاكِكَ ، كَيْلا تَدْعُو اللهَ بِشَيء عَسى فِيْهِ هَلاكُكَ وَأَنْتَ تَظنُّ أَنَّ فِيْهِ نَجاتكَ. قالَ اللهُ تَعالى : وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً) (٣).

وقد جاء في حديث آخر أنّ آدم نصح أولاده وقال لهم : (كُلُّ عَمَلٍ تُريدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا فَقِفُوا لَهُ ساعةً فَانِّي لَوْ وَقَفْتُ ساعةً لَمْ يَكُنْ أصابَنِي ما أَصابَنِي) (٤).

ومن هذا الباب اطلق العرب عبارة «ام الندامات» اسماً للعجلة ، كما قيل : أنّ العجلة من الشيطان إلّافي ستة موارد : أداء الصلاة في وقتها ، دفن الميت ، تزويج البنت الباكر عند بلوغها ، أداء الدين عند حلول وقته ، إطعام الضيف عندما يحلّ ، والتوبة عند اقتراف الذنب.

أمّا ما المراد من الآية «وكان الإنسان عجولاً» وأمثالها الذي ورد في القرآن الكريم والتي تعبر عن نقاط الضعف المهمّة في طبيعة الإنسان؟ وكما ذكرنا في التفسير الأمثل أنّ المراد بالآية الإنسان الذي لم يتخلق باخلاق الله ولم يتربَّ على أساس التربية الرسالية والدينية ، لا الإنسان المهذب.

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٥٠ ، وبما أنّ الباء في «بالخير وبالشر» باء صلة فيكون معنى الجملة هكذا : «يدعو الشر كدعائه الخير».

(٢). تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٨٤١ ؛ وتفسير الكبير ، ج ٢٠ ، ص ١٦٢.

(٣). تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٤١.

(٤). تفسير روح البيان ، ج ٥ ، ص ١٣٧.

٢٩٦

* *

وتحدثت الآية الثانية عن فريق من المنافقين المعاندين حيث أُشير إليهم في الآيات السابقة بصفة عمي القلوب ، وإذا تسلموا زمام الحكم ما رحموا صغيراً ولا كبيراً ، واعتبرهم الله الملعونين والمطرودين من رحمته ، وقال فيهم هنا : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) لا قفل واحد بل أقفال ، فكيف يمكنهم إدراك الحقائق؟ (محمّد / ٢٤)

هناك بحث بين المفسرين في أنّ «أم» متصلة أو منفصلة (١) ، فاذا كانت متصلة يكون المعنى هكذا : أفلا يتدبرون القرآن أو أن هناك اقفالاً على قلوبهم؟ وأما إذا كانت منفصلة فالمعنى هكذا : أفلا يتدبرون القرآن؟ كلا ، بل إنّ اقفالاً على قلوبهم.

وعلى كلا المعنيين فالآية دليل على وجود تضاد بين «التدبر» و «الحجاب على القلوب» ، ويمكن القول : إنّ الآية تشير إلى حجاب ترك التدبر.

وقد جاء في تفسير (في ظلال القرآن) : «تدبر القرآن طبقاً لهذه الآية يزيل الغشاوة ، ويفتح النوافذ ، ويسكب نور المعرفة على القلوب ، ويحرك المشاعر ، ويستجيش القلوب ، ويخلص الضمير ويجدد الروح ويجعلها اكثر صفاءً واشراقاً» (٢).

وقد جاء بعض المفسرين بدليلين لذكر القلوب نكرة في الآية ، الأول : أنّها ذكرت نكرة لبيان حال قلوبِهم المروّع ، وأنّها قلوب مجهولة مليئة بالقساوة والظلمات.

الثاني : إنّ المراد هو بعض القلوب لا كلها ، لأنّ بعضهم لم يصلوا إلى تلك الدرجة من الظلمات بحيث تقفل قلوبهم وتتوقف عن إدراك الحقائق.

وذكر الأقفال بصيغة الجمع إشارة إلى الحجب المختلفة التي تجعل على قلوبهم مثل حجاب النفاق والعناد والغرور وحب النفس وغيرها.

كما ينبغي الإشارة إلى هذه النقطة وهي : إنّ بين «ترك التدبر» و «حجاب القلب» تأثيراً متبادلاً ، فكلٌّ منهما يمكنه أن يكون علة للآخر في مرحلة ومعلولاً له في مرحلة اخرى ،

__________________

(١). ينقل الآلوسي في روح المعاني عن سيبويه أنّها متصلة ، بينما ينقل عن ابي حيان وفريق آخر أنّها منفصلة (ج ٢٦ ، ص ٦٧).

(٢). تفسير في ظلال القرآن ، ج ٧ ، ص ٤٦٢.

٢٩٧

فتارة ترك التدبر ينشأ عن ظلمات القلب ، وتارة اخرى ظلمات القلب تنشأ عن ترك التدبر.

وننهي حديثنا هذا برواية عن الإمام الباقر عليه‌السلام جاء فيها : «قرّاء القرآن ثلاثة : رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدرّ به الملوك واستطال به على الناس ، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده واقامه إقامة القدح فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن ، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله واظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عن فراشه فبأولئك يدفع الله العزيز الجبار البلاء وبأولئك يديل الله عزوجل من الأعداء وبأولئك ينزل الله عزوجل الغيث من السماء فوالله لهؤلاء في قرّاء القرآن أعزّ من الكبريت الأحمر» (١).

٥ ـ حجاب الارتداد

في البداية نتأمل خاشعين في الآية الكريمة التالية :

(اتَّخَذُوا ايْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ انَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* ذلِكَ بِانَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ). (المنافقون / ٢ ـ ٣)

جمع الآيات وتفسيرها

إنّ هذه الآية ناظرة إلى المنافقين ، وبالرغم من أنّ النفاق حجاب مستقل بحد ذاته إلَّا أنّ القرآن هنا يذكر موضوعاً آخر في هذا المجال حيث يقول : (بِانَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ).

يعتقد بعض المفسرين : أنّ الأشخاص المعنيين في هذه الآية هم فريق آمنوا ظاهراً وظلّوا كفّاراً باطناً.

__________________

(١). اصول الكافي ، ج ٢ ، باب ١٣ النوادر ، ص ٦٢٧ ، ح ١.

٢٩٨

إلّا أنّ ظاهر الآية يكشف عن أنّهم في البداية آمنوا حقاً ، ثم كفروا بعد ايمانهم ، وكان كفرهم هذا متزامناً مع النفاق ، لأنّ التعبير ب «ثم» يدل على أن كفرهم حصل بعد الإيمان لا أنّه كان متزامناً مع الإيمان ليكون أحدهما ظاهراً والاخر خفياً ، وعلى هذا فالآية تتحدث عن حجاب الارتداد.

ولا عجب في أن يطبع الله على قلب من آمن وذاق طعم الإيمان وحلاوته ، وشاهد أنوار الرسالة ، ثم كفر كفراً تزامن مع النفاق.

إذا التبس الحق على شخص منذ البداية فعذره يمكن أن يكون وجيهاً ، أمّا إذا ارتد عن الإيمان بعد ما عرف الحق وآمن به ، فهذا غالباً ما يكشف عن حالة العناد عند هذا الشخص ، والله يسلب نعمة المعرفة عن أشخاص كهؤلاء ويطبع على قلوبهم.

بالطبع لا دليل لنا على أنّ كل المنافقين كانوا غير مؤمنين منذ البداية ، بل إنَّ فريقاً منهم آمنوا في البداية حقاً ثم ارتدوا كما جاء ذلك في الآية : (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسلامِهِمْ). (التوبة / ٧)

وهذا النفاق المتزامن مع العناد هو الذي يجعل حجاباً على القلوب.

ونؤكد تارة اخرى أنّ هذا الحديث لا يدل على الجبر اطلاقاً ، لأنّ مقدّمات هذا الحرمان أوجدها المنافقون بأنفسهم.

٦ ـ حجاب الكذب والافتراء

في البداية نلاحظ خاشعين الآيات الكريمة التالية :

١ ـ (لَمْ تَرَ الَى الَّذِينَ اوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ الَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ الَّا أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ). (آل عمران / ٢٣ ـ ٢٤)

٢ ـ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا انْ مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَافْئِدةً

٢٩٩

فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَآ ابْصَارُهُمْ وَلَا افْئِدَتُهُمْ مِّنْ شَىْءٍ اذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ). (الأحقاف / ٢٦)

* *

جمع الآيات وتفسيرها

خُداع الكذب :

يقول بعض المفسرين في شأن نزول الآية الاولى :

إنّ رجلاً وامرأة من اليهود زنَيا ، وكانا ذوي شرف ، وكان في كتابهم الرجم ، فكرهوا رجمهما لشرفهما ، فرجعوا في أمرهما إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام : بيني وبينكم التوراة فإنّ فيها الرجم فمن أعلمكم؟

قالوا : عبدالله بن صوريا الفدكي ، فأتوا به واحضروا التوراة ، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها ، فقال ابن سلام الذي كان على ملة اليهود وأسلم.

قد جاوز موضعها يا رسول الله ، فرفع كفّه عنها فوجدوا آية الرجم ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله برجمهما فرجما ، فغضبت اليهود لعنهم الله لذلك غضباً شديداً فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

يقول القرآن في هذا المجال : (الَمْ تَرَ الَى الَّذِينَ اوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ الى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيْقٌ مِنهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ).

ثم يضيف : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ الَّا ايَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وغَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ).

«يفترون» من مادة «الافتراء» ومن أصل «فري» الذي يعني القطع وشق الجلد بهدف الإصلاح ، إلّاأنّه قد تستعمل في صيغة «الافراء» فتعني القطع بهدف الافساد ، و «الافتراء» معناه واسع ، أي القطع سواء كان بهدف الإصلاح أو الافساد ، بالرغم من استعماله في أغلب

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ٧ ، ص ٢٣٢.

٣٠٠