نفحات القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-88-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٠

في صدر الإسلام ، حيث إنّ بعض المسلمين رفض الهجرة إلى المدينة ، والعجيب في الأمر أنّ قريشاً عندما تحركوا نحو بدر لقتال المسلمين ، اصطف هؤلاء المسلمون (المنافقون) في صفوفهم ، وكانوا يحدثون أنفسهم أنّهم سيلتحقون بجيش محمد إذا كان جيشه ذا عدد كبير ، وسيبقون مع جيش قريش إذا ما كان عدد المسلمين قليلاً (١).

وهل للنفاق مفهوم غير هذا الذي تجسد في هذه المجموعة؟ وإذا لم يكونوا منافقين ، فمن هم المنافقون؟

وقد حصل هذا الأمر بالذات في معركة الأحزاب فإنّ شخصيات كثيرة من المنافقين كانت قد حشرت نفسها مع المسلمين ، وعندما شاهدوا كثرة الأحزاب قالوا بصراحة : ما وعدنا الرسول إلّاكذباً وباطلاً.

وهذا هو حجاب النفاق الذي لا يسمح لهم من إدراك الحقائق ، رغم أنهم شاهدوا بأم أعينهم أن النصر ليس بكثرة العدد ، بل بالإيمان والثبات الناشيء عنه.

سؤال :

يطرح سؤال هنا وهو : كيف يكون النفاق حجاباً يحجب عن الحقائق؟

الجواب :

يمكننا الإجابة عن هذا السؤال بالالتفات إلى ملاحظة في هذا المجال وهي : إنّ روح النفاق تستلزم أن يتحرك الإنسان مع كل التيارات وأن يكون مع جميع الفرق ، وأن يتخذ صبغة المحيط الذي يعيش فيه ، فيفقد في النهاية أصالته واستقلاله الفكري ، إنّ طريقة تفكير إنسان كهذا تكون متطابقة دائماً مع طريقة تفكير الفريق الذي يكون معهم ، فلا عجب أن يكون حكمه غير صحيح.

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ١٥ ، ص ١٧٦ ذيل الآية ٤٩ من سورة الأنفال.

٢٦١

وقد جاء في بعض التفاسير : إنّ التعبير ب «في قلوبهم مرض» يصدق في موارد كهذه الموارد ، من حيث إنّ غاية القلب (العقل) الخالص هو معرفة الله وعبوديته ، وكل صفة منعت وحجبت عن غاية القلب هذه ، قيل لها مرض (لأنّها تحجب الهدف وتمنعه من الظهور) (١).

ولهذا جاء في الآية ٧ سورة المنافقين : (وَلكِنَّ الْمُنَافِقِيْنَ لَايَفْقَهُونَ).

كما قد جاء في حديث الإمام الباقر عليه‌السلام : «إنّ القلوب أربعة : قلب فيه نفاق وإيمان وقلب منكوس وقلب مطبوع وقلب أزهر أجرد» فقلت ما الأزهر؟ قال : «فيه كهيئة السراج ، فأمّا المطبوع فقلب المنافق ، وأمّا الأزهر فقلب المؤمن إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صَبَر ، وأمّا المنكوس فقلب المشرك» (٢).

وننهي حديثنا هذا بكلام للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «النفاق على أربع دعائم على الهوى والهوينا والحفيظة والطمع» (٣).

ونعلم أنّ كلاً من هذه الامور الأربعة تشكل حجاباً سميكاً أمام نظر العقل.

٦ ـ حجاب التعصب والعناد

١ ـ (وَمِنْهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُ الَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً وَانْ يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لَّايُؤْمِنُوا بِهَا حَتّى اذَا جاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا انْ هَذَا الَّا أَسَاطِيْرُ الْأَوَّلِيْنَ). (الأنعام / ٢٥)

٢ ـ (وَاذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً* وَجَعَلنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَاذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا). (الاسراء / ٤٥ ـ ٤٦)

٣ ـ (فَانَّكَ لَاتُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ اذَا وَلَّوْا مُدْبِرِيْنَ* وَمَا

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ٢ ، ص ٦٤ ذيل الآية ١٠ من سورة البقرة.

(٢). اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٤٢ باب في ظلمة قلب المنافق ، ح ١.

(٣). اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٩٣ باب صفة المنافق والنفاق ،.

٢٦٢

أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْىِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ ان تُسْمِعُ الَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ). (الروم / ٥٢ ـ ٥٣)

٤ ـ (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا القُرآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَروا انْ أَنْتُمْ الَّا مُبْطِلُونَ* كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ). (الروم / ٥٨ ـ ٥٩)

٥ ـ (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا الَيْهِ وَفِى آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بِيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ انَّنَا عَامِلونَ). (فصلت / ٥)

جمع الآيات وتفسيرها

الموتى المتحركون :

حضر عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ابو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وأبو جهل وأفراد آخرون واستمعوا إلى حديث الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا للنضر : ما يقول محمد؟ (وكان النضر تاجراً يسافر إلى ايران وله اطّلاع واسع بالأساطير والقصص التاريخية الايرانية) فقال : لا أدري ما يقول لكنّي أراه يحرك شفتيه ويتكلّم بأساطير الأولين كالذي كنت احدثكم به عن أخبار القرون الاولى وقال أبوسفيان : إنّي لا ارى بعض ما يقول حقاً.

فقال أبوجهل : كلا ، فانزل الله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ اكِنَّهً انْ يَفْقَهُوهُ) (١).

وقال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية أنّهم لما أصروا على الكفر وعاندوا وصمموا عليه فصار عدو لهم عن الإيمان والحالة هذه كالكنان المانع عن الإيمان (٢).

ولهذا نزلت هذه الآية وقالت بصراحة : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ الَيْكَ ...).

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ١٢ ، ص ١٨٦.

(٢). المصدر السابق ، ص ١٨٧.

٢٦٣

وقد قال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية :

(وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) : إنّ عناد هؤلاء الكفرة واصرارهم في معاداة الحق ، يجعل ستاراً على قلوبهم يحول دون إيمانها (١).

وقد تحدثت الآية الثانية عن الحجاب الذي كان يُجعل بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين فريق من المنافقين عندما كان يتلو القرآن الكريم.

وقد فسر البعض هذا الحجاب بستار حقيقي كان يجعله الله بين الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وبينهم بحيث لا يرونه ، إلّاأنّه مع الالتفات إلى الآيات التي لحقت هذه الآية من نفس السورة ، يتضح لنا أنّ الحجاب لم يكن سوى «حجاب التعصب والعناد والغرور والجهل» الذي كتم حقائق القرآن عن عقولهم وإدراكهم.

والشاهد على ذلك هو قوله تعالى : (وَاذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) فالمستفاد من هذا التعبير هو أنّهم كانوا يصغون في البداية إلى حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم يولون مدبرين لعدم سماح العناد لهم لإدراك القرآن ، وإدراك حديث التوحيد.

ونشاهد في نفس السورة تعابير اخرى تحكي روح العناد المتجسمة فيهم ، ومع هذا ، فهل يمكنهم إدراك حقيقة ما؟

وخاطبت الآية الثالثة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلة له : إنّك لا تُسمع الموتى ولا الصم عندما يولون مدبرين ، كما أنّك لا تستطيع هداية العمى وانقاذهم من الهلاك ، فما يسمع كلامك إلّاالذين آمنوا بآيات الله وسلموا للحق (أي الذين تتلهف قلوبهم للحق ، فإنّ قلوباً

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ١٢ ، ص ١٨٧.

٢٦٤

كهذه كالأرض المعدَّه للزرع ، تسطع عليها الشمس ، وتقطر السماء عليها قطرات الحياة ، فتنمو فيها البذور بسرعة ، وأمّا القلوب التي عطّلتها حُجب التعصب والجهل فانّها محرومة من هذه الحقائق) (١).

والآية الرابعة تحدثت عن أولئك الكفار الذين وقفوا أمام الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عناداً ، وخالفوا كل ما جاء به ، فكانوا يرمون الرسول والقرآن بالباطل تارة ، وتارة اخرى يقولون : إنّ ما جاء به الرسول سحر وأساطير الأولين ولا مجال للحق فيه : فتحدث في هذه عن هؤلاء وقال : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِيْنَ لَايَعْلَمُونَ). لأنّهم لا يعلمون شيئاً عن هذا الكتاب السماوي الذي هو مصدر للحقائق.

كما أنّ الآية توضح العلاقة بين «الجهل» و «العناد».

وعكست الآية الخامسة النموذج الكامل من العناد ، فما قيل إلى الآن كان خطاباً بين الله ورسوله ، أمّا هنا فهم يعترفون بأنفسهم بأنّ على قلوبهم أكنة ، وفي آذانهم وقراً ، وبينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حجاب لا يسمح لهم إدراك ما يقول والتسليم له ، فاعمل على شاكلتك ونحن عاملون على شاكلتنا.

إنّ هذه التعابير تبين بوضوح ما هو العامل الأساسي لهذه الحجب وما هو السبب الرئيسي للوقر الذي يجعل في الاذن؟ إنّها عبارات يقطر منها التعصب والعناد وتبين سبب شقائهم وتعاستهم.

كما أنّ «التعصب» مشتق من مادة «عصب» وهو في البدن خلايا تسبب اتصال العضلات إحداها بالاخرى أو بالعظام ، والعصب بمثابة الوسيلة لنقل الايعاز إلى المخ ، وبما

__________________

(١). وقد جاء في سورة النمل الآية ١١ مضمون يشبه مضمون هذه الآية.

٢٦٥

أنّ له بنياناً قوياً ومحكماً استعملت هذه المفردة بمعنى الشدة والاستحكام ، ويوم عصيب يعني يوم شديد وصعب ، ولهذا يطلق «التعصب» على حالة الإرتباط الشديد بشيء ، كما أن «العُصْبة» على وزن أسوة تعني جماعة من الرجال (المقتدرين) الذين لا يقلون عن عشرة ، وأمّا «عَصَبة» فتعني أقارب الرجل من جهة الأب (١).

إنّ «اللجاجة» وهي من مادة «لجّ» هي التمادي في العناد ، وملازمة أمر ما وعدم الانصراف عنه ، و «اللجّة» تعني حركة أمواج البحر ، أو التباس ظلمات الليل ، و «البحر اللّجي» هو البحر الواسع والمتلاطم ، والتلجلج في الكلام هو التردد فيه ، أو اختلاط الأصوات (٢).

النتيجة :

إنّ التعصب واللجاجة والعناد يتلازم أحدها الآخر ، لأنّ الارتباط الشديد بشيء يدعو الإنسان إلى الالحاح والعناد والدفاع عنه بدون قيد أو شرط.

بالطبع قد يستعمل التعصب بمعنى الانحياز والإرتباط بالحق ، إلّاأنّ الاستعمال الغالب له هو الإرتباط بالباطل.

إنّ منشأ التعصب واللجاجة والعناد ـ بجميع أشكالها ـ هو الجهل والقصور الفكري ، لأنّ صاحب التعصب واللجاجة يظن أنّه إذا تخلى عن عقيدته ورأيه فهذا يعني تخليه عن كلِّ شيءٍ ، أو أنّ هذا إهانة لشخصيته.

وقد يكون منشأه هو التكبر والغرور اللذين يمنعانه من الخضوع أمام الحق والتسليم له ، وقد يكون منشأه عوامل أخرى.

إنّ التعصب واللجاجة يجعلان ستاراً قاتماً على العقل لا يسمح للإنسان أن يرى

__________________

(١). كتاب العين ، والمفردات ، ومجمع البيان ، ولسان العرب.

(٢). المصدر السابق.

٢٦٦

الحقائق ، حيث نرى البعض غير مستعدين للتخلي عن عقائدهم بأي شكل كان رغم وجود الأدلة القطعية على بطلانها ، وإنّ أشخاصاً كهؤلاء لو أقمنا لهم ألف دليل ودليل على أنّ للدجاج رجلين ، قالوا : كلا ، بل رجل واحدة! ولو أخذناهم بأيدينا تحت نور الشمس الساطعة وقلنا لهم : إنّه نهار ، قالوا : لا بل ليل!

لقد عكست الآيات التي ذكرناها في بداية البحث هذه الحقيقة بوضوح ، واعتبرت هؤلاء صُمّاً وعمياً وأمواتاً ، وطبع على قلوبهم ، أو أنّ قلوبهم مغلقة فلا يفقهون شيئاً.

وقد جاء في الروايات الإسلامية مضامين تستند إلى نفس المضمون الذي جاء في الآيات المذكورة ، وفيها توبيخ لأهل اللجاجة والعناد.

منها قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «اللجوج لا رأيَ له» (١).

ومنها قوله عليه‌السلام كذلك : «اللَّاجُ يُفسد الرأي» (٢).

وكذا قوله عليه‌السلام : «ليس للجوجٍ تدبير» (٣).

وقال الإمام عليه‌السلام نفسه في الخطبة القاصعة : «فالله الله في كِبْر الحَمية وفخر الجاهلية فإنّه ملاقح الشنآن ، ومنافخ الشيطان ، التي خدع بها الأمم الماضية والقرون الخالية حتى أعنقوا في حنادس جهالته ومهاوي ضلالته» (٤).

ننهي حديثنا بكلام آخر لنفس الإمام العظيم ، في جواب له على رسائل أهالي مدن مختلفة حول حوادث صغيرة : «مَنْ لَجّ وتمادى فهو الراكسُ الذي رانَ اللهُ عَلى قلبه وصارت دائرة السوء على رأسه» (٥).

بالطبع ـ وكما قلنا سابقاً ـ إنّ الاصرار والالحاح في الحق ليس تعصباً ، وإذا أطلقنا عليه تعصباً فهو «تعصب ممدوح» ، ولهذا جاء في حديث للإمام علي بن الحسين عليه‌السلام عندما سُئِل

__________________

(١). غرر الحكم.

(٢). المصدر السابق.

(٣). المصدر السابق.

(٤). نهج البلاغة الخطبة ١٩٢.

(٥). المصدر السابق الرسالة ٨٥.

٢٦٧

عن مفهوم التعصب : «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجلُ شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين ، وليس من العصبية أن يُحب الرجلُ قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم» (١).

٧ ـ حجاب التقليد الأعمى

نُمعن خاشعين أولاً في الآيات التالية :

١ ـ (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِيْنَ* انْ هَذَا الَّا خُلُقُ الْأَوَّلِيْنَ* وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِيْنَ). (الشعراء / ١٣٦ ـ ١٣٨)

٢ ـ (وَاذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا الى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَالَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَاوَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَايَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ). (المائدة / ١٠٤)

٣ ـ (وَاذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ انَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ). (الأعراف / ٢٨)

٤ ـ (وَاذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ الى عَذَابِ السَّعِيْرِ). (لقمان / ٢١)

٥ ـ (وَكَذَلِكَ مَا ارْسَلْنَا مِنْ قَبلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّنْ نَّذِيْرٍ الَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا انَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَانَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّقْتَدُونَ). (الزخرف / ٢٣)

* *

شرح المفردات :

رغم أنّه لم ترد مفردة «التقليد» عيناً في الآيات السابقة بل جاءت مفردة الاقتداء أو

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٧٣ ، ص ٢٨٨.

٢٦٨

الاهتداء أو اتباع ما كان عليه الآباء والاسلاف وامثال هذه المفردات ، إلّاأنّه من المستحسن ايضاح مفهوم هذه المفردة جيداً.

إنّ هذه المفردة مشتقة من مادة «قَلْد» ، وتعني في الأصل ـ كما ورد عن الراغب في المفردات ـ فتل الحبل ، وقيل للقلادة «قلادة» من حيث إنّ حبالاً كانت تُفتل وتعلق في العنق ، «والقلائد» جمع قلادة ، استعملها القرآن وأراد بها الأنعام التي تُعدّ للأضحية في مناسك الحج ، فانّها تُقلَّد لتتميز عن غيرها من الأنعام (الآية الثانية من سورة المائدة) ، كما أنّ اطلاق التقليد على اتباع الآخرين ، من حيث إنّ المقلِّد يجعل كلام المقلَّد كالقلادة في عنقه ، أو من حيث إنّه يلقي المسؤولية على عاتق المقلَّد.

أمّا «مقاليد» ـ وكما يقول كثير من اللغويين ـ فجمع «مقليد» أو «مِقْلد» ، إلّاأنّ الزمخشري ادّعى في كشافه : عدم وجود مفرد لهذه الكلمة.

وأمّا «مقليد» و «اقليد» ، فبمعنى المفتاح ، وقد نقل ابن منظور في لسان العرب : إنّ أصل هذه المفردة هو كلمة «كليد» الفارسية والتي تعني مفتاح كذلك ، واستعملت في العربية بنفس المعنى ، وتستعمل «مقاليد» بمعنى الخزائن أيضاً ، وذلك من حيث إنّها تقفل ولا طريق لها إلّابالمفتاح.

إذن ، لا علاقة بين مفردة «مقاليد» مع مادة «التقليد» و «القلادة» (١).

إلّا أنّه يحتمل رجوع كلا المفردتين إلى مادة واحدة من حيث إنّ كثيراً من الناس يجعلون المفاتيح في فتائل ويقلدون بها أعناقهم (٢).

* *

جمع الآيات وتفسيرها

قومٌ أهلكهم تقليدهم :

إنّ الآية الاولى أشارت إلى حديث قوم «عاد» مع رسولهم ذي القلب العطوف

__________________

(١). مفردات الراغب ؛ مجمع البحرين ؛ لسان العرب ؛ البرهان القاطع وكتب اخرى.

(٢). وقد اعتبر البعض «اقليد» مفردة يمنية أو رومية (مجمع البحرين ولسان العرب ـ مادة قلد ـ).

٢٦٩

الرحوم «هود» ، فعندما دعاهم إلى التوحيد وترك الظلم والاجحاف والترف أجابوه : (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الوَاعِظِينَ) وبهذا كشفوا عن تحجرهم وصلابتهم تجاه كلام النبي المنطقي ، وذلك لعدم سماح حجاب التقليد لهم بقبول الحقيقة.

* *

وقد كشفت الآية الثانية عن مواقف مشركي العرب عندما كانوا يُدعون إلى ما أنزل الله ، وإلى ترك عبادة الأصنام ، وترك البِدَع في تحريم كثير من الامور الحلال ، وكان جوابهم آنذاك : (حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) فيظنون أنّ هذا يغنيهم عن القرآن هادياً!!

إلّا أنّ القرآن أراد ايقاظهم من غفلتهم هذه وأراد تمزيق حجاب التقليد عندهم فأجابهم : (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُم لَايَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ) وهل يجوز تقليد الجاهل الضالّ:؟!

* *

والآية الثالثة أشارت إلى مشركي العرب أيضاً (أو فريق من ذوي الصفات الشيطانية) فانهم إذا ما سُئِلوا عن سبب إتيانهم الفاحشة والعمل القبيح؟ أجابوا : (وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا) ولا يكتفون بهذا بل قد يضيفون : (وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا).

فينفي القرآن هذه التهمة الكبيرة ويقول : (انَّ اللهَ لَايَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).

يعتقد كثير من المفسرين أنّ المراد من «الفحشاء» في الآية الكريمة هو طوافهم رجالاً ونساءً عراة في عصر الجاهلية ، حيث كانوا يعتقدون : أنّ الملابس التي ارتكب بها ذنب ليست أهلاً لأنّ يُطاف بها حول بيت الله الحرام.

وعلى هذا المنوال ، كان ينتقل عملهم القبيح هذا من نسل إلى نسل بالتقليد الأعمى ، وما كان التقليد يسمح لهم لأنّ يدركوا قبح هذا الفعل.

* *

٢٧٠

إنّ رابع وخامس آية أشارتا إلى موقف وكلام فريق من المشركين في عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو العهود التي سبقت عهده تجاه دعوة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأنبياء السالفين ، حيث كانوا يقولون : (انَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَانَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّقْتَدُونَ).

وهكذا توارثت الأجيال بعد الأجيال الكفر وعبادة الأصنام والآثام والعادات والسنن القبيحة ، وقد نسجت روح التقليد حجاباً سميكاً على عقولهم لا يسمح لهم لقبول أي حقيقة ، فيقول القرآن عن هؤلاء تارة : (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَايَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ). (المائدة / ١٠٤)

ويقول تارة اخرى : (أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ الَى عَذَابِ السَّعِيْرِ). (لقمان / ٢١)

واخرى : (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَا وَجَدْتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ). (الزخرف / ٢٤).

* *

توضيحات

١ ـ أنواع التقليد المختلفة

إنّ تقليد الآخرين ، سواء كان تقليداً لحيٍ أو ميت ، أو تقليداً لشخص أو فريق لا يخرج عن صورٍ أربع :

١ ـ تقليد الجاهل للعالم : أي تقليد الجاهل بشيء لمن له تخصص أو خبرة بفنٍ أو علم ، مثل مراجعة المريض للطبيب الخبير بعلم الطب.

٢ ـ تقليد العالم للعالم : أي مراجعة أهل العلم أحدهم للآخر واتباع كلٌّ منهم للآخر.

٣ ـ تقليد العالم للجاهل : أي يترك الإنسان علمه وخبرته ، ويتبع الجاهل ويقلده عشوائياً.

٤ ـ تقليد الجاهل للجاهل : بأن يتخذ قوم جُهّال عادات وتقاليد ومعتقدات ليست

٢٧١

قائمة على دليل أو مستندة إلى شيء ، ويقوم قوم آخرون باتباع أولئك القوم وتقليدهم فيها ، وهذا هو أكبر عامل لانتقال المعتقدات الفاسدة والتقاليد الخاطئة من قوم إلى آخر ، وهذا النوع من التقليد استهدفته أكثر الآيات التي ذمّت التقليد.

واضح أن القسم الأول من التقليد هو القسم المنطقي الوحيد ، وقد اعتمدت حياة الناس على ذوي الاختصاصات وعلى هذا النوع من التقليد المنطقي ، لأنّ الإنسان حتى لو كان نابغة زمانه لا يمكنه التخصص في جميع الاختصاصات والفروع العلمية ، خصوصاً ، وأنّ العلم ـ في هذا العصر ـ أصبحت له فروع وتشعبات لا تُعد ولا تُحصى ، ومن المحال أن يتخصص إنسان في فروع علمٍ أو فنٍ واحدٍ ، فضلاً عن جميع العلوم والفنون.

وعلى هذا ، فكل إنسان يمكنه أن يكون مجتهداً في فرع من فروع العلوم ، أمّا في الفروع الاخرى التي لم يجتهد فيها ، فلا طريق له إلّاالرجوع إلى المتخصصين فيها.

إنّ المعمار يراجع الطبيب إذا مرض ، والطبيب يراجع المعمار إذا أراد بناء عمارة ، أي أنّ كلاً منهما «مجتهد» في تخصصه و «مقلِّد» في التخصص الآخر ، وهذا (رجوع الجاهل إلى العالم وغير المجتهد إلى المجتهد وغير المتخصص إلى المتخصص) أصل عقلائي كان ولا يزال متعارفاً ودارجاً بين الناس ، بل إنّ عجلة الحياة تسير على هذا النوع من التقليد ، بالطبع أنّ هناك شروطاً ينبغي توفرها في المجتهد الذي يُرجع إليه ، سنتعرض لها بعد ذلك.

وهذا التقليد هو الذي أشار إليه البارى تعالى في القرآن الكريم وعنونه بـ (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). (الأحزاب / ٢١)

كما جاء في الآية : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِةْ). (الانعام / ٩٠)

ورغم أنّ الخطاب موجه للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن لا يبعد أن يكون المخاطب به الامة بأجمعها.

أمّا الأقسام الثلاثة الباقية من التقليد فكلّها باطلة ولا أساس منطقي لها ، فتقليد (العالم للجاهل) و (الجاهل للجاهل) حالهما واضح ، وأمّا تقليد (العالم للعالم) فان كان من باب مراجعة أحدهما الآخر للتشاور وتكميل المعلومات ، فلا يُعدُّ هذا تقليداً بل هو نوع من «التحقيق».

٢٧٢

إنّ التقليد هو غض الطرف عن التخصص الذي يمتلكه الإنسان واتباع شخص آخر اتباعاً بدون قيد أو شرط ، فالمسلّم أنّ التقليد من قبل شخصٍ قادرٍ على التحقيق والاجتهاد أمر مذموم وغير صحيح ، ولهذا لم يُجِزْ الفقه الإسلامي للمجتهدأن يكون مُقلِّداً.

ويتضح مما قلنا فلسفة تقليد المجتهدين في المسائل الفقهية من قبل غير المجتهدين ، ومثل هذا دارج في جميع الفروع العلمية ، وبما أنّ الفقه الإسلامي واسع إلى درجة حيث لا يمكن للناس جميعاً أن يجتهدوا ، فجميع أبوابه والتحقيق فيها تعيّن على فريق منهم الاجتهاد بالفقه ، وعلى الناس اتباعهم ، إلّاأنّ الأمر يختلف عنه في اصول الدين ، فيتعين التحقيق والاجتهاد فيها على كل مسلم ، وذلك لإمكانية ذلك ، فلا يجوز التقليد فيها.

* *

٢ ـ شروط التقليد الممدوح

عادة ما يقال في تعريف «التقليد» أنّه عبارة عن قبول كلام الآخرين بلا دليل ، وتارة يوسعون المفهوم ويعتبرون الاتباع العملي تقليداً من دون الالتزام بحديث أو كلام للآخرين ، وتارة يعدون التأثيرات اللا إرادية (التي تتركها أعمال وسلوك وصفات الآخرين عند الإنسان) قسماً من التقليد.

بالطبع أنّ القسم الأخير من التقليد (الذي يتحقق بشكل غير ارادي) خارج عن موضع بحثنا ، أمّا القسم الثاني والثالث ، فيمكن أن يكونا ممدوحين إذا ما توفر شرطان في «المقلَّد» ـ أو مرجع التقليد ـ وهما : الخبرة والصدق ، أي كونه من أهل العلم أولاً ، وينقل ما يوحي إليه علمه بصدقٍ ثانياً ، وإذا ما انتفى هذان الشرطان دخل التقليد القسم المذموم.

ومن جهة اخرى ، ينبغي أن يكون موضوع التقليد من مواضيع الاختصاصات كي يباح التقليد فيه ، أمّا إذا كان من المسائل العامة التي يمكن للناس كافة الخوض والتحقيق فيها (مثل اصول الاعتقادات وبعض المسائل الأخلاقية والاجتماعية غير ذات الجانب

٢٧٣

الاختصاصي) فانه يتعين على كل إنسان التحقيق فيها والوصول إليها بنفسه.

ومن جهة ثالثة ، فإنّ المقلِّد ينبغي أن لا يكون قادراً على الاستنباط ، فإذا ما قدر على ذلك في مسألةٍ ما ، مُنع من التقليد فيها.

ومن هنا تتّضح حدود التقليد الممدوح والتقليد المذموم من الجهات الثلاث (أي شروط المرجع وشروط المقلِّد) وشروط الموضوع المقلِّد فيه).

ننهي كلامنا هذا بحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام :

قال رجل للصادق عليه‌السلام : إذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلّابما يسمعونه من علمائهم فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلّا كعوامنا يقلّدون علماءهم ، فقال عليه‌السلام : «بين عوامنا وعوام اليهود فرق من جهه وتسوية من جهة أمّا من حيث الاستواء فإنّ الله ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم ، وأمّا من حيث افترقوا فإنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وأكل الحرام والرشا وتغيير الأحكام واضطرّوا بقلوبهم إلى أن من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله فلذلك ذمهم ، وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على الدنيا وحرامها فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذي ذمّهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه» (١).

* *

٣ ـ عوامل التقليد الأعمى

التقليد الأعمى أو بتعبير آخر : (تقليد الجاهل للجاهل) والأسوء منه (تقليد العالم للجاهل) ، دليل على الإرتباط الفكري ، وله عوامل عديدة ، نتعرض لبعضها بالإجمال هنا :

__________________

(١). الوسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٩٤.

٢٧٤

١ ـ عدم النضج الفكري : إنّ أشخاصاً قد ينضجون ويبلغون جسمياً ، إلّاأنّ فكرهم لا يستقل ولا يبلغ إلى آخر العمر ، ولهذا يظلون من أتباع هذا وذاك ، ولا يفكرون يوماً في مسألة ما ولا يحللونها باستقلال.

إنّ أنظار هؤلاء تترصد الآخرين دائماً ، فيرددون ما يتفوه به الآخرون ، وكأنهم خُلِقوا بلا إرادة ، ولهذا قد يغيرون اتّجاههم بالكامل إذا ما تغيرت بيئتهم أو تغير محيطهم.

إنّ طريق مكافحة هذا النوع من التقليد الأعمى هو رفع المستوى الثقافي للمجتمع والسعي لإزدهار الأفكار والقابليات.

٢ ـ التأثر بشخصية : وهي أَنْ يتأثَّرَ الإنسان بشخصية ما ويجعلها أسوة له بحيث لا يرى نفسه أهلاً لإبداء الرأي أمام صاحبها ، فيتبعه بكل معنى الكلمة ويسير خلفه وإن لم تكن تلك الشخصية أهلاً للاتباع والتقليد.

٣ ـ التعلق الشديد بالأسلاف : والتعلق هذا قد يصنع منهم أناساً مقدسين وإن لم يكونوا أهلاً لذلك ، فتتبعهم الأجيال اللاحقة عشوائياً ، ومع أنّ الأجيال اللاحقة التي ترث علوم السالفين وتضيف اليها علوماً اخرى تكون أكثر وعياً بطبيعة الحال ، لكنها مع ذلك تبتلى بالتقليد العشوائي.

٤ ـ التحزّب أو التعصّب الطائفي : إنّ تعصباً كهذا يدفع بفريق من الناس لاتباع حزب أو طائفة والسير خلفهما والتمسّك بترديد ما يتبناه ذلك الحزب أو تلك الطائفة ، بحيث لا يسمح الإنسان لنفسه بالتفكير باستقلال والعمل خارج اطار الحزب أو الطائفة.

إنّ هذه العوامل الأربعة وعوامل اخرى سببٌ لانتقال كثير من الخرافات والأوهام والعقائد الباطلة والتقليد والعادات الخاطئة والسنن الجاهلية والأعمال القبيحة من قوم إلى قوم آخرين ومن نسل إلى نسل آخر.

وبتعبير آخر ، فإنّ الميول الخاطئة تجعل حجاباً على فكر الإنسان تحول دون معرفته للحق.

* *

٢٧٥

٨ ـ حجاب حب الرفاه

في البدء نتأمل خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (وَاذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ* رَضُوا بِأَنْ يُكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ). (التوبة / ٨٦ ـ ٨٧)

٢ ـ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِيْنَ يَسْتَأذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَعْلَمُونَ). (التوبة / ٩٣)

* *

جمع الآيات وتفسيرها

اعفنا من الجهاد :

أشارت الآية الاولى إلى أولئك الذين لم يستعدوا لتنفيذ الأوامر الإلهيّة في مجال الجهاد ، فبالرغم من اقتدارهم الجسمي والمالي للحضور في سوح القتال لكنهم انضموا إلى صفوف القاعدين وغير القادرين على الجهاد ، وقد ألحوا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يذرهم ويجعلهم مع القاعدين والخوالف.

و «القاعدين» جمع «قاعد» وهم المعذورون عن الجهاد.

و «الخوالف» جمع «خالفة» ومن مادة (خَلْف) ومعناها يقابل الأمام ، ولهذا يقال «خالفة» للنساء اللاتي يبقين ماكثاتٍ في بيوتهنَّ عند خروج رجالهن ، ولا يبعد أن يكون مفهوم هذه المفردة أعم من النساء ، بحيث يشمل جميع العاجزين عن الجهاد والمعذورين عن الالتحاق بساحات القتال من النساء والأطفال والشيوخ والمرضى.

يقول الراغب في مفرداته : إنّ «خالفة» عمود يجعل في نهاية الخيمة وتطلق ـ كناية ـ على النساء الماكثات في البيوت ، ويقول البعض : إنّ «خالف» من تخلّف كثيراً (١).

__________________

(١). تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٥٧٢.

٢٧٦

وتستعمل هذه المفردة ـ أحياناً ـ بمعنى «كريه الرائحة» من باب أنّ الرائحة الكريهة تستخلف الرائحة الجيدة إذا ما ذهبت.

وقال البعض : إنّها بمعنى الانحطاط والميل إلى الامور الدنيئة لانَّ هذا المَيْل يدلّ على التخلف (١) ، إلّاأنّ المعنى الأول أنسب من بقيّة المعاني.

وعلى أيّة حال ، فإنّ محبي الرفاه وطلاب العافية غير مستعدين للايثار والتضحية عند الأزمات والكوارث الاجتماعية ، وهم مستعدون لأنّ يُجعلوا في صفوف الأطفال والمرضى دون أن يلتحقوا بصفوف المجاهدين ، ويقول القرآن فيهم ، في نهاية الآية نفسها : (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ).

نعم ، إنّ حبّ الراحة والرفاه كالحجاب الذي يمنع من الرؤية الفكرية الصحيحة ، فهؤلاء لا يدركون أنّ السعادة ليست بالأكل والشرب ، بل قد تكون في الحضور في ميادين الجهاد ، وفي التخضب بالدماء ، وبلقاء الله ، إلّاأنّ الذي لا يفهم هذه الامور يستهزئ بها.

* *

وتشير الآية الثانية إلى المعذورين عن الجهاد مثل الضعفاء والمرضى والذين لا يملكون الوسيلة للقيام بهذا الأمر ، بينما تشتاق إليه قلوبهم ، وتصب دموعهم لعدم اقتدارهم على الانفاق ، يقول الله فيهم : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِيْنَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ).

ثم يضيف : (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَعْلَمُونَ) وذلك لأنّ الميل إلى الراحة جَعَلَ حجاباً سميكاً على قلوبهم فلا يكادون يفقهون شيئاً ، إنّ كلتا الآيتين توضح حقيقة واحدة وهي العلاقة بين «التخلف عن الجهاد لأجل الراحة والصحة» و «عدم إدراك الحقائق».

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ١٦ ، ص ١٦٣.

٢٧٧

٩ ـ حجاب الأمانيّ

١ ـ (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ قَالُوا بَلى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِىُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ). (الحديد / ١٤)

جمع الآيات وتفسيرها

الآمال البعيدة :

إنّ «الأماني» جمع «أمنية» وتطلق على الحالة النفسية التي تعرض للإنسان من جراء تمنيه لشيءٍ ما (١) ، والجدير بالذكر أنّ الأماني المعقولة والمنطقية ليست نقصاً ، بل هي عامل لتقدم البشر وبناء مستقبل أفضل لهُ من الحاضر ، إنّما النقص في الآمال البعيدة وغير المنطقية ، ولهذا يفسرون الأماني في موارد كهذه بالمعنى الثاني ، حيث تجعلُ الإنسان في غفلة وتسدل حجاباً من الظلمة على قلبه.

ويقول ابن الأثير : إنّ التمني يعني تشهّي حصول الأمر وكذلك يطلق على ما يخطر على النفس بالنسبة للمستقبل ، كما أنّ «مُنْية» و «الامْنيّة» وردتا بمعنى واحد (٢) ، إلّاأنّ بعضاً فسّر «الأمنية» بالكذب ، ذلك لأنّ الكاذب يُقدّر أمراً في قلبه ثم يحدّث به (٣).

يقول الراغب : لما كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له صار التمني كالمبدأ للكذب فصحّ أن يُعبّر عن الكذب بالتمنّى.

وادّعى البعض : أنّ معنى هذه المفردة في الأصل هو التقدير والفرض والتصوير (٤) ،

__________________

(١). مفردات الراغب ، وينبغي الالتفات إلى أن الأماني جمع أمنية ، أمّا مُنى فجمع منية.

(٢). لسان العرب.

(٣). المنجد مادة (مني).

(٤). مجمع البحرين للطريحي.

٢٧٨

وقد قيل للأماني أماني لأنّ الإنسان يقدرها ويصورها في ذهنه.

وعلى أيّة حال ، فإنّ المؤمنين عندما يجتازون المحشر نحو الجنّة بسرعة في ظل الإيمان يصرخ المنافقون والمنافقات : (أُنْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُم) ، فيجيبهم المؤمنون : (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ) الدنيا (فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَينَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الْرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ). (الحديد / ١٣)

وعندها يصرخ المنافقون : (أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ) في الدنيا في مجتمع واحد وقد كنا في بعض الطريق معكم؟ فما الذي حصل حيث انفصلتم عنا واتجهتم نحو رحمة الله وتركتمونا في العذاب؟

فيجيبهم المؤمنون (بلى) كنا معكم في مجتمع واحد ، في الزقاق وفي السوق ، وفي السفر والحضر ، وكنا جاراً لكم ، بل عشنا في بيت واحد ، ولكنكم أخطأتم خمسة أخطاء فاحشة ، الأوّل : أنّكم سلكتم طريق الكفر والنفاق ففتنتم أنفسكم : (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ).

وثانياً : أنّكم (تَرَبَّصْتُمْ) وترصدتم فشل المسلمين ، وموت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحججتم في كل عمل خير.

وثالثاً : (وَارْتَبْتُم) وترددتم خاصة في مسألة المعاد ، وحقانية الإسلام.

ورابعاً : (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِىُ) التي نسجت حجاباً ضخماً على عقولكم وأفكاركم (حَتّى جاءَ أَمرُ اللهِ).

وخامساً : (وَغَرّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي غركم الشيطان بعفو الله ووعدكم بألّا يَنالَكُمْ عذابه.

نعم ، إنّ هذه العوامل معاً أوجدت المنظر الذي صوره القرآن لنا ، وهي التي سببت خلق سورٍ عازل بين المؤمنين والمنافقين.

إنّ شاهد حديثنا هو الجملة الرابعة ، حيث جاء فيها (وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِىُ) ، الأماني قد تصل إلى درجة بحيث تشغل فكر الإنسان بالكامل ، فيغفل عن كلّ شيء ، ويظل في

٢٧٩

عالم الوهم والظن ، فتعمى عيناه ، ويثقل سمعه ، ويفقد وعيه (إذا كان واعياً) ، ويظلّ في الظلمات التي وضعها بنفسه تائهاً.

إنّ سعة الأماني قد تصل إلى درجة يرسم صاحبها خططاً لنفسه لا يمكن تطبيقها حتى لو كان كنوحٍ عليه‌السلام في العمر ، وقد يقوم بمقدّمات امنية ، الكلُّ يعلم بعدم امكانها حتى لو كان قد بدأ بها منذ قرون ، وهذا هو حجاب الأماني الذي يحول دون المعرفة.

وقد نقل بعض المفسرين خمسة أقوال في تفسير الأماني إضافة إلى الآمال البعيدة ، والأقوال هي :

(تمني فشل المؤمنين وضعتهم ، وإغواء الشيطان ، والدنيا ، وتوقع استغفار الرسول للمنافقين ، وتذكّر الحسنات ونسيان السيئات) (١) ، وقد فسرها البعض ب «الأباطيل».

توضيح :

حجاب الأماني في الروايات الإسلامية :

إنّ مسألة (الآمال الطويلة والأوهام البعيدة عن الواقع ، وأنّها تجعل حجاباً على عقل الإنسان وشعوره) لم يشر اليها في القرآن الكريم فحسب ، بل لها شواهد كثيرة في الروايات الإسلامية والتواريخ أيضاً ، ففي حديث مشهور للإمام علي عليه‌السلام يقول فيه : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان ، إتّباع الهوى وطول الأمل ، فأمّا اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق وأما طول الأمل فيُنسي الآخرة» (٢).

ويقول في كلماته القصار : «الأماني تُعمي أعين البصائر» (٣).

ونقرأ في حديث آخر لنفس الإمام عليه‌السلام : «جماع الشرّ في الاغترار بالمُهل والاتكال على الأمل» (٤).

__________________

(١). تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٦٤١٧.

(٢). نهج البلاغة ، الخطبة ٤٢.

(٣). نهج البلاغه الكلمات القصار ، الكلمة ٢٧٥.

(٤). غرر الحكم (حرف ج رقم ٥٥).

٢٨٠