نفحات القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-88-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٠

مجموعة أوهام لا أكثر ، ومن هذا القبيل الكشف والشهود الذي يدعيه كثير من «الصوفية» ، فإنّ المريد البسيط يعتقد في بداية عمله (من جراء الإعلام والدعاية التي يتلقاها من البعض) أنّه ينبغي له أن يرى مرشده الحقيقي في المنام ، وتقوى هذه الفكرة عنده كل يوم ، فيتوقع في كل يوم رؤية جمال مرشده ومراده في عالم الرؤيا يزوره ويرشده (غالباً ما يضع أشخاصاً معينين نصب عينيه لهذا المنصب ، وإذا لم يعينهم بالدقة فانّه يعين صفات ومميزات خاصة لهم).

قد يفقد هذا الصوفي توازن فكره الطبيعي من جراء الرياضات الروحية الشاقة وانحراف المزاج ، فتزداد قدرة الوهم عنده ، فيرى في المنام يوماً أشخاصاً قريبين ـ من حيث الصفات والميزات ـ من الأشخاص الذين رسمهم في ذهنه ، وقد يتطابقون في الصفات بالكامل ، وقد يحصل هذا في عالم اليقظة ، لأنّ عيني هذا السالك البسيط انّشدت إلى الطريق ، واذنيه صاغيتان إليه دائماً فهو يتنظر دائماً أن ينفتح له باب من ذلك العالم : فتنمو هذه الفكرة عنده ليلاً ونهاراً ، وقد تصنع قوة الوهم عنده ـ لا إرادياً ـ صوتاً ينقر اذنه ، أو تتمثل أمامه صورة ، فيتخذها أساس اعتقاده.

كما أنّ الاستماع إلى المواضيع المؤنسة والمنشطة (التي قد تبين في اطار إشارات جميلة وتتزامن مع ألحان مخدِّرة ، يزيد من تأثير التلقينات عليه أضعافاً مضاعفة.

إنّ تلك الفرقة من الصوفيين الذين يؤيدون «الوجد والسماع» (١) ، يذوبون فيهما بشكل حيث يفقدون توازنهم ، ويُعطَّل العقل عندهم ، فيتركون الساحة فارغة لقوة الوهم ، وأولئك الغارقون في وهم الكشف والشهود ومشاهدة عالم الغيب يسيرون في عوالم خيالية تتوقف سعتها على شدّة الوهم والخيال عندهم ، فتتمثل أمامهم صور مثل بحار النور ، وجبل الطور ، والسموات السبع والأرضين السبع ، وكلما مالت قوة الوهم عندهم إلى شكل أو صورة ، تمثل ذلك الشكل أو تلك الصورة أمام أعينهم.

__________________

(١). المراد من السماع ، الألحان الموسيقية أو نغمات المطربين الدارجة في بعض مجالس الصوفيين ، والمراد من الوجد ، الذوق والشوق واللهفة التي تحصل للصوفيين الذين يحسنون السماع ويقترن مع حركات تشبه الرقص.

٢٢١

إنّهم يفرحون لهذه اللحظات كثيراً ، وكأنّهم التقوا بالمراد وعانقوه ، فيصرحون وتعلو أصواتهم ، مما يزيد ويفاقم هذه الحالة عندهم ، ثم يرمون بحالة شبيهة بالاغماء ، وبعدما يصحون ويهدءون من هذه الحالة ، يحكون للناس ما رأوا ظناً منهم أنّه كشف.

إنّهم في الحقيقة يسعون نحو السراب ظناً منهم أنّه ماء ، ورغم عدم وصولهم إلى شيء ، يبتلون بأمور بعيدة عن الحق والحقيقة.

وبعبارة مختصرة : لا يمكننا تصديق كل من ادعى الكشف والشهود ، وكذا لا يمكننا اعتبار كل تمثل وكل نداء إلهياً واقعياً ، وذلك لأنّ هناك كشفاً شيطانياً.

وقد جاء في حديث للإمام علي عليه‌السلام مع الحسن البصري : أنّ الإمام عليه‌السلام مر بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال : يا حسن اسبغ الوضوء ، فقال : يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس اناساً يشهدون أن لا إله إلّاالله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله ، يصلون الخمس ، ويسبغون الوضوء ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدونا ، فقال : والله لأصدقنّك يا أميرالمؤمنين لقد خرجت في أول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت عليّ سلاحي وأنا لا أشك في أنّ التخلف عن أم المؤمنين عائشه هو الكفر ، فلما انتهيت إلى موضع من الخريبة ناداني مناد «يا حسن إلى اين ارجع فإنّ القاتل والمقتول في النار» فرجعت ذعراً وجلست في بيتي ، فلما كان في اليوم الثاني لم أشك أنّ التخلف عن ام المؤمنين عائشه هو الكفر ، فتحنطت ، وصببت عليّ سلاحي وخرجت اريد القتال ، حتى انتهيت إلى موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي : «يا حسن إلى اين مرةً بعد اخرى القاتل والمقتول في النار» قال علي عليه‌السلام : صدقك افتدري من ذلك المنادي؟ قال : لا ، قال عليه‌السلام : ذاك أخوك ابليس ، وصدقك أنّ القاتل والمقتول منهم في النار ، فقال الحسن البصري : الآن عرفت يا أميرالمؤمنين أنّ القوم هلكى (١).

إنّ نداءات كهذه أشير إليها في القرآن بصفة وحي الشياطين ، حيث يقول تعالى في الآية : (وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ الَى بَعْضٍ زُخْرُفَ

__________________

(١). احتجاج الطبرسي ، ج ١ ، ص ٢٥٠.

٢٢٢

الْقَوْلِ غُرُوراً). (الانعام / ١١٢)

إنّها نوع من الامتحان للتمييز بين صفوف المؤمنين وغيرهم ، فقد جاء في الآية : (وَانَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ الَى أَوْلِيَائِهم). (الانعام / ١٢١)

وبناءً على ما تقدم ، نرى كتب الصوفية مليئة بهذا النوع من المكاشفات ، مكاشفات غريبة وموحشة ، ومردوداتها السلبية كثيرة ، نشير إلى بعضٍ منها هنا بشكل مختصر :

١ ـ ورد في كتاب «صفوة الصفاء» في شرح أحوال الشيخ صفي الدين الأردبيلي ، بقلم أحد مريديه ما مضمونه : أنّ رجلاً من ذوى المكاشفات أخبر الشيخ بأنّه رأى في عالم الرؤيا أنّ أكمام الشيخ امتدت من العرش إلى الثرى فقال له الشيخ : إنّ رؤياك هذه تتناسب مع طول أناتك وصبرك!

٢ ـ كتب محي الدين بن عربى في كتابه «مسامرة الأبرار» إنّ الرجبيين لأشخاص مرتاضون برياضات خاصة ، ومن صفاتهم أنّهم يرون الرافضين (الشيعة) في حالة الكشف في صورة خنازير.

٣ ـ وكتب الشيخ عطار في كتابه «تذكرة الأولياء» عن «با يزيد البسطامي» : طِفْتُ البيت فترة ، وعندما وصلت إلى الحق ، رأيت أنّ الكعبة تطوف حولي! ... إنّ الله بلغ بي إلى درجة حيث أستطيع أن أرى الخلق جملة بين اصبعي!! (١).

٤ ـ وقد جاء في نفس الكتاب ، أنّ با يزيد قال : عرض عليَّ الحقُ الفي مقامٍ عنده وفي كل مقام سلطان ، وما قبلتُ (٢).

إنّ هذه ادّعاءات لم تُسمع من نبيٍ مرسل ولا من إمام معصوم ، بل إنّ أدعيتهم ومناجاتهم في جنب بيت الله التي تكون في غاية التذلل والتواضع تكشف عن أن كشفاً كهذا إن لم يكن فهو ـ قطعاً ـ أوهام وتخيلات شيطانية ترتسم في أذهان البعض ، لأسباب وعوامل مختلفة ،

__________________

(١). تذكرة الأولياء ، ص ١٠٢.

(٢). المصدر السابق ، ص ١٠١.

٢٢٣

أشرنا إلى بعضها سابقاً ، وإنّ سعة هذه الأوهام تتوقف على مدى وطول آمال الشخص وتخيلاته.

سؤال :

ثمة سؤال يطرح نفسه هنا ، وهو : هل من طريق لتمييز المكاشفات «الرحمانية» من «الشيطانية» و «الحقيقية» من «الوهمية» أم لا؟

الجواب :

نعم توجد ثلاث علامات يمكن من خلالها التمييز ـ الإجمالي ـ للمكاشفات الشيطانية من الرحمانية ، وهي : إنّ الرحمانية اضافة إلى كونها يقينية وقطعية تقترن بمستوى عالٍ من الإيمان واليقين والمعرفة والاخلاص والتوحيد والعمل الصالح ، بينما تفتقد المكاشفات الشيطانية هذه المواصفات ، وعلى هذا الأساس فلا اعتبار لقول من يدعي المكاشفات الرحمانية وهو يفتقد هذه المواصفات.

ولقد قرأنا في رواية مضت أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يحب ، فينفتح له ، ويشاهد الغيب ، وينشرح صدره فيتحمل البلاء ، قيل : يا رسول الله وهل لذلك من علامة؟ قال : التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله» (١).

ثم إنّ المكاشفات الحقيقية تتفق دائماً مع الكتاب والسنة ، وفي نفس الاتّجاه الذي يتجه إليه كلام الله والمعصومين عليهم‌السلام ، ولا تميل قيد أنمله عن جادة الاطاعة الربانية ، وغير ملوّثة بأدنى إثم أو ذنب.

__________________

(١). تفسير الصراط المستقيم ، ج ١ ، ص ٢٦٧.

٢٢٤

وثالثاً ، إنّ محتوى المكاشفات الحقيقية يتفق دائماً مع العقل اتفاقاً كاملاً ، وتكون بعيدة عن الامنيات والأوهام غير المعقولة ، فالذي يقول : «إني رأيت الرافضية ـ مكاشفة ـ كالخنازير» ، في الحقيقة رأى نفسه في مرآة ذاته ، والذي يقول : «عندما وصلت إلى الحق ، فرأيت بيت الله يطوف حولي» فانّه مُصاب بوكع في رأسه ، وشخصاً كهذا يرى نفسه مستغنياً عن الطواف ، ويرى الطواف أدنى من شأنه ، بينما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعظمته لم ير نفسه مستغنياً عن ذلك ، وقد حج حتى في آخر سنة من عمره الشريف وأدى المناسك.

وآخر الحديث في الكشف والشهود هو هذا :

لا يمكن عدّ الكشف والشهود كمصدرٍ عامٍ للمعرفة مثل «العقل» و «الحس» و «التاريخ» بل إنّه مصدر خاص ، وله شروط ومواصفات صعبة.

٢٢٥
٢٢٦

حُجُب المعرفة

وآفاتها

٢٢٧
٢٢٨

حُجُب المعرفة وآفاتها

تمهيد :

في بحثنا حول طرق العلم والمعرفة تمكّنا من اجتياز قسم من محطات هذه الطرق وقد سلمنا بوجود واقعيات خارج إطار الذهن ، وقلنابان امكانية إدراك تلك الواقعيات لدى الإنسان هو شىء معقول إلى حدٍ ما ، وقد عرفنا بدقة مصادر المعرفة الستة.

كما علمنا أن خمسةً من مصادر المعرفة أي «الحس» و «العقل» و «الفطرة» و «التاريخ» و «الوحي» عامة ويستطيع الجميع الاستعانة بها للوصول إلى المعرفة المرادة ، إلّاأنّ المصدر السادس وهو الشهود الباطني مصدر خاص بفريق من المؤمنين وأولياء الله ، ولا يتمتع بها الجميع.

بقي محطتان ينبغي العبور منهما للوصول إلى المراد ، الاولى «موانع طرق المعرفة» ، والاخرى «ممهدات المعرفة» ، والبحث هنا ينصب على الموانع.

فمما لا شك فيه : أنّ العين لوحدها لا تكفي لرؤية الموجودات والأشخاص ، بل ينبغي أن لا يكون هناك حجاب أو مانع يحول دون الرؤية ، فلو كان هناك دخان أسود أو غبار أو ضباب غليظ يحول بيننا وبين الشيء المراد رؤيته فانّا لا نرى الشىء الذي أمامنا وحوالينا مهما كان قربه منّا ، فضلاً عن البعيد ، فالشمس التي تنير كل ارجاء العالم بنورها الساطع تُحجب رؤيتها عنا إذا حالت الغيوم بينها وبيننا.

فإذا استفاد شخص من نظارة سوداء قاتمة السواد ، فطبيعي أنّه لا يرى شيئاً ، وإذا استفاد من نظارة ملونة فانّه سيرى الأشياء ملونة (حسب لون نظارته) ، وإذا كانت عدستا نظارته

٢٢٩

غير مصقولتين جيداً فانّه سيرى الأشياء معوجة ، وإذا كان مبتلياً بمرض اليرقان فانّه سيرى الأشياء صفراء ، وإذا كان أحولاً فانه سيرى صوراً لا تتطابق مع الواقع.

وأمثال هذه الموانع بالضبط قد تحصل للعقل والفطرة ، وقد تحصل موانع في فهم التاريخ وحتى الوحي وكلمات المعصومين عليهم‌السلام ، فقد يُساء فهمه لنفس الموانع والحجب التي تحصل للإنسان في مصادر المعرفة الاخرى ، ومن هنا نفهم أهميّة بحث موانع المعرفة وندرك أهميّة العلم بها للوصول إلى المعرفة.

وبما أنّ القرآن منطلق بحثنا في التفسير الموضوعي ، فنسعى لمعرفة الموانع والحجب التي ذكرت فيه بالدرجة الاولى.

لقد ورد البحث في القرآن حول موانع المعرفة بنحوين : الأول بحوث كلية و «منذرة» والثاني : بحوث جزئية و «تعليمية» ، ولنتناول الآن البحوث الكلية.

حُجُب المعرفة :

نُمعن خاشعين أولاً إلى الآيات التالية :

١ ـ (افَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً). (فاطر / ٨)

٢ ـ (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). (الأنعام / ٤٣)

٣ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ). (آل عمران / ٧)

٤ ـ (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ). (المطففين / ١٤)

٥ ـ (لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِيْنَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ). (الحج / ٥٣)

٦ ـ (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرَاً). (الاسراء / ٤٦)

٧ ـ (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَّعَنَهَمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُون). (البقرة / ٨٨)

٨ ـ (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِم فَهُمْ لَايَسْمَعُونَ). (الأعراف / ١٠٠)

٩ ـ (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ). (التوبة / ٨٧)

٢٣٠

١٠ ـ (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ). (البقرة / ٧)

١١ ـ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً). (الجاثية / ٢٣)

١٢ ـ (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). (محمد / ٢٤)

١٣ ـ (فَإِنَّهَا لَاتَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ). (الحج / ٤٦)

١٤ ـ (لَهُمْ قُلُوبٌ لَّايَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لّايُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّايَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْانْعَامِ بَلْ هُمْ اضَلُّ اولئِكَ هُمُ الْغَافِلونَ). (الأعراف / ١٧٩)

شرح المفردات :

قبل كل شيء ينبغي الخوض في البحث عن المفردات المختلفة والظريفة التي استعملت في الآيات السابقة التي أشارت إلى حجب المعرفة وحرمان الإنسان منها ، كلُّ منها تشير إلى مرحلة من مراحل انحراف ذهن الإنسان وحرمانه من المعرفة ، فتبدأ بالمراحل الأضعف ، وتنتهي بمراحل أشد وأقوى من الحرمان بحيث تسلب الإنسان قدرته على التمييز ، بل تصوّر له الحقائق بالعكس فيرى الشيطان ـ من جرائها ـ مَلَكاً بريئاً ، والقُبح حُسناً ، والباطل حقاً!

* *

إنّ «زيغ» تعني ـ كما يقول كثير من أئمة اللغة ـ الانحراف ، أو الانحراف عن الحق والصواب ، ولهذا جاء في القرآن : (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا). (آل عمران / ٨)

و «رَانَ» من مادة «رَيْن» (على وزن عَين) وهو الصدأ الذي يصيب بعض الفلزات. هذا ما قاله الراغب في مفرداته ، وقد قال بعض أهل اللغة : «إنّه قشر أحمر يترسب من الهواء ويظهر على سطح بعض الفلزات مثل الجديد» ، وهذا الصدأ علامة للإستهلاك والتلف وزوال

٢٣١

شفافية ولمعان الفلز.

وقد فسّر البعض هذه المفردة ب «غلبة أمر على أمرٍ آخر» أو «الوقوع فيما لا مخرج منه».

وقد قيل للشراب «المسكر «رَيْنه» لأنّه يتغلب على العقل (١).

«الوَقْر» : على وزن (عَقل) هو الثقل في السمع بدرجة يصعب السمع بها.

أمّا «الوِقْر» على وزن (فِكر) فهو الثقل الذي يوضع على ظهر الإنسان أو رأسه ، كما يقال «وِقْر» للحمل الثقيل ، ولهذا قيل لصاحب العقل «ذي وقار».

«الغشاوة» : تطلق على كل شيءٍ غطّى شيئاً آخر ، ومن هذا الباب قيل للستارة غشاوة ، وقد اطلق ، لفظ «غاشية» على يوم القيامة من حيث إنّ الخوف الناشيء منها يغطي جميع الناس ويخيّم عليهم ، وقد اطلقت هذه المفردة على الليل الأظلم كذلك لأنّه كالستار يغطي الأرض ، كما اطلقت على «الخيمة» كذلك.

«أكِنة» : جمع كِنان ، وفي الأصل تعني غطاء يُستر به شيء ، و «الكِنّ» على وزن (جِن) يعني الوعاء الذي تحفظ به الأشياء ، وقد أطلقت هذه المفردة على البيت أو على أي شيءٍ يحفظ الإنسان من الحرارة والبرودة ، وجعل الأكِنة على القلوب يعني : سلب قدرتها في التمييز.

«الغُلْف» : على وزن (قفل) جمع «أغلُف» ومن مادة «غِلاف» وتعني غلاف السيف أو غلاف أي شيء آخر ، و «قلوب غلف» تعني قلوباً لا تفهم ولا تعي الحقيقة ، وكأنها مُغلَّفة.

«قَسَتْ» من مادة «قَسْوَة» على وزن (مرْوة) ، وَالقساوة تعنى الصلابة والغلظة وفقدان المرونة ، ويقال للفضة غير الخالصة «قسّي» ، والقلوب القاسية هي غير اللينة والغليظة تجاه الحق والعدالة.

و «نَطْبع» : من مادة «طَبْع» ويعني الختم أو النقش ، ومن هذا الباب تستعمل المفردة هذه في مجال المسكوكات الذهبية والفضية ، ويقال للخاتم الذي تُختم به الكتب والرسائل

__________________

(١). تفسير الفخر الكبير ذيل الآية ١٤ من سورة المطففين والمنجد مادة (رين).

٢٣٢

طابع ، وعندما تستعمل هذه المفردة في مجال العقل فتعني أنّه مُغطَّى ومختوم عليه فلا يفهم ولا يعي شيئاً ، وكأنّ أبوابه مغلقة ومختوم عليها ، أمّا مفردة «طَبَع» فتعني الصدأ الذي يعلو السيف كما تطلق على المعاصي والذنوب التي تعلو القلب وتغطيه.

و «الخَتْم» : يعني الانتهاء والفراغ من الشيء ، وبما أنّ الرسائل تختم عند الفراغ منها ، قيل لوسيلة الختم خاتم ، وفي الماضي كان كثير من الناس ينقشون أسماءَهم على فصوص ما يتختمون به ، فيختمون بها الرسائل ، ولهذا اطلق على خاتم اليد خاتماً.

وكان وما زال العرف (إذا أرادوا أن يغلقوا بيتاً أو صندوقاً بحيث لا يفتحه أحد) يغلقون الباب أولاً بحبل أو قفل ، ثم يصبون مادة لصقة أو طين لزج على القفل أو الحبل ثم يختمون على تلك المادة ، بحيث إذا أراد شخصٌ فتح الباب أو الصندوق اضطرَّ لأنّ يكسر الختم.

إنّ استعمال القرآن لهذه المفردة في مجال العقول ، إشارة إلى أنّها عقول مقفلة ومختوم عليها ولا تعي شيئاً بدرجة لا يمكن أن تحصل على بصيص للوصول إلى طريق العلم والمعرفة.

جمع الآيات وتفسيرها

النفوذ التدريجي لآفات المعرفة :

(الانحرافات والرين والأمراض والأكنة والأقفال) :

كما قلنا سابقاً : إنّ أهميّة بحث «موانع المعرفة» تستدعي عرض الموضوع في مرحلتين :

المرحلة الاولى : ونبحث فيها ـ إجمالاً ـ عن وجود الموانع والحجب وكيفية تأثيرها على العقل ، وكيفية تلوث مصادر المعرفة بها تدريجياً ، إلى درجة تنتهي إلى تعطيلها.

المرحلة الثانية : ونبحث فيها عن جزئيات وخصائص كلٍ من هذه الموانع والآفات ، وللقرآن بحث واسع تربوي وجذّاب في هذا المجال.

ولنبدأ أولاً من المرحلة الاولى ، فممّا تجدر الإشارة إليه ، هو أنّ القرآن تحدث عن موانع

٢٣٣

المعرفة والآفات ونفوذها التدريجي والغامض ، بشكلٍ عرّف سالكي طريق العلم ، والمعرفة بها تعريفاً كاملاً ، وأنذرهم كراراً بأن لا يفنوا عمرهم في السعي نحو السراب ظناً منهم أنّه ماء ، وبعد سنوات من السعي الحثيث من أجل الوصول إلى الحقيقة ينتهون إلى الباطل.

* *

والآن نبحث معاً الآيات المذكورة :

الحديث في الآية الاولى والثانية يدور حول تزيين الأعمال ، فتارة يزينها الشيطان للإنسان (كما جاء ذلك في الآية الثانية) وتارة تكون ذهنيات الإنسان ونفسه أو عوامل اخرى هي التي تزين للإنسان سوء أعماله (كما جاء ذلك في الآية الاولى ، حيث إنّ الفعل فيها مبني للمجهول) فقالت : (افَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فإِنَّ اللهَ يُضلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ) فإنّ الأول يتجه نحو الهاوية والثاني نحو الصراط المستقيم ، وإذا ما صدر منه عملٌ سيءٌ أسرع إلى التوبة وجبران ما عمل.

وتضيف الآية الثانية : إنّ قلب الإنسان يقسو في المرحلة الاولى ، ثم يتأهل لتقبل وسوسة الشيطان فتتمثل الأعمال السيئة حسنةً أمامه ، ومن هنا نرى بعض الناس غير نادمين على أعمالهم السيئة ، بل قد يفرحون ويتباهون بها ، ويصرون على منطقيتها وصحتها.

وقد حصل هذا الأمر لأخوة يوسف ، فعندما ألقوه في البئر وجاءوا أباهم بقميصه ملطخاً بدم كاذب ادعوا أكل الذئب له ، وأنّهم صادقون في كلامهم.

فأجابهم أبوهم : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً). (يوسف / ١٨)

أي ظننتم أنّكم أحسنتم عملاً بهذه الجريمة ، وانكم ستحلون محل يوسف في قلبي ، وأنّ يوسف انتهى أمره إلى الأبد ، غافلين عن أنكم توطئون بعملكم هذا مقدمات عزه وسلطانه ، وأنّ مكانه سيبقى فارغاً في قلبي حتى أرى الفقيد مرة اخرى.

وممّا يستحق الإشارة إليه هو أنّ القرآن ينسب تزيين الأعمال تارة للشيطان وتارة

٢٣٤

لنفس الإنسان ، وتارة يأتي التزيين في صيغة فعل مبني للمجهول وتارة ينسبه إلى الله تعالى كما جاء ذلك في الآية : (انَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ اعمَالَهُمْ). (النمل / ٤)

هذه ترجع إلى أنّ مقدمات هذا الأمر تبدأ من نفس الإنسان ، فيتمسك بها الشيطان ويفعل فعلته ، وبما أنّ الله مسبب الأسباب وخالق العلل والمعلولات فتنسب إليه نتيجة الأعمال ، وتقتضي حكمته بأن يبتلي البعض بمصير كهذا وما أسوء حال الذي تتمثل السيئات أمامه حسنات!

* *

وقد تحدثت الآية الثالثة عن المراحل الاولى لانحراف القلب ، وبعد تقسيمها للآيات إلى محكمات (وهي ذات المفاهيم الواضحة) ومتشابهات (وهي ذات المعاني المعقدة) قالت : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنةِ وَابْتِغَاءَ تَأْويلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا) ، فالراسخون في العلم يفسرون المتشابهات بالمحكمات ، واما الذين في قلوبهم زيغ فيأخذون بالمتشابهات ويفسرونها برأيهم ابتغاء الفتنة.

إنّهم يتمسكون بما تشابه من القرآن لتبرير نواياهم غير الخالصة ، ولهذا نرى كثيراً من المنافقين وأصحاب البدع وأتباع المذاهب المنحرفة يستغلون صفاء قلوب المخلصين والمؤمنين بآيات الله بالكامل ، ويبررون بدعهم بالاستعانة ب «التفسير بالرأي» والاستعانة بالآيات المتشابهة ، وبتعبير آخر : بما أنّ قلوبهم وأفكارهم منحرفة فيرون آيات الله منحرفة أيضاً ، كالمرآة المعوجة تنعكس فيها الصور معوجة.

* *

والآية الرابعة تشير إلى الصدأ والرين الذي يعلوا القلوب ، إنّه الغبار الذي يعلو القلوب بسبب الذنوب والمعاصي ، فيتراكم الغبار عليها حتى تتحجر ، ويغطي الصدأ القلب كله ،

٢٣٥

حيث قالت الآية : (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون) فلا عجب في عدم تمكّنهم من رؤية الحقيقة.

* *

وتحدثت الآية الخامسة عن تفاقم الحالة السابقة بحيث تتبدل إلى مرض روحي ، فبعد إشارتها إلى الالقاءات والوساوس الشيطانية حتى للأنبياء والمرسلين قالت : (لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ).

نعم ، إنّ هذه القلوب التي لا تستلذ بطعم الحقيقة ، بسبب مرضها ، وحلاوة الحقيقة عندها كالمرارة ، على استعداد لقبول وسوسة الشياطين.

وممّا يلفت النظر هنا أن جملة (فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ) ، تكررت اثنا عشر مرّة في القرآن ، ممّا يكشف الأهميّة التي أولاها الله لهذه المسألة ، مع الالتفات إلى أنّ أغلب هذه الآيات عنت المنافقين وصُرّح بذلك في عدد منها (١).

إلّا أنّ المرض جاء في بعض من هذه الآيات بمعنى «الشهوات والميول والهوى» ، كما هو الحال في الآية : (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَولِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ). (الاحزاب ٣٢)

وعلى أيّة حال ، فإنّ المستفاد من الآيات هو أنّ الإنسان كما يصاب جسمه بامراض ، كذلك روحه فانّها قد تصاب بامراض سببها «النفاق» تارة و «الأهواء والميول» تارة اخرى ، وتغيّر عند عروضها ـ ذائقة روح الإنسان بالكامل ، كما نرى ذلك في أمراض الجسم فقد تُغير مزاجه بشكل تجعله يستلذ بالأغذية الشاذة والكريهة ولا يستلذ بالأكلات اللذيذة والمفيدة ، فإنّ إنساناً كهذا غير قادر على إدراك الحقائق ووعي الامور وفهمها.

ومن المؤسف أنّهم كلما استمروا في طريقهم كلما تفاقم عندهم المرض ، فإذا كانوا في مرحلة الشك ، فسيتفاقم عندهم ويشتد ويصل تدريجياً إلى مرحلة الانكار ومن الانكار

__________________

(١). الأنفال ، ٤٩ ، والأحزاب ، ١٢ و ٣٢.

٢٣٦

إلى مرحلة أخطر وهي الاستهزاء ومخالفة الحق ، يقول القرآن في هذا المجال : (فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ). (البقرة / ١٠)

* *

تحدثت الآية السادسة عن جعل الأكنة والحجب على القلوب ، وليس حجاباً واحداً بل حُجب وأكنة وذلك للحيلولة دون فهمهم القرآن ، حيث جاء فيها : (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِم وَقْرَاً).

ذكر بعض المفسرين أنّ التعبير بالأكنة يدلّ على تعدد الكِنان (١) ، وممّا لا شك فيه أنّه لم يجعل وقر في آذانهم الظاهرية بل الروحية كي لا يسمعون من الحق شيئاً ، كما لم تجعل الأكنة على القلوب التي هي وسيلة لضخّ الدم في الأوعية ، بل جعلت الأكنة على أرواحهم وعقولهم.

وقد وقع كثير من المفسرين ـ عند الإجابة عن هذه المسألة ـ في إشكال ، فتارة قالوا : إنّها معجزة حيث كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يختفي عن انظار اعدائه المعاندين ، فلا يكادون يسمعون شيئاً من كلامه ، وذلك كي لا يؤذوه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتارة قالوا ، إنّ الله يمنع لطفه عن أشخاصٍ كهؤلاء فيتركهم لحالهم ، وهذا هو معنى جعل الأكنة على القلوب والوقر في الآذان.

إلّا أنّ ظاهر هذه الآية (التي تماثل آيات اخرى من القرآن) شيء آخر ، وفي الحقيقة أنّ هذه استعمالات مجازية في حق المعاندين والمتعصبين والمغرورين والغارقين في الإثم ، وبتعبير آخر : أنّ حرمانهم من إدراك الحقيقة بسبب صفاتهم الرذيلة وأفعالهم القبيحة ، فقد جعل الله هذه الميزة في هذه الأعمال ، فهي كخاصية القتل بالنسبة للسم ، فلا يُلام صانع السم وشاعل النار إذا تناول شخص ما سماً أو ألقى نفسه في النار فمات ، فانّه في مورد كهذا ينبغي لوم الذي القى نفسه في النار والذي تجرع السم فقط.

وقد نقلت الآية السابعة ما كان يقوله اليهود للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأنبياء الآخرين ، حيث كانوا

__________________

(١). تفسير روح المعاني ، ج ١٥ ، ص ٨٢.

٢٣٧

يقولون : (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُون) ، نعم لعنهم الله بكفرهم ، وأبعدهم عن رحمته ، وأنّ أشخاصاً كاليهود كيف يمكنهم أن يذوقوا حلاوة الحقيقة.

قد يكون التعبير بـ «الغلاف» يختلف عن التعبير بـ «الأكنة» ، وذلك لأنّ الغلاف يستر المغلَّف ويغطيه من جميع الجهات ، بينما يغطي الستار جهة واحدة من المستور ، وبتعبير آخر : تارة تصيب الموانع مصدراً واحداً من مصادر المعرفة كالفطرة لوحدها أو العقل لوحده ، وتارة اخرى تعطل جميع المصادر وتجعلها في غلاف يحول دون المعرفة.

نعم ، كلما تلوّث الإنسان بالذنوب والفساد أكثر ابتعد قلبه وروحه من المعرفة وحُرِم منها اكثر.

* *

وتحدثت الآية الثامنة والتاسعة عن الطبع على القلوب الذي يحول دون المعرفة ، وقد اعتبرت الآية الثامنة الطبع سبباً لعدم السمع (فَهُمْ لَايَسْمَعُونَ) ، واعتبرت الآية التاسعة الطبع سبباً لعدم الفقه والفهم (فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ) ، والمراد في الموردين واحد ، فكما قلنا : إنّ المراد من عدم السمع هو عدم الإدراك والوعي والفهم.

وهذه المرحلة أشدّ من المراحل السابقة ، فالمرحلة الاولى هي جعل الأكنة على القلوب ، ثم الغلاف عليها ، وفي النهاية يطبع عليها للحيلولة دون نفوذ أي شيء فيها ، كما ذكرنا ذلك في بحث شرح المفردات.

طبعاً : إنّ ابتلاءهم بهذا المصير ليس اعتباطياً ، بل لأسباب أشارت إليها الآية السابقة حيث قالت : (وَاذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنوُا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ* رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِم فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ). (التّوبه / ٨٦ ـ ٨٧)

إذن إعراضهم عن الجهاد وتخلفهم عنه هو السبب في الطبع على القلوب.

٢٣٨

وآية اخرى أشارت إلى سبب آخر من أسباب الطبع ، حيث قالت : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَّو نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِم). (الاعراف / ١٠٠)

أي أنّهم يذنبون رغم رؤيتهم وعلمهم بأحوال السابقين وابتلائهم بالعذاب الإلهي من جراء ذنوبهم ، فطبع على قلوبهم.

وممّا يذكر هنا أنّ الطبع جاء في الآية الثامنة بصيغة المضارع «نطبع» وفي التاسعة بصيغة الماضي «طبع» وهذا تلميح إلى أنَّ الطبع نتيجة سوء أعمالهم وتصرفاتهم.

يقول بعض المفسرين : إنّ المراد من «الطبع» في مثل هذه الآيات هو نفس السبك والنقش الذي يستخدم للدراهم والمسكوكات ، وهو نقش ثابت وباقٍ ، لا يتغير بسهولة (١) ، فانَّ نَقْشَ الكفر والنفاق والإثم نُقِشَ على قلوبهم فلا يمحى بسهولة.

* *

وتحدثت الآية العاشرة والحادية عشرة عن «الختم» وكما قلنا سابقاً في شرح المفردات : إنّ الختم يعني الانتهاء والفراغ من شيء ، وبما أنّ الرسائل تختم عند الفراغ منها استعملت هذه المفردة هناك أيضاً ، وختم الشيء قفله وشده بحيث لا يمكن لأحد فتحه ، والمراد من الختم على القلوب والأسماع والابصار في الآيات ، هو سلب قدرتها عن التمييز بين الحق والباطل ، والخير والشر وذلك بسبب أعمال أصحابها وتصرفاتهم ، ولهذا يذكر القرآن في الآية السابقة : (انَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). (البقرة / ٦)

المسلم به هو أنّ هذا الخطاب لا يعم الكافرين كلهم بل يخص المتعصبين والمعاندين منهم ، أي أولئك الذين غرقوا بذنوبهم إلى درجة حيث أصبحت قلوبهم ظلماء ، وإلّا فالنبي أُرسل مبشراً ومنذراً للكافرين والمنحرفين.

والجدير ذكره هنا هو أنّ الآيات تحدثت عن الختم على الأبصار والسمع كما تحدثت

__________________

(١). تفسير المنار ، ج ٩ ، ص ٣٣.

٢٣٩

عن الختم على القلوب ، وهذا تلميح منها إلى أن السمع والبصر قد يتعطلان ، أي قد يتعطل الإدراك الحسي كما يتعطل العقلي ، وكما تعلم أنّ أغلب العلوم البشرية تحصل بواسطة هذين الإدراكين ، وحتى حقانية الوحي ودعوة الأنبياء تكتشف بهما ، ومع تعطلهما فإنّ طرق الهداية والنجاة ستغلق أمامهم ، وهذا من سوء أعمالهم وهذا ما أرادوه لأنفسهم ، ولا يستلزم جبراً كما يدعيه بعض الظانين.

وقد جاء هذا التعبير في مجال الطبع كذلك ، حيث يقول تعالى في الآية : (اولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ). (النحل / ١٠٨)

والآية التي سبقت الأخيرة أشارت إلى أن هذا الأمر ليس عاماً وشاملاً لجميع الكفار ، بل يختص بمن شرِح صدره للكفر ، حيث يقول تعالى : (وَلَكِن مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً). (النحل / ١٠٦)

* *

وقد تحدثت الآية الثانية عشرة عن أقفال القلوب التي قد تكون أشد من الختم (١) ، حيث قالت : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) أي أن آيات القرآن تنفذ في القلوب ولو من نوافذ صغيرة ، وذلك لأنّ منطق القرآن هو البيان البديع ، والبلاغة في التعبير ، والعمق والدقة في التحليل ، وهو نور وضياء خاص ينفذ في قلب كل مؤهل ولو بأقلٍّ تأهيل ، ويستحوذ على القلوب ويهز الضمائر ، رغم هذا فانه لا ينفذ في قلوب هؤلاء ولا يهز ضمائرهم أبداً ، وذلك لانغلاق قلوبهم.

إنّ «أقفال» جمع «قفل» ومن مادة «قُفول» ويعني الرجوع ، وبما أن كلَّ من أتى باباً مقفولة رجع ، استعملت هذه المفردة في هذا المجال.

إنَّ التعبير ب «الأقفال» قد يكون إشارة إلى تعدد أقفال القلب بحيث إذا ما فتح قفل بقيت اقفال اخرى ، وهذه في الحقيقة أسوأ مرحلة وأشدها من مراحل حرمان إدراك الحقائق.

__________________

(١). وقد أشار الفخر الرازي في تفسيره الكبير إلى هذا الأمر.

٢٤٠