نفحات القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-88-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٠

وهناك بحث بين المفسرين في أنّ الرؤية هذه تقع في الدنيا أم في الآخرة؟ أو أنّ الاولى في الدنيا والثانية في الآخرة؟ لكن ظاهر الآية يدل على أنّ الثانية تقع في الآخرة ، بقرينة (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) وذلك لأنّه لا سؤال في الدنيا ، وعلى هذا فالرؤية الاولى «رؤية الجحيم» تقع في الدنيا.

وقد جاء في تفسير الميزان : إنّ ظاهر الآية يدل على وقوع رؤية الجحيم قبل يوم القيامة ، بالطبع رؤية قلبية والتي تعد من ثمار الإيمان واليقين ، كما هو الأمر في قصة إبراهيم ورؤيته لملكوت السموات والأرض.

وقد تقدّم أنّ البعض يرى أنّ الرؤية في كلا الموردين تتعلق بيوم القيامة ، ولهذا تكلفوا كثيراً عند بيانهم للفرق بين الرؤيتين ، كما يُشاهد ذلك في كلام المفسر الفخر الرازي (١).

وعلى أيّة حال ، فإنّ الآية تأكيد في ظاهرها على أنّ الإنسان ـ في بعض الحالات ـ تُرفع عن قلبه الحجب فيتمكن من رؤية بعض حقائق عالم الغيب.

* *

والآية الخامسة أشارت إلى طلب الكافرين المُلِح ، حيث كانوا يسألون : لِمَ لَمْ يُنزَّل علينا ملائكة؟ أو لِمَ لَمْ نَرَ الله جهرةً؟ (٢).

ويجيبهم القرآن : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَابُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً). (٢٢ / فرقان)

وهناك خلاف بين المفسرين في المراد من «يوم» في الآية ، فأي يوم هو؟ يعتقد البعض أنّ المراد منه هو يوم القيامة لكن البعض يعتقد ـ مع الالتفات إلى الآيات التي تحدثت عن (ملائكة الموت» ومن ضمنها الآية التالية : (وَلَوْ تَرَى اذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ ...). (٩٣ / الأنعام)

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ٣٢ ، ص ٨٠.

(٢). الفرقان ، ٢١.

٢٠١

إنّ المراد منه هو لحظات الموت ، أو بعد الموت وقبل يوم القيامة.

وقد نقل هذا الرأي عن ابن عباس (١) ، في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «فإذا بلغت الحلقوم ضربت الملائكة وجهه ودبره (قيل اخرجوا أنفسكم اليوم تُجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) وذلك قوله (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ) (٢).

وطبقاً لهذا التفسير ، فإنّ الإنسان عندما يكون على وشك الموت تُرفع عن قلبه الحُجُب ، فتحصل له حالة الكشف والشهود ، فيرى الملائكة.

* *

والآية السادسة تحدثت عن معركة بدر وأنّ الشيطان زيّن للمشركين أعمالهم وصوَّرها لهم وكأنّهم يحسنون صنعاً ، وذلك كي يكونو أكثر تفاؤلا واملاً بما يقومون به.

ومن جهة اخرى فإنّ عدد وعدة جيش المشركين الذي يقدر بعدة أضعاف المسلمين آنذاك اصطفوا أمام المسلمين ، والشيطان يوسوس لهم وبشكل مستمر بانهم بهذا الجيش المجهز سوف ينتصرون ولا تستطيع أية قوّة أنّ تغلبهم : (لَاغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَانِّى جَارٌ لَّكُمْ).

وعندما اشتعلت الحرب ونزلت الملائكة لنصرة المسلمين بأمر الله ، تراجع الشيطان ، وقال لهم : (انِّى بَرِىءٌ مِّنْكُمْ انِّى أَرَى مَا لَاتَرَوْنَ انِّى أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَديدُ الْعِقَابِ) لأنّه رأى الامدادات الغيبية وآثار رحمة الله!

وحول هذه الآية انقسم المفسرون إلى قسمين :

القسم الأول يرى أنّ الشيطان متجسم وظهر أمام هؤلاء بصورة إنسان وأخذ يوسوس لهم.

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ٢٤ ، ص ٧٠.

(٢). تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ١٥٨ ، ، ح ١.

٢٠٢

وأمّا القسم الثاني فانّهم يرون أنّ الشيطان نفذ في باطن المشركين كما هو المتعارف واحدث أثراً في قلوبهم.

وقد اختار كثير من المفسرين الرأي الأول ، وهناك روايات معروفة تؤيد هذا الرأي ، حيث قالت : إنّ الشيطان تمثَّل لهم في صورة «سراقة بن مالك» الذي يعتبر من أشراف «بنى كنانة» وقد حصل هذا الأمر «التمثل» عندما هاجر الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث اشترك الشيطان آنذاك في شورى المشركين في «دار الندوة» متمثلاً في صورة رجل كبير السن من أهالي «نجد» وليس محالاً أن يتمثل في صورة إنسان ، لأنّ هذا ممكن بالنسبة للملائكة (كما هو منقول في قصة ابراهيم ومريم).

والبحث الآخر هو : هل أنّ الشيطان رأى الملائكة حقاً يساندون جند الإسلام؟ أم عندما رأى آثار الانتصار غير المرتقب تيقن بنزول الملائكة والامدادات الغيبية؟ هناك نظريتان في هذا المجال :

يعتقد كثير من المفسرين أنّ المراد رؤيتهم حقيقةً ، ويؤيد ذلك ظاهر الآيات اللاحقة التي تحدثت عن دخول الملائكة ساحة بدر.

وعلى هذا ، فما كان المؤمنون ولا المشركون يرون تواجد الملائكة في بدر ، بينما كانت الحجب مرفوعة عن الشيطان ، فكان يرى الملائكة.

وهذا نوع من الكشف والشهود منحه الله للشيطان لأهداف معينة.

* *

والآية السابعة أشارت إلى قصة يوسف عليه‌السلام ، فعندما خرج أولاد يعقوب عليه‌السلام مع القافلة فرحين من مصر ، وكانوا قد شاهدوا يوسف على عرش السلطة رجعوا حاملين قميص يوسف لتقرَّ عين أبيهم وليرجع نظره إليه ثانية ، وعندما تحركت القافلة من مصر ، قال يعقوب لمن حوله في بلاد كنعان : إنّي أشم رائحة يوسف إذا لم ترموني بالكذب والجهل ، إنّ ما قاله يعقوب كان صدقاً لأنّه لم يشم الرائحة بالشامة الطبيعية التي يمتلكها جميع الناس ولهذا لم

٢٠٣

يصدقه أحد ممن كان حوله فنسبوا الضلالة إلى الشيخ الكنعاني ذلك النبي العظيم حيث قالوا له : (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيم). (يوسف / ٩٥)

وقد تبين صدق شيخ كنعان عند رجوع الاخوة إلى كنعان.

وقد عُدَّت المسافة بين مصر وكنعان بعشرة أيّام في بعض الروايات ، وبثمانية أيّام في بعضها الآخر وفي روايات اخرى بثمانين فرسخاً (١).

ولا دليل على حمل الآية على المعنى المجازي والقول بأن شم رائحة القميص كناية عن قرب لقائه بيوسف حيث ألهم الأب بذلك اللقاء (مثل قولنا نشم رائحة انتصار المسلمين على الأعداء) ، وذلك لأنّه مع امكان حمل الألفاظ على الحقيقة لا يمكن الحمل على المجاز.

وفي النهاية نستنتج أنّ مكاشفة حصلت ليعقوب ورفعت عنه الحجب ، وباحساس يفوق الاحساس الظاهري استطاع أن يشم رائحة قميص ابنه من بعيد.

* *

وقد تحدثت الآية الثامنة والأخيرة عن قصة تمثّل الملك الإلهي لمريم حيث يقول القرآن في هذا المجال بصراحة :

لقد انفصلت مريم عن أهلها في الضفة الشرقية من «بيت المقدس» ، واتخذت حجاباً بينها وبين الناس (وهذا الحجاب إمّا أن يكون لأجل التفرغ للعبادة والنجوى أكثر ، أو أن يكون لأجل التطهر والغسل) ، وأيّما كان فإنّ الله أرسل إليها روحه ، فتمثل لها بشراً وإنساناً سويّاً أي كاملاً من دون عيب وذا قامة ووجه جميل ، ففزعت مريم في الوهلة الاولى ، لكنها اطمأنت عندما قال لها : (إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبّكِ لِاهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً) أي عيسى عليه‌السلام. (مريم / ١٩)

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٢٦٢ ؛ تفسير الكبير ، ج ١٨ ، ص ٢٠٧.

٢٠٤

واستمر الحديث بينهما طويلاً ، وقد ذكر في سورة مريم (١).

وقد ادعى البعض أنّ الملك تمثل لمريم في حس الباصرة فقط ، (وليس في الخارج) ، لكن هذا خلاف الظاهر ولا دليل عليه ، والقرائن على أنّ هذا الشهود قد حصل لمريم فقط ، ويحتمل أنّه إذا كان أحد معها ما كان قادراً على الرؤية ، وعليه فالآية قرينة اخرى على مسألة إمكانية الشهود حتى لغير الأنبياء.

النتيجة :

نستنتج ممّا تقدم أنّ هناك مصدراً للمعرفة غير المصادر التي قرأنا عنها إلى الآن ، وهو مصدر مبهم وغامض بالنسبة لنا ، لن يستفاد وجوده من آيات القرآن بوضوح ، وهو لا يختص بالأنبياء والأئمّة ، بل قد يحصل لغيرهم أيضاً ، وإذا شككنا في بعض الآيات في مجال استفادة هذا المصدر منها ، فإنّ هذا المصدر يُستشف من مجموع الآيات.

بالطبع ، إنّ هذا الحديث لا يعني فسح المجال أمام كل من يدعي الكشف والشهود ، بل إنّ لهما علائم سنشير إليها فيما بعد إن شاء الله.

توضيحات

١ ـ نماذج جميلة من الكشف والشهود في الأحاديث الإسلامية

إنَّ الروايات التي كشفت عن مصدر المعرفة ليست بالقليلة وقد وصلت إلى حد «الاستفاضة» حسب تعبير علماء الحديث ، وقد أوردنا هنا نماذجاً من هذه الروايات :

١ ـ ذكر في تاريخ معركة الأحزاب أنّ المسلمين عند حفرهم للخندق حول المدينة (كوسيلة دفاعية أمام العدو) خرجت عليهم صخرة كسرت المعول ، فأعلموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

__________________

(١). راجع تفسير الأمثل ، ذيل الآيه ١٩ من سورة مريم.

٢٠٥

فهبط إليها ومعه سلمان فأخذ المعول وضرب الصخرة ضربة صدعها ، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة ، فكبر رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمون ، ثم الثانية كذلك ، ثم الثالثة ، ثم خرج وقد صدعها ، فسأله سلمان عمّا رأى من البرق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الاولى ، وأخبرني جبرئيل أنّ امتي ظاهرة عليها ، وأضاء لي في الثانية القصور الحمر من أرض الشام والروم ، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها ، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء ، وأخبرني أن امتي ظاهرة عليها ، فأبشروا ، فاستبشر المسلمون» (١).

لم يصدق المنافقون هذه البشارة التي ساقها الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذوا يستهزئون بقولهم : يا للعجب كيف رأى قصور الحيرة وقصور ملوك ايران والروم واليمن من المدينة وكيف بشر بالانتصار على هؤلاء ونحن الآن محاصرين من قبل مجموعة من جيش اعراب مكة؟ إنّ هذا الكلام لا أساس له ولا حقيقة.

إلّا أنّ الحوادث المستقبلية أثبتت صحة ما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد يحمل البعض الشهود هنا على معنىً مجازي ، لكن لا مبرر لهذا الحمل مع إمكان الحمل على المعنى الحقيقي.

٢ ـ لقد ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام حول معركة مؤتة (التي وقعت بين المسلمين والروم الشرقية في شمال الجزيرة) : «أنّ المسلمين عندما ذهبوا للقتال بقيادة جعفر بن أبي طالب ، فإنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يوماً في المسجد وقد تسطحت له الجبال والارتفاعات فشاهد جعفراً يقاتل الكافرين ثم قال : قتل جعفر» (٢).

وقد جاءت تفاصيل اخرى عن هذا الموضوع في روايات اخرى ، حدث أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ارتقى يوماً المنبر بعد صلاة الصبح ، فصوَّر للمسلمين ساحة المعركة في مؤتة بدقة ، وتحدّث بالتفصيل عن شهادة «جعفر» و «زيد بن حارثة» و «عبدالله بن رواحة» وكأنّه يرى المعركة بأم عينيه ، والجدير بالذكر أنّ التواريخ المعروفة ـ عند ايرادها لهذه القصة ـ

__________________

(١). الكامل في التاريخ ، ج ٢ ، ص ١٧٩.

(٢). بحار الأنوار ، ج ٢١ ، ص ٥٨ ، ح ٩.

٢٠٦

نقلت هذا الحديث عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إنّ الشهداء الثلاثة حُملوا إلى السماء على سررٍ من ذهب ورأيت نقصاً في سرير «عبدالله بن رواحة» قياساً لسريري الشهيدين الآخرين ، فسِئل عن سبب هذا؟ قال : مضيا ، وتردد بعض التردد ثم مضى» ، فالتعبير بالرؤية في الرواية له معنىً عميق وهو نموذج من نماذج الشهود.

٣ ـ وهناك حديث في تفسير الآية : (وَانَّ مِنْ اهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا انْزِلَ الَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ الَيْهِمْ). (آل عمران / ١٩٩)

يقول : إنّ سبب نزول الآية هو النجاشي ملك الحبشة ، فانه عندما توفي أخبر جبرئيل الرسول بالأمر ، فدعا الرسول المؤمنين لأنّ يصلُّوا على أحد اخوتهم ، فسألوا : من هو؟ أجاب : النجاشي.

ثم جاء الرسول إلى مقبرة البقيع ، فتجلت له بلاد الحبشة وتابوت النجاشي من المدينة ، فصلّى عليه (١).

٤ ـ وقد جاء في تاريخ ام الرسول آمنة عليها‌السلام ، أنّها نزل عليها ملك عندما كان الرسول في رحمها وقال لها : إنّ في رحمك سيد هذه الامّة فقولي عند ولادته : إني أعوذ بالله الأحد من شرِّ الحاسدين ، وسمّيه «محمداً» ، وقد شاهدت عند حملها أنّه خرج منها نور أضاء لها قصور بُصْرى من أرض الشام! (٢).

وهذا الحديث يكشف عن إمكان حصول حالة الشهود لغير الأنبياء والأئمّة.

٥ ـ وفي الحديث المعروف : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان في بعض حيطان فدك وفي يده مسحاة فهجمت عليه امرأة من أجمل النساء فقالت : يا ابن أبي طالب إن تزوجتني أغنك عن هذه المسحاة وأدلك على خزائن الأرض ويكون لك الملك ما بقيت ، قال لها : «فمن أنتِ حتى أخطبك من أهلكِ؟».

قالت : أنا الدنيا : فقال عليه‌السلام : «ارجعي فاطلبي زوجاً غيري فلست من شأني فأقبل على مسحاته وأنشأ».

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ٤١١.

(٢). سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ١٦٦.

٢٠٧

لقد خاب من غرّته دنيا دنيةٌ

وما هي إن غرت قروناً بطائلِ

اتتنا على زي العروس بثينةٌ

وزينتها في مثل تلك الشمائلِ

 ... الخ (١).

وقد حمل البعض الرواية على «التشبيه» و «التمثيل» و «المجاز» لكنا إذا أردنا حفظ الظاهر ، فمفهومها هو أنّ الدنيا تمثلت للإمام علي عليه‌السلام في عالم المكاشفة في صورة امرأه جميلة وأجابها عليه‌السلام بالسلب.

وقد نقل تمثل الدنيا للمسيح عليه‌السلام كذلك في صورة امرأة مخادعة مع اختلاف بسيط عمّا نقل عن الإمام علي عليه‌السلام (٢).

٦ ـ وقد جاء في أحوال الإمام السجاد عليه‌السلام (وعندما كانت فتنة عبدالله بن الزبير في الحجاز مستعرة والكل كان يترقب نهاية الأمر) أنّ الإمام عليه‌السلام قال : «خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط فاتكأت عليه فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان ينظر في تجاه وجهي ثم قال : يا علي بن الحسين ما لي أراك كئيباً حزيناً؟ أعلى الدنيا؟ فرزق الله حاضر للبر والفاجر ، قلت : ما على هذا أحزن وأنّه لكما تقول ، قال : فعلى الآخرة؟ فوعد صادق يحكم فيه ملك قاهر ـ أو قال قادر ـ قلت : ما على هذا أحزن وأنّه لكما تقول : فقال : مم حزنك؟ قلت : ممّا نتخوف عليه من فتنة ابن الزبير وما فيه الناس قال : فضحك ثم قال : يا علي بن الحسين هل رأيت أحداً دعا الله فلم يجبه؟ قلت : لا ، قال : فهل رأيت أحداً توكل على الله فلم يكفه؟ قلت : لا ، قال : فهل رأيت أحداً سأل الله فلم يعطه؟ قلت : لا ، ثم غاب عني» (٣).

٧ ـ وفي حديث آخر للإمام نفسه عليه‌السلام يقول فيه : «كأنّي بالقصور وقد شيدت حول قبر الحسين عليه‌السلام وكأنّي بالأسواق قد حفت حول قبره فلا تذهب الأيّام والليالي حتى سار إليه

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٤٠ ، ص ٣٢٨ ، ح ١٠.

(٢). بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ١٢٦ باب حب الدنيا وذمها ، ح ١٢٠.

(٣). اصول كافي ، ج ٢ باب التفويض إلى الله ، ح ٢.

٢٠٨

من الآفاق وذلك عند انقطاع ملك بني مروان» (١).

٨ ـ جاء في أمالي الصدوق عن أحوال الحر بن يزيد الرياحي :

لما خرجت من الكوفة نوديت أبشر يا حُر بالجنة.

فقلت : ويلٌ للحر يبشر بالجنة وهو يسير إلى حرب ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله؟! (٢)

٩ ـ وقد جاء في حديث معروف دار بين ام سلمة زوجة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام الحسين عليه‌السلام أنّ الإمام عليه‌السلام أراها كربلاء ومحل شهادته (٣).

١٠ ـ وقد نقلت حكايات متعددة عن العلماء العظام والمتقين والمؤمنين الصادقين في مجال المكاشفات وذكرها هنا يطيل بحثنا ـ إلّاأنّه ينبغي القول بانها خرجت عن فحوى الخبر الواحد ووصلت إلى درجة الاستفاضة ويمكنها أن تكون مؤيداً جيداً لموضوعنا.

٢ ـ كيف تُرفع الحجب؟

إضافة إلى الأحاديث السابقة التي تمثل نماذج عملية لمسألة الكشف والشهود ، هناك تعابير في الروايات تدل على أنّ الإنسان كلما ازداد إيمانه ويقينه زالت عنه الحُجُب والصفات الذميمة (التي اصطنعها الإنسان نفسه بذنوبه) عن قلبه وتكشفت له حقائق أكثر عن الكون إلى درجة تمكنه من النظر إلى ملكوت السموات والأرض كما نظر إبراهيم الخليل.

إنّ قلب الإنسان وروحه كالمرآة التي حال غبار المعصية والصدأ الذي تراكم عليها من انعكاس الحقائق ، لكنها عندما تُجلى بماء التوبة ، ويزول غبار المعاصي عنها ، ويطهرُ القلب جيداً ، فإنّ الحقائق ستسطع فيها ويكون صاحبها أمين أسرار الله ، فيسمع نداءاته التي لا يسمعها إلّامن اؤتمن.

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٩٨ ، ص ١١٤ ، كتاب المزار ، ح ٣٦.

(٢). أمالي الصدوق ، ص ٩٣ ، مجلس ٣٠.

(٣). مدينة المعاجز ، ص ٢٢٤.

٢٠٩

ويمكن أن نجعل الأحاديث التالية شواهداً على ما قلناه!

١ ـ يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في ضمن حديث له : «لولا أنّ الشياطين يحومون إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت» (١).

٢ ـ وقد جاء في خبر آخر عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً : «ليس العلم بكثرة التعلّم ، وإنّما العلم نور يقدفه الله في قلب من يحب ، فينفتح له ، ويشاهد الغَيب ، وينشرح صدره فيتحمّل البلاء ، قيل : يا رسول الله هل لذلك من علامة؟ قال : التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله» (٢).

٣ ـ وقد وصف نهج البلاغة حُجَجَ الله على الناس في الأرض هكذا : «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين ، واستدانوا ما استعوره المُترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها مُعلَّقة بالمحلِّ الأعلى ، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه» (٣).

٤ ـ وقد جاء في حديث «ذعلب اليماني» الخطيب النبه الذي كان من صحابة الإمام علي عليه‌السلام : سأل الإمام يوماً هذا السؤال : «هل رأيت ربَّك يا أمير المؤمنين»؟

أجاب الإمام : «أفأعبد ما لا أرى»؟!

فقال : «وكيف تراه»؟

فقال الإمام : «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان» ثم أضاف : «قريبٌ من الأشياء غير ملابس ، بعيد منها غير مباين» (٤).

ليس مراد الإمام من إدراك الله إدراك بالاستدلال العقلي ، وهذا واضح ، لأنّ هذا الأمر حاصل لجميع الموحدين وحتى لتلك العجوز صاحبة الغزل المعروفة ، فانّها تستدل على

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٥٩ ، ح ٣٩ ، باب القلب وصلاحه.

(٢). تفسير الصراط المستقيم ، ج ١ ، ص ٢٦٧.

(٣). نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ١٤٧.

(٤). نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٩.

٢١٠

وجود الله بحركة آلة الغزل التي تحتاج إلى محرك ، فكيف بالفلك العظيم والسموات والأرضين.

فالمراد ـ إذن ـ إدراك لله يفوق الإدراك الطبيعي ، أي الشهود الباطني ، فانّه يرى الله به واضحاً بدرجة وكأنه يراه بعينيه. (فدقق).

٥ ـ وقد جاء في حديث معروف للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لو كشف لي الغطاء ما ازددتُ يقيناً» (١).

أي أنّي أرى جميع الحقائق من وراء ستار الغيب ، أراها بالشهود الباطني ، وبصيرتي تشق حاجز الغيب وتنفذ فيه.

٦ ـ قال الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام : «ألا إنّ للعبد أربع أعيُن : عينان يُبصر بهما دينه ودنياه ، وعينان يُبْصر بهما أمر آخرته ، فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح له العينين اللتين في قلبه ، فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته» (٢).

وقد جاءت روايات عن الشيعة الصادقين يشبه مضمونها مضمون هذا الحديث (٣).

٧ ـ ونقرأ في حديث الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى يوماً الصحابي «حارثة» فسأله عن حاله».

فاجابه حارثة : «يا رسول الله مؤمن حقّاً»!

فقال رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لكلِّ شيءٍ حقيقةٌ فما حقيقة قولك؟».

فأجابه حارثة : «يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري وكأنّي انظر إلى عرش ربي وقد وضع للحساب وكأني انظر إلى أهل الجنه يتزاورون في الجنة وكأنّي اسمع عواء اهل النار في النار».

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «عبدٌ نوّر الله قلبه أبْصَرْتَ فاثبت».

__________________

(١). غرر الحكم.

(٢). خصال الصدوق ، ص ٢٦٥ ، ح ٩٠.

(٣). بحار الأنوار ، ج ٦٧ ، ص ٥٨ ، ح ٣٥.

٢١١

فقال حارثة : «يا رسول الله ادعُ الله لي أن يرزُقني الشهادة معك».

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهُمَّ ارزق حارثة الشهادة».

ولم تمضِ أيّام كثيرة حتى أرسل الرسول فريقاً لاحدى المعارك وكان معهم حارثة فقاتل وقَتل ثمانية أو تسعة من الأعداء ثم قُتِلَ شهيداً (١).

٨ ـ وقد جاء في حديث للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نقل في كتب أهل السنة : «لولا تكثير في كلامكم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع» (٢).

إنّ هذه الأحاديث وأحاديث اخرى من هذا النوع ، وضحت العلاقة بين الكشف الروحاني والإيمان واليقين ، وبينت امكانية حصول الإنسان ـ بالتكامل المعنوي ـ على هذا الإدراك الذي لا نعلم عنه غير أنّه موجود فحسب.

٣ ـ سبعة منامات صادقة في القرآن المجيد

تعتبر «الرؤيا الصادقة» احدى فروع الشهود والكشف ، والمنامات الصادقة هي التي تتحقق وتطابق الواقع ، فتُعد منامات كهذه نوعاً من الكشف.

إنّ الفلاسفة الروحيين ـ خلافاً للفلاسفة الماديين الذين يعتقدون بأنّ الرؤيا هي وليدة النشاطات اليومية أو الآمال غير المتحققة أو الخوف من الامور المختلفة ـ وهولاء يعتقدون أنّ الرؤيا تنقسم إلى الأقسام التالية :

١ ـ الرؤيا التي تتعلق بالذكريات والميول والآمال.

٢ ـ الرؤيا غير المفهومة والمضطربة ويعبر عنها ب «أضغاث أحلام» وهي نتيجة قوة الوهم والخيال.

٣ ـ الرؤيا التي تتعلق بالمستقبل وترفع الستار عن بعض أسرار الإنسان ، وبتعبير آخر أنّها شهود يحصل للإنسان وهو نائم.

__________________

(١). اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٥٤ باب حقيقة الإيمان واليقين ، ح ٣.

(٢). تفسير الميزان ، ج ٢ ، ص ٢٩٢.

٢١٢

لا دليل للفلاسفة الماديين على نفي القسم الثالث ، بل لدينا قرائن كثيرة تثبت واقعية هذا القسم من الرؤيا ، وقذ ذكرنا عدّة نماذج حية لا تقبل الخطأ والمناقشة في التفسير الأمثل(١).

والجدير ذكره أنّ القرآن ذكر سبعة موارد على الأقل من موارد الرؤيا الصادقة ، وذكرها هنا يناسب تفسيرنا الموضوعي :

١ ـ تحدث القرآن في سورة الفتح عن الرؤيا الصادقة للرسول ، حيث رأى نفسه مع أصحابه يدخلون مكة لأداء مناسك العمرة وزيارة بيت الله الحرام ، فأفصح الرسول عن منامه هذا للمسلمين ففرحوا ، إلّاأنهم تصوروا أن الرؤيا هذه تحققت في السنة السادسة عندما حصل صلح الحديبية ، ولم يحصل الفتح يومذاك ، إلّاأنّ الرسول طمأنهم بأنّ الرؤيا صادقة وستتحقق يوماً ما.

وقد أجاب القرآن أولئك الذين شككوا في صدق الرؤيا بقوله :

(لَّقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَاتَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتَحاً قَرِيباً). (الفتح / ٢٧)

تحقق المنام بجزئياته في ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة ، وقد عرفت العمرة في تلك السنة ب «عمرة القضاء» لأنّ المسلمين كانوا قاصدين أداءها في السنة السادسة ، لكن قريش منعتهم منها.

رغم أنّ المسلمين دخلوا مكة (التي تعتبر مركزاً لقدرة المشركين وسلطانهم) من دون سلاح ، إلّاأنّ ابهتهم كانت مشهودة للأعداء ، وقد صدق عليهم تعبير «آمنين» و «لا تخافون» بالكامل فأدوا مراسم زيارة بيت الله وبه تحقق منام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بجميع خصوصياته رغم أن تخمين وقوع أمرٍ كهذا كان شبه مستحيل ، وهذا من عجائب تاريخ الإسلام.

٢ ـ وقد أشير في سورة الاسراء إلى رؤيا اخرى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إشارة عابرة وقصيرة حيث قال تعالى :

__________________

(١). التفسير الأمثل ، ذيل الآيه ٦٠ من سورة الإِسراء.

٢١٣

(وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً). (الاسراء / ٦٠)

وقد نقل مفسرو الشيعة والسنة حديثاً معروفاً جاء فيه : أنّ الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله رأى في المنام قروداً ترتقي منبره وتنزل منه ، فحزن الرسول من جراء هذا الأمر ، لأنّه يحكي عن الحوادث المفاجئة في قيادة المسلمين بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (إنّ الكثير فسّرَ المنام بحكومة بني امية ، حيث خلفوا الرسول ـ ظلماً ـ واحداً بعد الآخر وأفسدوا في الخلافة ، وكانوا فاقدي الشخصية واتبعوا ما كان عليه آباؤهم في الجاهلية) (١).

وادعى البعض أنّ هذه الرؤيا هي نفس رؤيا دخول مكة ، بينما سورة الاسراء نزلت بمكة ، والرؤيا كانت في المدينة وقبل واقعة صلح الحديبية في السنة السادسة الهجرية.

وقد رجح البعض مثل الفخر الرازي أن تكون الرؤيا بمعنى المشاهدة في حالة اليقظة ، والآية تشير إلى مسألة المعراج (٢).

لكن هذا التفسير ضعيف لأنّ المعنى الأصلي واللغوي للرؤيا هو المشاهدة عند النوم لا في اليقظة ، وعليه فالصحيح هو التفسير الأول.

أمّا المراد من «الشجرة الملعونة» ، فقد ادعى البعض : إنّها هي «شجرة الزقوم» التي تنبت في قعر جهنم طبقاً للآيه ٦٤ من سورة الصافات ، وهي طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون طبقاً للآيات ٤٦ و ٤٧ من سورة الدخان.

وادعى بعض آخر : إنّها كناية عن اليهود العصاة ، فانّهم كالشجرة مع ما فيها من غصون وأوراق إلّاأنّهم ملعونون عند الله.

إلّا أنّها فُسِّرت في كثير من كتب الشيعة والسنة ببني امية ، وقد نقل الفخر الرازي هذا

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ٢٠ ، ص ٢٣٦.

(٢). جاءت هذه الرواية في تفسير القرطبي ومجمع البيان والصافي والكبير ، وقد قال الفيض الكاشاني : إنّها من الروايات المشهورة عند العامة والخاصة.

٢١٤

التفسير عن ابن عباس المفسّر الإسلامي الكبير (١) ، وهذا التفسير يتفق مع رؤيا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالكامل.

قد يقال : لِمَ لم يُشِر القرآن إلى الشجرة الملعونة في القرآن المجيد؟ إلّاأنّ هذا الإشكال يُحلُ بالالتفات إلى لعن المنافقين بشدّة في سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الآية ٢٣ ، وبني امية من طلائع النفاق في الإسلام.

إضافة إلى هذا ، فإنّ تعبير القرآن (نُخَوِّفُهُم فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيرَا) يصدق عليهم بالكامل.

وقد جاء في رواية أن عدداً من صحابة الإمام الصادق عليه‌السلام سألوه نفسه أو أباهعليه‌السلام عن المراد من الشجرة الملعونة في الآية ، فأجابهم : «بني امية» (٢).

وقد نقل نفس المضمون عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وكذلك عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، وقد ذكر علي بن ابراهيم الروايات الثلاث في تفسيره (٣).

وقد نقل السيوطي في تفسيره «الدر المنثور» روايات كثيرة عن الشجرة الملعونة ، ورؤيا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث فُسِّرت الشجرة الملعونة في بعضها ببني امية وفي بعضها ببني الحكم وبني العاص ، وكلهم من شجرة خبيثة واحدة (٤).

وعلى أيّة حال ، فإنّ رؤيا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تحققت بعد رحيله ، وخلفته الشجرة الملعونة نسلاً بعد نسل ، وكانوا بلاءً عظيماً على المسلمين ، وامتحاناً كبيراً لهم.

٣ ـ والرؤيا الصادقة الاخرى هي رؤيا إبراهيم الخليل عليه‌السلام فيما يخص ذبح اسماعيل عليه‌السلام ، فانّه كان محلاً لامتحان عظيم للوصول إلى مقام الإمامة وقيادة الامة الرفيع ، فقد أُمر بذبح ابنه العزيز «اسماعيل» ، رغم أنّ الأمر أوحي إليه وهو نائم ، أي أنّ الايعاز كان

__________________

(١). نقلها القرطبي عن ابن عباس في تفسيره ، ج ٦ ، ص ٣٩٠٢ ؛ ونقلها الفخر الرازي عنه أيضاً في التفسير الكبير ، ج ٢٠ ، ص ٢٣٧.

(٢). تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٨٠ ، ح ٢٧٨.

(٣). تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٨٠ و ١٨١ ، ح ٢٨٢ و ٢٨٣ و ٢٨٦.

(٤). تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ١٧٥.

٢١٥

مناماً لا شيئاً آخر ، ولنقرأ ما يقوله القرآن في هذا المجال :

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). (الصافات / ١٠٢)

إنّ التعبير ب «أرى» الذي هو فعل مضارع يفيد الاستمرار يدل على أنّ ابراهيم عليه‌السلام كان يرى الرؤيا كراراً ، بحيث حصل له اطمئنان بأنّ الأمر من الله ، ولهذا أجابه اسماعيل بهذا الجواب : (يَا أَبتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).

ولهذا السبب نفسه جاء في الآيتين : (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) (الصافات / ١٠٤ ـ ١٠٥)

والحادث هذا ، دليل واضح لأولئك الذين يقولون بامكانية عد الرؤيا الصادقة نوعاً من أنواع الوحي للانبياء والرسل ، كما أنّه قد جاء في بعض الروايات : «إنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءً من النبوة» (١).

وقد شكك بعض الاصوليين في مسألة نسخ الحكم قبل العمل به إلّاأنّ كلامهم ـ وكما ذُكِرَ في محله ـ يختص بالأوامر غير الامتحانية ، أمّا في الامتحانية فهو غير صادق ، والتعبير ب «قد صدَّقَتْ الرؤيا» دليل على أنّ إبراهيم عليه‌السلام قد أدى ما عليه بما جاء به من تهيئة المقدمات لهذا الإيثار الكبير.

٤ ـ ومن الرؤى الصادقة في القرآن ، هي رؤيا يوسف في بيت أبيه ، حيث أشارت إليها الآيات الاولى من سورة يوسف :

(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ). (يوسف / ٤)

تنبأ يعقوب مستقبل يوسف والحوادث المقبلة عليه فبشره : (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ... وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ). (يوسف / ٦)

يعتقد بعض المفسرين أنّ يوسف رأى هذا في المنام وهو في الثانية عشرة من عمره ، وقد

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٥٨ ، ص ١٦٧ و ١٧٧ و ١٧٨.

٢١٦

تحقق منامه بعد أربعين سنة حيث جلس على عرش الحكومة في مصر ، وجاءه اخوته مع أبويه خاضعين له ، أو ساجدين لله شكراً ، كما أُشير إلى ذلك في نهاية السورة :

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاىَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقّاً). (يوسف / ١٠٠)

إنّ هذا الحديث يحكي بوضوح عن إمكانية تحقق أحلامٍ صادقة انعكست من قلب طاهر قبل أربعين سنة رغم أنّه لم يُذكر العدد ٤٠ سنة في آيات القرآن ، إلّاأنّ المستفاد من قرائن الآيات أنّ الفاصل بين المنام وتحققه كان طويلاً جداً.

وجدير بالذكر هنا أنّ من ضمن البشائر التي بشر يعقوب بها يوسف هذه البشرى : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَاديثِ). (يوسف / ٦)

وهذه الجملة (سواء عنت علم تعبير المنام كما يعتقده كثير من المفسرين أو عنت مفهوماً أوسع من ذلك ليشمل الخبرة والإحاطة باصول وأسباب الحوادث ونتائجها) (١) ، فانّها على كل حالٍ دليل واضح على امكانية صدق بعض الرؤى وتحققها عيناً وواقعاً في الخارج.

٥ و ٦ ـ المنامان اللذان رآهما صاحبا يوسف في السجن عندما كان مسجوناً بذنب طهارته ، فيحكي الله قصتهما في نفس السورة ويقول :

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ انِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الُمحْسِنِينَ). (يوسف / ٣٦)

فدعاهما يوسف للتوحيد وعبادة الله قبل أن يُأوّل ما رأيا ، ثم قال للذي رأى أنّه يعصر خمراً أي عنباً : إنّك تخرج من السجن ، وقال للذي رأى فوق رأسه خبزاً يأكل منه الطير : إنّك ستحكم بالإعدام وقد تحقق المنامان (من المتعارف في بيئة فاسدة وحكومة جبارة مثل بيئة وحكومة مصر آنذاك حيث يحكم على يوسف بالسجن بذنب العفة والطهارة ، أن يطلق سراح الذي يسالم الحكومة ويحضر الخمر لطغاتها ، أمّا الذين يتحلون بروح الدفاع

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ١١ ، ص ٨٦.

٢١٧

عن المستضعفين ويعطون خبزاً للطيور فيحكم عليهم بالاعدام).

وعلى أيّة حال ، فإنّ هاتين الرؤيتين اللتين حكاهما القرآن بصراحة يكشفان عن امكان اعتبار الرؤيا كمصدر للمعرفة ، بالطبع لا كل رؤيا ولا كل معبّر ومفسر لها.

٧ ـ رؤيا سلطان مصر التي جاءت في نفس السورة ، وهي نموذج واضح آخر للرؤيا الصادقة ، يحكي القرآن هذه الرؤيا قائلاً :

(وَقَالَ الْمَلِكُ انِّى أَرَى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ واخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاىَ انْ كُنْتُم لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ). (يوسف / ٤٣)

وبما أنّ حاشية الملك لم يكونوا خبراء بتعبير الرؤيا ، قالوا له : «أضغاث أحلامٍ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين».

يحتمل أنّهم أرادوا طمأنة سلطان مصر بحديثهم هذا (ينبغي الالتفات إلى أنّ ملك مصر وفرعونها هو الحاكم العام لمصر ، بينما عزيز مصر هو ـ كما يقول بعض المفسرين ـ وزير الخزينة ، واسم فرعون المعاصر ليوسف هو «ريان بن وليد» واسم عزيز مصر «قطفيرعطفير» (١).

فتذكَّر عندها ساقي الملك الذي اطلق سراحه من السجن بعد أن رأى الرؤيا وأولها يوسف ، فحكى القصة للملك فبعث الملك شخصاً إلى يوسف كي يأوّل المنام ، فأوله هكذا : (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَآ حَصَدْتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنْبُلِهِ الَّا قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِى مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ الّا قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ). (يوسف / ٤٧ ـ ٤٨)

وقد تحقق المنام بعد ذلك ، وعندما شاهدوا الصدق والمعرفة في يوسف عليه‌السلام ، أطلقوا سراحه ، وقد أدى به الأمر أن أصبح عزيز مصر ووزير الخزينة ، ثم من بعده أصبح ملك مصر كلها مع سعتها وعمرانها.

__________________

(١). نقل هذا المضمون في التفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ١٨ ، ص ١٠٨ (وللتفصيل يراجع «اعلام القرآن» ، ص ٦٧٣ ، كما قد صرّح «ابو الفتوح الرازي» أن نهاية يوسف وصوله إلى سلطة مصر» تفسير روح الجنان ، ج ٦ ، ص ٤٠١.

٢١٨

النتيجة :

يستفاد من الآيات السابقة إمكانية كون بعض الرؤى مصدراً لإدراك بعض الحقائق ، وبتعبير آخر ، فإنّ مسألة الكشف والشهود يمكنها أن تحصل في المنام كما تحصل في اليقظة ، وهذه الرؤى على ثلاثة أقسام (طبقاً للآيات السابقة) :

١ ـ بعض الرؤى تتحقق في الخارج عيناً من دون أي تغيير ، مثل رؤيا الرسول ، زيارته مع الصحابة لبيت الله الحرام التي جاءت في سورة الفتح.

٢ ـ منامات تتحقق وهي بحاحة إلى تفسير وتعبير ، وتتحقق بتفسيرها لا بعينها ، ولا يفسرها إلّاالخبير بها ، مثل المنامات الأربعة التي حصلت ليوسف ولصاحبيه في السجن ولملك مصر ، وقد ذكرت كلها في سورة يوسف.

٣ ـ الرؤيا التي فيها جانب حكم وإيعاز ، وتُعدُّ نوعاً من الوحي يحصل عند النوم مثل رؤيا إبراهيم عليه‌السلام.

بالطبع ليس مفهوم الكلام هذا أنّ كل منام يُعدُّ كشفاً أو شهوداً ، بل إنّ كثيراً من المنامات تُعدُّ أضغاث أحلامٍ ، وتفتقد لأي معنىً ، وهي رؤى ناتجة عن نشاط قوّة الوهم ، أو عن الحرمان والكبت والمآسي وعدم الراحة والأذى.

* *

سؤال :

قد يسأل البعض عن المنامات التي تتعلق بحوادث المستقبل ، فهل هي نوع من العلم؟ أم هي (كما يعتقد فرويد العالم النفساني المعروف) لا شيء سوى إرضاء للشهوات والميول المكبوتة والحرمان الحاصل للإنسان ، فتتجلى له في المنام مع تغيّر وتبدّل لخداع «الأنا» ولإرضاء الشهوة المكبوتة فإنّ الحلم إشباع خيالي لها ، وقد ينعكس هذا الميل بنفسه عيناً في الحلم (مثل رؤية عاشق لمعشوقته الفقيدة عيناً) وقد ينعكس في منامه مع تغيير وتبديل ، فيحتاج حينها إلى تعبير وتفسير.

٢١٩

الجواب :

إنّ ما يقوله فرويد هو فرضية لا أكثر ، وفي الحقيقة لا دليل على ما يدعيه أبداً ، فقد تكون بعض المنامات مصداقاً لما يدعيه ، أمّا كون الأحلام كلها من هذا القبيل فهذا ما لا دليل له عليه (١).

نحن نعتقد أن للمنامات أقساماً ، وقسم منها هو الرؤيا الصادقة ، ونعدها وسيلة للكشف أي كشف بعض الحقائق ، وهذه حقيقة استفدناها من القرآن (الذي هو وحي الهي) بالدرجة الاولى ، وبالدرجة الثانية من التجارب التي حصلت في هذ المجال ، ليس المراد تلك الحكايات التي لا سند لها ، بل المراد الحوادث التي وقعت لشخصيات كبيرة ومعروفة في عصرنا أو في العصور الماضية ، وقد نقلوا هذه المنامات في كتبهم (وقد أشرنا إلى بعض من نماذجها الواضحة في الجزء التاسع من التفسير الأمثل).

ومن هنا يعرف أنّه لا يمكن عدّ الرؤيا لوحدها مصدراً للمعرفة ، ولهذا يقال بعدم حجية الرؤيا ، بل ينبغي ضم قرائن من الخارج موضحة ولا تقبل النفي ، لتصبح الرؤيا مصدراً مقبولاً للمعرفة.

٤ ـ المكاشفات الرحمانية والمكاشفات الشيطانية

قد نستغني عن التذكير بأنّه كما يوجد كشف وشهود واقعي يحصل تارة بالإيمان واليقين الكامل ، وتارة اخرى بالرياضات النفسية ، فانّه يوجد كشف وشهود وهمي كثير ، فقد يحصل هذا الكشف بسبب التلقينات المكررة وانحراف الذهن والفكر عن جادة الصواب ، وتارة بسبب الالقاءات الشيطانية ، فتتمثل في ذهن الإنسان صور وحوادث لا واقع لها ، إنّها

__________________

(١). لم يكتشف العلماء منشأ النوم (لا المنام) بعد ، فلا يعلمون هل أنّ منشأه نشاط فيزيائي أم كيميائي أم كلاهما ، أَم ناشيء عن نشاط الجهاز العصبي ، فإذا كان النوم نفسه لغزاً لم يُحل بعدُ ، فكيف يمكن القول بحل مسألة المنام التي هي أعقد من مسألة النوم أضعافاً مضاعفة!

٢٢٠