نفحات القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-88-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٠

الغريزية بالكامل ، ثم اعتمدت تدريجياً على حواسها وتخيلها وأحياناً تفكيرها ، وعندما نما عندها التفكير والحواس تدريجياً ، استخلفت الغريزة ، كذلك المجتمع البشري ، فبنموه وتكامل عقله ضعفت غريزة الوحي عنده.

٦ ـ إنّ للعالم البشري عهدين ، عهد هداية الوحي ، وعهد هداية التعقل والتفكير في طبيعة التاريخ.

٧ ـ إنّ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي ختمت به النبوة رسول للعهد القديم والحديث ، فانّه من حيث مصدر الالهام الذي كان يستفيض منه (لا مصدر التجربة الطبيعية والتاريخ) فهو يتعلق بالعهد القديم ، ومن حيث روح تعاليمه التي تدعو إلى التفكر والتعقل ودراسة الطبيعة والتاريخ (التي ينتهي عمل الوحي بمجيئها) فهو يتعلق بالعصر الحديث (١).

إنّ المستخلص من هذه الفرضية أنّ الوحي نوع معرفة لا إِرادية تشبه الغرائز وهي دون المعرفة الإرادية التي تحصل عن طريق الحواس والتجربة والعقل ، وتضعف هذه القدرة «الوحي» كلما تكامل جهاز العقل والفكر ، فيستخلف العقل حينئذٍ الوحي ، ومن هذا الباب ختمت النبوة.

بالرغم من أَنّ هذه الفرضية ـ صدرت عن مفكر إسلامي ـ إلّاأنّها أضعف في بعض جوانبها من الفرضيات التي قدمها علماء وكُتّاب غربيون في هذا المجال ، على الرغم من التشابه من حيث فقدان الدليل ، ويمكن القول : إنّ هذه النظرية أسوأ نظرية طُرحت في هذا المجال لحد الآن ، وذلك للامور الآتية :

أولاً : إنّ العلماء الغربيين عدوا الوحي شيئاً فوق الإدراك الحسي والعقلي للإنسان ، بينما عُدَّ في هذه النظرية شيئاً دون ذلك ، وهذا تفكير عجاب!

ثانياً : لم يَعِدَّ المفكرون الغربيون الوحي نوعاً من أنواع الغرائز الحيوانية ، في حين عُدَّ في هذه النظرية من هذا القبيل.

__________________

(١). مقدمة في الرؤية العالمية الإسلامية ، للشهيد المطهري رحمه‌الله (وقد ذكر الشهيد المرحوم النقاط السبع السابقة التي تعكس رأي اقبال اللاهوري في كتابه «احياء الفكر الديني في الإسلام» بشكل ملخص ونقدها).

١٨١

ثالثاً : إنّ أمر الوحي واضح بالكامل للمسلم الملم بمفاهيم القرآن حيث يُعتبر نوعاً من الاتصال بالعالم الإلهي ، وتلقي معارف عظيمة وجليلة للغاية من هذا العلم لم يستطع الإنسان أن يصل إليها بالعقل.

إنّ الوحي من وجهة نظر القرآن الكريم هداية إِرادية بالكامل وهو أسمى بكثير من «الهداية العقلية» ، ـ وكما قلنا سابقاً ـ فإنا إذا شبهنا العقل بنور مصباح نيّر فإنّ الوحي بمثابة الشمس الساطعة.

يخاطب القرآن الناس ـ من جهة ـ قائلاً : (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ الَّا قَلِيلاً). (الاسراء / ٨٥)

ومن جهة اخرى يصف الله علمه ويقول : (وَلَوْ انَّمَا فِى الْارْضِ مِنَ شَجَرَةٍ اقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ ابْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ انَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (لقمان / ٢٧)

فوحي النبوة ارتباط بهذا العلم اللامتناهي ، ولهذا يصرح القرآن الكريم أنّ الله هو معلم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ). (النساء / ١١٣)

إنّ العقل والعلم البشري مهما تقدما وتكاملاً أضعف من أن يقودا الإنسان إلى طريق السعادة من دون توجيه وارشاد الوحي ، والدليل الحي لهذا الكلام هو مذاهب الفلاسفة وانحرافاتهم العجيبة ، والحقيقة أنّ الذين عُرفوا كمفكرين اسلاميين هم مفكرون غربيون في واقع أمرهم ، وأفكارهم اتخذت صبغة الأفكار الغربية ، ولهذا سعوا دائماً لذكر تبريرات طبيعية للُامور غير الطبيعية.

إنّ الغربيين إذا اصروا على ذكر تبريرات طبيعية للُامور الغيبية ، فذلك لانكارهم عالم الغيب ، فلا ينبغي لأي مسلم اقتفاء أثرهم في ذكر تبرير طبيعي لمسألة كهذه.

من المؤسف أنّ الآثار السيئة لهذا التقليد نجدها في كثير من كتب أولئك المفكرين الذين غالباً ما درسوا في الغرب ، ومعلوماتهم عن الإسلام قليلة جدّاً.

* *

١٨٢

٥ ـ كيف تيقن الرسول بأنّ الوحي من الله؟

إنّ هذا السؤال من جملة الأسئلة التي طرحت حول مسألة الوحي ، كيف علم الرسول بأنّ الوحي من الله وليس إِلقاءً شيطانياً؟ وبتعبير آخر : ما هو مصدر هذا العلم واليقين؟

إنّ الجواب عن هذا السؤال واضح ، فاضافة إلى أنّ الفرق بين الالقاءات الرحمانية والالقاءات الشيطانية كالفرق بين السماء والأرض ، فإنّ محتوى كلٍّ منهما يعرف نفسه ، وينبغي القول : إنّ الرسول عندما يتصل بالوحي يذعن بحقيقته بالنظر الباطني ، وأمره كالشمس الساطعة نهاراً ، فلا نعتني بالذي يشكك بوجودها ويقول : يُحتمل أن تكون وهماً لا أكثر ، وذلك لأنّ احساسنا بها قطعي ولا يقبل الشك.

يقول العلّامة الطباطبائي قدس‌سره في تفسيره للآية : (فَلَمَّا أتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى * إِنَّى أَنَا رَبُّكَ ...). (طه / ١١ ـ ١٢)

وهذا حال النّبي والرسول في أوّل ما يوحى إليه بالنبوّة والرسالة ، لم يختلجه شك ولم يعتره ريب في أنّ الذي يوحي إليه هو الله سبحانه ، من غير أن يحتاج إلى إمعان نظر أو التماس دليل ، أو إقامة حجة ، ولو افتقر إلى شيء من ذلك كان اكتساباً بالقوة النظرية ، لا تلقياً من الغيب ، من غير واسطة (١).

ومن هنا يتّضح عدم صحة ما جاء في بعض الروايات من أنّ الوحي عندما نزل لأول مرّة على الرسول في غار «حراء» ذهب إلى بيت خديجة وقصّ عليها ما جرى واضاف : إِني أخاف على نفسى (أي أخاف أن تكون الايحاءات شيطانية لا إِلهية) فطمأنته خديجة ، ثم ذهبت به إلى ورقة بن نوفل (ابن عم خديجة) الذي كان يدين بالمسيحية في عهد الجاهلية ، وكان يجيد القراءة والكتابة العربية والعبرية ، فطلب من النبي أن يشرح ما جرى له .. وبعد ما قصَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ما جرى له ، قال ورقة : إنّه هو الوحي الذي كان يهبط على موسى عليه‌السلام وأضاف : ليتني أكون حياً كي أرى كيف يخرجك قومك من هذه المدينة (٢).

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ١٤ ، ص ١٣٨.

(٢). نقل هذا المضمون كثير من المحدثين والمفسرين من أهل السنة منهم «البخاري في صحيحه» و «مسلم» و «سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن في بداية سورة العلق» كما ورد في «دائرة معارف القرن العشرين ، مادة (وحي)».

١٨٣

وكون هذا الحديث مختلق أمر لا ريب ولا شك فيه ، إذ كيف يحتاج الرسول الذي ارتبط بعالم الغيب وكل وجوده يشعر بهذه الرابطة ، إلى ورقة بن نوفل الكاهن النصراني؟ وكيف يمكن الاعتماد على مثل هذا الوحي؟

لماذا لم يشك به موسى بن عمران عندما نزل عليه أوّل مرّة في طور سيناء؟ بالرغم من أنّ موسى سمع صوته فقط ولم يشاهده ، أليس هذا دليلاً على وجود أيادٍ خفية تهدف من وراء تلفيق هذه الخرافات إلى النيل من الوحي والنبوة وتضعيف أسس الدين الإسلامي؟

٦ ـ القرآن أغنى مصدر للمعرفة في الأحاديث الإسلامية

نستمر في بحثنا هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ القرآن الكريم يمثل المصداق البارز للوحي طبق ماورد عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ، كي يكون تأكيداً لأصل وموقعية القرآن كمصدرٍ عظيم للمعرفة ، كما يكون جواباً لأولئك الذين يذهبون شططاً ويعدون الوحي من «الغرائز الحيوانية» وأدنى من الإدراكات العقلية ، ويعتقدون أنّ الإنسان استغنى عن الوحي والمعارف التي تنشأ منه بعد تكامله العقلي!

ـ قال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مخاطباً المسلمين : «إِذا التبست عليكم الامور كقِطّع الليل المُظلم فعليكم بالقرآن ... مَن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خَلفَهُ ساقه إلى النار ، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل ، مَنْ قال به صدق ، ومَن عمل به اجرَ ، ومَن حَكَمَ به عَدَلَ» (١).

٢ ـ ويقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في احدى خُطب نهج البلاغة : «ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لاتطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقده ، وبحراً لا يدرك مقره ، ومنهاجاً لا يضل نهجُه ، وشعاعاً لا يظلم ضوؤه ، وفرقاناً لا يخمد برهانه ، وتبيانياً لا تُهدم أركانه ، وشفاءً لا تخشى أسقامه ، وعزاً لا تُهزم أنصاره ، وحقاً لا تُخذل أعوانه».

__________________

(١). نقل المرحوم العلّامة المجلسي هذه الخطبة في بحار الأنوار ج ٧٤ ، ص ١٧٧ عن أبي سعيد الخدري من جملة خُطَب الرسول التي نقلها.

١٨٤

«فهو معدنُ الإيمان وبحبوحته وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافي الإسلام وبنيانه» (١).

٣ ـ ويقول الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : سأل رجل الإمام الصادق عليه‌السلام : «ما بالُ القرآن لا يزداد على النَّشر والدرس إلّاغضاضة»؟ فقال الإمام : «لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا لناسٍ دون ناس ، فهو في كل زمان جديد ، وعند كلَّ قوم غضٌّ إلى يوم القيامة» (٢).

والأحاديث الواردة في هذا المجال كثيرة في مصادر السنة والشيعة ، وقد ذكرنا ثلاثة فقط ، أحدها للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والآخر لأمير المؤمنين عليه‌السلام وحديثاً للإمام الصادقعليه‌السلام.

٧ ـ الوحي الخاص إلى غير الأنبياء (وحي الالهام)

كما ذكرنا في بداية البحث أنّ للوحي معانِي كثيرة ، منها «وحي النبوة والرسالة» ، وهناك قسم آخر من الوحي وهو «الالهام» الذي يُلقى في قلوب غير الأنبياء ، أو خطاب يُبلَّغ به غير الأنبياء.

ومثاله ما جاء عن ام موسى حيث يقول القرآن في هذا المجال : (وَأَوْحَيْنَا الَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَالْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنى ...). (القصص / ٧)

وقريب من هذا ما جاء عن الحواريين ، حيث يقول الله تعالى : (وَاذْ أَوْحَيْتُ الَى الْحَوَارِيِّينَ انْ آمِنُوا بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِانَّنَا مُسْلِمُونَ). (المائدة / ١١١)

كما قال الله في يوسف قبل أن يبعثه نبيّاً ، عندما أراد اخوته أن يلقوه في اليم : (... وَأَوْحَيْنَا الَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِامْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَايَشْعُرُون). (يوسف / ١٥)

وهذا الوحي ليس هو نفس وحي النبوة ، بل وحي إلهامي ، بقرينة الآية ٢٢ من نفس

__________________

(١). نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٨.

(٢). بحار الأنوار ، ج ٨٩ ، ص ١٥.

١٨٥

السورة ، حيث جاء فيها أنّ الله ألهم نبيّهُ (يوسف) كي يدرك بأنّه ليس وحيداً بل الله يحفظه ويرزقه نصيباً من القدرة ويصل الأمر إلى أن يندم اخوته على فعلهم ، وهذا الوحي هو الذي جعل الأمل ينبعث في قلب يوسف.

يذكر «الفخر الرازي» ستة احتمالات في ذيل الآية (٣٨) من سورة طه ، وأغلبها خلاف الظاهر ، لأنّ ظاهر الآية هو الالقاء في القلب ، أو سماع صوت ملك الوحي الذي يتناسب والمعنى اللغوي للوحي (١).

ومثال القسم الثاني هو الخطاب الذي أبلغه أحد الملائكة لمريم والذي كان يتعلق بولادة عيسى عليه‌السلام ، وقد حكى القرآن حوار مريم مع الملك الذي تمثل في صورة إنسان وسيم.

وأوضح مثال للوحي الالهامي هو الذي كان يُقذف في قلوب الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام والذي اشير إِليه كثيراً في الروايات.

وعندما سُئل الإمام الصادق عليه‌السلام عن مصدر علم الأئمّة قال : «مَبْلَغُ علمنا ثلاثة وجوه : ماض ، وغابر ، وحادث ، فأمّا الماضي فمُفَسَّرٌ وَأمّا الغابر فمزبور ، وأمّا الحادث فقذف في القلوب ، ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا ولا نبيَّ بعد نبيّنا» (٢).

وقد جاء في حديث آخر للإمام الرضا عليه‌السلام يقول فيه : «وأمّا النكت في القلوب فهو الالهام وأمّا النقر في الأسماع فحديث الملائكة ، نسمع كلامهم ولا نرى أشخاصهم» (٣).

وبصورة عامة ، فإنّ علوم الأئمّة عليهم‌السلام تحصل من عدة طرق : العلوم التي ورثوها عن الرسول والأئمّة الذين سبقوا ، على شكل وصايا وقواعد مدوّنة توضع في متناول أيديهم والتي قد يطلق عليها في بعض الأخبار «الجامعة» ، وعندما يحصل لهم أمر مستحدث لا وجود له في المصادر التي في أيديهم ، يوحي الله اليهم إلهاماً قلبياً أو نقراً في أسماعهم يسمعون به صوت الملائكة «كما هو الحال بالنسبة لمريم عليها‌السلام».

__________________

(١). راجع التفسير الكبير ، ج ٢٢ ، ص ٥١.

(٢). بحار الأنوار ، ج ٢٦ ، ص ٥٠.

(٣). إرشاد المفيد ، ج ٢ ، ص ٨٠ ؛ بحار الأنوار ، ج ٢٦ ، ص ١٨.

١٨٦

لكن المسلَّم به أنّ هذا الوحي لا علاقة له بوحي النبوة ، وهو من قبيل وحي الحواريين وأمثال ذلك ، وفي الواقع ، أنّ الاصطلاح العصري للوحي يطلق على وحي النبوة الذي يسمى «إِلهاماً» ، وقد قال العلامة الطباطبائي في هذا المجال : حبذا لو أطلقنا عليه إِلهاماً لأنّه يتفق والأدب الديني (١).

يراجع ـ للتفصيل ـ المجلد ٢٦ من بحار الأنوار ، باب علوم الأئمّة عليهم‌السلام ، كما يراجع المجلد الأول من اصول الكافي باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام محدَّثون.

٨ ـ كيفية نزول الوحي على الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله

كما قلنا سابقاً ، إنا لا ندرك حقيقة الوحي ، وهي من المجهولات عندنا ، لأنّ إدراكها شيءٌ خارج عن اطار الحس والعقل ، بل ندرك آثار الوحي فقط ، والأثر يدلّ على المؤثِّر ، وعلى هذا فمن العبث الدخول في عالم الوحي الغامض إلّاأنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام عندما كانوا يُسألون عن كيفية الايحاء ، يجيبون جواباً وافياً بحيث يرسم في الذهن عن الوحي تصوراً لا غير!

ذكر الشيخ الصدوق قدس‌سره في كتابه «الاعتقادات» حول نزول الوحي حديثاً لابدّ أن استخلصه من الروايات حيث قال فيه :

«اعتقادنا في ذلك أنّ بين عيني اسرافيل لوحاً ، فإذا أراد الله عزوجل أن يتكلم بالوحي ضرب اللوح جبين اسرافيل ، فنظر فيه فقرأ ما فيه ، فيلقيه إلى ميكائيل عليه‌السلام ، ويلقيه ميكائيل عليه‌السلام إلى جبرائيل عليه‌السلام ويلقيه جبرائيل عليه‌السلام إلى الأنبياء عليهم‌السلام ، وأمّا الغشية التي كانت تأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يثقل ويعرق فإنّ ذلك كان يكون منه عند مخاطبة الله عزوجل إيّاه فأمّا جبرائيل فانّه كان لا يدخل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يستأذنه إكراماً له ، وكان يقعد بين يديه قعدة العبد» (٢).

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ١٢ ، ص ٣١٢.

(٢). اعتقادات الصدوق ، ص ١٠٠.

١٨٧

وقد جاء في الروايات مضمون هذا الحديث إجمالاً (١).

ونقرأ في حديث آخر أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما كان يوحى إليه يسمع صوتاً هادئاً قرب وجهه.

وقد جاء في حديث آخر : إنّ الوحي عندما كان ينزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يبدأ جبينه يتصبب عرقاً وإن كان الجو بارداً (٢).

وبصورة عامة فإنّ الوحي كان يهبط على رسول الله باشكال مختلفة ، ولكل شكل آثاره الخاصة به.

كما يستفاد من الروايات أن جبرئيل كان يهبط على الرسول أحياناً ـ بشكله الحقيقى الذي خلقه الله عليه ، ويحتمل أنّه هبط بهذا الشكل مرتين فقط طوال عمر الرسول (كما أشير إلى ذلك في بعض تفاسير سورة النجم) (٣) ، كما أنّه قد يهبط متمثلاً في صورة «دحية الكلبي» (٤) ، (٥).

٩ ـ الالهامات الغريزية

قلنا سابقاً أنّ للوحي مفهوماً واسعاً سواء في آيات القرآن أو في كتب اللغة ، كما قلنا إنّ أحد مصاديقه هو الإدراك الغريزي عند الحيوانات ، ولا يمكن تحليله بأي تحليل مادي ، بل وجوده في الحيوانات دليل على وجود ذلك المصدر الغني والعظيم للعلم والمعرفة فيما وراء الطبيعة.

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ١٨ ، ص ٢٥٤ ، ح ٩.

(٢). بحار الأنوار ، ج ١٨ ، ص ٢٦١.

(٣). في ظلال القرآن ، ج ٧ ، ص ٣٠٦.

(٤). بحار الأنوار ، ج ١٨ ، ص ٢٦٧ ، ح ٢٩.

(٥). إنّ دحية بن خليفة الكلبي هو أخو الرسول الرضاعي ، وكان من أجمل الناس آنذاك ، فكان يتمثل في صورته جبرئيل عندما يريد الهبوط على الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (مجمع البحرين مادة وحي). وكان من مشاهير صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويُعرف بحسن الوجه ، أرسله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة إلى قيصر الروم «هرقل» في السنة السادسة أو السابعة من الهجرة ، وكان حياً حتى خلافة عمر (قاموس دهخدا بالفارسية).

١٨٨

وقد أشار القرآن المجيد إلى هذا الأمر العجيب بالنسبة للنحل في الآيات ٦٨ و ٦٩ من سورة النحل.

لقد اتّضح لنا ـ بعد التحقيقات التي اجريت على هذه الحشرة في العصر الحاضر ـ أنّ النحل يعيش حياة اجتماعية وتمدناً عجيباً يفوق تمدن الإنسان في بعض نواحيه ، فالعمران والبناء يتمّ عنده بدقّة كاملة وطبقاً للمواصفات الهندسية ، وكيفية تجميع العسل وتهيئته وادخاره وحفظه من التلوث ، وكيفية تربية الصغار ، والتعذية الخاصة للملكة ، والتحقق من عدم تلوث بعض النحل بالزهور الملوثة ، وكيفية الدفاع ضد العدو ، وكيفية إخبار أعضاء الخلية عن الزهور بواسطة النحل المكلّف بالبحث ، وإعطاء المواصفات الدقيقة من حيث المسافة والانحراف وذلك للحركة الجماعية نحو ذلك المصدر ، وغير ذلك من الامور العجيبة التي لا يمكن تفسيرها إلّابالقول بأنّ لها إلهاماً غريزياً.

ويقال : إنّه تم التعرف على ٤٥٠٠ نوع من أنواع هذه الحشرة ، والعجيب في الأمر أنّ جميعها تتبع طريقة واحدة في كيفية البناء والمَصّ والتغذية من الزهور (١).

إنّ البحث يستدعي عدم الخروج عن صلب الموضوع كثيراً ، وإلّا فالحديث عن الحياة الغامضة للنحل طويل ، ويكفينا منه الحديث عن بنائه لبيت سداسي الاضلاع مع زوايا هندسية دقيقة.

يقول العلماء في هذا المجال : إنّ البيوت المبنية من قبل النحل بنيت بدقّة وظرافة بحيث لا تحتاج إلى مواد أوليه كثيرة للبناء ، رغم سعة محتواها ، لوجود ثلاثة أشكال فقط من بين الأشكال الهندسية المتعددة ـ يمكن بناء البيوت على أساسها من دون حصول فراغ بينها والأشكال هي ، المثلث متساوي الأضلاع والرباعي ، والسداسي ، وقد كشفت الدراسات الهندسية أن سداسي الأضلاع يتطلب مواد بناء أقلّ مع شدّة مقاومته ، ولهذا السبب رجحه النحل على الشكلين الآخرين.

من أين حصلت له هذه الالهامات الغريزية؟ وفي أي مدرسة تعلم هذه التعاليم؟

__________________

(١). اول جامعة ، ، ج ٥ ، ص ٥٥ «بالفارسية».

١٨٩

لا يقتصر هذا الالهام الغريزي على النحل فحسب ، بل نجده في كثير من الحيوانات تفوق عجائب كلٍّ منها الاخرى ، نذكر لذلك الأمثلة الآتية :

يقول أحد العلماء في كتاب له باسم «البحر بيت العجائب» :

«إنّ الحركات التي تقوم بها بعض الأسماك تعتبر من غرائب الطبيعة ولا أحد يستطيع أن يكشف أسرار هذا السلوك ، فهناك نوع من الأسماك يسمى «النُقْط» يغادر البحر المالح الأنهر العذبة وهي الأماكن التي ولدت فيها نفسها ، وقد يقتضي ذلك أن تسير عكس اتّجاه حركة المياه ، أو تصعد الشلالات من أسفلها إلى أعلاها ، وقد يبلغ عددها حداً بحيث تملأ النهر ، وعندما تصل إلى المحل المقصود تضع بيوضها ثم تموت!

يا تُرى : كيف تستطيع هذه الأسماك أن تختار المياه المناسبة لها؟ إنّه أمر عجيب ، والأعجب ، لأنّها تفتقد الخارطة ، كما أنّ بصرها تحت الماء محدود ، ولم يدلها أحد على الطريق ، وبالرغم من ذلك فهي تصل إلى المكان المقصود والمناسب».

ويضيف في نفس الكتاب : «إنّ الأعجب من ذلك هو سلوك الأسماك الانجليزية «سمك يشبه الحيّة» فحين تبلغ ثمان سنوات تغادر النهر أو المستنقع الذي كانت تعيش فيه ، وتزحف ليلاً على الأعشاب المتشابكة حتى تصل إلى شاطىء البحر ، ثم تجتاز المحيط الأطلسي عرضاً حتى تصل إلى المياه القريبة من «برمودا»! وتغوص في المحيط آنذاك وتضع البيوض ثم تموت ... إنّ صغار هذه الأسماك تطفو على سطح البحر وتبدأ سفرها عائدة إلى وطنها ، وتستغرق هذه السفرة سنتين أو ثلاثاً حتى تصل إلى المحل الذي كان فيه أسلافها.

كيف وجدت هذه الأسماك طريقها رغم أنّها لم تسلكه سابقاً؟ إنّه سؤال لا يمكنك الإجابة عنه ، كما لا يستطيع أعلم العلماء الإجابة عنه ، إنّه سرّ ، ولا أحد يعرفه» (١)!

وكثير من الطيور المهاجرة تجتاز طرقاً ومسافات طويلة ، وبعضها يجتاز طريق «اوربا» إلى «أفريقيا الجنوبية» دون خطأ في الاتّجاه ، ولم نكتشف كيفية اهتداء هذه الطيور إلى

__________________

(١). البحر بيت العجائب ، ص ١١٦ و ١١٧ (بالفارسية).

١٩٠

الطريق حتى فترة ليست ببعيدة.

وقد أثبت بعض العلماء ـ بعد التحقيق والتجارب على هذه الطيور ـ أنّها تهتدي الطريق بواسطة مواقع النجوم ، وأثبتت التجارب أنّها تعرف مواقع النجوم غريزياً ، وتعلم تغير مواقعها حسب فصول السنة ، وحتى عندما تتلبد السماء بالغيوم ، فإنّ وميض بعضٍ من النجوم يكفيها للاهتداء إلى الطريق ، كما أثبتت تجارب اخرى أنّها ورثت معرفتها عن الفلك ومواقع النجوم ، أي أنّها تعلم كل شيء عن السماء ومواقع النجوم وإن لم تشاهد السماء سابقاً ، بالطبع لم تُكتشف كيفية انتقال هذه المعلومات التفصيلية لهذه الطيور بالوراثة ، خاصة وأنّ السماء تتغير أشكالها بمرور الزمان ، ثم : من أين حصل الجيل القديم على هذه المعلومات؟! (١).

والنموذج الآخر لهذه الغريزة هو سلوك طير باسم «آكسك لوب» عندما تضع البيوض ، فيقول العالم الفرنسي «وارد» حول هذا الحيوان :

«إني درست حالات هذه الطيور ، فوجدت من خصائصها أنّها تموت بعد أن تبيض ، ولا ترى أفراخها أبداً ، كما أنّ الأفراخ لا ترى امهاتها ، وعندما تفقس البيوض تخرج كالديدان بلا أجنحة ولا ريش ، ولا قدرة لها على تحصيل الطعام ، ولا قدرة لها للدفاع عن نفسها من الحوادث والمخاطر التي تهدد حياتها ، ولهذا ينبغي أن تبقى في مكان محفوظ فيه طعام يكفيها لمدّة سنة ، ومن بعدها تقوم الام ـ عندما تشعر أنّها على وشك أن تبيض ـ بالبحث عن قطعة من خشب ثم تثقبها ثقباً عميقاً ، وتجمع فيها المؤونة الكافية ، فتجمع أولاً أوراق الأشجار ما يكفي لفرخ واحد لمدّة سنة وتلقيها في نهاية الثقب العميق ، ثم تضع عليها بيضة وتبني عليها سقفاً محكماً من عجينه خشبية ، ثم تبدأ ثانياً في جمع مؤونة فرخ آخر لمدّة سنة وبعد جمعها المؤونة ووضعها على سطح الغرفة الاولى ، تضع بيضة ثانية عليها وسقفاً

__________________

(١). حواس الحيوانات الغامضة ، تأليف (ويتوس دروشر) ، ترجمة لاله زاري ، ص ١٦٧ ـ ٧١ (ملخص) «بالفارسية».

١٩١

آخر ، وهكذا تبني الغرفة بعد الغرفة حتى تموت (١).

من الذي علم هذا الطير هذا الحجم من المعلومات رغم أنّه لم ير امه ولا أفراخه؟ لا جواب لأحدٍ على هذا السؤال إلّاالقول ، بأنّها الهامات غريزية من قبل الخالق العظيم.

__________________

(١) المتلبسون بالفلسفة ، ص ٢٢٩ ، «بالفارسية».

١٩٢

٦ ـ الكشف والشهود

تمهيد :

القسم السادس والأخير من مصادر المعرفة هو «الشهود القلبي والمكاشفة».

وقبل كل شيء ينبغي تعريف هذا المصدر المجهول لدى أكثر الناس ، كي يتضح فرقه عن «الوحي» و «الالهام» و «الفطرة» و «الإدراكات العقلية» ، ولكي لا يحملُهُ غير المطلعين على «اتباع الظن».

ومن جهة اخرى ، لكي نحول دون استغلال هذا العنوان من قبل البعض ، والنظر إليه نظرة تشاؤمية من قبل البعض الآخر.

إنّ الكائنات في هذا الوجود تنقسم إلى قسمين :

١ ـ الكائنات التي يمكن إدراكها بالحواس وهي «العالم المحسوس».

٢ ـ الكائنات غير المحسوسة وهي «عالم الغيب».

لكن الإنسان ـ أحياناً ـ ينفتح أمامه طريق باتجاه عالم الغيب يمكّنه من معرفة بعض الحقائق الغيبية (حسب قابليته) ، وبتعبير آخر ، تتكشف له بعض حقائق عالم الغيب فيشاهد تلك الحقائق كما يشاهد حقائق العالم المحسوس ، بل أوضح وأوثق.

ويقال لهذه الحالة «المكاشفة» أو «الشهود الباطني».

وقد اشير إلى هذا العلم في الآيتين : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)!(التكاثر / ٥ ـ ٦)

وقد ورد في المصادر الإسلامية المختلفة : إنّ «المجرمين» و «المؤمنين» تحصل لديهم

١٩٣

هذه الحالة عند الاحتضار ، فيشاهد المؤمنون عندها ملائكة الله أو الأرواح القدّسية لأولياء الله بينما يعجز الجالسون حولهم عن مشاهدة ذلك.

كما حصل هذا الأمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة الخندق عندما ضرب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الصخرة ثلاثاً وكان يظهر بريق في كل ضربة وعند سؤال المسلمين عن هذا البريق قال : أضاءت الحيرة وقصور كسرى في الاولى وفي الثانية أرض الشام والروم وفي الثالثة قصور صنعاء ... وسيأتي تفصيل الحديث (١).

كما أنّه قد حصل هذا لآمنة ام النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما كانت حاملة بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قالت : رأيت نوراً خرج مني شاهدت به قصور بلاد «بصرى» في «الشام» ، وهناك كثير من النماذج جاءت في الآيات والروايات نشير إليها فيما بعد ، إن شاء الله ، فهذه كلها لا وحي ولا إلهام قلبي ، بل نوع من المشاهدة والإدراك تختلف عن المشاهدة والإدراك الحسي.

وعلى هذا ، فالكشف والشهود ـ اختصاراً ـ عبارة عن : الدخول في عالم ما وراء الحس ومشاهدة حقائق ذلك العالم بالعين الباطنية ، كالمشاهدة الحسية بل أقوى ، أو سماع تلك الحقائق باذن روحانية.

بالطبع لا يمكن تصديق كل من يدعي أنّه وصل إلى هذه الملكة ، إلّاأنّه ينبغي الاذعان بأصل وجود مصدر المعرفة ونتحدث أولاً عن هذا الأمر ، ثم عن كيفية الوصول إليه ، ثم طريق تمييز المدعين الصادقين من الكاذبين ، وبعد هذا التمهيد ، نمعن خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ). (الأنعام / ٧٥)

٢ ـ (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ الَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (التوبة / ١٠٥)

٣ ـ (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *

__________________

(١). الكامل في التاريخ ، ، ج ٢ ، ص ١٧٩.

١٩٤

عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى). (النجم / ١١ ـ ١٤)

٤ ـ (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ). (التكاثر / ٥ ـ ٦)

٥ ـ (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَابُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً). (الفرقان / ٢٢)

٦ ـ (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَاغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَانِّى جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَائَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنْكُمْ انِّى أَرَى مَا لَاتَرَوْنَ انِّى أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ). (الأنفال / ٤٨)

٧ ـ (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ). (يوسف / ٩٤)

٨ ـ (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا الَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً). (مريم / ١٧)

شرح المفردات :

إنَ «ملكوت» اشتقت في الأصل من مادة «المُلْك» والتي تعني الملكية والحكومة ، واضيفت لها «الواو» و «التاء» للتأكيد والمبالغة ، أمّا مَلْكُوَة فتعني الحكومة والعزة.

يقول الطريحي في «مجمع البحرين» ، إنّ ملكوت جاءت بمعنى العزة والسلطنة والمملكة ، وادعى بعض أئمّة اللغة أنّها تعني «الحكومة العظيمة» وهو يتفق مع ما قاله الراغب في مفرداته ، ويقول صاحب الميزان : «كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية» (١).

إنَ «فؤاد» ـ كما بينا معناه بالتفصيل سابقاً ـ تعني القلب والروح عندما ينضجان ويتكاملان ، وهو مشتق من مادة «فأْد» التي تعني النضج.

وإنّ «أجد» من مادة «وجود» ويعني الحصول ، فقد يكون الحصول عن طريق احدى

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ٧ ، ص ١٧١.

١٩٥

الحواس الظاهرية ، مثل الرؤية بالعين ، والسماع بالاذن ، أو بواسطة الحاسة الشامة ، وقد يحصل عن طريق الحواس الباطنية مثل الاحساس بالجوع أو الشبع والهم والغم ، وقد يحصل عن طريق العقل مثل وجدان الله بالاستدلال العقلي والبراهين المختلفة.

كلمة «تمثّل» من مادة «مُثُول» ويعني الوقوف أمام شخصٍ أو شيءٍ ، ويقال مُمَثَّل بشخصٍ أو شيءٍ أي ظهر في صورة شخص أو شيءٍ آخر ، وقد تكرر موضوع التمثل في الروايات الإسلامية والتواريخ ، منها ظهور ابليس في «دار الندوة» أمام المشركين وهم يخططون لقتل الرسول متمثلاً في شكل رجلٍ صالح وخير.

ومنها تمثل الدنيا في صورة امرأة جميلة وفاتنة أمام الإمام علي عليه‌السلام وعدم استطاعتها من النفوذ في قلبه الطاهر وقصتها معروفة ، ومنها تمثل أعمال الإنسان أمامه في القبر ويوم القيامة ، كلٌّ بشكله المناسب له حيث عبرت الروايات الإسلامية عن هذا الأمر بالتمثل ، ومفهوم التمثل في جميع هذه الموارد هو ظهور شخصٍ أو شيءٍ في صورة شخص أو شكل آخر من دون تغير في باطنه وماهيته (١).

جمع الآيات وتفسيرها

إنّ الآية الاولى بعد إشارتها إلى جهاد إبراهيم عليه‌السلام بطل التوحيد ضد الشرك وعبادة الأصنام ، تحدثت عن المنزلة الرفيعة لإيمانه ويقينه ، وكمكافئة لهذه المكانه فإنّ الله أراه ملكوت السموات والأرض ، فأصبح من أهل اليقين أي وصل إلى درجة عين اليقين وحق اليقين ، جزاءً لما عاناه من جراء جهاده ضد الشرك وعبدة الأصنام ، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ «السموات» تفيد العموم هنا (لأنّها جاءت جمعاً لا مفرداً ومعرفة لا نكرة) ، نستنتج أنّ الله أطلع إبراهيم على سلطانه في السموات المتمثل بالكواكب والنجوم والمجرات وغيرها ، كذلك سلطانه على الأرض ما ظهر منها وما بطن ، وقد عبّر القرآن عن هذا الأمر بهذا التعبير «نُريَ ابراهيم ...».

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ١٤ ، ص ٣٧.

١٩٦

ومع الأخذ بنظر الاعتبار إلى أنّ الإنسان لا يمكنه رؤية هذه الحقائق بعينه الظاهرية واستدلالاته العقلية ، ندرك أنّ الله أراه هذه الحقائق عن طريق الشهود الباطني وإزالة الحجب التي تحول دون مشاهدة الإنسان الحقائق الغيبية.

وقد ذكر الفخر الرازي احتمالين في تفسيره ل «الإرائة» ، أحدهما : «أنّها حسية ، والثاني : أنّها إرائة عن طريق الاستدلال العقلي ، ثم اختار الاحتمال الثاني ، وذكر تسعة أدلة عليه» (١).

لكن ـ كما قلنا سابقاً ـ فالإنسان عاجز عن الاحاطة الكاملة بأسرار سلطان الله على العالم سواء كان عن طريق الحس أو عن طريق العقل ، وتحتاج الاحاطة هذه إلى طريق إدراك آخر ، وهو الشهود الباطني ، ولهذا السبب يذكر صاحب تفسير «في ظلال القرآن» : «أنّ المراد من الآية إخبار ابراهيم عن أسرار الخلق الخفية ورفع الحجاب عن آيات كتاب الخلق التي نشرت كي يصل ابراهيم إلى درجة اليقين الكامل» (٢).

وبتعبير آخر : إنّ ابراهيم اجتاز مراحل التوحيد الفطري والاستدلالي ـ في البداية ـ من خلال مشاهدته لطلوع الشمسُ وغروبها وطلوع النجوم وافولها ، وجاهد المشركين واجتاز درجات التوحيد في ظل هذا الجهاد العظيم ، الواحدة تلو الاخرى ، إلى أن بلغ مرحلة كشف الله له فيها الحقائق ، وهي مرحلة الشهود الباطني.

وهناك حديث للإمام الصادق عليه‌السلام في هذا المجال يشير فيه إلى هذا المعنى حيث يقول : «كُشِط لإبراهيم السموات السبع حتى نظر ما فوق العرش ، وكشط له الأرضون السبع ، وفُعِل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل ذلك ...» «والأئمّة من بعده قد فُعل بهم مثل ذلك» (٣).

وقد ذكر صاحب البرهان الكثير من الأحاديث في تفسيره ، كلها تكشف أنّ الإدراك هذا ليس هو نفس الإدراك العقلي أو الحسي ، بل ـ وكما صرح صاحب الميزان وأشرنا إليه سابقاً ـ إنّ الملكوت هي مجموعة الامور التي لها ارتباط بالذات المقدّسة الإلهيّة من حيث

__________________

(١). التفسير الكبير ، ج ١٣ ، ص ٤٣.

(٢). في ظلال القرآن ، ج ٣٩ ، ص ٢٩١.

(٣). تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٥٣١ ، ح ٢ (ومضمون الحديث الثالث والرابع قريب من مضمون هذا الحديث).

١٩٧

انتمائها إلى تلك الذات ، وهذا ما شاهده إبراهيم وعن هذا الطريق استطاع أن يصل إلى التوحيد الخالص (١).

وهناك روايتان ذكرت في تفسير «الدر المنثور» إحداهما عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والاخرى عن ابن عباس تبينان أنّ الله رفع الحجب عن إبراهيم وأراه ملكوت السموات والأرض أي أسرار قدرته ، وحاكميته على الكون والوجود (٢).

* *

والآية الثانية بعد ذكرها لأحكام «الزكاة والصدقة والتوبة» خاطبت الرسول قائلة : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ الَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (توبه / ١٠٥)

وممّا لا شك فيه أنّ المراد من رؤية الأعمال من قبل الله سبحانه وتعالى هو رؤية الله لجميع أعمال الناس سواء الصالحة منها أو غير الصالحة وما ظهر منها وما بطن «بقرينة وحدة السياق» وينبغي القول بأنّ مشاهدة الرسول مثل مشاهدة الله ، لأنّ الآية مطلقة ولم يقيدها شيء ، وأمّا المؤمنون ، فالمراد منهم خلفاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المعصومون بحسب القرائن المختلفة «لا جميع المؤمنين».

ومع الالتفات إلى أنّه لا يمكن مشاهدة اعمال كافة الناس مشاهدة حسية أو استدلالية عقلية ، ينبغي القول : إنّ الآية بينت حقيقة وهي أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام بإمكانهم المشاهدة بشكل يختلف عن المشاهدة الحسية المتعارفة ، يشاهدون بها جميع أعمال المؤمنين.

وقد ذهب الفخر الرازي إلى أنّ المراد من الآية جميع المؤمنين لا الأئمّة ، وعندما وقع في إشكال أنّ المؤمنين لا يطلع أحدهم على أعمال الآخر ، أجاب : إنّ المراد أنّهم يُخبرون بها.

__________________

(١). تفسير الميزان ، ج ٧ ، ص ١٧٨.

(٢). در المنثور ، ج ٣ ، ص ٢٤.

١٩٨

وهذا تكلّف بلا نتيجة ، وتبرير خلاف الظاهر.

كما أنّه نقلت روايات عديدة في ذيل هذه الآية بينت أنّ أعمال العباد تُعرض كل صباح (بعض الروايات ليس فيها قيد الصباح) على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام فيرونها ويفرحون بها إن كانت طاعاتٍ ، ويتألمون إن كانت معاصياً (١).

ويمثل هذا الحجم الكبير من الروايات في تفسير هذه الآية درس كبير لجميع سالكي طريق الحق والهداية ، حيث إنّ هناك مراقبين أجلّاء يراقبون أعمالهم ، والإيمان بهذه الحقيقة لها مردودات تربوية جمة ، وقد نقل هذا المضمون في ضمن روايات كثيرة عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث يقول في أحدها : «إذا صار الأمر إليه جعل الله له عموداً من نورٍ يُبص ِرُ به ما يعمل به أهل كل بلدة» (٢).

* *

والآية الثالثة إشارة إلى ما يعتقده البعض من مشاهدة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لجبرئيل عليه‌السلام في شكله الحقيقي ، وقد شاهده بهذا النحو مرتين ، المرة الاولى في بداية بعثته حيث ظهر (عليه‌السلام) في الافق وغطى الشرق والغرب ، وكان بدرجة من الجلالة والعظمة حيث اضطرب الرسول حينها اضطراباً شديداً ، والمرة الثانية هي عند معراجه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد اشير في سورة النجم لكلا اللقائين.

وهناك تفسير آخر وهو أنّ المراد من الرؤية في الآية هو حصول الشهود الباطني له ، الشهود للذات الإلهيّة المقدّسة ، وهو شهود بالعين الباطنية لا الظاهرية ، وهو مصداق واضح ل «لقاء الله» في هذا العالم ، وقد جاء شرح ذلك مفصلاً في تفسير الأمثل في ذيل الآيه ١٨ سورة النجم.

__________________

(١). جاء في تفسير البرهان في ذيل الآية المذكورة ، وفي بحار الأنوار ، ج ٣٣ ، ص ٣٢٦ فما بعد ، عشرات الروايات المنقولة في هذا المجال ، ويمكن القول : إنّها وصلت إلى مستوى التواتر ، ومن اصول الكافي ج ١ باب «عرض الأعمال» جاء ذلك مفصلاً.

(٢). منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ، ج ٥ ، ص ٢٠٠ (لقد جمع في هذا الكتاب روايات عديدة بهذا المضمون) وقد ذكر بعضاً منها البحراني في تفسيره «البرهان».

١٩٩

وعلى أيّة حال فإنّ الآية تصرح : إنّ ما رآه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلبه قد حدث بالفعل ، وقلبه صادق بما شاهده وغير كاذب.

والتعبير هذا شاهد على مسألة الكشف والشهود الباطني الذي يعتبر أحد مصادر المعرفة للإنسان ، إنسان مثل الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد جاء في تفسير الميزان :

ولا بدع في نسبة الرؤية وهي مشاهدة العيان إلى الفؤاد فإنّ للإنسان نوعاً من الإدراك الشهودي وراء الإدراك باحدى الحواس الظاهره والتخيل والتفكر بالقوى الباطنة كما أننا نشاهد من أنفسنا أننا نرى وليست هذه المشاهدة العيانية ابصاراً بالبصر ولا معلوماً بفكر ، وكذا نرى من أنفسنا أننا نسمع ونشم ونذوق ونلمس ونشاهد أننا نتخيل ونتفكر وليست هذه الرؤية ببصر أو بشيء من الحواس الظاهرة أو الباطنة فإنا كما نشاهد مدركات كل واحدة من هذه القوى بنفس تلك القوة كذلك نشاهد إدراك كل منها لمدركها وليس هذه المشاهدة بنفس تلك القوة بل بأنفسنا المعبر عنها بالفؤاد (١).

وقد صرّح المفسرون : إنّ المراد من الرؤية في الآية هو المشاهدة بالقلب.

وقد جاء في حديث أن سأل أحد صحابة الإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : هل رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ربّه عزوجل؟ فاجابه عليه‌السلام «نعم بقلبه ، أما سمعت الله عزوجل يقول : ما كذب الفؤاد ما رأى ، لم يَرَه بالبصر ولكن رآه بالفؤاد» (٢).

بديهي ، أنّ المراد من «الرؤية القلبية» ليس هو الفكر والاستدلال العقلي ، لأنّ هذا أمر لا يختص بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بل يحصل لجميع المؤمنين والموحدين.

* *

وقد خاطبت الآية الرابعة المؤمنين كافة قائلةً : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الجَحيم) ثم تضيف : (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ).

________________ __

(١). تفسير الميزان ، ج ١٩ ، ص ٢٩.

(٢). تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٥٣ ، ح ٣٤.

٢٠٠