نفحات القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-88-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٠

٣ ـ «الفطرة» و «الوجدان» في الروايات الإسلامية

لقد أُشير في الروايات الإسلامية إلى هذا المصدر كثيراً ونذكر هنا نماذج من تلك الروايات :

١ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث معروف له : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصّرانه» (١).

يدل هذا الحديث بوضوح على أن التوحيد ، بل حتى الاصول الأساسية للإسلام مودعة في فطرة الإنسان (٢).

٢ ـ وقد جاء في حديث أنّ شخصاً سأل الإمام الصادق عليه‌السلام عن الآية : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) ، فأجاب الإمام عليه‌السلام : «التوحيد» (٣).

٣ ـ وفي حديث آخر أجاب عن نفس السؤال بهذا الجواب : «هي الإسلام» (٤).

٤ ـ وقد قال الإمام عليه‌السلام في حديث آخر في هذا المجال : «فَطَرَهُمْ على المعرفة» (٥).

٥ ـ وقد جاءت روايات عديدة عن الإمام الصادق عليه‌السلام فسرت الآية : (صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً بالاسلام) (٦).

٦ ـ وقد جاء في حديث قدسي : «خلقتُ عبادي حُنَفَاء» ، وقال صاحب مجمع البحرين بعد ذكره لهذا الحديث يعني مؤهلين لقبول الحمد ، ثم اعتبر معنى الحديث نفس معنى الحديث المعروف «كل مولود يولد على الفطرة».

وهناك ملاحظة جديرة بالذكر وهي : إنّ الروايات الإسلامية عبرت عن الأعمال الحسنة

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٢٨١.

(٢) يأتي شرح هذا الحديث مفصلاً في ، المجلد الثاني من هذا التفسير.

(٣) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٢ ، باب فطرة الخلق على التوحيد ، ح ١.

(٤) المصدر السابق ، ح ٢.

(٥) المصدر السابق ، ح ٤ ، والروايات التي جاءت في هذا المجال كثيرة ويمكن الرجوع إلى المصادر التالية : بحار الأنوار ، ج ٣ باب ١١ من أبواب التوحيد.

(٦) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٢٨٠.

١٦١

بالمعروف وعن الأعمال السيئة والقبيحة بالمنكر وتطلق هذه المفردة على الأمر المجهول ، فقد يُثْبِتُ هذا الاطلاق أنّ الأعمال الحسنة سلوكات تعرفها الروح وتستأنس بها وتسكن إليها أمّا الأعمال القبيحة والسيئة فهي ممارسات تتنفر منها الروح ، ومجهولة عندها.

١٦٢

٥ ـ الوحي السماوي

تمهيد :

توجد آيات كثيرة في القرآن الكريم حول الوحي ، بل إنّ بحثه طرح في جميع الكتب السماوية ، وفي الحقيقة فأَن أتباع الأديان السماوية يعتبرون «الوحي» أهم مصدرٍ للمعرفة ، لأنّه ينهل من العلم الإِلهي الواسع ، في حين أنّ المصادر الاخرى تتعلق بالإنسان نفسه ، وهي محدودة جداً بالنسبة لهذا المصدر.

إنّ الرؤية الكونية الإلهيّة تقول : إنّ الله عزوجل (ولأجل هداية البشر (أي بيان الطريق له) أوحى إلى رجال الوحي (أي الرسل العظام) بكل ما يحتاجه الناس في سبيل اجتياز الطريق إلى التكامل والسعادة.

وفي الحقيقة ، إنّ العقل إذا كان سراجاً منيراً قويا فإنّ الفطرة والوجدان والتجربة بمنزلة سراجٍ من نوع آخر ، و «الوحي» بمنزلة الشمس الساطعة ، الأكبر والأعظم من السراجين المذكورين.

وعلى هذا فيُعدُّ الوحي ـ من وجهة نظر الإلهيين ـ أهم وأغنى مصدر للمعرفة.

والآن نقرأ خاشعين الآيات الآتية.

١ ـ (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ انْ يُكَلِّمَهُ اللهُ الَّا وَحْياً اوْ مِنْ وَراءِ حِجَابٍ اوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِاذْنِهِ مَا يَشَاءُ انَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ). (الشورى / ٥١)

٢ ـ (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * انْ هُوَ الَّا وَحْىٌ يُوحَى). (النجم / ٣ ـ ٤)

٣ ـ (قُلْ انَّمَا انَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى الَىَ). (فصلت / ٦)

١٦٣

٤ ـ (ذَلِكَ مِمَّا اوْحَى الَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ...). (الاسراء / ٣٩)

٥ ـ (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَانَّهُ نَزَّلَهُ عَلَ ى قَلْبِكَ بِاذْنِ اللهِ ...). (البقرة / ٩٧)

٦ ـ (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَىْءٍ). (النحل / ٨٩)

٧ ـ (وَكَذَلِكَ اوْحَيْنَا الَيْكَ رُوحاً مِّنْ امْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى الَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). (الشورى / ٥٢)

٨ ـ (وَمَا ارْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ الَّا رِجَالاً نُّوحِى الَيهِمْ). (النحل / ٤٣)

٩ ـ (لَقَدْ ارْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّناتِ وَانْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ...). (الحديد / ٢٥)

١٠ ـ (انَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). (الحجر / ٩)

١١ ـ (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ انْ كُنْتُمْ تَعقِلُونَ). (آل عمران / ١١٨)

١٢ ـ (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً). (النساء / ١٦٤)

شرح المفردات :

١ ـ «الوحى» استعمل هذا الاصطلاح في القرآن والروايات والأدب العربي بمعانٍ كثيرة ، إلّا أنّ المعنى الأولي للوحي ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ هو «الإشارة السريعة» ، ولذا يقال للأعمال السريعة «وحي» ، كما يقال «وحي» للحديث الرمزي المتضمن كتابات ، والذي يُتبادل بسرعة ، والذي قد يحصل بالكتابة أو الإشارة ، ثم اطلقت هذه المفردة على المعارف الإلهيّة التي تقذف في قلوب الأنبياء والأولياء.

وللوحي أشكال متعددة ، فتارة يكون بمشاهدة ملك من الملائكة واستماع حديثه ، كما هو الحال بالنسبة لجبرئيل عليه‌السلام حيث كان الله يُوحي إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بواسطته.

وتارة باستماع صوته فقط دون مشاهدته كما كان يوحى إلى موسى عليه‌السلام.

١٦٤

وتارة يُوحى بالألقاء بالقلب فقط.

وتارة يوحي الله بالالهام فقط كما هو الحال بالنسبة لأُم موسى عليه‌السلام.

وتارة بالمنام (كالرؤيا الصادقة) (١).

ذكر الخليل بن أحمد في كتاب العين : إنّ أصل معنى «الوحي» هو «الكتابة» ، وقال ابن منظور في لسان العرب : إنّ الوحي يعني «الإشارة» و «الكتابة» و «والرسالة» و «الالهام» و «والحديث الخفي» و «كل خطاب يُلقى على شخص آخر».

ومن مجموع ما تقدم نستشف أنّ «الوحي» في الأصل يعني الإشارة السريعة والحديث الرمزي والخطاب الخفي المتبادل بالرسائل أو الإشارات ، وبما أنّ التعاليم الإلهيّة أوحيت إلى الأنبياء بشكل غامض ، أطلقت مفردة «الوحي» عليها ، لأنّ الألفاظ التي نستعملها وضعت لمستلزمات حياتنا اليومية ، فإذا أردنا أن نستعملها في الامور الخارجة عن مستلزمات حياتنا اليومية ، فينبغي توسيع معانيها ، أو تجريدها أو استعمالها في مناسبات خاصة.

يقول الشيخ المفيد قدس‌سره في «شرح الاعتقادات» : إنّ أصل الوحي يعني الكلام الخفي ، وقد أطلق على كل شيء القصد منه تفهيم المخاطب بشكل يخفى عن الآخرين ، وإذا نسب الوحي إلى الله عزوجل فالمراد به التعاليم والأوامر الإلهيّة التي يُخاطب بها الأنبياء والرسل (٢).

٢ ـ أمّا «الانزال» و «التنزيل» فاشتقتا من مادة «نزول» وتعني ـ في الأصل ـ الهبوط والمجيء من المكان العالي إلى المكان الداني ، وفرقهما عن النزول أنّهما مصدران لفعلين متعديين في حين أنّ النزول مصدر لفعل لازم.

وقد يكتسب الانزال معنىً حسياً مثل ما جاء في هذه الآية : (وَانْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً). (الفرقان / ٤٨)

__________________

(١). مفردات الراغب مادة (وحي).

(٢). سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٦٣٨.

١٦٥

وقد يكون بمعنى موهبة تُؤهب من صاحب مقامٍ عالٍ إلى صاحب مقامٍ دانٍ : (انْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ ازْوَاجٍ). (الزمر / ٦)

وقد يكون الانزال بمعنى إِلقاء المعارف الإلهيّة من قِبَلِ الله ، وقد استعمل هذا المعنى في القرآن كثيراً ، وهناك بحث لأئمة اللغة في كون الانزال والتنزيل بمعنى واحد ، أو أنّ لكلٍ معنى يختص به ، فبعض يقول : إنّه لا اختلاف في المعنى بينهما غير أنّ التنزيل يفيد الكثرة فقط (١) ، بينما يعتقد بعض آخر : أنّ «التنزيل» يفيد التدريج ، و «الانزال» يفيد التدريج والدفعي ، واعتمد الراغب في تفريقه هذا على الآية :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَولَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَاذَا انْزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنْظُرُونَ الَيْكَ نَظرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيهِ مِنَ الْمَوتِ). (محمد / ٢٠)

فالآية تحدثت أولاً عن طلب المؤمنين لنزول آيات الجهاد تدريجياً ، ثم أشارت إلى نزول حكم الجهاد بصورة قاطعة وجامعة ، وعندها ينظر المنافقون إلى الرسول نظر المغشي عليه من الموت.

٣ ـ إنّ «تبيين» اشتقت من مادة «بَينْ» أي المسافة الفاصلة بين الشيئين ، ثم جاءت بمعنى «الايضاح» و «الفراق» ، وذلك لأنّ الفصل بين الشيئين يستدعي هذين الأمرين ، ثم استعملت بعد ذلك لكلٍ من المعنيين بصورة مستقلة ، فتارة تعني «الفراق» واخرى «الايضاح».

وقد جاء في «صحاح اللغة» أن «بين» تأتي بمعنيين متضادين هما ، الفراق والآخر الاتصال ، ويظهر أنّ معناهما في الأصل ـ كما جاء في غير صحاح اللغة ـ هو الفراق ، إلّاأنّ الفراق قد يؤدّي إلى الاتصال بشيء آخر فاستعمالها في الاتصال لأنّه يلازم الفراق.

وعلى أيّة حال فإنّ مفردة (تبيين» جاءت في كثير من آيات القرآن بمعنى الظهور والانكشاف والوضوح ، ولهذا يقال للدليل الواضح والمنكشف «بيّنة» سواء كان عقلياً أو محسوساً ، فيطلق «البينه» على الشاهدين العادلين (اللذين يعتبران بينة محسوسة) ، كما

__________________

(١). وهذا رأي صاحب لسان العرب ، حيث نقله عن ابي الحسن.

١٦٦

تطلق «البينة» على معاجز الأنبياء ، و «البيان» يعني رفع ستار الأبهام عن شيءٍ ، سواء كان بالنطق أو بالكتابة أو بالإشارة.

٤ ـ «التكليم» و «تكَلُّم» من مادة «كلم» ، وفي الأصل ـ كما يقول الراغب ـ يعني التأثير الذي يُرى أو يُسمع ، فالذي يُرى كجُرح الآخرين ، والذي يُسمع فهو الحديث الذي نسمعه من الآخرين.

يذكر الخليل بن أحمد في كتابه «العين» : أن أصل التكليم يعني «الجرح» ، وعلى هذا فاطلاقه على النطق كان بسبب التأثير العميق الذي يتركه الحديث في قلوب المستمعين له ، بل قد يكون تأثير الكلام أشد من تأثير السيف والخنجر ، وكما يقول الشاعر العربي المعروف :

جراحات السنان لها التئامٌ

ولا يلتامُ ما جرح اللسانُ

ويستفاد من بعض العبارات أنّ «التكليم» و «التكلم» لهما معنى واحد ، وكلاهما بمعنى النطق والحديث ، ولهذا عدت «متكلِّم» احدى صفات الله ، في حين إِذا أردنا التقيد بالآية : (وَكَلَّمَ الله مُوسى تَكْلِيما) ينبغي القول أن الله «مُكلِّم».

ولا يستبعد احتمال استعمال مفردة «التكلّم» في موارد حيث يحدّث شخصٌ شخصاً آخرَ ، إلّاأن «التكليم» مثل «المكالمة» تطلق على الحديث المتبادل بين طرفين ، وكلام الله مع موسى عليه‌السلام في جبل طور من هذا القبيل.

ومن هنا يطلق «علم الكلام» على علم العقائد ، لأنّه يذكر أنّ أول بحث بُحث فيه بعد الإسلام هو كلام الله (القرآن) ، حيث كان البعض يعتقد أنّه أزلي ، والبعض الآخر : أنّه حادث. وقد أدّى الخلاف في هذه المسألة في القرون الاولى من عهد الإسلام إلى شجار ونزاعات شديدة ، حدثت بين المسلمين آنذاك (١).

ونعلم الآن أنّ ذلك النزاع لم يكن له أساس ولا نتيجة ، لأنّه إِذا اريد من القرآن محتواه،

__________________

(١). ذكر هذا الاحتمال في دائرة معارف القرن العشرين كأول احتمال في مجال التسمية هذه ، دائرة معارف القرن العشرين ، فريد وجدي ، ج ٨ مادة (كلم).

١٦٧

فالمسلم أنّه كان مع علم الله أزلياً ، وإذا كان المراد منه ألفاظه وكتابته ونزوله بواسطة الوحي ، فهذا حادث في زمن بعثة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا شك ، وعلى أية حال ، فالهدف من هذا الحديث كان بيان وجه تسمية «علم العقائد» ب «علم الكلام».

شرح الآيات وتفسيرها

الوحي شمس مشرقة :

لقد انعكس صدى الوحي في القرآن الكريم بشكل واسع.

حيث أشارت مئات الآيات إلى الوحي كمصدرٍ عظيم للعلم والمعرفة ، وأشارت بعضها إليه بهذا العنوان «الوحي» وبعضها ب «التنزيل» و «الانزال» وبعضها ب «تبيين الآيات الإلهيّة» وبعضها ب «تكليم الله للرسل» ، وبمصطلحات اخرى.

وأفضل تعبير يُذكر في هذا المجال أن يقال : إذا كان العقل في المنظار القرآني بمثابة «مصباح» شديد الاضاءة لكونه مبيناً للحقائق ، فإنّ الوحي «كالشمس» الساطعة التي تضيء أرجاء المعمورة».

اشير في الآية الاولى إلى ثلاثة طرق من طرق اتصال الأنبياء بالله عزوجل ، حيث قالت : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ انْ يُكَلِّمَهُ اللهُ الَّا وَحْياً اوْ مِنْ وَراءِ حِجَابٍ او يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ انَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ) فالطريق الأول هو الايحاء ، والثاني هو التكلم من وراء الحجاب كما تكلم الله مع موسى في جبل طور سيناء ، والطريق الثالث هو إرسال رسول لابلاغ الخطاب الإلهي إلى النبي ، كما كان يهبط جبرئيل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لإبلاغه الخطابات الإلهيّة.

وعلى هذا ، فالالهام القلبي وايجاد الأمواج الصوتية وهبوط ملك مكلف بنقل الوحي ، ثلاثة طرق لاتصال الأنبياء بعالم ما وراء الطبيعة.

والآية الثانية بعد أن أقسمت بالنجم قالت : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * انْ هُوَ الَّا وَحىٌ يُوحَى).

١٦٨

إنّ القسم (بالنجم إِذا هوى) يعنى النجم في حالة الأفول قد يكون إشارة إلى غروب وافول نور الإيمان والهداية عن الوجود في عصر الجاهلية ، الغروب الذي كان مقدمة لطلوع آخر ، أي طلوع شمس الوحي على لسان الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وعلى هذا الأساس ، فالآية أدرجت كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت أصلٍ كليٍّ ناتج عن الوحي والإرتباط الغيبي.

* *

والآية الثالثة أمرت الرسول بأن يتخذ موقفاً تجاه طلبات بعض المشركين العجيبة وغير المألوفة ، ويقول لهم : إِني لستُ ملكاً من ملائكة الله ولا موجوداً أعلى من البشر ولا ابن الله ، ولا شريكه ، (إنّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُم يُوحَى إِلَىَ) وهذا (الإيحاء) هو الذي يمثل الاختلاف بيني وبينكم.

وعلى هذا ، فالرسول يمتاز عن بقية البشر بميزة خاصة وهي اختصاصه بمصدر المعرفة هذا وهو (الوحي).

* *

والآية الرابعة ، بعد ما ذكرت ستة من أحكام الإسلام المهمّة (حرمة قتل الأولاد وحرمة الزنى وقتل النفس والتصرف في مال اليتيم ووجوب الوفاء بالعهد وايفاء الكيل) خاطبت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلة : (ذَلِكَ مِمَّا اوْحى الَيكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ).

وطبقاً لهذه الآية ، فإنّ الأحكام الجزئية شأنها شأن اصول الدين والعقيدة توحى إِلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* *

والآية الخامسة نزلت لتجيب على أولئك اليهود الذين قالوا : إنّ جبرئيل عدونا عندما سمعوا أنّه يأتي الرسول بتعاليم الإسلام ، حيث أمرته بأن يقول لهم : (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً

١٦٩

لِّجِبْرِيلَ فَانَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِاذْنِ اللهِ).

والتعبير في هذه الآية يكشف عن أن جبرئيل عليه‌السلام كان يُنزل ـ أحياناً ـ آيات القرآن على قلب الرسول مباشرة في حين أنّ بعض الروايات تشير إلى أنّ جبرئيل كان يأتي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على هيئة إنسان أحياناً ويقوم بابلاغه الخطاب الإلهي بهذا الطريق (١).

* *

والآية السادسة وضحت الحقيقة الآتية : إنّ القرآن الذي أنزلناه على الرسول فيه تبيانٌ لكلِّ شيء وحاملاً للهداية والرحمة والبشارة إلى جميع المسلمين ، وعليه فإنّ جميع هذه المعارف تصدر عن هذا المصدر العظيم أي الوحي.

بديهي أنّ المراد من «كل شيء» هو جميع القضايا التي تتعلق بسعادة الإنسان ، فتعلم أنّ اسس جميع هذه القضايا قد جاءت في القرآن (سواء المادية منها أو المعنوية) في صورة قوانين كلية.

* *

وقد صرحت الآية السابعة بأنّ القرآن روح نزلت على الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من قِبَل الله عزوجل ، ولم يكن يدري ما الكتاب ولم يكن يدري ما الإيمان ، وقد قيل للقرآن «روح» لأنّه يبعث الحياة في قلوب المجتمع البشري ، وهذا حديثٌ يذهب إليه كثير من المفسرين (٢).

والمراد بـ : «ما كنت تدري ما الكتاب» هو أنّ الرسول لم يكن عارفاً بمحتوى الآيات قبل البعثة ، وهناك شواهد تاريخية وروائية تكشف عن سبق معرفته بالله قبل البعثة.

__________________

(١). أصرَّ الفخر الرازي على تأويل الآية بما يتناسب مع ما ذهبت إليه الروايات من أن جبرئيل عليه‌السلام كان يتمثل امام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في صورة إنسان ، وبما أن القلب هو مركز حفظ الآيات عبر الله بهذا التعبير (فَانَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) (تفسير الكبير ، ج ٣ ، ص ١٩٦) ، لكننا لا نرى ضرورة لتأويل الآية بالشكل الذي قاله الفخر الرازي ، بل يمكن القول بأن اتصال جبرئيل عليه‌السلام بالرسول كان يتم بطريقين : جسماني وروحي.

(٢). يقول الراغب : «سمي روحاً لكون القرآن سبباً للحياة الاخروية».

١٧٠

وعلى أيّة حال إنّ هذا تأكيد آخر على قبول «الوحي» كأهم مصدر للمعرفة ، لأنّ القرآن عُدَّ هنا «روحاً و «نوراً» و «هداية».

والآية الثامنة بعد ما تجاوزت نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أشارت إلى الأنبياء من قبله وقالت :

(وَمَا ارْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ الَّا رِجَالاً نُّوحِى الَيهِمْ فَاسْئَلُوا اهْلَ الذِّكْرِ) فهم على ارتباط وعلم بمنبع المعرفة هذا.

* *

وتحدثت الآية التاسعة عن «البينات» ونزول الكتب السماوية وقوانين الحق والعدالة على الرسل ، وقالت : إنّا أنزلنا الرسل وزودناهم بمعاجز من جهة ، وبكتب وقوانين حقة من جهة اخرى لكي يقوم الناس بالقسط والعدول عن الظلم ، وهذه كلها امور ملهمة من مصدر الوحي.

* *

وقد تحدثت الآية العاشرة عن انزال «الذكر» أي الآيات التي تكون سبباً لتذكر الناس ووعيهم ، في الوقت نفسه فإنّ الله يعد الناس في هذه الآية بحفظ هذا القرآن من أي نقص أوزيادة أو تلف أو تحريف ، فالوحي ـ إذن ـ هو عامل يقظة الناس ، وبما أنّ الله له حافظ ، فسيحفظه كمصدر مهم للمعرفة.

* *

وتقول الآية الحادية عشرة : (قَدْ بَيَّنَا لَكُمُ الآيَاتِ انْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) وهذا دليل واضح على أنّ الآيات الإلهيّة سبب ليقظة العقول ونشاطها.

* *

١٧١

وأخيراً ، فقد تحدثت الآية الثانية عشرة عن تكليم الله لموسى عليه‌السلام ، وقد كان الكلام هذا مصدراً لمعرفة موسى الإلهيّة ، وهو نوع من الوحي.

هذه نماذج من آيات القرآن التي صرحت ـ رافعةً لأي ابهام وشبهة ـ بأنّ الوحي مصدر وأساس للمعرفة.

هذا في وقت ينكر فيه الفلاسفة الماديون هذا المصدر على الاطلاق ، ويفسرونه بتفاسير نقرأُها في البحوث القادمة.

وبعدما اتّضح أصل هذا المصدر ، نذهب إلى بحث قضايا مختلفة تحوم حوله.

* *

توضيحات

١ ـ أقسام «الوحي» في القرآن المجيد

من خلال ملاحظتنا لآيات القرآن فقد استعملت مفردة «الوحي» في القرآن المجيد في عدة معانٍ ، بعضها تكوينية واخرى تشريعية ، وبصورة عامه فانّها مستعملة في سبعة معان :

١ ـ «الوحي التشريعي» وهو الذي يهبط على الرسل ، وقد جاءت في أول البحث نماذج من الآيات التي استعملت فيها هذه المفردة بهذا المعنى.

٢ ـ «الالهامات التي توحى لغير الأنبياء» كما هو الأمر بالنسبة لأم موسى (وَاوْحَيْنَا الَى امِّ مُوسَى انْ أَرْضِعِيهِ ...). (القصص / ٧)

وهناك إلهام يماثل هذا إلّاأنّه يختلف عنه شكلياً ، كالذي حدث لمريم ، حيث تمثل لها الوحي وبشرها بولادة عيسى (مريم / ١٧ ـ ١٩).

٣ ـ «وحي الملائكة» أي الخطابات الإلهيّة التي توجه إِليهم ، كما جاء ذلك في قصة غزوة بدر الكبرى في سورة الأنفال الآية ١٢ : (اذْ يُوحِى رَبُّكَ الَى الْمَلَآئِكةِ أنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا).

٤ ـ «الخطاب مع الإشارة» كما جاء ذلك في قصة حديث زكريا مع قومه : (فَخَرَجَ عَلَى

١٧٢

قَوْمِهِ مِنَ الِمحْرَابِ فَأَوْحَى الَيْهِم انْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً). (مريم / ١١)

٥ ـ (الالقاءات الشيطانية الغامضة» كما جاء في الآية : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعضُهُمْ الَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً). (الأنعام / ١١٢)

٦ ـ «تقدير القوانين الإلهيّة في عالم التكوين» كما في الآية : (وَاوْحَى فِى كُلِّ سَمَاءٍ امْرَهَا). (فصلت / ١٢)

وما جاء في شهادة الأرض يوم القيامة : (يَومَئِذٍ تُحَدِّثُ اخْبَارَهَا* بِانَّ رَبَّكَ اوْحَى لَهَا). (الزَّلْزَلَةِ / ٤ ـ ٥)

قد يكون تلميحاً لهذا المعنى من الوحي.

وقد جاءت مفردة الوحي بمعنى (خلق الغرائز) كما في الآية : (وَاوْحَى رَبُّكَ الَى النَّحلِ انِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ). (النحل / ٦٨)

ومن جهة اخرى فإنّ هبوط الوحي على الرسل جاء على أربع صورٍ على الأقل ، كما جاء ذلك في القرآن المجيد ، وهي :

١ ـ صورة ملك يشاهده الرسول.

٢ ـ وسماع صوت الوحي دون رؤيته.

٣ ـ وفي صورة إِلهام قلبي.

٤ ـ وفي صورة رؤيا صادقة ، كما جاء ذلك في قصة إبراهيم عليه‌السلام عندما أمره الله أن يذبح ابنه إسماعيل (الصافات / ١٠٢) ، أو ما حصل للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما بشره الله ـ بالرؤيا ـ بدخول المسلمين الكعبة آمنين (الفتح / ٢٧).

وقد جاء في رواية أنّ أحد الصحابة سأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف ينزل عليك الوحي؟

فأجابه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يأتيني أحياناً مثل صلصلة الجَرس ، وهو أشدُّهُ عليّ ، فيفصم عني وقد وعيتُ ما قال ، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول» (١).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات :

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ١٨ ، ص ٢٦٠.

١٧٣

فنبيّ منبّأ في نفسه لا يعدو غيرها ، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ، ولم تبعث إلى أحد وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط عليه‌السلام ونبيٌّ يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك ، وقد أرسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا كيونس عليه‌السلام ... والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل اولي العزم وقد كان إبراهيم عليه‌السلام نبياً وليس بإمام حتى قال الله (انِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى) فَقَالَ اللهُ : (لَايُنَالُ عَهْدِى الظَّالِميِنَ) من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً» (١). (البقرة / ١٢٤)

٢ ـ ما هي حقيقة الوحي؟

لقد قرأنا وسمعنا الكثير عن حقيقة الوحي ، لكن رغم ذلك كله ، فإنّ معرفتنا لحقيقته غير ممكنة ، لعدم ارتباطنا بهذا العالم الغامض ، وحتى لو فسّره لنا الرسول بنفسه ، فانّه لا ينطبع شيء في أذهاننا عنه سوى شبح.

ومثل ذلك كمثل شخص بصير يريد أن يصف أشعة الشمس الجميلة ، وأمواج البحر الهائجة وأجنحة الطاووس الملوّنة والمنظر الخلّاب للورد وبراعم الحديقة الخضراء. لشخص ولد أعمى ، وقد تحصل صور مبهمة ومشوشة لهذه المخلوقات عند الأعمى إلّاأنّ إدراك صورها الحقيقية فهو أمر مستحيل.

لكننا نستطيع توضيح الوحي عن طريق آثاره وأهدافه ونتائجه ، ونقول : إنّ الوحي هو الالقاء الإلهي الذي يتمّ بهدف تحقيق النبوة والتبشير والانذار ، أو نقول : إنّه نور يهدي به الله من يشاء ، أو نقول : إنّه وسيلة الإرتباط بعالم الغيب وإِدراك معارف ذلك العالم ، ولهذا السبب نرى القرآن يتحدث عن آثار الوحي لاعن حقيقته.

وينبغي أن لا نعجب من هذا الأمر ، وأن لا نتخذ عدم إدراك حقيقة الوحي دليلاً على عدم الوجود ، أو نفسره بتفاسير مادية جسمية ، فإنّ في عالم الحيوانات التي نعدها في مستوى

__________________

(١). اصول الكافي ج ١ ، باب طبقات الأنبياء.

١٧٤

أدنى من مستوانا فضلاً عن عالم النبوّة ، تُشاهد آثار أحاسيس وإدراكات يعجز البشر عن إدراكها ، فبعض الحيوانات تضطرب قبل حدوث الزلزلة وتصرخ بصورة جماعية أحياناً ، وتارة تحدث أصواتاً مروعة حاكية عن قرب وقوع حدث مفجع ، هذا كله بسبب تحلّيها بحاسة تستطيع بواسطتها أن تكشف قرب وقوع الزلزلة ، الأمر الذي تعجز عن كشفه أحدث تكنولوجيا في العصر الحاضر.

أو أنّ بعض الحيوانات تتنبأ بتغييرات الأحوال الجوية للأشهر القادمة ، فتبني بيوتها وفقاً لتلك الأحوال في الأشهر المقبلة عليها ، وتعد الطعام الذي يتناسب مع طول فصل المطر والشتاء ، فإذا كان طويلاً ـ مثلاً ـ يختلف مقداره عمّا لو كان قصيراً!

كما أنّ بعض الطيور قادرة على الهجرة الجماعية من المناطق القطبية إلى الاستوائية أو بالعكس ، وقد يتمّ ذلك في الليل وفي سماءٍ ملبدة بالغيوم ، مع أنّ الإنسان لا يمكنه السير في هذا الطريق وينجح باجتياز واحد بالمائة منه ، إلّابالاستعانة بالوسائل الدقيقة ، وكذا الأمر بالنسبة لبعض الحيوانات حيث تطلب صيدها في ظلام الليل الدامس ، وأحياناً تحت أمواج المياه وغير ذلك من الأمثلة التي يصعب على الإنسان تصديقها ، إلّاأنّ العلم أثبت صحتها.

إنّ هذه الواقعيات التي تثبت بالعلم والتجربة تكشف عن وجود إدراك وشعور خاص لتلك الحيوانات لا يوجد مثله عند الإنسان ، بالطبع إنّ الاطلاع الكامل على عالم حواس الحيوانات الغامض أمر محال ، إلّاأنّه لا يمكن إِنكار هذه الحقائق (١).

فبالرغم من أنّ حواس الحيوانات لها ابعاد مادية وطبيعية وهذا أمر طبيعي ولا يمثل جانباً غيبياً ، إلّاأننا لا نعرف حقيقة هذه الحواس ، فكيف يمكن لنا أن ننكر عالم الوحي الغامض أو نشكك فيه بسبب عدم إدراكنا له؟

لم نقصد من حديثنا هذا الاستدلال على ثبوت مسألة الوحي ، بل أردنا أن نرد على الذين ينكرون وجوده بسبب عدم إمكان إدراك حقيقته.

ولنا طرق واضحة لإثبات قضية الوحي منها :

__________________

(١). يراجع كتاب عالم حواس الحيوانات الغريب (بالفارسية).

١٧٥

١ ـ نشاهد من جهة رجالاً يدعون النبوة جاءوا بكتب وتعاليم تفوق قدرة البشر الفكرية ، فالرسول الامي ـ مثلاً ـ كيف أمكنه الاتيان بكتاب ذي محتوى مجيد بالرغم من كونه قد نشأ وترعرع في مجتمع الحجاز المتأخر للغاية في عصر الجاهلية؟!

٢ ـ ومن جهة اخرى فإنّ دعوة الرسل مقترنة دائماً مع معاجز تفوق قدرة البشر ، وهذا يكشف عن ارتباطهم بعالم ما وراء الطبيعة.

٣ ـ ومن جهة ثالثة ، فإنّ الرواية الكونية التوحيدية تقول لنا : إنّ الله خلقنا للتكامل والسير نحو ذاته المقدّسة الأبدية ، وبديهي أن سلوك هذا الطريق أمر غير ممكن لكثرة مصاعبه وانعطافاته وتعرجاته ومشاكله وأخطاره لأننا نشاهد عجز العقل وضعفه عن إدراك كثير من الحقائق ، والدليل على ذلك ، الاختلافات الكثيرة بين العلماء والمفكرين ، وكذلك مصير الأمم التي وضعت قوانينها بالاعتماد على العقل والقوانين الوضعية وذلك لإدارة شؤون حياتهم الفردية والاجتماعية.

وعلى هذا ، فإنا نقطع بأن الله لم يترك الإنسان لوحده ، فبالإضافة إلى عقله أمده بقادة يرتبطون بعالم الغيب ، ويستفيضون من بحر العلم الإلهي ، وهذا هو الذي يعينه لاجتياز الطريق والوصول إلى الأهداف المقصودة.

وبهذه القرائن الثلاث يمكننا إدراك العلاقة بين عالم الإنسانية وعالم ما وراء الطبيعة ، وكذلك الإيمان بالوحي رغم أننا لم نتعرف على حقيقته وماهيته ، وبتعبير آخر : إن علمنا بالوحي علم إجمالي وليس علماً تفصيلياً.

٣ ـ الوحي عند فلاسفة الشرق والغرب

سعى كثير من فلاسفة الشرق والغرب في العهد القديم والجديد إلى فتح الطريق أمامهم نحو أسرار عالم الوحي وسعوا إلى تفسيره بما يتناسب مع مبانيهم الفلسفية ، إلّاأنّ دراسة بحوثهم في هذا المجال تكشف عن ضياعهم في متاهات الطريق ، إلّاالبعض منهم ، ولم

١٧٦

ينجلِ لذلك البعض إلّاشبح عن ذلك العالم.

يقول أحد العلماء :

كان الفلاسفة الغربيون ـ إلى القرن السادس عشر كجميع الأمم الأخرى ـ يؤمنون بالوحي ، وذلك لأنّ كتبهم كانت حافلة بالاخبار عن الأنبياء ، وعندما ازدهرت العلوم الجديدة «الطبيعية والتجريبية» واخذت تفسر كل القضايا على اسس مادية ، تراجع فلاسفة الغرب عن آرائهم وأخذوا ينكرون الوحي ، وتجاوزوا إلى أبعد من ذلك بأن اعتبروا الوحي مجموعة من الأساطير والخرافات التي عفا عليها الدهر ، وتبعاً لذلك فقد أنكروا وجود الله وعالم ماوراء الطبيعة والروح ، وامتد بهم الأمر إلى أن يفسروا الوحي بمجموعة من التخيلات أو الأمراض العصبية.

واستمر هذا التوجه حتى أواسط القرن التاسع عشر إلى أن تمّ اكتشاف عالم الأرواح بالطرق العلمية والتجريبية ، وأصبح عالم ماوراء الطبيعة في قائمة القضايا التجريبية ، وقد كتبت حول ذلك المئات بل الآلاف من المقالات.

ومن هنا أخذت مسألة الوحي طابعاً جديداً لدى هؤلاء وخطوا خطوات جديدة في هذا المضمار ، على الرغم من أنّهم لم يفسروا هذه الظاهرة كما فسرتها الأديان الاخرى وبالأخص المسلمون من السائرين على خطى القرآن المجيد ، وبشكل عام فإنّ هناك نظريتين مختلفتين لدى مجموعة من الفلاسفة القدماء والمتأخرين لتفسير ظاهرة الوحي ، ولكن الفريقين لم يصلا إلى حقيقة الوحي حسب ما ورد في القرآن الكريم ، والنظريتان هما :

١ ـ يعتقد عدد من الفلاسفة المتقدمين أن منشأ الوحي هو «العقل الفعّال» ، والعقل الفعّال وجود روحي مستقل عن وجودنا ، وهو قرينة ، ومصدر لجميع علوم البشر ومعارفه ، كما يعتقدون بأنّ الأنبياء كانت لهم علاقة وثيقة مع هذا العقل الفعّال ، وكانوا يستلهمون منه ، وما حقيقة الوحي إلّاهذه العلاقة.

وفي الحقيقة ، لا دليل لهؤلاء لاثبات مدعاهم القائل بأنّ الوحي هو عبارة عن الإرتباط والعلاقة مع العقل الفعّال ، إضافة إلى هذا ، فإنّه لا دليل على وجود ما يزعمون وجوده أي

١٧٧

«العقل الفعّال» كمصدر مستقل للعلوم ، كما ذكر ذلك في المباحث الفلسفية.

وعلى هذا ، فالنظرية المذكورة عبارة عن احتمال مبني على احتمال ، وفرضية مستندة إلى فرضية ، ولم تثبت أي من الفرضيتين ، كما أنّه لا حاجة لفرض «العقل الفعّال» بل يكفينا القول بأنّ الوحي عبارة عن اتصال بعالم ما وراء الطبيعة والذات المنورة ، أمّا كيف وبأي شكل يتم ذلك؟ فهذا لم يتضح لنا.

نحن شاهدنا آثاره فآمنا بوجوده ، دون أن نعرف حقيقته ، وكثير من حقائق هذا العالم حالها كحال الوحي.

٢ ـ يعتقد عدد من الفلاسفة المعاصرين أنّ «الوحي» هو تجلِ «علم اللاشعور» أو العلاقة الغامضة مع حقائق هذا العالم التي قد تنشأ من «النبوغ الباطني» تارة ، وتارة اخرى من «الرياضة الروحية» وعن مساعٍ من هذا النوع ، وقد عَدَّ علماء النفس شخصيتين للإنسان : «الشخصية الظاهرة والإرادية» وهي جهاز الإدراك والتفكير والمعلومات الحاصلة بالحواس العادية ، والشخصية الاخرى هي «الشخصية غير المرئية واللا إرادية» التي قد يعبر عنها ب «الوجدان الخفي» أو «الضمير الباطني» أو «علم اللاشعور» ويعتبر علماء النفس أنّ حلَّ كثيرٍ من المشاكل الروحية كامن في هذه الشخصية.

إنّهم يعتقدون أن مجالات فاعلية ونشاط الشخصية الثانية اوسع بكثير من مجالات نَشاط وفاعلية الاولى.

وقد كتب أحد علماء النفس في هذا المجال :

يمكننا تشبيه الشخصية بقطعة ثلج عائمة في الماء ، وعادة ما يكون تُسْعُها خارج الماء ، وهذا المقدار الخارج هو الشخصية الظاهرة أو عالم الشعور ، ويقابلها الشخصية اللاإرادية إلى عالم اللاشعور ، حيث إنّ القسم الأعظم من النشاط الذهني لم نُحط به علماً ويحصل بشكل غير إرادي ، وهو بمثابة الأجزاء الثمانية من قطعة الثلج تحت الماء (١).

لا شأن لنا فيمن كشف الشخصية الثانية للإنسان ، «فرويد» أم غيره ، كما لا شأن لنا في أنّ

__________________

(١). معرفة النفس ترجمة (الدكتور ساعدي) ، ص ٦ و ٧ مع إيضاح بسيط (بالفارسية).

١٧٨

كلام المتقدمين فيه إِشارة إلى ما ذهب إليه المعاصرون أم لا ، المهم بالنسبة لنا هو أنّ كثيراً من علماء النفس ، بعد اكتشاف عالم اللاشعور وحل بعض المعضلات الروحية عن طريق هذا الاكتشاف ، سعى لتبرير ظاهرة الوحي بما يتناسب ويتفق مع هذا الاكتشاف ، حيث ادعوا أنّ الوحي هو ترشحات عالم اللاشعور التي تظهر عند الأنبياء على شكل طفرات فكرية بالصدفة.

وقد ساعد الأنبياء في ذلك أحياناً ـ أمران : الأول النبوغ الفكري ، والثاني هو الترويض والتفكير المستمر.

وطبقاً لهذه الفرضية ، فإنّ علاقة «الوحي» بعالم ما وراء الطبيعة ليست علاقة من نوع خاص ومغايرة للعلاقات الفكرية والعقلية لبقية أفراد البشر ، وأنّ هذا لا يتم عن طريق وجودٍ روحي مستقل باسم «الوحي» ، بل هو انعكاس لضمير الأنبياء الخفي ، وهذه الفرضية كالسابقة القائلة بأنّ الوحي هو الاتصال بالعقل الفعال ، تفتقد الدليل ، وقد يكون المراد بهذا من هذا الكلام ليس إثبات حقيقة الوحي ، بل مرادهم إنّ ظاهرة الوحي لا تتنافى مع العلوم الحديثة ، ويمكن تجلّي عالم اللاشعور لدى الأنبياء.

وبتعبير أوضح ، فإنّ العلماء يصرون على تفسير جميع ظواهر العالم طبقاً للقوانين الطبيعية والاصول العلمية التي اكتشفوها ، ولهذا فإنّهم بمجرّد مشاهدتهم لظاهرة جديدة ، يسعون إلى تحليلها في إطار العلم الحديث ، وإذا افتقدوا الدليل في هذا المجال اكتفوا بالفرضيات.

لكن تلقي ظواهر العالم بهذا الشكل ليس صحيحاً ، وهذا هو خطأ العلماء الطبيعيين ، مفهوم كلامهم هذا هو : إننا فهمنا الاصول والقوانين الاساسية للعالم ، ولا توجد ظاهرة خارجة عن اطُر هذه القوانين والاصول.

وهذا ادّعاء محض ولا دليل له ، بل لنا دليل على العكس ، حيث نشاهد بمرور الزمن اكتشاف اصول وقوانين جديدة لنظام هذا العالم ، ولدينا قرائن تثبت أنّ نسبة ما نعلمه عن هذا العالم إلى ما لا نعلمه كنسبة القطرة إلى البحر.

١٧٩

لقد عجزنا عن المعرفة الدقيقة لحواس الحيوانات الغامضة ، بل وحتى عن معرفة أسرار وجودنا ، لذا لا يمكننا سوى ادعاء معرفة قسم من هذه الأسرار فقط.

فلماذا ـ إذن ـ هذا الاصرار كله على تبرير ظاهرة الوحي في اطُر القوانين العلمية المكتشفة ، بل ينبغي القول : إنّ الوحي حقيقةٌ شاهدنا آثارها ولم نطلع على ذاتها وحقيقتها.

٤ ـ فرضية كون الوحي غريزة

طرح بعض المفكرين الإسلاميين المتأثرين بأفكار العلماء الغربيين فرضية اخرى في مجال الوحي تختلف في الظاهر عن الفرضيتين السابقتين إلّاأنّها تتفق معهما جوهرياً.

وقد بُنيت هذه الفرضية على الاصول الآتية :

١ ـ إنّ «الوحي» لغة يعني النجوى بهدوء ، واستعملت في القرآن بمفاهيم عدة تشمل أنواع الهدايات الغامضة ، بدءً بهداية الجمادات والنباتات وانتهاءً بهداية الإنسان عن طريق الوحي.

٢ ـ إنّ الوحي نوع من أنواع الغريزة ، وهداية الوحي ليس إلّاهداية غريزية.

٣ ـ إنّ الوحي هداية الإنسان من وجهة نظر جماعية ، أي أنّ المجتمع الإنساني بما هو كتلة واحدة ، له مسير وقوانين وحركة ، فيحتاج للهداية ، ودور «النبي» في هذا المجال كدور الجهاز المتسلِم الذي يتسلم ما يحتاجه نوع البشر بشكل غريزي.

٤ ـ إنّ الأحياء تهتدي في مراحلها الاولى بواسطة الغريزة ، وكلما تكاملت ونما حس التصور والفكر عندها ، كلما نقصت قدرة الغريزة فيها ، وفي الحقيقة فإنّ الحس والتفكير يستخلفان الغريزة ، وعلى هذا الأساس فالحشرات لها غرائز أكثر وأقوى ، والإنسان أقل غرائزاً بالقياس إلى الحيوانات الأخرى.

٥ ـ إنّ المجتمعات البشرية (من وجهة نظر اجتماعية) تسير دائماً في طريق التكامل وتتّجه نحوه ، فكما أنّ الحيوانات في مراحل حياتها الابتدائية كانت تستند إلى الهداية

١٨٠