نفحات القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-88-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٠

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ ما ذكرناه في شروحنا للاقسام الثلاثة كان صحيحاً وإن لم يتفق شيئاً ما مع الاستعمالات العصرية لمفردتي «العلم» و «الفلسفة» وأنّ المراد كان ايصال المفهوم إلى أذهان القراء فقط.

فضلاً عما ذُكر سابقاً نضيف هنا القول بامكانية ادغام القسم الثاني والثالث في قسم واحد ، ذلك لأنّ القوانين الكلية التي رسمت التاريخ وتُستخرج وتُستنبط من التاريخ النقلي ، تارة تكون ناظرة إلى الوضع الراهن للمجتمعات ، وتارة اخرى تكون ناظرة إلى تحول وتكامل المجتمعات.

والمهم هنا هو أنّ القرآن المجيد لم يقتنع بالسرد المجرد لحوادث التاريخ بل أشار أيضاً إلى السنن والقوانين الكلية التي حكمت المجتمعات ، القوانين التي يمكنها أن تزيل القناع عمّا كان ويكون ، أو عن أي تغير وتحول تاريخي كأيّ تقدمٍ أو سقوطٍ أو فشلٍ حصل للمجتمعات.

يشير القرآن ـ مثلاً ـ إلى هذه السنة : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). (الأنفال / ٥٣)

وينبغي الالتفات إلى أنّ القرآن ذكر هذه السنة بعد ما أشار إلى قصة قوم فرعون وعذابهم بسبب ذنوبهم.

ويقول في آيات اخر (بعد اشارته إلى تاريخ الأقوام القويّة التي أُهلكت بسبب تكذيبهم الرسل وشركهم وذنوبهم وظلمهم) : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ ايمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ). (المؤمن / ٨٥)

نعم تنبغي الوقاية قبل العلاج ، وهذا قانون كلي ، لأنّ الإنسان لو ابتلي بجزاء أعماله فلا فرصة حينئذٍ لجبران الماضي.

الإجابة على إشكال :

قد يُقال إنّ قبول وجود قانون كلي في تاريخ الإنسان يجسد مفهوم الجبر في تاريخ

١٤١

البشر ولا ينسجم وحرية الإرادة والاختيار.

لكن الالتفات إلى نقطة في هذا المجال يرفع الإشكال بالكامل والنقطة هي :

إنَّ قولنا بوجود قوانين وسنن كلية معناه أن أعمال البشر الاختيارية (سواء الفردية منها أو الجماعية) لها مردودات وانعكاسات قهرية ، فمصير الأمم الصامدة والعارفة والمثابرة ـ مثلاً ـ هو النصر ، ومصير الأمم المشتتة والجاهلة هو السقوط والفشل.

هذه سنة تاريخية ، فهل أنّ مفهوم هذا القانون الكي هو أنّ الإنسان مجبور ، أم إنَّه تأكيد لتأثير ونفوذ إرادة الإنسان في تعيين مصيره؟

وهذا الأمر أشبه ما يكون بقولنا : إنّ الإنسان يموت إذا تناول سُمّاً ، وهذا المردود قهري ولا يتنافى واختيار الإنسان وأصل إرادته.

٦ ـ التاريخ في نهج البلاغة والروايات الإسلامية

بما أنّ نهج البلاغة كتاب عظيم ذا محتوى تربوي غني جدّاً ، وبما أنّ التربية بلا معرفة ، والمعرفة بلا تربية أمر محال ، فقد أكد هذا الكتاب على القضايا التاريخية كثيراً.

إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام عند حديثه عن الحوادث التاريخية يصورها وكأنّه يأخذ بأيدي الناس إلى مكان الحدث ويريهم فرعون وجنوده ويقتفون آثار مستضعفي بني اسرائيل ومن ثم يشاهدون غرقهم في نهر النيل.

إنّه يصور قوم نوح وقوم عاد وثمود تحت تأثير الدمار الشامل الذي خَلَّفَهُ الطوفان والصواعق والزلازل والحجر الذي أُمطروا به ، والناس يشاهدون أخذ هذه الامم الطاغية واللاهية مع قصورهم ومدنهم وبطغيانهم وهلاكهم في طرفة عين بحيث لم يبق إلّاآثار الخراب والصمت القاتل المهيمن عليها ، وكل من سَاحَ في نهج البلاغة مرَّ بهم ورجع بكنزٍ هائل من العلم والمعرفة والخبرة ، إنّ قدرة نهج البلاغة في تصوير الحوادث قدرة عجيبة حقاً ، وكذا الأمر عند بيانه لفلسفة التاريخ.

١٤٢

وقد شرحنا سابقاً كلام الإمام علي عليه‌السلام للإمام الحسن عليه‌السلام حول تأثير التاريخ على طول عمر الإنسان ، طول يمتد بامتداد أعمار جميع البشر من حيث المعرفة والتجربة.

وهناك عبارات جميلة له عليه‌السلام حول جريان السنن التاريخية حيث يقول :

«عباد الله إنَّ الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين ، يعود ما قد ولّى منه ، ولا يبقى سرمداً ما فيه ، آخر فعاله كأوّله ، متشابهة اموره ، متظاهرة أعلامه» (١).

وفي تفسيره للإيمان باعتباره ذا أربعة أعمدة الصبر واليقين والعدل والجهاد) ، يقول : «اليقين منها على أربع شُعَب ، على تبصرة الفطنة وتأوّل الحكمة ، وموعظة العبرة وسنة الأولين» (٢).

ويقول عليه‌السلام في موضع آخر :

«واعلموا عباد الله أنّكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى قبلكم ، ممن كان أطول منكم أعماراً ، وأعمر دياراً ، وأبعد آثاراً ، أصبحت أصواتهم هامدة ، ورياحهم راكدة ، وأجسادهم بالية ، وديارهم خالية ، وآثارهم عافية ، فاستبدلوا بالقصور المشيدة ، والنمارق الممهدة ، الصخور والأحجار المسندة ، والقبور اللاطئة المُلْحَدة التي بُني على الخرب فناؤها وشيّد بالتراب بناؤها» (٣).

ويقول في خطبة اخرى :

«فاعتبروا بما أصاب الامم المستكبرين من قبلكم ، من بأس الله وصولاته ووقائعه ومثلاته ، واتّعظوا بمثاوى خدودهم ومصارع جنوبهم» (٤).

كما يقول في نفس الخطبة :

«فانظرو كيف كانوا حيث كانت الأولاد مجتمعة والأهواء مؤتلفة ، والقلوب مهتدلة

__________________

(١). نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٧.

(٢). المصدر السابق ، الكلمات القصار ، الكلمة ٣١.

(٣). المصدر السابق ، الخطبة ٢٢٦.

(٤). المصدر السابق ، الخطبة ١٩٢ ، (الخطبة القاصعة).

١٤٣

والأيدي مترادفة ، والسيوف متناصرة ، والبصائر نافذة والغرائم واحدة ، ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين؟ وملوكاً على رقاب العالمين؟! فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر امورهم ، حين وقعت الفرقة ، وتشتّت الألفة ، واختلفت الكلمة ، والافئدة ، وتشعبوا مختلفين ، وتفرقوا متحاربين ، قد خلع الله عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته ، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين» (١).

ويقول في خطبة اخرى :

«وإنّ لكم في القرون السالفة لعبرة! أين العمالقة وابناء العمالقة! اين الفراعنة وأبناء الفراعنة (٢)! اين أصحاب مدائن الرّس (٣) الذين قتلوا النبيين ، واطفئوا سنن المرسلين ، وأحيوا سنن الجبارين؟ اين الذين ساروا بالجيوش ، وهزموا الألوف ، وعسكروا العساكر ومدّنوا المدائن؟» (٤).

كما أنّ الروايات الإسلامية أولت عناية كبيره لهذه المسألة ، واعتبرتها أحد المصادر المهمّة للمعرفة وبالأخصّ للمسائل الأخلاقية ، وتهذيب النفوس ، والالتفات إلى واقعيات الحياة.

وقد جاء في رواية أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام عندما كان في طريقه مع عسكره إلى صفين وصل إلى مدينة (ساباط) ثم إلى مدينة (بهرسير) (٥) (المناطق التي كانت مركزاً لحكومة الساسانيين) التفت أحد صحابته فجأة إلى آثار كسرى (والملك الساساني

__________________

(١). نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢ ، (الخطبة القاصعة).

(٢). العمالقة : أقوام قوية ومتمكنة وجبارة وظالمة كانوا في شمال العراق ، وقد فتحوا «مصر» وحكموها لفترة في عهد الفراعنة.

(٣). يعتقد الكثير أنّ أصحاب الرس قوم سكنوا اليمامة جنوب الحجاز ، وكان لهم نبي باسم حنظلة ، وقال البعض أنّهم قوم شعيب ، ويعتقد بعض آخر أنّ مدنهم كانت بين الشام والحجاز (يراجع التفسير الأمثل ، ذيل الآيه ٣٨ من سورة الفرقان).

(٤). نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٢.

(٥). يقول البعض إنّها مشتقة من الأصل الفارسي أي (بوارد شير) أو (دهار دشير) وهي إحدى المدائن السبعة التي كانت تقع غرب نهر دجلة (معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٥١٥).

١٤٤

المعروف) وانشد البيت :

جرت الرياحُ على مكان ديارهم

فكأنّهم كانوا على ميعاد

فقال الإمام عليه‌السلام : «لِمَ لم تقرأ ، هذه الآيات : (كَمْ تَرَكَوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنِعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذلِكَ وَاورَثْنَاهَا قَوماً آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيهِمُ السَّمَاءُ وَالْارْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) (١).

وقد جاء في حديث الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ داود عليه‌السلام خرج من المدينة وهو يقرأ (الزبور) ، وما من جبل أو حجر أو طير أو حيوان وحشي إلّاويقرأ معه ، وهو مستمر في طريقه حتى وصل إلى جبل ، يعيش على قمته نبي عابد اسمه (حزقيل) ، أدرك مجيء داود عندما سمع ترتيل الجبال والطيور والوحوش ، وعندما سأل داود النبيَّ : هل تأذن لي بالصعود إليك؟ فأجابَهُ النبي العابد : لا ، فبكى داود ، فأوحى الله إلى (حزقيل) بأن لا يوبّخ داود ، وأن يطلب من الله تعالى حسن العاقبة ، فقام حزقبل وأخذ بيد داود وجاء به إلى محله.

فسأله داود : هل عزمت على الذنب يوماً؟

فاجاب : لا.

ثم سأل : هل حصل عندك الغرور والعجب لكثرة عبادتك؟

أجابه : لا ، ثم سأله : هل رغبت في الدنيا وهل أحببت شهواتها ولذاتها؟

أجاب : نعم ، نعم قد يخطر هذا في قلبي.

فسأله : ماذا تفعل آنذاك؟ أجاب : أدخل في هذا الوادي واعتبر بالذي فيه.

فدخل داود الوادي ، فرأى أريكة من حديد وعليها جمجمة متآكلة وعظاماً رميمة ولوحة مكتوبة ، فعرف داود : أن ذلك يتعلق بملك مقتدرٍ حكم سنينَ طويلة وبنى مدناً كثيرة. وقد بلغ به الأمر إلى ما تراه ...» (٢).

* *

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ٣٢٧.

(٢). المصدر السابق ، ج ١٤ ، ص ٢٢ (ملخص الحديث).

١٤٥

آخر الحديث حول التاريخ المعلِّم :

إنَّ ما ذكرناه عن التاريخ كمصدر للمعرفة والعلم مشروط بالامور الآتية :

أولاً : أن لا يدرس الإنسان التاريخ للتسلية.

ثانياً : أن يدرس العلاقة الحقيقية بين القضايا التاريخية وأعمال الإنسان ، ولا يحُلل القضايا التاريخية على أساس التبريرات الوهمية كالحظ والصدفة ، أو المصير المحتوم أو القضاء والقدر (على التفسير الذي يعتقد به الجاهلون ، والذي تُسلب على أساسه قدرة الإنسان في الاختيار).

ثالثاً : أن يستنبط القوانين التاريخية الكلية من الحوادث الجزئية ، وأن يحقق في اصول ونتائج كل حادثة ثم يجعل نفسه مصداقاً لهذه القوانين ويخرج بالنتيجة.

رابعاً : أن لا يسعى ليجرّبَ الحوادث (التي جربت قبله) بنفسه ، وذلك لكي لا يكون مصداقاً لهذا الحديث «من جرّب المجرَّب حلّت به الندامة».

خامساً : أن يكون ناقداً للحوادث التاريخية ومميزاً للمسلَّمات من المشكوكات والأساطير من الواقعيات.

وخلاصة الحديث هو أن يتلقى التاريخ كمصدرٍ مُلْهِم للمعرفة والخبرة في حياته ، وليس بشكله المحرَّف.

١٤٦

٤ ـ الفطرة والوجدان

تمهيد :

عندما يصل الإنسان إلى سنّ الرشد ، يتعرف على بعض الحقائق من دون الحاجة إلى معلم كاستحالة اجتماع الضدين أو النقيضين حيث تكون واضحة عنده.

ويدرك حسن وقبح كثير من الامور ، مثل : قبح الظلم وحسن العدل والاحسان.

وعندما يقوم بعمل مشين ، يناديه صوت الوجدان الرادع الباطني يؤنبه على عمله ، وعندما يأتي بعمل حسن يشعر بالطمأنينة والرضا النفسي.

يستأنس بالجمال ويحب العلم والمعرفة.

يحس في باطنه ارتباطاً بمبدأ مقدس ، وبتعبير آخر : إنّ في باطنه ما يجرّه ويجذبه إلى الله عزوجل.

وهذا يكشف عن وجود مصدرٍ للمعرفة في باطن الإنسان غير المصادر التي قرأنا عنها سابقاً ، يطلق عليه «الفطرة» ، وتارة «الوجدان» واخرى «الشعور الباطني».

ولتعيين حدود العقل وحدود الفطرة نتأمل الايضاحات الآتية :

إنّ روح الإنسان تمثل ظاهرة عجيبة ذات جوانب وأبعاد متعددة ، ندرك بعضها ، ونجهل الآخر ، كما أن لها نشاطات مختلفة بمحاذاة جوانبها المختلفة.

وإنّ العقل يشكل قسماً من الروح ، ووظيفته التفكير ، كما أنّ هناك قسماً آخر وهو الحافظة ووظيفتها حفظ المعلومات وخزنها وتقسيمها وتبويبها واستخراج المراد والمطلوب منها ـ بشكل معجز ـ من بين الملايين من المفاهيم والحوادث والذكريات.

١٤٧

والقسم الآخر هو العواطف أو مركز الحب والعشق والعداء والخصومة والبغضاء.

والقسم الآخر هو الأعمال الباطنية كالاختيار والإرادة والعزم والتصميم.

والخلاصة ينبغي القول : إنّ الروح بحر عظيم ملؤُهُ العجائب والغرائب ، وإنّ القوانين التي تحكمها قوانين متنوعة ومعقدة للغاية.

إلّا أنّه يمكن تقسيم الروح إلى قسمين كليين :

١ ـ القسم الذي يتعلق بالتفكير والإدراكات النظرية ، أي ما يكتسبه الإنسان عن طريق الاستدلال.

٢ ـ القسم الذي يتعلق بالإدراكات البديهية الضرورية ، أي ما هو حضوري ومعلوم عند الإنسان بلا دليل أو برهان.

وكلما تحدثنا عن الفطرة والوجدان ، فإنّ مرادنا هو القسم الأخير من الإدراكات.

«الفطرة» : وتعني الخلقة الاولى ، أي خلق الروح والنفس ممتزجة مع مجموعة من المعلومات الفطرية.

و «الوجدان» : ما يجده الإنسان في نفسه من دون حاجة لتعلمه.

و «الشعور الباطني» : الإدراك الباطني للإنسان الذي يستلهم منه الإنسان ، وعلى أيّة حال ، فإنّ ممّا لا شك فيه أنّ هذا الشعور أحد مصادر العلم ومعرفة الحقائق ، الذي قد يعبر عنه ب «القلب» وهو يختلف بوضوح عن «العقل» الذي هو مركز الإدراكات النظرية بالرغم من أنّهما فروع لشجرة واحدة وثمرتان لروح الإنسان (فتأمل).

بالطبع ، ليس كل ما قيل هنا متفق عليه من قبل الفلاسفة جميعهم ، بل أردنا الإشارة إلى هذا الموضوع ، وسنعيد الإشارة إليه مرّةً اخرى بشكلٍ استدلالي إن شاء الله.

وبعد الالتفات إلى هذه الملاحظة ، نتأمل في القرآن لنرى كيف يكشف لنا عن هذا المصدر.

* *

١٤٨

نقرأ أولاً الآيات الآتية :

١ ـ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَالهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا). (الشمس / ٧ ـ ٨)

٢ ـ (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ). (الأنبياء / ٦٤)

٣ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ والْأَرضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ). (لقمان / ٢٥)

٤ ـ (فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ). (العنكبوت / ٦٥)

٥ ـ (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ). (البقرة / ١٣٨)

٦ ـ (خَلَقَ الْإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ البَيانَ). (الرحمن / ٣ ـ ٤)

٧ ـ (عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ). (العلق / ٥)

٨ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون). (الروم / ٣٠)

* *

معاني المفردات :

إنَّ كلمة «الهمها» مأخوذة من مادة «الإلهام» أي ـ كما يصرح به كبار اهل اللغة ـ الشيء الذي يقع في قلب الإنسان ، ويقول الراغب في مفرداته : «الإِلهام : إلقاء الشيء في الروع ويختص ذلك بما كان من جهة الله وجهة الملأ الأعلى» ، والروع يعني القلب ، أمّا الرَّوْع فيعني الخوف والانبهار.

ثم استشهد بالآية (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) كدليل على ما قاله.

وقد جاء في لسان العرب : أنّها من مادة «لَهْم» وتعني البلع ، والالهام يعني التلقين الإلهي ، وهو نوع من أنواع الوحي (الوحي بمعناه العام).

ومع الالتفات إلى أصل هذه الكلمة يمكن العثور على سبب الاطلاق ، وكأن الروح تفتح فم الإنسان وتلقي فيه حقيقة بواسطة التعليم الإلهي فيمضغها فمه.

١٤٩

«الفطرة» : جاءت من مادة فَطْر ، ويعتقد البعض أنّها في الأصل تعني «البَقْر» وهو الشقّ (١) ، بينما يعتقد البعض الآخر أنّها تعني الشق طولاً ، ثم استعملت بمعنى الخلق ، وكأنّ ستار العدم يُبْقر ويُمزّق فتخرج منه الموجودات الحية ، كما يقال للعمل المنافي للصوم كتناول الطعام (إفطار) ، فيقال : إنّ ذلك بسبب بِقْر شيء ممتد ومتصل.

ويقال للنبات الذي يفطر الأرض ويبقرها «فُطر» لأنّه يبقر الأرض ويخرج منها ، وقد يطلق على حلب الثدي بالأصابع «فَطْر».

كما أنّ العجين إذا اختمر وصُيِّرَ خبزاً اطلق عليه «فَطْر» (٢).

وعلى كل حال ، فإنّ المراد من هذه المفردة في الآيات هو الخلقة الإلهيّة الاولى ، والهداية التكوينية نحو حقائق مودعة في روحِ الإنسان وهو مجبول عليها.

وأمّا كلمة «النفس» ـ وكما أشرنا سابقاً ـ فتعني «الروح» وقد يطلق على ذات الشيء «نفس الشي» كما جاء ذلك في القرآن الكريم (ويحذّركم الله نفسه) كما قد جاءت هذه المفردة بمعنى «الدم» و «العين» و «الشخص» (٣).

كما أنّها قد تطلق اطلاقاً خاصاً على «النفس الامارة» إلّاأنّها جاءت في الآيات هنا بمعنى «الوجدان» الذي يشكل قسماً من روح الإنسان.

وكلمة «صِبْغَة» مشتقة من مادة «صَبَغَ» أي طلى لوناً ، ويطلق على نتيجة العمل «صبغة» ، و «صِبْغ» يعني الطعام الذي يؤكل مع الخبز بحيث يكون الخبز كالصبغة لذلك الطعام ، وادعى البعض أنّه يعني زيت الزيتون الذي يغمس فيه الخبز ويؤكل.

ويقول الراغب : إنّ «الصبغة» المذكورة في الآية إشارة إلى العقل الذي جُبِلَ عليه الإنسان وميّزه عن الدواب ، وهو كالفطرة (٤).

__________________

(١). لسان العرب.

(٢). كتاب العين ، ولسان العرب ، ومفردات الراغب.

(٣). مجمع البحرين الطريحي ، مادة (نفس) ، ومفردات الراغب.

(٤). مفردات الراغب ، مادة (صبغ).

١٥٠

إنّ التعبير بالصبغة ، كما يقول عدد من أئمة اللغة ـ قد يكون بسبب أنَّ «النصارى» يغسلون الوليد بعد اليوم السابع بماء ممزوج بمادة صفراء اللون (غسل التعميد) معتقدين أنّ هذا الصبغ يطهره وينزهه ، والقرآن يصرح لهم : إنّ صبغة الإسلام والتوحيد أحسن من هذه الصبغة وأشرف.

وعلى هذا ، فالتعبير بالصبغة يتناسب كثيراً مع الفطرة والخلقة الاولى ، خاصة وأنّ بعض الروايات فسرت الصبغة ب «الإسلام والولاية» (١).

جمع الآيات وتفسيرها

في الآية الاولى بعد أن أقسم الله بالنفس وبالذي سوّاها وما فيها من قابليات ، أشار إلى المصدر المُلْهِم للمعرفة وهو «الوجدان الأخلاقي» ، وقال : إنّ الله ألهم الإنسان المعرفة في مجال التقوى والفجور.

وقد جاء في آية اخرى ما يماثل مفاد هذه الآية ، فبعد إشارته إلى خلق الإنسان قال : وهديناه النجدين.

وينبغي الالتفات هنا إلى أن «نجد» ـ في الأصل ـ المكان المرتفع ويقابله «تَهَامة» أي الأرض المنخفضة ، إلّاأنّ النجد هنا ـ بقرينة ما قبل وما بعد الآية ، وبقرينة بعض الروايات التي فسرت النجد ـ كناية عن الخير والشر وعوامل السعادة والشقاء (٢).

كما أنّ الآية : (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرَاً وإِمَّا كَفُوراً). (الإنسان / ٣)

قد تشير إلى نفس المعنى ، أو على الأقل تندرج «الهداية الفطرية» في المفهوم العام للهداية التي جاءت في هذه الآية.

* *

__________________

(١). تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ١٦٧ ـ ١٥٨.

(٢). تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٧١٥٥ ؛ تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٩٤.

١٥١

والآية الثانية ناظرة إلى تحطيم الاصنام من قبل بطل التوحيد ابراهيم الخليل عليه‌السلام : ومحاكمة عبدة الأصنام له في بابل ، فعندما سُئِلَ : (أَأَنْتَ فَعلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْراهِيمُ)؟ (الانبياء / ٦٢)

اجابهم عليه‌السلام : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونْ). (الانبياء / ٦٣)

ثم قالت الآية : (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي ظالمون لأنفسهم ولمجتمعهم وربّهم وخالقهم الذي يغدق عليهم النعم.

يعتقد بعض المفسرين : أنّ عبارة : (فَرَجَعُوا الَى انْفُسِهِمْ) تعني لوم احدهم الآخر ، إلّاأنّ هذا خلاف ظاهر الآية ، فالتفسير الأول أصح.

نعم ، إنّه الضمير الذي يجعل عبدة الأصنام المغرورين يلومون أنفسهم ويوبّخونها.

إنّ التعبير بـ (النَّفْس اللَّوّامَة) في الآية الشريفة : (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ). (القيامة / ٢) خاصة وأنّ الله قرنها بيوم القيامة ، إشارة واضحة إلى هذه المحكمة الباطنية والوجدان الفطري.

والآية الثالثة تشير إلى أمر المشركين ، حيث يعرضون عن اتباع آيات الله عندما يُدعون إليها ويصرون على اتباع ما كان عليه آباؤهم ، فيقول الله في هذا المجال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) ، وبالرغم من ذلك لم يخضعوا للهِ تعالى ، بل لأصنامهم التي صنعوها بأيديهم لجهلهم : (الْحَمْدُ للهِ بَلْ اكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ). (لقمان / ٢٥)

وجوابهم على هذا السؤال عن خلق السموات والأرض ، يمكن أن يكون نابعاً عن «الفطرة» ، ويوضّح حقيقة أنّ الأنوار الإلهيّة متأصّلة في الإنسان منذ تكوينه فطرياً ولكن الناس غافلون عن هذا الحكم الفطري ، فيذهبون عنهُ شططاً.

* *

وتشير الآية الرابعة إلى نفس المفاد الذي جاء في الآية الثالثة ، فقد وضّحت التوحيد الفطري الذي يتجلى في باطن الإنسان عندما يمرّ بالأزمات والشدائد ، ومثال ذلك أنّ الناس

١٥٢

عند ركوبهم السفينة ومواجهتهم الأمواج المتلاطمة والزوابع والعواصف يذكرون الله ، لأنّهم لا يجدون أحداً يستطيع انقاذهم آنذاك من الشدائد غير الله.

فعندما تُرفع ستائر التقاليد الخرافية والأوهام والتعاليم الخاطئة وتتجلى فطرة البحث عن الله ، يذكرونه ويدعونه بإخلاص كامل.

وما أن يهدأ البحر أو يصلوا إلى الساحل ، حتى تساورهم الأفكار الملوثة بالشرك مرّة اخرى وتستعيد الأصنام وجودها في قلوبهم وتسدل ستاراً على فطرتهم مرّة ثانية؟

* *

والآية الخامسة ، بعد ما عَدَّتْ التوحيد دين وملة إبراهيم وانبياء عظام آخرين كإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى عليهم‌السلام قالت : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ).

إنَّ النصارى الذين يعتقدون بالتثليث ، ويغسلون أولادهم بغسل التعميد ، ويضيفون ـ احياناً ـ مادة صفراء إلى الماء الذي يُغسل به ، ويقرنون عملهم هذا باسم «الأب» و «الابن» و «روح القدس» يعتبرون هذا العمل مطهراً لهم من الذنوب التي ورثوها من آدم عليه‌السلام (١).

إنَّ القرآن أبطل هذه الأفكار جميعها وصرح : إنّ صبغة الله أحسن من هذه الصِبَغ الخرافية ، فسلموا لهذه الصبغة لتطهر أرواحكم من كل شرك وإثم وعبادة للأصنام.

وقد جاء في الروايات ـ كما قلنا سابقاً ـ أنّ المراد من الصبغة هو الإسلام والولاية (٢) ، وهذا تأكيد على وجود إلهامات فطرية في ذات الإنسان.

* *

__________________

(١). لقد جاء في قاموس الكتاب المقدس : أنّ غسل التعميد أحد القواعد المقدّسة التي كانت معروفة قبل ظهور المسيح عليه‌السلام ، وهو من فرائض الكنيسة ، ويستعملون فيه الماء ويثلثون عليه ، ويعتبرونه مطهراً من النجاسات ويعتقد الكثير من المسيحيين أنّ الغسل هذا وجب على أولاد المؤمنين (القاموس ، ص ٢٥٧ ـ ٢٥٨).

(٢). تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ٣١٦ ؛ تفسير الدر المنثور ، ج ١ ، ص ١٤١.

١٥٣

والآية السادسة والسابعة تحدثنا بعد الإشارة إلى خلق الإنسان عن تعليمه البيان وما لم يعلم.

(الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ). (العلق / ٤)

وعلى هذا فهو معلم البيان كما هو معلم بالقلم ، وهو معلم الإنسان ما لم يعلم ، وهذه التعاليم قد تكون تلميحاً إلى التعاليم الفطرية المودعة في باطن الإنسان بشكل معلومات ملخصة وأولية ، وقد تكون تلميحاً للوسائل والأسباب والمقدمات التي جعلها الله في الإنسان ، والتي تمكنه من اختراع اللغة والخط واكتشاف واقعيات الكون الاخرى.

وعلى المعنى الأول تكون الآيات شاهداً على بحثنا.

* *

أمّا الآية الثامنة في البحث فقد تحدثت عن دين الفطرة وأمرت الرسول بأن : (أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حِنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله).

الجميل هنا أن القرآن لم يذكر كون معرفة الله فطرية فحسب ، بل إنّ الدين بجميع أبعاده وجوانبه فطري.

والأمر كذلك بالضرورة ، وذلك لتنسيق الموجود بين جهاز «التكوين» وجهاز «التشريع» أي أنّ ما جاء مفصلاً في عالم التشريع ، جاء بصورة مجملة في عالم التكوين ، وعندما يتفق نداء الفطرة مع نداء الأنبياء والشريعة ، فإنّ هذا الاتفاق يجعل الإنسان في طريق الهدى.

وسنخوض تفصيلاً في هذا الموضوع عند بحثنا في التوحيد الفطري في المجلد الثاني إن شاء الله.

النتيجة :

طبقاً لما قرأناه ، فإنّ القرآن المجيد يعتبر «الفطرة» أو «الوجدان» مصدراً غنياً للمعرفة ، وقد دعا الجميع ـ بتعابير مختلفة ـ للالتفات إلى هذا المصدر لأهميّته البالغة.

١٥٤

توضيحات

١ ـ فروع الفطرة والوجدان

إنَّ المعلومات الفطرية والوجدانية لها فروع مختلفة وأهمّها الفروع الأربعة التالية ، والملفت للنظر أنّ كل آية من الآيات التي جاءت في أوّل البحث أشارت إلى فرعٍ من هذه الفروع ، وهي :

١ ـ إدراك الحسن والقبح ـ أي الأخلاق التي يطلق عليها ـ احياناً ـ «الوجدان الأخلاقي» ، وتعني أن الإنسان ومن دون الحاجة إلى استاذ أو معلم يعتبر كثيراً من الصفات حسنةً مثل «الاحسان» و «العدل» و «الشجاعة» و «الايثار» و «العفو» و «الصدق» و «الأمانة» وغير ذلك من الصفات.

وفي مقابل هذه الصفات ، صفات قبيحة مثل «الظلم والجور» و «البخل» و «الحسد» و «الضغينة» و «الكذب» و «الخيانة» وأمثالها.

والآية : (فَالْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) تشير إلى هذا النوع من التعاليم الفطرية.

٢ ـ إدراك البديهيات العقلية : التي تعتبر أُسس الاستدلالات النظرية ، ولا يمكن اقامة البرهان في أي موضوع من دون الاستناد اليها.

وتوضيح ذلك : أنّ في الرياضيات مجموعة من القضايا البديهية تنتهي إليها جميع الاستدلالات الرياضية وهي وجدانية ، مثل (الكل أكبر من الجزء) ، وإذا تساوى أحد شيئين متساويين مع شيء آخر ، تساوى كلٌّ منهما مع ذلك الشيء ، أو إذا أنقصنا مقدارين متساويين من شيئين متساويين أو اضفنا ذلك المقدار إلى كلٍّ منهما فالنتيجة تساويهما كذلك.

وكذلك الأمر بالنسبة للاستدلالات العقلية الفلسفية ، فلا يمكن الاستدلال من دون الاستناد إلى قضية استحالة اجتماع الضدين أو النقيضين وغير ذلك.

ويستخدم القرآن ـ احياناً ـ هذه الاصول المسلّم بها لاثبات قضايا مهمة ، كما في قوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ). (الزمر / ٩)

ويقول في آية اخرى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ امْ هَلْ تَستَوى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ). (الرعد / ١٦)

١٥٥

٣ ـ الفطرة المذهبية ـ أنّ الإنسان يتعلم بعض القضايا والمسائل العقائدية من دون الاستعانة بمعلم أو استاذ كمسألة معرفة الله والمعاد وقضايا عقائدية اخرى يأتي شرحها في المجلد الثاني إن شاء الله.

والآية : (فَاذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخلِصيِنَ لَهُ الدِّينَ) تشير إلى هذا القسم من المعرفة الفطرية.

ولهذا السبب نرى الإيمان بمبدأ مقدس موجوداً على مرِّ العصور ، كما أنّ لدينا قرائن تثبت تجذّر هذا الإيمان عند الإنسان البدائي كذلك ولا يمكن اتساع هذا المعتقد واستمراره عند البشر عبر مرّ العصور إلّاإذا كان متأصلاً في فطرة الإنسان.

٤ ـ محكمة الوجدان : توجد في باطن الإنسان محكمة عجيبة يمكن تسميتها «القيامة الصغرى» ، تحاكم الإنسان على أعماله ، فتشجعه على الحسنات ، وتوبخه على السيئات ، ونجد هذه التشجيعات والعقوبات في باطننا جميعاً (بالطبع مع وجود اختلاف) ، وهي نفسها التي نقول عنها تارة : (إنّ ضميرنا راضٍ) ، وتارة : (إنّ ضميرنا يؤنبنا) إلى حدٍ حيث يسلب منا النوم ، بل قد يؤدّي ـ احياناً إلى نتائج مأساوية مثل الانتحار والجنون والابتلاء بأمراض نفسية ، والآية : (فَرَجَعُوا الَى انْفُسِهِمْ) تشير إلى هذا القسم.

٢ ـ هل توجد معرفة فطرية؟

بالرغم من أنّ الجميع يشعرون بشكل عام بوجود هذا المصدر في ذواتهم ، أي يشعرون بوجود مجموعة من الخطابات والالهامات ، أو بتعبير آخر وجود إدراكات لا تحتاج معلماً أو استاذاً ، إلّاأنّ بعضاً من الفلاسفة شكك في هذا المصدر ، وعلى العموم توجد ثلاث نظريات في هذا المجال :

(أ) نظرية الذين يعتقدون أن كل ما لدى الإنسان من معلومات موجود في باطنه ، وما يتعلمه في الدنيا ، يتذكره في الحقيقة ، لا أنّه يتعلمه من جديد! هذا ما نقل عن افلاطون واتباعه (١).

__________________

(١). يقول افلاطون : إنّ الروح قبل حلولها في البدن ودخولها في العالم المجازي كانت في عالم المعقولات ـ

١٥٦

ب) نظرية أولئك الذين يدّعون أنّ المعرفة بجميع أقسامها عند الإنسان فطرية ، بالرغم من اذعانهم لِقابلية الإنسان على إدراك القضايا المختلفة ، ويتصورون أنّ إدراكهُ الفطري انعكاس لتجاربه وحاجاته والضرورات الاجتماعية.

اعتبر «فرويد» عالم النفس المعروف «الوجدان الأخلاقي» مجموعة من النواهي الاجتماعية والميول المكبتوتة في ضمير الإنسان ، يقول : إنّ «الوجدان الأخلاقي» لا يمثل سلوكاً ذاتياً وعميقاً لروح الإنسان ، بل إنّه رؤية باطنية بسيطة للنواهي الاجتماعية ، ولا يوجد في تاريخ المجتمع ولا تاريخ الفرد تصورات بدائية عن حسن الأشياء وقبحها ، وقد تولدت هذه التصورات من البيئة الاجتماعية وتشعبت عنها (١).

وقد فسر أتباع المذهب المادي (الديالكتيك) الإدراكات الفطرية على أساس مقولتهم المعروفة «كل شيء وليد الظروف والاوضاع الاقتصادية» ، فانكروا وجودها.

ج) نظرية أولئك الذين يرون أن قسماً من معلوماتنا فطرية والقسم الآخر مُكتسب ، والمعلومات المكتسبة تنتهي إلى تلك المعلومات الفطرية وهي أساسها.

وقد أثبتت الأدلة المنطقية العقلية ، والأدلة النقلية من الآيات والروايات هذه النظرية وذلك للاسباب الآتية :

أولاً : أننا نعتقد بوجود قضايا بديهية مُسَلّمٌ بها في الرياضيات وبدون تلك البديهيات لا يمكن اثبات أيّة قضية رياضية ، كذلك الأمر بالنسبة للقضايا الاستدلالية الاخرى ، فلابد من اعتمادها على قضايا بديهية مسلّم بها تكون الأساس لكلِّ استدلال.

وبعبارة اخرى : لو أنكرنا القضايا الفطرية بالكامل لأَنكرنا جميع معارفنا ، لأنّ جميع القضايا العقلية ستكون مرفوضة ، وسنسقط في النهاية في وأدّي السفسطة.

__________________

ـ والمجردات و «المُثل» ، أي أنّها أدركت الحقائق ونسيتها بمجرّد دخولها في عالم الكون والفساد ، إلّاأنّها لم تنمحِ عنها بالكامل ، فالإنسان كالظل والشبح فما هو في «المُثل» يتذكره بمجرّد الالتفات إليه ، فكسب العلم والمعرفة تذكر في الحقيقة ، وإذا كان الإنسان جاهلاً منذ البدء فلا يمكنه تحصيل العلم (مسير الحكمة في اروبا ج ١ ، ص ٢٣ ـ نظريات افلاطون).

(١). أفكار فرويد ، ص ١٠٥ ؛ ومجموعة ماذا أعلم ـ للأمراض اخر الروحية ـ ، ص ٦٤ (بالفارسية).

١٥٧

وإذا أثبتنا ـ مثلاً ـ بالحس والتجربة أو بدليل عقلي وجود أمر ما ، فإذا كنّا غير واثقين بقضية «استحالة اجتماع النقيضين» التي تعتبر من القضايا البديهية جدّاً ، فعندئذٍ يمكننا التشكيك بالأمر ، والقول بإمكانية عدم وجود الأمر الذي أثبتنا وجوده!

وإذا أردنا إثبات هذه الاصول البديهية بالتجربة والاستدلال فسينتهي الأمر بنا إلى الدور والتسلسل ولا تخفى سلبيات هذا الأمر على أحد.

ثانياً : فضلاً عمّا سبق ، فكما نعترض على السفسطائيين (الذين ينكرون كل شيء) وكذا المثاليين (الذين ينكرون الحقائق الخارجية ، ويعتقدون بالامور الذهنية فقط) وبالاستناد إلى الوجدان نقول : إنّ الوجدان يشهد ببطلان مثل هذه العقائد ، لأننا ندرك أنفسنا والعالم الخارجي الذي يحيط بنا بوضوح ، فكذلك الأمر هنا ، لأنّ هذه الضرورة الوجدانية دليل على وجود كثير من الإدراكات الباطنية.

وكما أننا نحس بحاجات جسمية وروحية كثيرة (الحاجات الجسمية مثل الأكل والشرب والنوم ، والروحية مثل الميل إلى العلم والاحسان والجمال والعبادة والقداسة) ويقول بعض علماء النفس : (إنّ هذه المقتضيات تشكل الأبعاد الأربعة لروح الإنسان).

فهذا الوجدان ذاته يصرح لنا بحسن الاحسان والعدالة وقبح الظلم والاعتداء ، وفي هذه الإدراكات لا نحتاج إلى مصدر اجتماعي أو اقتصادي أو غير ذلك بل يكفينا الوجدان.

إنَّ حجة أمثال «فرويد» و «ماركس» واضحة ، حيث أنّهم يعتقدون بأصل واحد وهو رجوع كل قضية اجتماعية وفكرية إلى الجنس أو الاقتصاد ، ويصرون على توجيه كل شيء على ضوء هذا الأصل.

ثالثاً : إنّ الموضوع واضح من جهة نظر توحيدية ، لأنا إذا سلّمنا أنّ الإنسان خُلِقَ للتكامل على أساس سنة إلهية ، فلا ينبغي الشك في أنّ وسائل ودوافع مثل هذا التكامل يجب أن تكون مهيئة في ذاته ، وموجودة ، وأنّ ما جاء به الأنبياء وما ورد في الكتب

١٥٨

السماوية متناسب وهيئة الإنسان التكوينية.

وعليه ، فحاكم التكوين والخلقة متناسب وفي تناسق كامل مع عالَم التشريع.

أو بتعبير آخر ، فإنّ خلاصة هذه التعليمات مودعة في ذات الإنسان وأنّ ما جاء في الشرائع السماوية هو شرح مفصل لهذه الخلاصة من التعليمات.

ولهذا ، فلا يمكن التشكيك في التعاليم الفطرية التي يؤيدها العقل والرؤية الكونية التوحيدية.

سؤال :

لقد صرّح القرآن بقوله عز من قائل : (وَاللهُ اخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْابْصَارَ والْافْئِدَةَ). (النحل / ٧٨)

ألا يستفاد من هذه الآية أن لا وجود للمعلومات الفطرية أبداً؟

الجواب :

أولاً : إنّ الإنسان في ساعات ولادته لا يعلم شيئاً قطعاً ، وحتى المعلومات الفطرية ليست فعالة ، وعندما يعرف نفسه ويصبح مميزاً يتحسس المعلومات النظرية ويدركها بلا معلم أو استاذ أو حسٍ أو تجربة ، وإلّا فكيف يمكن القول بأنّ الإنسان يعلم كل شيء حتى بوجوده الذاتي ـ بالتجربة وأمثالها (١).

ثانياً : ألَمْ نقل بأنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً؟

حيث إنّ آياتٍ مثل : (فَالْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) و (فِطْرَتَ الله الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)

__________________

(١). نقلت عبارة معروفة عن (ديكارت) قال فيها : «كنتُ شاكاً حتى في نفسي ، ثم رأيت أني افكر ، فأدركتُ أني موجود» إنّها عبارة مليئة بالأخطاء ، لأنّ الذي يقول : أنا أُفكر فانّه يعترف بال (أنا) قبل اعترافه بالتفكير ، لا أنّه يعترف بالتفكير قبل الأنا.

١٥٩

التي جاءت في أول البحث تفسر الآية : (وَاللهُ اخْرَجَكُم مِنْ بُطُونِ امَّهَاتِكُم لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً) ، فتكون المعلومات الفطرية مستثناة من هذه الآية.

سؤال آخر :

وقد يطرح هنا سؤال آخر عكس السؤال الأول وهو : أنّ القرآن الكريم في الكثير من الآيات أطلق مفردة «التذكير» على علوم الإنسان ، مثل : (إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيةً لِقوْمٍ يَذَّكَّرُونَ). (النحل / ١٣)

ويقول في آية اخرى : (وَمَا يَذَّكَّرُ الّا اولُوا الْأَلْبَابِ). (آل عمران / ٧)

وفي اخرى أيضاً : (وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلّنَاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). (البقرة / ٢٢١)

ألَمْ يكن المراد من هذه الآيات وهو نفس ما ذهب إليه افلاطون ، أي أنّ العلوم عبارة عن تذكير لما هو موجود في سريرة الإنسان ، وحاصل عنده منذ القدم؟

الجواب :

إنّ «التذكير» من مادة «ذكر» ومعناه الأولي ـ كما يقول أئمّة اللغة ـ هو الحفظ ، وكما يقول الراغب في مفرداته : الذكر قد يطلق على حالة نفسية تُعين الإنسان على حفظ العلوم والمعارف ، وقد يقال لحضور الشيء في القلب ، أو البيان ، وما جاء في لسان العرب قريب لما جاء في المفردات ، حيث قال : الذكر ، يعني الحفظ كما يعني الموضوع الذي جرى على الألسن.

وعلى هذا ، فالذكر والتذكر لا يعني حضور الشيء في القلب بعد النسيان أو استعادة الذكرى فقط ، بل يشمل جميع المعلومات.

١٦٠