نفحات القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-88-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٠

واحد ، وإذا شاهدنا أشخاصاً يشككون في هذا الأمر أو يعتقدون ، بخلاف ما هو بديهي فهم في الواقع يتلاعبون بالألفاظ لا أكثر ، فيفسرون (النقيضين) أو «الضدين» بمعانٍ غير تلك المعاني المتعارف عليها ، والّا فلا خلاف في اصل الموضوع.

الامر الثاني : لا يخطأ الاستدلال إذا استند إلى مقياس دقيق ، فالخطأ ينشأ عندما يستند الدليل إلى مقاييس غير دقيقة ، ولهذا لا نشاهد اختلافاً في مسائل الرياضيات وقوانينها ، لأنّها تعتمد على أسسٍ دقيقة ، ونمتلك معايير واضحة لمعرفة صحة أو خطأ النتيجة لأي مسألة ، والنتائج تكون قطعية كذلك.

الأمر الثالث : إنّ قولنا بوجود أخطاءٍ في الإدراكات العقلية ، دليل على قبولنا للإدراكات العقلية لا على نفيها ، وذلك لأنّ مفهوم حديثنا عن الأخطاء في الإدراكات هو أننا نقلب بعض الحقائق ونخطّيءُ عقائد الآخرين على أساس تلك الحقائق المقبولة لدينا.

مثلاً عندما حكمنا بصحة أحد آراء الفلاسفة المختلفين ، فانّنا نعلم أنّ صحة اعتقادين متضادين محال ، وهذا إدراك عقلي بديهي ، وقضية القائلين : «إنّ الحس لا اعتبار له لأنّه يُخطِىءُ» تماثل هذه القضية ، وكما ذكرنا سابقاً ، فان تخطئتنا للباصرة في إدراكها لخط دائري ممتد ناشئة عن معرفتنا بأن هذا الخط نقطة نورانية متحركة ، وبما أنّ «النقطة» تضاد «الخط» حكمنا بخطأ الباصرة في إدراكها للخط الممتد ، وهذا اعتراف ضمني يوجد حقائق وإمكانية إدراكها.

وآخر الحديث ، نقول : في الحقيقة إنّ جميع المنكرين للإدراكات العقلية يريدون إثبات مدعاهم بنفس الإدراكات ، أي أنّهم ينقضون مدعاهم عملياً ، وقد هبوا لحرب الإدراكات العقلية بواسطة الإدراكات العقلية.

٢ ـ منزلة العقل في الروايات الإسلامية

أكّدت الروايات الإسلامية على أنّ للعقل أهميّة قصوى أكثر مما هو متوقع ، وأشادت به

١٢١

بعناوين مختلفة مثل : أساس الدين ، وأكبر غنىً ، وأفضل رأس ، واعلى قضية ، وأفضل صديق ، وأخيراً المقياس والمعيار للتقرب إلى الله ونيل الثواب الإلهي.

ونكتفي هنا بذكر اثنتي عشرة رواية فقط من بين عشرات بل مئات الروايات المأثورة والمنقولة عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة عليهم‌السلام.

ففي هذا المجال :

١ ـ قال الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قِوامُ المرءِ عَقلُه ، ولا دينَ لِمن لا عقلَ لهُ» (١).

٢ ـ قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل» (٢).

٣ ـ وقال في حديث آخر: «إنَّ الله تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر عقولهم» (٣).

٤ ـ وجاء في حديث للإمام الصادق عليه‌السلام : «إنَّ الثواب على قدر العقل» (٤).

٥ ـ كما جاء في حديث للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما قسَّم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل ... وما أدّى العبد فرائض الله حتى عَقَلَ عنه ، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل» (٥).

٦ ـ وجاء في حديث أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام خاطب هشام بن الحكم قائلاً : «يا هشام! ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلّاليعقلوا عن الله ، فاحسنهم استجابة أحسنهم معرفة ، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً ، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة» (٦).

٧ ـ وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث آخر: «لكل شيء آلة وعُدّة ، وآلة المؤمن وعدَّته العقل ، ولكلِ شيء مطية ومطية المرء العقل ، ولكلّ شيء غاية وغاية العبادة العقل» (٧).

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ٩٤ ، ح ١٩.

(٢). نهج البلاغة الكلمات القصار ، الكلمة ٥٤.

(٣). بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١٠٦ ، ح ٢.

(٤). اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٢ ، ح ٨ (كتاب العقل والجهل).

(٥). المصدر السابق ، ص ١٢ ، ح ١١.

(٦). المصدر السابق ، ص ١٦.

(٧). بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ٩٥ ، ح ٣٤.

١٢٢

٨ ـ وجاء في حديث للإمام الصادق عليه‌السلام : «إذا أراد الله أن يزيل من عبد نعمة كان أول ما يغير منه عقله» (١).

٩ ـ ويقول الإمام علي عليه‌السلام في هذا المجال : «العقل صاحب جيش الرحمن ، والهوى قائد جيش الشيطان ، والنفس متجاذبة بينهما ، فأيّهما غلب كان في حيّزه» (٢).

١٠ ـ ويقول في حديث آخر : «العقول أئمّة الأفكار والأفكار أئمّة القلوب ، والقلوب أئمّة الحواس ، والحواس أئمّة الأعضاء» (٣) ، (وبهذا فإنّ أعضاء الإنسان تستند إلى حواسه وحواسه تستعين بعواطفه ، وتعتمد عواطفه على أفكاره ، وأفكاره على عقله).

١١ ـ وجاء في حديث للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنَّ الرجل ليكون من أهل الجهاد ومن أهل الصلاة والصيام ، وممَّن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ولا يُجزى يوم القيامة إلَّاعلى قدر عقله» (٤).

١٢ ـ وقال الإمام الباقر عليه‌السلام : «لا مصيبة كعدم العقل» (٥).

٣ ـ المخالفون لتحكيم العقل

إنَّ لهذا الجوهر الإنساني (العقل) شأناً رفيعاً وصفات إيجابية كثيرة جداً ، والملفت للنظر حقاً أنّه بالرغم من اتصاف العقل بهذه الصفات وامتلاكه هذه المكانة المرموقة نجدُ مَنْ يذمّونه وَمَن يتأسفون لأنّهم عقلاء ، والأغرب من ذلك أنّهم يمتلكون الحجج ـ حسب زعمهم ـ على ادّعاءاتهم الجوفاء!

__________________

(١). بحار الانوار ، ج ١ ، ص ٩٣٠ ، ح ٢٠.

(٢). غرر الحكم.

(٣). بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ٩٦ ، ح ٤٠.

(٤). تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٢٤.

(٥). بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ١٦٥.

١٢٣

فتارة يقولون : إنَّ العقل يحد من تصرفات الإنسان ويسلبه حرّيته ، حيث يجعل أمامه موانع تحول بينه وبين ما يريد أن يقوم به من عمل حراماً كان أو حلالاً حسناً أو قبيحاً خيراً أو شرّاً ، فلو لم تكن لنا عقول لكنّا أحراراً.

وتارة يقولون : إنّه يسلب راحة الإنسان حيث نرى العقلاء والأذكياء من الناس لا راحة لهم ، إلّاأنّ البسطاء من الناس فرحون وسعداء دائماً لانعدام تأثير العقل عليهم.

وإذا قرأنا أشعاراً مفادها ذمُّ العقل أو الانتقاص منه أو الاستهانة به فمن الواضح كونها مزاحاً أو سفسطة أو كناية عن مفاهيم اخرى ويستبعد أن يكون مرادهم ذم العقل ، بل إنّهم يقصدون أنّ هناك اموراً مؤلمة تحيطهم ، والناس في غفلة عنها.

أو أنّ قصدهم من الجنون المذكور في بعض الأشعار كصفة للعقل ، هو الجنون العرفاني والمراد منه العشق الإلهي ، والتضحية بكل شيء في سبيله.

وعلى أيّة حال ، صحيح أنّ العقل يقيد حرية الإنسان وبعض تصرفاته ،

إلّا أنّ هذا فخر له ، لأنّه يرشدهُ نحو التكامل ، إنَّ هذا الادّعاء يُشْبِهُ ادعاء من قال : «إنّ الاحاطة بعلم الطب يحد من انتخاب الإنسان لأنواع الأطعمة ومن امور اخرى» ، وهل هذا نقص؟! أم أنّه ينقذ الإنسان من الاصابة بالامراض وفي بعض الأحيان من التسمم القاتل.

أمّا القول بأن العقل يزيد من هموم الإنسان وأحزانه ، فهذا يرفع من منزلة الإنسان ، العاقل من يتحسّس آلام المضطهدين والمظلومين ويتألم من سلوك المعاندين وبالتالي فهو دليلٌ على الكمال ، وكما جاء في المثل : (إمّا أن يكون ضعيفاً ونحيفاً كسقراط في زهده أو سميناً وبديناً كالخنزير).

نعم ، إذا غفلنا عن مسألة التكامل الإنساني واعتبرنا الأصل في الحياة هو اللذّة المادية ، فان ما يتفوه به بعض المؤيدين لأصالة اللذة المادية صحيح ، لكن هذا الحديث مضحك ولا قيمة له من وجهة نظر الإنسان الموحّد الذي يؤمن بالرسالة والهدف وتكامل الإنسان.

إضافة إلى هذا ، فإنّ المؤيدين لأصالة اللذة مضطرون لأنّ يسلموا ويخضعوا لكثير من القوانين الاجتماعية الحادة من حرياتهم وتصرفاتهم ، وأن يفرضوا على أنفسهم العناء من

١٢٤

هذه الناحية ، ومن هنا ندرك كيف أنّ الإنسان يسقط في الهاوية عند ابتعاده عن تعاليم الوحي والأنبياء.

إلى هنا ننهي البحث عن المصدر الثاني من مصادر المعرفة (العقل) وننتقل إلى المصدر الثالث بالرغم من بقاء بحوث كثيرة لم تطرح في هذا الفصل.

١٢٥
١٢٦

٣ ـ التاريخ والآثار التاريخية

تمهيد :

تعرَّض القرآن للقضايا التاريخية باسلوبين :

١ ـ الاسلوب المدوّن ، أي أنّ القرآن المجيد يَسردُ للمسلمين بعض الحوادث التاريخية للأقوام السالفة بألفاظ وعبارات شيقة ودقيقة ، ويبين الامور الغامضة والمشرقة من تاريخهم ، ويشير إلى عواقب أعمالهم ، وذلك لتوعية المسلمين وتعريفهم بالقضايا المختلفة ، ولكي يرى الناس حقائق من حياتهم في مرآة تاريخ السالفين.

٢ ـ الاسلوب الثاني ، التكويني ، أي كشف القرآن عن الآثار التاريخية التي خلفتها الأقوام الغابرة ، الآثار الصامتة ظاهراً والتي تمثل عالماً صاخباً ومثيراً ، الآثار التي يمكنها أن تصوّر لنا التاريخ الغابر ، الآثار التي تعتبر مرآة أمام الإنسان يرى فيها وجه حياته في الحاضر والمستقبل.

* *

نبدأ أولاً بقراءة نماذج من كلا القسمين في الآيات التالية :

١ ـ (لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبرَةٌ لِّأُوْلِى الْأَلبَابِ). (يوسف / ١١١)

٢ ـ (فَاقصُصِ القَصَصَ لَعلّهُم يَتَفَكَّرُون). (الاعراف / ١٧٦)

٣ ـ (ذَلِكَ مِنْ أَنباءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنهَا قَائمٌ وَحصِيدٌ). (هود / ١٠٠)

٤ ـ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بمَا أَوحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرآنَ وَإنْ كُنتَ مِنْ قَبلِهِ

١٢٧

لَمِنَ الغَافلين). (يوسف / ٣)

٥ ـ (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبرَةً لِّمَنْ يَخْشَى). (النازعات / ٢٥ ـ ٢٦)

٦ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسمَعُونَ بِهَا ...). (الحج / ٤٦)

(افَلَم يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا). (محمد / ١٠)

٨ ـ (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ). (آل عمران / ١٣٧)

٩ ـ (قُلْ سِيرُوا فِى الأَرضِ فَانْظُرُوا كَيفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ). (العنكبوت / ٢٠)

١٠ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ المُلْكَ). (البقرة / ٢٥٨)

١١ ـ (أَلَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ). (الفجر / ٦ ـ ٧)

١٢ ـ (أَلَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ). (الفيل / ١)

شرح المفردات :

١ ـ إنَّ كلمة «قصص» تعني التتبع لآثار شيءٍ ما (١) ، وقد سمّيت القصة قصة لأنّ فيها تتبعاً للأخبار والحوادث المختلفة ، وعليه فالقصّة لا تعني الرواية فحسب ، بل تعني ـ لغوياً ـ التتبع لآثار الأشياء.

كما تطلق «القصص» على كل شيء متتابع ومتسلسل.

__________________

(١). ينبغي الالتفات إلى أنّ (قصص) كما هي مصدر لقصَّ يقصّ ، هي جمع (قصة) ، والمراد منها في سورة يوسف في الآيتين ٣ و ١١١ هو المعنى الثاني.

١٢٨

وبما أنّ (المِقَصّ) يقص الشعر على التوالي قيل له (مِقَصّ) ، والقُصّة ، على وزن «غُصّة» وتعني مجموعة الشعر الإمامي (١).

٢ ـ أمّا كلمة (عِبْرة) فاشتقت من مادة (عبور) و (عَبْر) وتعني الانتقال من حالة إلى حالة اخرى ، و «العبور» في الأصل ـ يعني عبور الماء سباحة أو بالزورق أو على الجسر وأمثال ذلك ، وقد استعملت هذه المفردة بمعنى أوسع وهو الانتقال من حالة إلى حالة اخرى ، ويقال لقسم من الحديث (عبارة) لأنّها تمثل العبور من لسان المتكلم إلى اذن السامع.

أمّا (العبرة) فهي الحالة التي يتوصل بها من معرفة المُشاهدِ إلى ما ليس بِمُشاهَدٍ (٢).

وقد ذكر البعض أن «العبرة» تعني الدلالة التي توصل الإنسان إلى مراده (٣).

كما جاءت هذه المفردة بمعنى التعجب (٤) (وقد يكون هذا الاطلاق الأخير لأنّ كثيراً من الامور التي يكتشفها الإنسان عن طريق الحوادث المهمّة والجلية تثير العجب).

٣ ـ كلمة «السير» تَعني الحركة على الأرض ، وإذا قيل «سيروا في الأرض» فإنّ القيد الأخير تأكيد للسير ، وقد قال الراغب في مفرداته : ذُكِرَ معنيان للسير في الأرض : أحدهما الحركة الجسمانية على الأرض (ومشاهدة الكائنات وآثارها المختلفة) ، والثاني هو الحركة الفكرية ودراسة الكائنات ، وقد صرح البعض : إنّ السير يعني العبور المستمر في جهة واحدة (٥).

أمّا كلمة «السيرة» فتعني الطريقة والأسلوب ، واستعمالها إشارة إلى تاريخ حياة الأشخاص ، وقد أخُذت من هذا المعنى.

٤ ـ أمّا «الرؤية» فقد جاءت بمعنيين ، أحدهما المشاهدة بالعين ، والآخر العلم والمعرفة

__________________

(١). لسان العرب ، ومفردات الراغب ، ومجمع البحرين.

(٢). مفردات الراغب.

(٣). تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٢٧١.

(٤). لسان العرب.

(٥). تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٢٦٨.

١٢٩

أو المشاهدة الباطنية (١) ، وقد استعملت في القرآن الكريم في موارد كثيرة بالمعنى الثاني أي بمعنى العلم والاطلاع ، وأمّا «الرأي» فيعني الاعتقاد القلبي والنظرية سواء كان اعتقاداً يقينياً أو ظنياً ، وأمّا «الرويّة» و «التروّي» فيعنيان التفكير أو السعي والبحث للحصول على النظرية.

٥ ـ كلمة «نظر» في الأصل تعني دوران العين أو حركة الفكر لإدراك أمرٍ ما ، أو مشاهدته ، وجاء أيضاً بمعنى البحث والتفحص وتارة جاء بمعنى المعرفة الحاصلة بعد الفحص ، وقد ذكر صاحب مجمع البحرين ثلاثة معانٍ للنظر : ١ ـ مشاهدة الشيء ، ٢ ـ التدقيق في الشيء بواسطة العين ؛ ٣ ـ التفكير للحصول على العلم أو الظن (٢).

أمّا صاحب لسان العرب فقد شرح النظر بأنّه المشاهدة بالعين والثاني المشاهدة بالقلب ، والمفيد أنّه استشهد بعد ذلك بحديث للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال فيه : «النظر إلى وجه علي عبادة» ، وفي تفسير هذا الحديث ينقل عن ابن الأثير أنّه قال : معنى الحديث هو أن الناس حينما كانت أعينهم تقع على علي غ عليه‌السلام كانوا يقولون :

«لا إله إلّاالله ما أشرف هذا الفتى لا إله إلَّاالله ما أعلم هذا الفتى ...» (٣).

جمع الآيات وتفسيرها

بعد أن أشارت الآية الاولى إلى المصير المؤلم لبعض الأمم السالفة قالت : (لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِم عِبْرَةٌ لِّأُولِى الْأَلبَابِ) فالتفكير في مصير هؤلاء يُعد الاسلوب الأَمثَل لأُولي الألباب لمعرفة عوامل السعادة والشقاء ، وتمييز طريق الهلاك عن طريق النجاة.

__________________

(١). وفعلها يتعدى لمفعول واحد على المعنى الأول ، ومفعولين على المعنى الثاني (لسان العرب والمفردات).

(٢). مفردات الراغب مادة (نظر).

(٣). لسان العرب ، مادة (نظر).

١٣٠

* *

والآية الثانية خاطبت الرسول قائلة ذكرهم بتاريخ ومصير الامم السالفة من أجل أن تبعث فيهم روح التفكير والتأمل : (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلّهُم يَتَفَكَّرُون) وهذا يدل على أنّ البيان الصحيح لتاريخ السالفين موجب لصحوة الأفكار ومصدراً للمعرفة.

* *

والآية الثالثة بعد أن بيّنت مصير بعض الأقوام السالفة مثل قوم نوح وشعيب وفرعون ولوط وعاد وثمود ، قالت : (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنهَا قَائمٌ وَحَصِيدٌ) (أي من القرى من هو باق لحدّ الآن ومنها من زال وفنى) (مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ). (هود / ١٠١)

ثم أضافت في النهاية (إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرةِ). (هود / ١٠٣)

* *

والآية الرابعة التي جاءت في بداية سورة يوسف ، هَيَّأَتْ أَذهانَ المخاطبين في البداية لتلقي وإدراك ما سَيُقال لهم فقالت : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ احْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا الَيْكَ هَذَا الْقُرآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ). (يوسف / ٣)

فقد استندت الآيات الأربع إلى موضوع «القصة» والقصص» كوسيلة للمعرفة.

* *

والآية الخامسة بعد اشارتها إلى تعذيب فرعون قالت : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالاولى * إِنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَنْ يَخْشَى).

إنَّ هذه الآية ذكرت (العبرة) التي تعني الانتقال والعبور من حالة قابلة للمشاهدة إلى حقائق غير قابلة للمشاهدة واعتبرتها وسيلة للمعرفة.

* *

١٣١

وقد أكدت الآية السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة على مسألة «السير في الأرض» ، ودعت الناس إليه باساليب خطابية مختلفة ، فمرة خاطبتهم ب : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنْظُروا كَيْفَ كانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ومرة (فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبينَ) بعد ما ذمتهم لعدم سيرهم في الأرض.

وفي آيات أُخَر خُوطِبَ جميع الناس أو المسلمين بالقول : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبينَ).

وفي آية اخرى هناك دعوةٌ للناسِ لأنّ يسيروا في الأرض للبحث عن بدء الخلق والاستفادة من ذلك للعلم بكيفية النشأة الآخرة.

* *

وقد أكدت الآيات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة على مسألة المشاهدة و «الرؤية» ليس بالعين الباصرة ، بل بالعقل والبصيرة.

إنّ الخطاب في الآيات الثلاث في الظاهر موجَّهٌ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلَّاأنّ المراد بها جميع المؤمنين ، بل الناس كافة ، والخطاب بصيغة استفهام تقريري ، حيث خاطبه الله تارة بالنحو الآتي :

ألم ترَ إلى الذي (أي نمرود ذلك السلطان الطاغي المغرور) حاجّ ابراهيم في ربّه ، وإلى أيّ نهاية انتهى به المطاف؟ وتارة يخاطبه بهذا الخطاب : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إرَمَ ذَاتِ الْعِمَاد).

وخاطبه تارة اخرى بنحو آخر قائلاً له : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيْلِ) ، مذكّراً بقصة أصحاب الفيل الذين قدموا من اليمن لهدم الكعبة فانزل الله عليهم طيوراً ـ بالرغم من ضعفها ـ ترميهم بحجارة من سجيل تحملها بمناقيرها فهلكوا بهذه الأحجار الصغيرة.

ومن المسلم به أنّه لا الرسول ولا غيرَه من المسلمين رأى إبراهيم ونمرود وسمعَ

١٣٢

محاجتهما ، وكذا الأمر بالنسبة لقوم عاد ، فلم يروهم ولم يروا مدنهم العامرة يومذاك ، وحتى بالنسبة لأصحاب الفيل فإنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وُلِدَ في السنة التي هجم فيها (ابرهة) طبقاً للرواية المشهورة ، فلم يرَ شيئاً من الحادث وكذا أكثر المسلمين ، وعلى هذا فالمراد من الرؤية هو التدقيق في تاريخهم.

إنّ ما يلفت النظر هنا هو أنّ الآيات الخمس الاولى ركّزت بحثها على التاريخ المدوّن أي ما جاء في صفحات الكتب التاريخية بينما ركزت الآيات الاربع الأخيرة بحثها على التاريخ التكويني الحي أي الآثار الباقية عن الأقوام الغابرة في بقاع مختلفة من العالم.

من الممكن أن تكون الآيات الثلاث الأخيرة فيها إشارة إلى التاريخ المدون أو التاريخ الخارجي أو كليهما ، ويتضح من مجموع هذه الآيات (وأمثالها في القرآن الكريم) الأهميّة القصوى التي أولاها القرآن لقسمي التاريخ كمصدر للمعرفة والعلم.

إنَّ الله عزوجل يدعو الناس تارةً لأنّ يشاهدوا بأم أعينهم قصور الفراعنة وآثار دمار مدن عاد وثمود وقصور نمرود وأعوانه والبلاد التي جُعِلَ عاليها سافلها التابعة لقوم لوط لكي يعرفوا أنَّ مَصير المتجَبّرين سيؤول إلى هذه النهاية.

وتارة نجد القرآن نفسه يشرح بدقة هذه الحوادث ويسلط الأضواء عليها ويعدُّ العِبَر بعد العِبَر ذاكراً عاقبة (المكذبين) و (الظالمين) و (الكافرين) و (المفسدين) في ضمن بحوثه التاريخية هذه.

في الحقيقة إنّ القرآن تارة يأخذ بأيدي الناس إلى «مصر» ويريهم الآثار التاريخية ويصور لهم الراقدين تحت التراب ويضع أمام أعينهم العروش التي عصفت بها الرياح ، وتارة اخرى يريهم الذين أُركسوا في العذاب وهُدّمت عروشهم ، والخلاصة : فإنّ القرآن يريهم ما خفي عن العيان من قصص الأسلاف.

إنّه يمضي بهم إلى المدن المُخربة كمدينة (سدوم) مركز قوم لوط ليشاهدوا عن كثب ما حلّ بها ومن هناك إلى جنة شداد ، وبلاد بابل ، (مركز حكومة نمرود) ، ومناطق اخرى.

إنّه يجعل من ايوان كسرى في المدائن وزخارف كل قصر عبرة لمن اعتبر ونصيحة جديدة.

١٣٣

والخلاصة : إنّ القرآن يستند كثيراً في مجال التعليم والتربية والتوعية إلى التاريخ المدون في الكتب ، وما موجود على وجه الأرض ، وهذه ، مسألة جديرة بالاهتمام كثيراً.

* *

توضيحات

١ ـ مرآة التاريخ

إنّ أهم ما يحصل عليه الإنسان في حياته هو تجاربه الشخصية ، التجارب التي تفتح له بها آفاق جديدة وواسعة من أجل حياة أفضل وجهاد اكثر ليسعى جاهداً للوصول إلى التكامل الأمثل.

لكن ما هو مقدار التجارب التي يستطيع الإنسان الحصول عليها خلال عمره القصير البالغ مثلاً عشرين سنةً أو خمسين أو ثمانين؟

هذا إذا قضى عمره في ميادين التجربة ولم يِقضِهِ على وتيرة واحدة.

إننا ، لو استطعنا أن نجمع تجارب جميع من عاش في عصر واحد ، أو تجارب جميع من عاش في القرون والعصور الماضية ، لَحَصَلْنا على تجارب كثيرة ، وستكون تلك التجارب مصدراً مهماً لمعرفتنا وخبرتنا.

إنّ التاريخ ـ إذا تمّ تدوينه بالطريقة الصحيحة والكاملة ـ فسوف يقدم للباحثين والدارسين تجارب البشر على مرّ القرون ، وحتى إذا كان ناقصاً فانّه يضم بعض تجارب العصور الغابرة.

ومن هنا تبدو أهميّة التاريخ حيث إنّ ما يحدث الآن قد تكرر نموذج أو نماذج منه في التاريخ سابقاً ، وما يقال عن التاريخ من أنّه «يعيد نفسه» حقيقة لا تنكر وقد تستثنى موارد منه إلّاأنّ اكثر الحوادث داخلة في اطار هذا القانون.

وقد أشار الإمام علي عليه‌السلام لهذا الموضوع بوضوح في خطبةٍ له ، حيث قال فيها : «عباد الله

١٣٤

إنّ الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين» (١).

وقد جاء في حديث شريف أنّ ما يجري في الامة الإسلامية قد جرى مثله في بني اسرائيل.

ومن هنا تتضح أهميّة ودور التاريخ في مجال المعرفة والفكر ، ونستطيع القول بتحدى : إنّه بالتحليل والدراسة الدقيقة لتاريخ البشر نجد :

عوامل الفشل والسقوط.

وعوامل الانتصار والفوز.

وعوامل إزدهار الحضارات.

وعوامل سقوط وانقراض الحكومات (الدول).

وعاقبة الظلم والاستبداد.

وعاقبة العدل والانصاف.

ونتائج وحدة الكلمة والحركة والسعي.

ودور العلم والمعرفة.

وعواقب الجهل والبطر والكسل ، كلها قد انعكست في مرآة التاريخ.

وإن أراد أحد أن يمنحه الله حياة ثانية فحريٌّ بنا أن نقول له : إنّك إذا درست التاريخ بدقة لوجدت إنّك لم تمنح حياة ثانية فحسب ، بل وُهِبَت الآلاف المضاعفة.

وما أجمل ما خاطب به الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ولدَهُ الاكبر الإمام الحسن عليه‌السلام : «أي بني إنّي وإن لم أكن عُمّرتُ عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكرت في أخبارهِم ، وسرتُ في آثارهم ، حتى عُدْت كأحدهم ، بل كأني بما انتهى الىَّ من امورهم قد عمِّرتُ مع أولهم إلى آخرهم» (٢).

ومع أنّنا لا ننكر النواقص والإشكالات على التاريخ المتداول بين أيدينا ، ولكن رغم هذه النواقص ـ التي سنشير اليها فيما بعد ـ فهو غني بالعلم والمعرفة.

__________________

(١). نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٧.

(٢). نهج البلاغة ، وصيته للإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام.

١٣٥

٢ ـ جاذبية التاريخ

لِمَ كان التاريخ معلماً؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست صعبة ، وذلك لإمكانية تشبيه التاريخ بالمختبر الكبير الذي تخضع فيه قضايا حياة الإنسان المختلفة للتحليل.

وعلى هذا الأساس ، فكما أنّ العلوم التحليلية حلت الكثير من مسائلها وقدّمت الكثير من البراهين الحية لإثبات الواقعيات بالاختبار ، كذلك التاريخ ذلك المختبر العظيم حيث تختبر فيه الكثير من القضايا والمسائل ، حيث يميز فيه الذهب الخالص من الذهب غير الواقعى ، وبه تزول الأوهام عن الأذهان.

إذا حللت ظواهر الأجسام أو تركيباتها في مختبرات الكيمياء والفيزياء ، فانّك في مختبر التاريخ تحلل أسرار انتصار وفشل الأقوام السالفة ، وسبب سيادة وتطور أو انحطاط الحضارات ، وردود الفعل وصفات ومعنويات الأقوام والأشخاص ، واسلوب عملهم بجاذبية وجمال فائق.

وبذلك يكون التاريخ وسيلة مناسبة لدراسة عوامل السعادة وشقاء البشر.

وإذا شاهدنا في القرآن الكريم تأكيداً على تاريخ الامم السالفة ، وشاهدنا فيه من السور الدالّة على المباحث التاريخية حتى أنّ بعض السور تدور معظم آياتها أو كلّها حول تاريخ الأقوام السالفة فذلك كله ناشيء من هذه الملاحظة التي أشرنا اليها.

وقد ينكر المعاندون بعض المسائل النظرية ، إلّاأنّه لا يمكنهم انكار واقعيات التاريخ القطعية ، وبالخصوص الحوادث التي أشار اليها القرآن حيث نراه يأخذ بأيدي الناس إلى ما خلّفته الأقوام الغابرة ، ويروي قصصهم على قبورهم وقمم مدنهم الخربة.

إنّ التاريخ ـ في الحقيقة ـ فرع من المسائل التجريبية ، وبتعبير آخر يمكن ادغامه في مصدر «الحس والتجربة» إلّاأنّه يختلف عن الحس والتجربة اختلافاً طفيفاً فالحس والتجربة يتعلقان بالحاضر لكن التاريخ يتعلق بالماضي ، وأنّ الحس والتجربة قد يتعلقان بذات الفرد فقط بينما التاريخ يتعلق بجميع ذوات البشر.

ولكن الأهميّة الفائقة لهذا الفرع من التجربة تفرض علينا دراسته كمصدر مستقل للمعرفة.

١٣٦

٣ ـ شوائب التاريخ

بالرغم من أنّ التاريخ مرآة كبيرة وجميلة تعكس الواقعيات إلّاأنّ المؤسف فيه هو وجود أيادٍ ملوَّثة سعت وتسعى دائماً لتغيير وتشويه الوجه الناصع لهذه المرآة ، ولهذا السبب فإنّ هناك كثيراً من الشوائب في التاريخ تحول دون معرفتنا للحقيقة ودون تمييزنا الصادق من الكاذب منه.

إنّ سبب التشويه واضح ، حيث لم يكن المؤرخون محايدين دائماً ، بل كثيراً ما يؤرخون التاريخ بالشكل الذي يتناسب مع دوافعهم الشخصية والفئوية ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّ جبابرة كل عصر سعوا لإِغراء المؤرخين وجذبهم ليكونوا تحت سيطرتهم ونفوذهم ، ليملوا عليهم ما يحلو لهم فيكتبوا ما يريد هؤلاء الجبابرة.

وبالرغم من المساعي التي تُبذل بعدَ زوال كلٍّ من الحبابرة والظالمين وتوفر أجواء حرة أكثر في سبيل إصلاح الأخطاء ، وتصحيح ما لحق بالتاريخ من فساد ، إلّاأنّ المؤرخين قد لا يوفّقون في هذا المجال لإصلاح الخطأ ، أو تكون إصلاحاتهم غير كافية.

والملفت للنظر أنّ قضايا التاريخ تتبدّل كلما تبدلت الحكومات المستبدة ذات الميول والإتّجاهات المتضاربة ، ف «بنو امية» مثلاً حرفوا التاريخ الإسلامي بشكل ، و «العباسيّون» حرفوه بشكل آخر ، كما أنّ الذين خلفوا العباسيين صاغوه بشكل آخر.

إنَّ (استالين) كتب في زمن ما تاريخ الثورة الشيوعية في روسيا بشكل ، وقد دُرِّس هذا التاريخ في جميع المدارس آنذاك ، والذين خلفوه كانوا يعتبرونه جلاداً مصاصاً للدماء فجمعوا تلك الكتب ودوّنوا تاريخ الثورة بصيغة اخرى ، وهكذا فعل كل من خلف الحكومة في الاتحاد السوفيتي فكتب التاريخ بما يتناسب مع ميوله الشخصي والمذهبي.

ولهذا السبب ، فإنّ البعض أساء الظن بالتاريخ وقال فيه ـ مبالغةً ـ هذه العبارة : «إنّ التاريخ مجموعة حوادث لم تحدث أبداً ، وأقوام لم توجد أبداً»!!

إلّا أنّ الانصاف يفرض علينا أن نعدّ التاريخ أحد مصادر المعرفة بالرغم من الغبار الذي غطّاه ، وذلك لأنّ التاريخ كأي خبر آخر منه «المتواتر» ومنه «الموثوق» ومنه «الضعيف» ومنه «المجهول».

١٣٧

ولا يمكن انكار ما تواتر في التاريخ عن جُند المغول وجيش هتلر والحوادث المفجعة في «الاندلس» ، والمئات من هذه الحوادث ، والذي يصلح للنفي والإثبات والإشكال هو جزئيات التاريخ ، وهي بدورها إذا ثبتت باخبار الثقات أصبحت صالحة للاعتماد عليها. بالطبع فإنّ الأخبار الضعيفة في هذا المجال ليست قليلة.

وهذا حكم عادل بحق التاريخ ، فينبغي عدم الأخذ بكل ما جاء في التاريخ ، كما لاينبغي نبذ كل ما ورد فيه.

وقد سَلِمَ قسمان من التواريخ من أي تحريف وتلويث وهما :

التواريخ التي ظلّت في صورة آثار تكوينية في الخارج ، فلا يمكن تحريفها ببساطة ، وقد أكد القرآن المجيد على هذا القسم كثيراً ، وآيات «السير في الأرض» بهدف التعرف على تاريخ الامم السالفة ناظرة إلى هذا القسم منه.

والأكثر من ذلك التواريخ التي وصلتنا عن طريق «الوحي» مثل تواريخ القرآن التي تعتبر أصيلة وخالصة من جميع الرغبات والنزعات ، فكما أن الله عزوجل أفضل مقنّن فهو أفضل مؤرخ كذلك ، لأنّه خبير بجميع الجزئيات ومنزه عن الإتّجاهات الفردية والجماعية ، ومع توفر هذين الشرطين فهو أفضل مؤرخ روى لنا التاريخ.

وقد يتعجب البعض ويسأل : لماذا يعيد الله تعالى قصة نوح أو موسى أو فرعون أو مواجهة الأنبياء للمستكبرين والجبابرة عدّة مرّات؟

لقد غفلوا عن أن كل حكاية ناظرة إلى الحادث من زاوية واحدة فقد يكون لكل حدث تاريخي زوايا وجوانب متعددة ، فقد ينظر ـ مثلاً ـ إلى تاريخ بني اسرائيل من حيث مواجهتهم لطاغوت زمانهم ، وقد ينظر لتاريخهم من حيث عنادهم لأنبيائهم ، وقد ينظر لتاريخهم من حيث عواقب الاختلاف والتشتت وعدم الاتحاد ، أو من حيث آثار ونتائج نكران النِعَم ، والخلاصة : إنّ كثيراً من الحوادث التاريخية كالمرآة ذات الأبعاد المختلفة ، يسلط كلُّ بعد من ابعادها الأضواء على جانب من الجوانب (وسيأتي شرح هذا بالتفصيل في بحث تواريخ القرآن).

* *

١٣٨

٤ ـ فلسفة التاريخ

إنّ المهم في التاريخ هو العثور على «جذور» و «نتائج» الحوادث التاريخية.

فإذا حصلت ثورة في بقعة ما من العالم ـ مثلاً ـ ينبغي أولاً دراسة العوامل التي أدت هذه الثورة والتحقق منها بدقة.

ثانياً النظر في نتائج هذه الثورة ، وهذان الأمران هما اللذان يخرجان التاريخ عن كونه مجرد حكايات مسلّية ، ويبدلانه إلى مصدرٍ مهم للمعرفة.

لكن يؤسفنا أن يكتفي المؤرخون بذكر الحوادث التاريخية ، في مرحلة تبلورها فقط ، وقلّما يتجهون نحو جذور وعلل الحوادث ونتائجها ، ولم يتركوا في مجال تحليل القضايا التاريخية آثاراً تُذكر.

إلّا أنّ القرآن قرن تدوين الحوادث مع البحث عن أُصولها ونتائجها فتارة بعد ذكره لمقطعٍ تاريخي يقول :

(فَانْظُرُوا كَيفَ كانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ). (آل عمران / ١٣٧)

وتارة يقول : (وَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ). (الاعراف / ٨٦)

وتارة يقول : (فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبةُ الْمُجْرِمِينَ). (النمل / ٦٩)

وتارة يقول : (انَّ اللهَ لَايُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتّى يُغيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). (الرعد / ١١)

والجدير بالذكر أن للتاريخ فروعاً عديدة أهمّها تاريخ الإنسان والمجتمعات البشرية ، وتاريخ الحضارات ، وتاريخ العلوم والفنون البشرية ، وهي تواريخ محورها الأساس ومحرك عجلتها هو الإنسان.

يالهم من بسطاء أولئك الذين يظنون أن التاريخ ـ بالرغم من كل فروعه وتشعباته ـ نتاج قسري للقضايا الاقتصادية وخاصةً وسائل الانتاج ، أي أنّ التاريخ خلقته وسائل الانتاج واجهزته التي صنعها الإنسان بنفسه!

وعلى هذا الأساس يمكننا القول : إنّ هؤلاء بتصورهم الخاطىء وتفكيرهم الشاذ لم يعرفوا الإنسان ولا التاريخ أبداً.

١٣٩

٥ ـ التاريخ «النقلي» و «العلمي» و «فلسفة التاريخ»

قسم أحد العلماء المعاصرين التاريخ ـ من وجهة نظر وزاوية خاصة ـ إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ التاريخ النقلي : وهو عبارة عن مجموعة من الحوادث الجزئية المعينة التي حدثت في الماضي ، وهو أشبه ما يكون بالفلم الذي يصور حادثة أو حوادث ، لهذا فانه جزئي دائماً وليس كلياً ، ويتحدث عمّا كان لا عمّا يكون ، ويتعلق بالماضي لا بالحاضر ، ونقلي لا عقلي.

وهذا الفرع من التاريخ يمكنه ـ عن طريق المحاكمات ـ أن يكون معلماً مفيداً ، وعبرة من أناس ذلك الزمان ، وهو أشبه بتأثّر الإنسان بجليسه ، وأشبه بالاسوة التي يذكرها القرآن للناس ليعتبروا منها ويقتدوا بها.

٢ ـ التاريخ العلمي : وهو التاريخ الذي يتحدث عن قواعد وسنن الامم السالفة التي تُستنبط من دراسة وتحليل حوادث العصور السابقة ، وفي الحقيقة فإنّ التاريخ النقلي كالمادة الخام لهذا التاريخ.

ومن ميزات هذه السنن هي إمكانية تعميمها ، وكونها علمية ، وإمكانية جعلها مصادِر للمعرفة ، وإحاطة الإنسان ـ عن طريقها ـ بالمستقبل.

وبالرغم من أنّ هذا النوع من التاريخ كلي وعقلي ، فانّه علم بما كان لا بما يكون.

٣ ـ فلسفة التاريخ : وهو علم يتحدث عن تحول المجتمعات من مرحلة إلى أُخرى ، أو بتعبير آخر : هو علم بما يكون لا بما كان.

ويمكن توضيح هذا بالمثال الآتي :

إنّ «علم الأحياء» علم يبحث عن القواعد الكلية التي تحكم حياة الموجودات الحية ، إلّا أنّ نظرية «تكامل الأنواع» إذا قلنا بها ـ تبحث عن كيفية تحول وتبدل نوع من الحيوانات إلى نوع آخر ، إذن ، موضوع البحث في فلسفة التاريخ هو كيفية حركة وتكامل التاريخ ، إنّ هذا الفرع من التاريخ يتسم بجانب كلي وعقلي ، ورغم ذلك فانّه ناظر إلى مجريات التاريخ من الماضي إلى المستقبل وفائدة هذا النوع من التاريخ لا تخفى على أحد (١).

__________________

(١). ملخص من كتاب فلسفة التاريخ تأليف الشهيد المطهري.

١٤٠