نفحات القرآن - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-88-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٠

والآية الحادية عشرة لفتت الأنظار إلى مسألة خلق الأرض ومن ثم خلق الإنسان الذي يعتبر خلقة عالَماً عظيماً مليئاً بالضجيج رغم صغر حجمه ، وأنبّت الذين لا يبصرون رغم أنّهم قادرون على الإبصار بخطاب «أفلا يبصرون».

(ينبغي الالتفات إلى أنّ «البصيرة» جاءت من مادة «بصر» الذي يعني «العين» إنّ «بصر العين» ، ورغم استعمالها بمعنى «النظر» و «الرؤية» إلّاأنّها تختلف عنهما بالتأكيد على عضو البصر وقوته ، لكنها كالمفردتين السابقتين قد تستعمل بمعنى المشاهدة الباطنية والفكر).

وأخيراً ، فإنّ الآية الثانية عشرة تؤكد على الأعضاء الثلاثة أى الأذن والعين والقلب والتي تعتبر ثلاثة أعضاء أساسية للمعرفة وهذا دليل واضح على اعتبار المشاهدة والحس من المصادر الأساسية للمعرفة.

النتيجة :

إنّ الآيات السابقة والتي غالباً ما تحدثت عن قضية التوحيد ومعرفة الله ، أمرت الناس بأن يفتحوا أعينهم أثناء سلوك طريق المعرفة والتوحيد من أجل الوصول إلى الهدف ، عندها سيرون اسم «الله» على جبين كل موجود في هذا العالم ، ويشاهدون الأنظمة الدقيقة والغريبة التي تتحكم بالعالم ، ومن ثم يصلون ـ بواسطة برهان النظم ـ لا إلى معرفة ذات الله فحسب ، بل صفاته وتوحيده وتدبيره وقدرته وعلمه اللامتناهي.

وبالنظر إلى أنّ أهم مسألة في الإسلام هي مسألة التوحيد ومعرفة الله ، وأنّ أهم دليل في القرآن على المعرفة هو برهان النظم ، وأهم منبع لبرهان النظم هو الطبيعة والمخلوقات فمن هنا تتضح أهميّة الحس والمشاهدة والتجربة من وجهة نظر القرآن الكريم.

وقد استعان القرآن كثيراً ب «المشاهدة الحسية» ليس في مسألة التوحيد فحسب بل في مسألة المعاد أي ثاني أهم مسألة في الإسلام أيضاً ، وقد صوّر لنا لقطات من المعاد بالاستعانة بنفس الطبيعة المشهودة لنا ، كما جاء ذلك في سورة (ق) حيث يقول تعالى :

١٠١

(وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً مُّبارَكاً فَأَنْبَتنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ* ... وَاحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الخُرُوجُ) : أي في يوم القيامة. (ق / ٩ و ١١)

كما ـ وأنّه للكشف عن عاقبة الظلم والجور وأهلهما ـ دعا الله الناس لمشاهدة ما خلَّف هؤلاء من آثار ومشاهدة مدنهم الخربة.

هذا كلّه تأكيد من القرآن على ضرورة الاستعانة ب «الحس والمشاهدة» كمصدر للمعرفة.

توضيح

الفلاسفة ومصدر الحس :

هناك اختلاف كبير في وجهات نظر الفلاسفة فيما يخص قضية اطّلاعنا على العالم الذي يحيط بنا وما هي المراحل التي نطويها للوصول إلى هذه المعرفة؟ ومن أي مصدر تصل أذهاننا؟ إنّ أكثر الفلاسفة عدّوا الحس أحد مصادر المعرفة رغم ظهور قطبين على طرفي الإفراط والتفريط في هذا المجال.

١ ـ «الحسيون» حيث يعتبرون الحس الطريق الوحيد للمعرفة وينكرون المصادر الاخرى كالعقل.

«إنّ هؤلاء الذين ظهروا في القرن السابع عشر أنكروا قيمة البرهان القياسي العقلي ، واعتبروا اسلوب التجربة الاسلوب الوحيد والسليم والمعتمد عليه في هذا المجال ، وتعتقد هذه المجموعة بعدم أصالة وتجذر الفلسفة النظرية العقلية المستقلة عن العلوم التجريبية ، ويعدون العلم ثمرة الحواس فقط ، والحواس لا تتعلق إلّابظاهر وعوارض الطبيعة ، إذن لا اعتبار للمسائل الفلسفية الأولية ، وذلك لأنّها نظرية وعقلية بحتة وتتعلق بالامور غير المحسوسة ، ولا يدرك الإنسان هذه المسائل نفياً أو إثباتاً» (١).

__________________

(١). اصول الفلسفة والمنهج الواقعي للشيخ المطهّري ، ج ١ ، ص ٦ (مع تلخيص قليل).

١٠٢

إنّ الماديين ومن ضمنهم أتباع المذهب «الديالكتيكي» من المتحمسين لهذه النظرية ، فهم يقولون :

«إذا انقطعت جميع قنوات التأثير الخارجي عن حسّنا ، فهذا يعني أنّا سوف لا نعرف شيئاً ، وسيعجز الذهن عن جميع نشاطاته ، وتبقى معرفة الواقعيات أمراً محالاً ، وعلى هذا فالحس منشأ المعرفة ومبنى أحكامنا اتجاه أي مسألة ، فينبغي القول أنّ الحس منبع المعرفة بل منبعها الوحيد» (١).

٢ ـ المجموعة الاخرى هي التي تقع في الطرف المقابل للمجموعة الاولى تماماً وهي التي لا تولي أي أهميّة للحس في مجال المعرفة.

يقول «ديكارت» : «لا نستطيع الوثوق بالمفاهيم التي وصلتنا من الخارج بواسطة الحواس الخمسة بأنّ لها مصداقاً خارجياً أم لا ، وإذا كان لها مصداق فلا يقين لنا بتطابقه مع الواقع» (٢).

مسار الحكمة في اوربا : «يعتقد (ديكارت) أنّ محسوسات الإنسان لا تتطابق مع الواقع ، وأنّ الحس هو وسيلة ارتباط بين جسم الإنسان والخارج ، ويرسم لنا صورة كاذبة عن العالم ، فهو يعتقد أن المفاهيم النظرية هي أساس العلم الواقعي» (٣).

والخلاصة : أنّ هذه المجموعة تعتقد أن المعقولات فقط لها قيمة علمية يقينية ، أمّا المحسوسات فلها قيمة علمية غير يقينية (٤).

إنّ المجموعةَ الاولى تستند إلى أخطاء العقل النظري والاختلاف الفاحش بين العلماء في المسائل العقلية ، بينما تستند المجموعة الثانية إلى أخطاء الحواس ، حيث يذكرون أعداداً لا تحصى من أخطاء حاسة البصر التي تعتبر أهم وأوسع حس للإنسان.

__________________

(١). المادية الديالكتيكية «نيك آئس» ، ص ٣٠٢ ، (ملخص) ـ بالفارسية ـ.

(٢). مسار الحكمة في اوربا ، ج ١ ، ص ١٧٢ (مع تلخيص) ـ بالفارسية ـ.

(٣). المصدر السابق.

(٤). اصول الفلسفة ، المقالة الرابعة (قيمة المعلومات).

١٠٣

لكن ممّا لا شك فيه أنّ كلتا المجوعتين خاطئتان ، ونوضح ما ندعيه بصورة مركزة فنقول :

بالنسبة للحسيين يمكن حصر أهم إشكالاتهم في النقاط التالية.

١ ـ إنّ كلّ إنسان عند مشاهدته للموجودات الخارجية يواجه مجموعة من الحوادث والقضايا الجزئية لا يمكن الاستفادة منها للاستدلال ، لأنّ كل استدلال يجب أن يستند إلى قضية كلية.

ومن هنا تبدأ مسؤولية العقل ، حيث يقوم بصياغة قضايا كلية من هذه الجزئيات ، فمثلاً نلاحظ أن قطعة الحجر تكسر الزجاج العادي في ظروف مختلفة ، فهذه الحوادث الجزئية الحاصلة بالحس تنتقل إلى العقل ، فيصوغ العقل قاعده كلية تجاه هذه المسألة ، وكذلك الأمر بالنسبة للتجربة في الظروف والازمنة والأمكنة المختلفة التي تكشف عن أن الضوء ينتشر بصورة خط مستقيم ، فالعقل يصوغ قاعدة كليّة من هذه الحوادث الجزئية لا وجود لها في الخارج والموجود في الخارج هو مصاديقها لا ذاتها.

وعليه فالإدراكات الحسية كالمواد الخام التي قد «تتحلل» وقد تتركب في مختبر العقل ، ومن خلال هاتين العمليتين نحصل على المفاهيم الكلية التي يستفاد منها في المنطق والاستدلال.

٢ ـ ممّا لا شك فيه أنّه ينبغي الاستفادة من العقل لإصلاح الأخطاء الناشئة من خطأ الحواس ، فعندما نقول :

فإذا اخطأ البصر في رؤية الأشجار المتوازية متقاطعة من بعيد فإنّ المعيار في تشخيص وإدراك الخطأ هذا هو العقل.

صحيح أن تمييزنا لهذا الخطأ يستند إلى الحس أيضاً حيث إننا ندرك خطأ بصرنا من بعيد لأنا طوينا الشارع من اوله إلى آخره عدة مرّات وشاهدنا الأشجار في طول الشارع متوازية ولم تلتقِ في مكانٍ ، لكن هذا الاستدلال الذي يستند إلى الحس يقوى عندما يقول لنا العقل إنّ اجتماع النقيضين محال ، ويقول بامتناع أن تكون الأشجار متوازية ثم تلتقي في

١٠٤

نقطة واحدة ، فاستدلالنا بهذا الشكل يثبت لنا خطأ ما نشاهده من بعيد. في الحقيقة إن قضية امتناع اجتماع النقيضين التي تدرك بالعقل تشكل حجر الأساس لجميع الاستدلالات ، وعليه فلا يؤخد بالدليل الحسي دون الاستناد إليها.

٣ ـ فضلاً عما سبق ، فإنّ ما ندركه بالحس هو ظاهر الأشياء ، وما نرى من الجسم بالحس مجرد مظهره لا شيء آخر ، وعليه فبدون تدخل الإدراكات العقلية لا نستطيع معرفة حقيقة الجسم.

قد يقال : إنّ الحواس لا دور لها لوحدها بل يجب الاستعانة بالإدراكات العقلية حتى في العلوم التجريبية ، لكن ينبغي الاذعان إلى هذه الحقيقة ـ وهي أنّ جميع الإدراكات العقلية حصلت بواسطة الحواس وكما يقول «جان لاك» الفيلسوف الانجليزي المعروف : «لا شيء في العقل لم يوجد قبله في الحس».

إنّ هذه الجملة التي أصبحت مثلاً وبقيت ذكرى منه تدل على أنّ الذهن كان كاللوحة البيضاء في البداية وقد ينقش عليها بعد ذلك بواسطة الحواس ، وأن لا وظيفة للعقل غير «التجريد» و «التعميم» أو «التحليل» و «التركيب» لمدركات الحواس.

لكن هذا خطأ فظيع ، وذلك لأنّ علمنا بأنفسنا (الذي هو علم حضوري) لم يحصل بواسطة الحواس ، كذلك علمنا بوجود الحواس ، أو علمنا باستحالة اجتماع النقيضين لم يحصل عن طريق الحواس ، فنحن ندرك محالة أن نكون موجودين ومعدومين في آن واحد وإن لم نملك حواساً ، كذا الأمر بالنسبة لقضايا أخرى لا حاجة فيها إلى الحواس.

وتوجد أبحاث كثيرة في هذا المجال لو أسهبنا فيها لابتعدنا عن هدف هذا الكتاب ، وتَطَرُّقُنا لبعضها هنا كان بهدف توضيح نظريتي «الحسيين» و «العقليين» الذين حصروا سبل المعرفة في بُعد واحد ، وأن نظريتيهما سقيمتان وأن كلاً من «الحس» و «العقل» يشكلان منبعاً ومصدراً للإدراك ، كما انعكس ذلك في القرآن المجيد.

١٠٥
١٠٦

٢ ـ العقل والتحليل المنطقي

تمهيد :

في القرآن الكريم تعابير كثيرة استعملت للإشارة إلى هذا المصدر كما يشاهد الكثير من الآيات التي تدعو الناس إلى المعرفة بالاستعانة ب «التفكير».

ونذكر هنا بعض تلك التعابير التي استعملت للإشارة إلى هذا المصدر المهم للمعرفة :

١ ـ العقل.

٢ ـ اللب (وجمعه ألباب).

٣ ـ الفؤاد.

٤ ـ القلب.

٥ ـ النُهى.

٦ ـ الصدر.

٧ ـ الروح.

٨ ـ النفس.

كما أنّ هناك تعابير استعملت في القرآن لبيان مهمة العقل مثل :

٩ ـ الذكر.

١٠ ـ الفكر.

١١ ـ الفقه.

١٢ ـ الشعور.

١٠٧

١٣ ـ البصيرة.

١٤ ـ الدراية.

والآن نبحث كلاً من العناوين السابقة في ضمن بحثنا عن الآيات التي وردت فيها تلك التعابير (١).

* *

لنمعن خاشعين أولاً في الآيات التالية :

١ ـ (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (البقرة / ٢٤٢)

٢ ـ (انَّ فِى خَلْقِ السَّموَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ والنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّاولِى الْالبَابِ). (آل عمران / ١٩٠)

٣ ـ (وَاللهُ اخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ امَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْابصَارَ وَالْأَفئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (النحل / ٧٨)

٤ ـ (وَكَمْ اهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ قَرْنٍ هُمْ اشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِى البِلَادِ هَل مِنْ مَّحِيصٍ* انَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ اوْ الْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ). (ق / ٣٦ ـ ٣٧)

٥ ـ (كُلُوا وَارْعَوا انْعَامَكُمْ انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّاوْلِى النُّهَى). (طه / ٥٤)

٦ ـ (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ اوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجحَدُ بِآيَاتِنَا إلَّاالظَّالِمُونَ). (العنكبوت / ٤٩)

٧ ـ (فَاذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيه مِنْ رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ). (الحجر / ٢٩) و (ص / ٧٢)

__________________

(١). إضافة إلى العناوين والتعابير السابقة التي اشير إليها ، هناك تعابير استعملت في القرآن وأريد بها مراحل الإدراك مثل : الظن والزعم والحسبان واليقين ، وعلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين ، والتي تبدأ بمرحلة هشة ومتزلزلة من الإدراك وتنتهي باليقين الذي هو أعلى مراحل الإدراك ولا يتصور درجة ومرحلة أعلى منه.

١٠٨

٨ ـ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا). (الشمس / ٧ ـ ٨)

٩ ـ (... وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون). (البقرة / ٢٢١)

١٠ ـ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ افَلَا تَتَفَكَّرُونَ). (الأنعام / ٥٠)

١١ ـ (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ). (الأنعام / ٦٥)

١٢ ـ (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللهِ امْوَاتٌ بَلْ احياءٌ وَلَكِنْ لَّاتَشْعُرُونَ).

(البقرة / ١٥٤)

١٣ ـ (انَّ الّذِينَ اتَّقَوا اذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَاذَا هُمْ مُّبْصِرونَ). (الاعراف / ٢٠١)

١٤ ـ (وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدَاً وَمَا تَدرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرضٍ تَمُوتُ).

(لقمان / ٣٤)

شرح المفردات :

«العقل» كما جاء في لسان العرب ومفردات الراغب ـ من العقال أي الحبل الذي يُشدْ به ساق البعير لمنعه من الحركة وبما أنّ العقل يردعُ الإنسان عن القيام بالأعمال المشينة اطلقت هذه المفردات عليه.

وقد ذكر صاحب الصحاح أنّها تعني «الحُجْر» «المنع» بينما قال البعض كصاحب القاموس : إنّها تعني «العلم بصفات الأشياء كالحسن والقبح والكمال والنقص» ، أمّا صاحب مجمع البحرين فقد فسر العاقل بانه : «الذي يستطيع أن يسيطر على نفسه ويتغلب على أهوائه وميوله».

ويظهر أنّ معناه الأولي هو الصد والمنع ولهذا يقال لمن امتنع لسانه عن النطق «اعتقل لسانه» كما يقال «للدية» «عقل» لأنّها تحول دون إهراق دماءٍ أكثر ، ويقال للمرأة العفيفة والمحجبة والطاهرة «عقيلة».

١٠٩

يقول «الخليل بن أحمد» في كتابه «العين» : إنّ العقل يطلق على القلعة والحصن أيضاً. كما نلاحظ هنا فإنّ مفهوم الحجر والمنع متضمّن لجميع هذه المعاني ، وعليه فإن أصلهُ يعني المنع.

أمّا كلمة «اللب» وجمعها «الألباب» ـ كما يقول كثير من أهل اللغة ـ يعني الخالص والصفوة من كلّ شيء ، ولهذا يطلق على المرحلة الرفيعة من العقل «اللب» ، فإنّ كل لبٍ عقلٌ لكن ليس كل عقلٍ لُباً ، لأنّ اللب هو العقل في مراحله الرفيعة والخالصة ، ولهذا السبب نُسِبَتْ امورُ القرآن الكريم إلى «أُولي الألباب» لا تدرك إلّابالمراحل الرفيعة من العقل ، كما يطلق اللب على باطن كثير من الفواكه لأنَّه خالص من القشر (١).

وإنّ كلمة «الفؤاد» ـ كما أشرنا سابقاً ـ من مادة «فأد» على وزن (وَعْد) وفي الأصل معناه وضع الخبز على الرماد أو الحصى الحارة ، كي يُخبز جيداً ، كما يطلق على طبخ وشوي اللحم (٢).

وعلى هذا فالعقل عندما ينضج يطلق عليه «فؤاد» وجمعهُ «أفئدة».

ويضيف الراغب في مفرداته : إنّ «الفؤاد» يعني القلب مع زيادة وهي الإنارة واللمعان.

إنّ «القلب» ـ كما جاء في القاموس والمفردات والعين ولسان العرب ـ في الأصل يعني تغير الشيء وتحوله ، وغالباً ما يستعمل بمعنيين ، فتارة يطلق على العضو الذي يتكفل بضخ الدم إلى جميع أعضاء البدن ، وتارة اخرى يستعمل فيرادُ به الروح والعقل والعلم والفهم والشعور ، وجاء هذا الاطلاق من حيث إنّ القلب الجسماني والقلب الروحي في حركة وتغيّر مستمرين ، وكما يقول بعض أهل اللغة :

ما سمي القلب إلّامن تقلبه

والرأي يصرف بالإنسان اطوارا!

كما أنَّ كلمة «القلب» تطلق على مركز كل شيء مثل : قلب العسكر ، لأنّ القلب مركز جسم وروح الإنسان ، وقد جاء في القاموس أنّ خالص كلّ شيءٍ يقال له «قلب».

__________________

(١). لسان العرب والمفردات ومجمع البحرين.

(٢). لسان العرب وتاج العروس ومفردات الراغب.

١١٠

وكلمة «النُهى» تَعني «العقل» ومن مادة «نهي» على وزن (سَعْي) ويعني المنع من شيء مأخوذ ، وقد صرح كثير من أئمة اللغة (كصاحب المفردات ومجمع البحرين ولسان العرب وشرح القاموس) أنّ هذه التسمية جاءت من حيث إنّ العقل ينهى عن الأعمال المشينة.

وَ «الصدر» في الأصل يعني القسم الأمامي الذي تحت الرأس (في الجسم) ومن ثم اطلق على القسم الأعلى والمقدم لأي شيءٍ ، مثل صدر المجلس أي أعلاه ، وصدر الكلام أي بدايته ، وصدر النهار أي أوله (كما جاء ذلك في المفردات ولسان العرب).

إلَّا أنّه قد يستفاد من بعض الكلمات معنى المقدمية والبداية لكل شيء ، وعلى كل حال ، بما أنّ العقل عضو مهم ويقع في الجزء الأعلى من البدن أُطلق عليه صدر ، خاصة وأنّ القلب الجسماني يقع في وسط الصدر (العضو المعروف من البدن) ، وسنذكر فيما بعد أنّ هناك علاقة وثيقة بين انقلاب القلب العضوي والانقلابات العقلية.

أمّا كلمة «الروح» في الأصل تعني التنفس ، وبما أنّ هناك علاقة وثيقة بين التنفس وبقاء الحياة ، استعملت بمعنى النفس ومركز العقل وفهم الإنسان.

وقد صرح البعض أن كلمتي «الروح» و «الريح» اشتقتا من أصل واحد ، وإذا سميت الروح ـ التي هي وجود مجرّد ومستقل ـ روحاً فذلك من حيث إنّ الروح كالريح توجد الحيوية والحركة من دون أن تُرى.

وَكلِمة «النفس» ـ وكما يقول الراغب وصاحب القاموس ولسان العرب وكتاب العين ـ تعني الروح التي هي مركز إدراكات الإنسان ، إلّاأنّ القرآن الكريم ذكر مراحِلَ النفس : «فالنفس الامارة» هي النفس التي تأمر الإنسان بالمعاصي وترغبه بها ، و «النفس اللوامة» وهي التي تندم على المعاصي التي ارتكبها الإنسان وتوبخه عليها ، و «النفس المطمئنة» وهي التي تتحكم بجميع الشهوات والميول وقد وصلت إلى مرحلة الاطمئنان.

من مجموع ما سبق ، يتبين لنا أنّ القرآن المجيد استعمل مفردات كثيرة للإشارة إلى العقل ، وكلٌّ من هذه المفردات تشير إلى جانب من جوانب هذا الوجود النفساني ، وبتعبير آخر كلٌّ منها يتعلق ببعد من أبعاد العقل.

١١١

وبما أنّ هذه القدرة الغامضة تردع الإنسان عن الأعمال المشينة وتمنعه عنها قيل لها عقل ونُهى.

وبما أنّه في حال انقلاب وتحول دائم قيل له «قلب» ، وبما أنّه في القسم الأعلى من بدن الإنسان قيل له «الصدر».

وبما أنّ هناك علاقة وثيقة بينه وبين الحياة قيل له «روح» و «نفس» ، وعندما يصل إلى مرحلة الإخلاص ويصفو من الشوائب يقال له «لُبّ» ، وأخيراً عندما تنضج أفكاره يطلق عليه «فؤاد».

نستنتج من هذا البيان أنّ استعمال هذه المفردات المتنوعة في القرآن لم يكن اعتباطاً بل كان منسجماً ومتماشياً مع الموضوع الذي في الآية ، وهذا من عجائب القرآن التي يدركها الإنسان عند تتبعه لآيات القرآن وتفسيره لها موضوعياً.

* *

أفعال العقل :

إنَ «الذكر» يمثل الاصطلاح المقابل للنسيان ، وكما يقول الراغب : إنّه حالة في الإنسان تمكنه من حفظ ما أدرك واستحضاره في الذهن عند الحاجة ، وهذا المعنى قد يتم بالقلب وقد يحصل باللسان.

وإنّ «الفكر» يعني فعالية العقل ، وعلى ما يقوله الراغب : إنّه قوة تسوق العلم إلى المعلومات ، ويعتقد بعض الفلاسفة : أنّ حقيقة الفكر تتركب من حركتين : حركة نحو المقدمات ، ثم حركة من المقدمات إلى النتيجة ، ومجموع هاتين الحركتين اللتين تؤدّيان إلى العلم والمعرفة يقال لهما «الفكر».

و «الفقه» يعني «الفهم» بصورة عامة ـ كما جاء ذلك في لسان العرب ـ إلّاأنّ الراغب في مفرداته يقول : إنّه بمعنى الاطلاع على أمرٍ خفي بالاستعانة بأمرٍ ظاهر وجلي ، وعليه فالفقه علم يحصل بالأدلة (بالطبع إنّ الفقه المصطلح فعلياً هو علم الأحكام الإسلامية).

١١٢

أمّا «الشعور» فيعني العلم والمعرفة ـ كما يقوله بعض من أئمّة اللغة كصاحب القاموس ولسان العرب ومقاييس اللغة وغيرهم ـ إلّاأنّ الراغب قال في مفرداته : يعني «الاحساس» ، وإذا كان المقصود هو الاحساس الباطني فلا اختلاف مهم بين ما قاله الراغب وما قاله الآخرون في شرح معنى الشعور ، وقد جاء الشعور في كثير من آيات القرآن وأُريد به (العلم) ، إلّاأنّه استعمل في موضع آخر وقصد به الاحساس الخارجي.

إنَّ كلمة «البصيرة» اشتقت من البصر ، وقد جاءت ـ كما يقول الراغب ـ بثلاثة معانٍ : بمعنى العين ، وبمعنى قوة العين ، وبمعنى قوة الإدراك والعلم.

وقد قال البعض : إنّ معناها في الأصل هو العلم سواء حصل بالمشاهدة الحسية أو بالعقل (١).

وتستعمل مفردة «البصيرة» بالخصوص في «الإدراك القلبي والعلم» ، ولهذا جاء في لسان العرب أنّها تعني الاعتقاد القلبي ، وقد فسرها البعض بالذكاء الذهني.

وقد استعملت بالمعنى الأخير في القرآن الكريم حيث يقول : (قُلْ هَذِهِ سَبِيْلِى أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى) (٢). (يوسف / ١٠٨)

وكلمة «الدراية» تعني العلم والخبرة بصورة عامة ، أو العلم والخبرة في الامور الخفية والمستترة ، كما قد جاءت بمعنى «الكياسة» ، كما يستفاد من قواميس اللغة أنّها في الأصل تعني الالتفات إلى شيءٍ ثمّ استعملت وأُريد منها الخبرة بشيءٍ ، وقد استعملت في القرآن الكريم مراراً وقصد بها مفهوم «العلم» ، ويستخلص من هذا القسم من بحثنا أنّ الألفاظ التي استعملت للتعبير عن العقل وأريد منها مفهوم العلم والإدراك ألفاظ متنوعة ، وكلٌّ منها تُعبّر عن بُعد وجانب من أبعاد وجوانب العقل ، وقد استعملت كلٌّ في موردها!

فعند البحث عن الخبرة مع الدقة استعملت «الدراية» ، وعند البحث عن التحليل والعقل

__________________

(١). التحقيق في كلمات القرآن الكريم مادة (بصر).

(٢). وقد جاءت في آيات اخرى واريد منها نفس المعنى كما في الآيات : القيامة ١٤ ؛ والأنعام ١٠٤ ؛ الأعراف ٢٠٣ ؛ الاسراء ١٠٢.

١١٣

استعمل «الفكر» ، وعند البحث عن أمرٍ خفي ومعرفته بالاستعانة بأمرٍ محسوس استعمل «الفقه» ، وعند البحث عن الخبرة المقترنة بالحفظ والحضور بالبال استعمل «الذكر» ، وعلى هذا السياق تستعمل كل مفردة في محلها وكل لفظ في مقامه.

وينبغي الالتفات هنا إلى هذه النقطة وهي أنّ التعبيرات التي استعملت في القرآن لبيان مهام العقل لها مراحل ورتب ، تبدأ ب «الشعور» ويراد منه الإدراك البسيط ، ثم مرحلة «الفقه» والذي يعني إدراك المسائل الخفية من المسائل الجليّة ، وبعدها تأتي مرحلة «الفكر» ويُراد منه التحليل العقلي ، ثم تأتي مرحلة «الذكر» أي الحفظ في الذهن والحضور في البال ، ثم مرحلة «النُهى» التي تعني الإدراك العميق لحقائق الامور ، وتنتهي هذه المراحل بمرحلة «البصيرة» التي تعني النظر الذهني العميق.

وهذا هو معنى البلاغة والفصاحة!

* *

جمع الآيات وتفسيرها

قيمه العقل في مقياس القرآن :

إنَّ أول آية تناولناها بالبحث هنا تؤكد بان الهدف من نزول الآيات هو العقل والتفكير لدى الإنسان ، وتكشف عن هذه الحقيقة بالتعبير ب (لعلَّ) التي تفيد بيان الهدف في موارد كهذا المورد.

وقد أكدت بعض الآيات على هذا الموضوع وذهبت إلى ابعد من ذلك حيث وبّخت الناس على عدم تفكرهم وتعقلهم وآخذتهم بعبارةٍ كهذه : (أَفَلَا تْعقِلُونَ) (١).

وقد تكرر هذا المضمون بصيغة جملة شرطية ، حيث يقول تعالى : (قَدْ بَيَّنَا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ). (آل عمران / ١١٨)

__________________

(١). آل عمران ، ٦٥ ؛ الأنعام ، ٣٢ ؛ الاعراف ، ١٦٩ ؛ يونس ، ٦١ ؛ هود ، ٥١ ؛ يوسف ، ١٠٩ ؛ الأنبياء ، ١٠ و ٦٧ ؛ المؤمنون ، ٨٠ ؛ القصص ، ١٠ ؛ الصافات ، ١٣٨.

١١٤

إنّ هذه التعابير المختلفة : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، أَفَلا تَعْقِلُونَ ، إنْ كُنْتُم تَعْقِلُونَ) تكشف بوضوح عن هذه الحقيقة وهي : إنّ الله وهب الإنسان العقل كي يستعين بقدرته على إدراك الحقائق وفهمها ، ويستحق اللوم والتوبيخ إذا ترك الانتفاع بهذه القدرة.

والآية الثانية ومن خلال اشارتها إلى آيات الله في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار صرحت : إنّ إدراك هذه الآيات أمر يسير لأُولي الألباب.

وكما أشرنا سابقاً ، فإنّ (اولي الألباب) هم العلماء الذين خلصت عقولهم من جميع ترسبات الأوهام ، فهم يدركون وقائع نظام الخلق ، ويرون جمال الخالق من خلالِ المخلوقات ، وهذا يكشف عن أهميّة العقل كطريق لمعرفة الحق جل وعلا.

* *

أمّا الآية الثالثة ، فبعد أن أشارت إلى خروج الإنسان من بطن امّه لا يعلم شيئاً شرحت وسائل المعرفة ، فبدأت بحاسة «السمع» الذي تُعرف علومه ب «العلوم النقلية» ، من خلال الاصغاء إلى أقوال الآخرين ، ثم ذكرت «البصر» الذي تميز به الأشياء بعد مشاهدتها ثم ختمت ب «الفؤاد» الذي تُدرك به الحقائق غير المحسوسة ، وقد قلنا سابقاً : إنّ الفؤاد هو العقل عند نضوجه ، فهو أعلى درجة من العقل.

* *

والآية الرابعة بعد إشارتها إلى الأقوام السالفة المقتدرة والتي أُبيدت واهلكت بسبب ، وقد أُهلكوا لطغيانهم وفسادهم ، ولم يستطيعوا الفرار والنجاة ، قالت : (إنَّ في ذلِكَ) (في سيادتهم ثم إبادتهم) (لَذِكْرِى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) (أي عقل) (أَوْ الْقَى السَّمْعَ) (أي يصغي للنصائح)!

والآية الخامسة بعد الإشارة إلى إحياء الأرض الميتة وانبات الزرع فيها الذي يمثل غذاء الإنسان ودوابّه ، صرحت : إنّ هذه الامور آيات يدركها أصحاب النهى.

وكنّا قد أشرنا إلى أنَّ النهى هو العقل بما هو ناهٍ عن فعل الأفعال القبيحة.

* *

١١٥

أمّا الآية السادسة فبعد أن أشارت إلى الآيات العظيمة والبيّنة للقرآن ، قالت : إنّ هذه الآيات في صدور (قلوب) الذين أُوتوا العلم ، وكما بيّنا من قبل فانَّ الصدر يعني الجزء المقدم والأعلى من كل شيء ، وهذا يبيّن أنّ العقل الذي يعتبر من المصادر المهمّة للمعرفة ، يشكل أشرف جزء في الإنسان.

والآية السابعة بعد أن ذكرت قصة خلق آدم عليه‌السلام خاطبت الملائكة بالقول : (فَاذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِديِنَ). (٢٩ / حجر) و (ص / ٧٢)

وهذه (الروح الإلهيّة) هي (جوهر العقل) ، وقد اضيفت إلى الله لأهميتها (ويقال لهذه الإضافة اضافة تشريفية) لأنّ الله لا روح له ولا جسم ، ولأجل هذه الروح الإلهيّة سجد جميع الملائكة المقربين لآدم عليه‌السلام ، وإلّا فالطين والتراب لا قيمة لهما ، وهذا تأكيد شديد على أهميّة وقيمة العقل.

* *

والآية الثامنة تشير إلى خلق (النفس) أي الروح والعقل ، وتُقسم بخالق النفس ، ثم تضيف : إنّ الله ألهم وكشف للنفس طريقي الفجور والتقوى بعد أن أوضح لها هذين الطرِيقَيْن ، وهذا تلميح جميل إلى الإدراكات الفطرية التي جُبِلَ عليها الإنسان منذ أن بدأ حياته.

كان هذا مجموع العناوين والمفردات الثمانية التي استعملت في القرآن وأريد بها الإشارة في كل مفردة منها إلى جانب وبُعد من جوانب وأبعاد جوهر العقل ، وقد بينت هذه العناوين الأبعاد المختلفة لهذا المصدر المهم للمعرفة.

* *

إنَّ ما ذكر سلفاً كان بحثاً في جوهر العقل ، أمّا بالنسبة لنشاط ووظيفة العقل ، فهنالك تعابير عديدة في القرآن كانت قد اختصت بهذا الموضوع وكلٌّ منها تبيّن جانباً من جوانب وأبعاد نشاط العقل ، وهي كالتالي :

١١٦

الآية التاسعة بحثت التذكر واعتبرته الهدف من بيان آيات الله ، والتذكّر هو الحفظ والخطور في الذهن وهو أحد أهم وظائف العقل ، وإذا لم يكن التذكر حاصلاً عند الإنسان ما استفاد الإنسان من علومه شيئاً.

وفي هذا المجال نرى تعبيرات مختلفة في القرآن ، فقد يذكر الموضوع الاستعانة بالأداة (لعل) التي تفيد بيان الهدف في موارد كهذا المورد ، وتارةً اخرى يعبر عن الموضوع باسلوب التوبيخ واللوم مثل (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) (١).

وقد يبين الموضوع باسلوب التوبيخ لأولئك الذين لا ينتفعون بالعقل والفكر ، فلا يحفظون الحقائق ولا يتذكرونها ، كما هو الأمر في : (قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُون). (الاعراف / ٣) و (النمل / ٦٢).

* *

وقد تحدثت الآية العاشرة عن (التفكر) بعد استفهام استنكاري : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأَعْمَىْ وَالْبَصِير)؟ وقد وجهت اللوم بقولها : (أفلا تتفكرون) ، وكما أشرنا سابقاً إلى أنَّ التفكير يعني تحليل وتجزئة المسائل للوصول إلى حقائقها ، وهو سبيل للفهم الأكثر والأفضل.

وقد تنوّعت تعبيرات القرآن في هذا المجال ، فتارةٌ يكون الاسلوب هكذا (لَعَلَّكُمْ تَتَفكَّرُون). (البقرة / ٢١٩)

وتارة يكون : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون). (يونس / ٢٤) ، و (الرعد / ٣) ، و (النحل / ١١)

وتارة اخرى يكون : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أَنْفُسِهِمْ). (الروم / ٨)

* *

وتحدثت الآية الحادية عشرة عن «الفقه» الذي يعني الفهم العميق ، حيث قالت : «انظر»

__________________

(١). كما في سور الأنعام ، ٨٠ ؛ هود ، ٢٤ ؛ النحل ، ٩٠ ؛ المؤمنون ، ٨٥ ؛ الصافات ، ١٥٥.

١١٧

«كيف نصرّف الآيات» بأنواع من البينات (لَعَلَّهُم يَفْقَهُونَ) فقهاً عميقاً.

وقد جاءت العبارة هنا بصيغة : (لَعَلَّهُم يَفقهُونَ). (الانعام / ٦٥)

كما قد جاءت في مكان آخر بصيغة : (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ). (الأنعام / ٩٨)

وفي آية اخرى باسلوب : (لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ). (التوبة / ٨١)

وفي اخرى : (بَلْ كَانُوا لَايَفْقَهُونَ الَّا قَليلاً). (الفتح / ١٥)

وكلها تبين الأهميّة القصوى للفهم والإدراك العقلي.

وكما قلنا سابقاً ، فإنّ كلمة «الفقه» تعني إدراك الامور الخفية بالاستعانة بمشاهدة الامور الجلية ، وهذا الإدراك هو أحد أبعاد الإدراك العقلي.

وتحدثت الآية الثانية عشرة عن «الشعور» ، فبعد أن نهت المؤمنين عن نعت الشهداء بالأموات قالت : إنّهم أحياء ولكن لا تشعرون أي لا تدركون.

وقد يراد بالشعور هنا معنى الاحساس الظاهري ، أو الاحساس الباطني ، وقد استعمل بكلا المعنيين في القرآن المجيد.

وقد ذمّ القرآن في موارد مختلفة ، أولئك الذين لا يشعرون ولا يستخدمون شعورهم (١).

* *

وقد تحدثت الآية الثالثة عشرة عن «البصيرة» بعد ما أشارت إلى المتقين ، حيث قالت : إنَّ المتقين إذا ما ابتلوا بوساوس الشيطان تذكروا الله وأبصروا وادركوا الحقيقة فنجوا من شباك الشياطين.

إنّ «البصيرة» و «الأبصار» هو الرؤية وقد تتم الرؤية بواسطة العين الظاهرة فيكون بصراً حسياً ، وقد تتم بواسطة العين الباطنية أي العقل فذلك «الإدراك العقلي» ، والمراد من البصيرة في هذه الآية هو المعنى الثاني.

__________________

(١). كما في الآيات الآتية ، الشعراء ، ١١٣ ؛ الحجرات ، ٢ ؛ البقرة ، ٩ ؛ آل عمران ، ٦٩ ؛ الأنعام ، ٣٦ و ١٢٣ ؛ المؤمنون ، ٥٦.

١١٨

إنّ الإنسان على نفسه بصيراً : (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ). (القيامه / ١٤)

والرسول وأتباعه على بصيرة فيما يدعون إليه : (قُلْ هَذِهِ سَبِيِلى أَدْعُو الَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى). (يوسف / ١٠٨)

وقد استعملت البصيرة في جميع هذه الموارد بمعنى المعرفة الحاصلة عن طريق العقل قطعاً.

* *

وقد تحدثت الآية الرابعة عشرة والأخيرة عن «الدراية» التي تعني الذكاء والخبرة والاحاطة بالمسائل الخفية أو غير المحسوسة ، حيث قالت : (وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ). (لقمان / ٣٤)

وقد استعملت الدراية في القرآن بصيغ السلب دائماً ، ويفيدنا في هذا أنّ الدراية مرحلة عميقة من الفهم والإدراك لا تحصل لِكلِّ إنسان.

* *

نستنتج من الآيات السابقة النتائج الآتية :

١ ـ إنَّ القرآن يعتبر العقل من المصادر الأصلية للعلم والمعرفة ، وقد أولاه أهميّة قصوى.

٢ ـ القرآن يدعو الجميع للتعقل والتفكّر في جميع الامور.

٣ ـ التفت القرآن التفاتاً خاصاً إلى ماهيّة الروح الإنسانية وأبعادها المختلفة ، وأكّد على كلٍ من هذه الأبعاد.

٤ ـ عبر القرآن عن نشاطات الروح في مجال إدراك الواقعيات تعبيرات مختلفة ، وقد استخدم واستفاد من كل تعبير في محله.

إلّا أنّ القرآن ذكر موانع عديدة تحول دون الإدراك الصحيح للعقل ، سنبحثها في فصل (حجب المعرفة) إن شاء الله.

* *

١١٩

توضيحات

١ ـ الإدراكات العقلية برؤية فلسفية

بالرغم من أنّ أغلب الفلاسفة يعتبرون الإدراك العقلي أحد المصادر المهمّة للعلم والمعرفة ، إلّاأنّ الفلاسفة الحسيّين يخالفون هذا الأمر ، ولا يعيرون للإدراكات العقلية أهميّة واعتباراً ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ـ ويحصرون طرق المعرفة بالتجارب الحسية متذرّعين بالحجج الواهية الآتية :

١ ـ اختلاف الفلاسفة في المسائل العقلية ، فإنّ كلَّ طائفة منهم قدّمت أدلة ظاهرها يوحي بأنّها منطقية لإثبات مدعاها.

٢ ـ وقوع كثير من العلماء بأخطاء معتقداتهم بحيث يضطر البعض في مواقع عديدة للاعتراف بخطئه ويسعى لتصحيحه.

٣ ـ كما يجب إضافة أمر آخر إلى الأمرين السابقين وهو : إنّ التقدم والتطور السريع للعلوم الطبيعية في القرون الأخيرة حلَّ الكثير من ألغاز العالم وأسراره عن طريق التجربة الحسية ، وهذا الأمر قَوّى فكرة الاستناد إلى التجربة الحسية (في مجال المعرفة) فقط ، وألغى بقيّة الطرق.

ونقرأ في «تاريخ الفلسفة» : إنّ موضوعاً كهذا الموضوع سبب انكار الحقائق (الحسية وغير الحسية) من قبل السوفسطائيين في اليونان القديمة ، فمن جهة نظروا إلى اختلاف الفلاسفة ، ومن جهة اخرى نظروا إلى عوام الناس ، فبعضهم يؤيدون ادّعاء وكيلي المتنازعين في المحكمة ، ويعطون الحق لكلٍ من الطرفين وكأن كلا الطرفين على حق ، ولهذا قويت عندهم فكرة أن لا حقيقة واقعاً.

وهنا ينبغي الالتفات إلى عدة امور لرفع هذه الالتباسات :

الأمر الاول : هو وجوب فصل «الإدراكات البديهية» عن «النظرية» عند التحقيق في مسألة الإدراكات العقلية ، وذلك لأنّ الاخطاء لا تحصل في البديهيات ، فلا يشك أحد في أنّ الاثنين نصف الأربعة ، أو أن شيئاً لا يمكن أن يكون موجوداً ومعدوماً في آن واحد ومكان

١٢٠