تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

وقال امرؤ القيس :

هصرت بغصن ذي شماريخ ميّال (١)

وأظنّ أبا عليّ إنّما أنّسه بهذا الجواب أنّه وجد تاليا للآية لفظ أمر ؛ وهو قوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) ، فحمل الأوّل على الثاني ؛ والكلام لا تشتبه معانيه من حيث المجاورة ؛ بل الواجب أن يوضع كلّ منه حيث يقتضيه معناه (٢).

ـ (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم : ٥٩]

أنظر هود : ٣٤ من الأمالي ، ٢ : ٢١١.

ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١)) [مريم : ٨٨ ـ ٩١]

أنظر الحشر : ٢١ من الأمالي ، ١ : ٤٠٨ والبقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

__________________

(١) ديوانه : ١٩ ؛ وصدره :

فلما تنازعنا الحديث وأسمحت

تنازعنا : تعاطينا. أسمحت : لانت وانقادت ؛ ويريد بالشماريخ هاهنا خصائل الشعر ؛ وأصل الشمراخ : الغصن.

(٢) الأمالي ، ٢ : ٨٧.

٨١

سورة طه

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥].

وفي موضع آخر (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (١) ، المراد به الاستيلاء ، كما يقال : «استوى فلان على كذا» أي استولى عليه ، قال الشاعر :

فلمّا علونا واستوينا عليه

تركناهم صرعى كسير وكاسر

قيل : إنّ العرش هاهنا الملك واستشهد بقول الشاعر :

إذا ما بنو مرون ثلّث عروشهم

وأوذوا كما أوذت أياد وحمير (٢)

وقيل : بل هو الله الذي أخبر الله تعالى بأنّ الملائكة تحمله ، وإنّما خصّه بالذكر مع استيلائه تعالى على كلّ شيء ، من حيث كان أعظم شيء خلقه ، وإذا كان مستوليا على الأعظم ، فبأن يكون مستوليا على الأصغر أولى ، كما خصّ العالمين بقوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣) من حيث كانوا أعظم الخلق وأشرفه ، وإن كان ربّ كلّ شيء.

وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى) المراد به ثمّ خلق العرش وهو مستو عليه ، أي مستولي ، كما قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) (٤) أي حتّى تجاهدوا ونحن نعلم ذلك ، ومجاز هذا مشهور في اللغة.

وقيل أيضا : لا يمتنع أن يريد بقوله جلّ وعزّ : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٣.

(٢) تصحيح الاعتقاد : ٥٩.

(٣) سورة الفاتحة ، الآية : ٢.

(٤) سورة محمّد ، الآية : ٣١.

٨٢

الْأَمْرَ) أي ثمّ يدبّر الأمر وهو مستولي على العرش ؛ لأنّ التدبير حادث فيصحّ أن يعلّق به لفظ الاستقبال (١).

ـ (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [طه : ١٢].

وحكي أنّ واصلا كان يقول : أراد الله من العباد أن يعرفوه ثمّ يعملوا ، ثمّ يعلّموا ، قال الله تعالى : (يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ، فعرّفه نفسه ، ثمّ قال : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) (٢) ، فبعد أن عرّفه نفسه أمره بالعمل. قال : والدليل على ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) (يعني صدقوا) (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣) علموا وعملوا وعلّموا (٤).

ـ (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها ...) [طه : ١٥]

أنظر الأحزاب : ١٠ من الأمالي ، ١ : ٣٢١.

ـ (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨)) [طه : ٦٧ ، ٦٨].

فإن قيل : فمن أيّ شيء خاف موسى عليه‌السلام حتّى حكى الله تعالى عنه الخيفة في قوله «عزوجل» : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧)) أو ليس خوفه يقتضي شكّه في صحّة ما أتى به؟

الجواب : قلنا : لم يخف من الوجه الّذي تضمّنه السؤال ، وإنّما رأى من قوّة التلبيس والتخييل ما أشفق عنده من وقوع الشبهة على من لم يمعن النظر ، فآمنه الله تعالى من ذلك وبيّن له أن حجّته ستتضح للقوم بقوله تعالى : (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) (٥).

ـ (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا) [طه : ٦٩].

أنظر الصافات : ٩٥ ، ٩٦ من الأمالي ، ٢ : ٢٠٣.

__________________

(١) الملخص ، ٢ : ٢١١.

(٢) سورة طه ، الآية : ١٢.

(٣) سورة العصر ، الآيات : ١ ـ ٣.

(٤) الأمالي ، ١ : ١٧٩.

(٥) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٠٦.

٨٣

ـ (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ..) [طه : ٧١].

أنظر الصافات : ٨٨ ، ٨٩ من التنزيه : ٤٥.

ـ (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) [طه : ٧٥].

أنظر البقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

ـ (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) [طه : ٧٨].

[إن سأل سائل] فقال : ما الفائدة في قوله : (ما غَشِيَهُمْ) ، وقوله : (غَشِيَهُمْ) يدل عليه ، ويستغنى به عنه ، لأنّ (غَشِيَهُمْ) لا يكون إلّا الذي غشيهم ، وما الوجه في ذلك؟

قلنا : قد ذكر في هذا أجوبة :

أحدها : أن يكون المعنى : فغشيهم من اليمّ البعض الذي غشيهم ، لأنّه لم يغشهم جميع مائه ، بل غشيهم بعضه ، فقال تعالى : (ما غَشِيَهُمْ) ؛ ليدلّ على أنّ الذي غرّقهم بعض الماء ، وأنّهم لم يغرقوا بجميعه ؛ وهذا الوجه حكي عن الفرّاء ، وذكره أبو بكر الأنباريّ ، واعتمده ، وغيره أوضح منه.

واليم هو البحر ، قال الشاعر :

وبنى تبّع علي اليمّ قصرا

عاليا مشرفا على البنيان

وثانيها : أن يكون المعنى : فغشيهم من اليمّ ما غشى موسى وأصحابه ؛ وذلك أنّ موسى عليه‌السلام وأصحابه ، وفرعون وأصحابه سلكوا جميعا البحر ، وغشيهم كلّهم ؛ إلّا أنّ فرعون وقومه لمّا غشيهم غرّقهم ، وموسى عليه‌السلام وقومه جعل لهم في البحر طريق يبس ، فقال تعالى : فغشى فرعون وقومه من ماء اليم ما غشى موسى وقومه ، فنجا هؤلاء ، وهلك هؤلاء. وعلى هذا الوجه والتأويل تكون الهاء في قوله : (ما غَشِيَهُمْ) كناية عن غير من كنّي عنه بقوله : (فَغَشِيَهُمْ) ؛ لأنّ الأولى كناية عن فرعون وقومه ، والثانية كناية عن موسى وقومه.

وثالثها : أنّه غشيهم من عذاب اليمّ وإهلاكه لهم ما غشى الأمم السالفة من العذاب والهلاك عند تكذيبهم أنبياءهم ، وإقامتهم على ردّ أقوالهم والعدول عن

٨٤

إرشادهم ، والأمم السالفة ؛ وان لم يغشهم العذاب والإهلاك من قبل البحر ، فقد غشيهم عذاب وإهلاك استحقّوهما بكفرهم وتكذيبهم أنبياءهم ، فشبّه بينه وبين هؤلاء من حيث اشتمال العذاب على جميعهم عقوبة على التكذيب.

ورابعها : أن يكون المعنى : فغشيهم من قبل اليمّ ما غشيهم من العطب والهلاك ؛ فتكون لفظة «غشيهم» الأولى للبحر والثانية للهلاك والعطب اللذين لحقاهم من قبل البحر.

ويمكن في الآية وجه آخر لم يذكر فيها ، يليق بمذاهب العرب في استعمال مثل هذا اللفظ ، وهو أن تكون الفائدة في قوله تعالى : (ما غَشِيَهُمْ) تعظيم الأمر وتفخيمه ؛ كما يقول القائل : فعل فلان ما فعل ، وأقدم على ما أقدم ، إذا أراد التفخيم وكما قال تعالى : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) (١) ، وما يجري هذا المجرى ؛ ويدخل في هذا الباب قولهم للرجل : هذا هذا ، وأنت أنت. وفي القوم : هم هم ؛ قال الهذليّ (٢) :

رفوني وقالوا : يا خويلد لا ترع

فقلت ، وأنكرت الوجوه : هم هم (٣)

وقال أبو النجم :

أنا أبو النّجم ، وشعري شعري (٤)

كلّ ذلك أرادوا تعظيم الأمر وتكبيره (٥).

ـ (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه : ٧٩]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية : ١٩.

(٢) هو أبو خراش الهذلي.

(٣) ديوان الهذليين : ٢ / ١٤٤. ورفوني : سكنوني ، وأصلها : «رفئوني» ، بالهمز.

(٤) معاهد التنصيص ، وبعده :

لله درّي ما يجنّ صدري

(٥) الأمالي ، ١ : ٣٣٩.

٨٥

ـ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه : ٨٢]

أنظر البقرة : ٢٢٥ من الذخيرة : ٦٠٣.

ـ (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) [طه : ٨٥]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ : إلى ٢٤٧.

ـ (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨)) [طه : ٨٧ ـ ٨٨].

[فيها أمران :]

[الأوّل : ان سأل سائل :] إذا كان اتيان الله تعالى الآية بمن يعلم أنّه يستفسد بها العباد ويدعوهم لأجلها إلى الضلال والفساد ، مستحيلا في العقول لما يؤدي إليه من انسداد الطريق إلى معرفة الصادق من الكاذب عليه ، ولكون ذلك وهنا في حكمته تعالى وعلمه بالقبح وغناه عنه.

فكيف جاز أن يمكّن السامري من أخذ القبضة التي فعل الله تعالى الخوار في العجل عند إلقائه لها فيه ، وقد كان مغويا لاتّباع بني إسرائيل له بطاعتهم إياه وقبولهم منه وإذعانهم إليه؟

وقد نطق القرآن بذلك في قوله سبحانه : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) (١) إلى آخر القول ، وقال سبحانه حكاية عن موسى عليه‌السلام : (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)) (٢).

وجاءت الاخبار بأنّه أخذ هذه القبضة من تحت قدمي الملك ، وقال : إنّه رآه وقد وطىء مواتا فعاش (٣).

وكيف ساغ تمكينه من ذلك؟ فقد استدعى به بني إسرائيل إلى الضلال وكان

__________________

(١) سورة طه ، الآية : ٨٨.

(٢) سورة طه ، الآيتان : ٩٥ ، ٩٦.

(٣) الدرّ المنثور ٤ / ٣٠٥.

٨٦

معلها (١) كونه منه بهذه القبضة لله تعالى. وهل يجيء من كون ذلك قادحا في حكمة الله سبحانه كون العقول دالّة على بطلان ما دعى اليه وفعل الآية مع المبطل من فاعلها ، سواء كان ما ادعى إليه جائزا في العقول ، أو في حيّز المحال ؛ لأنّها ينوب في التصديق له مناب قوله : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) (٢).

واذ لا فرق بين تصديقه فعلا وقولا ، ومن صدق كاذبا فليس بحكيم. وهل يجيء من ذلك ما يمكن بتجويزه من تقدّم القاء القبضة والخوار من دعوى السامري.

وأيّ فرق بين كون ذلك الذي ادّعاه شافعا للخوار وبين تقدّمه له في قبح تمكينه منه ، مع العلم أنّه يستند به لكون القبضة والالقاء معلومين للناس من جهته وصنعه؟

وليس يجري ذلك مجرى ما يشاهده الناس من أن يتقدّم على دعواه داع إلى الباطل أو يتأخّر عنها ؛ لأنّ ذلك لا يكون معلوما وقوعه منه وحصوله من فعله ، كما حصل القاء القبضة معلوما من جهة السامري ، وشفع إلقاءه لها الخوار الذي وقع الفتنة به. فلينعم بما عنده في ذلك.

الجواب :

إعلم أنّ العلماء قد تأوّلوا هذه الآية على وجهين ، كلّ واحد منهما يزيل المعترضة فيها :

أحدهما ـ وهو الأقوى والارجح ـ : أن يكون الصوت المسموع من العجل ليس بخوار على الحقيقة ، وإن أشبه في الظاهر ذلك. وإنّما احتال السامري بأن جعل في الذي صاغه من الحلي على هيئة العجل فرجا ومنافذ وقابل به الريح ، فسمعت تلك الأصوات المشبهة للخوار المسموعة من الحيّ

وإنّما أخذ قبضة التراب من أثر الملك وألقاها فيما كان سبك من الحلي

__________________

(١) كذا في النسخة.

(٢) سورة الصافات ، الآية : ١٠٥.

٨٧

ليوهمهم أنّ القبضة هي التي أثّرت كون العجل حيّا مسموع الاصوات ، وهذا مسقط للشبهة.

والوجه الآخر : أنّ الله تعالى كان أجرى العادات في ذلك الوقت ، بأنّ من أخذ مثل تلك وألقاها في شيء فعل الله تعالى فيه الحياة بالعادة ، كما أجرى العادة في حجر المغناطيس ، بأنّه إذا قرب من الحديد فعل الله تعالى فيه الحركة إليه. وإذا وقعت النطفة في الرحم فعل الله تعالى فيها الحياة.

وعلى الجوابين معا ما فعل الله تعالى آية معجزة على يد كذّاب ومن ضلّ عن القوم عند فعل السامري ، إنّما أتى من قبل نفسه.

أمّا على الجواب الأوّل أنّه كان ينبغي أن يتنبّه على الحيلة التي نصبت حتى أوهمت أنّه حيّ وأنّ له خوار ، وإذا لم يبحث عن ذلك فهو القاصر.

وعلى الجواب الثاني قد كان يجب أن يعلم أنّ ذلك إذا كان مستندا إلى عادة جرت بمثله ، فلا حجّة فيه وليس بمعجزة. ولم يبق مع ما ذكرناه شبهة (١).

[الثاني : أقول : حكى السيّد عن القاضي كلاما يردّ فيه وجود نصّ على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال : «إنّ الاختلاف في هذا النص في عصر الصحابة غير جائز ؛ لأنّه لو توفّر النصّ عندهم وكان معلوما لجميعهم لما جرت الأمور في الإمامة على الحدّ الذي جرت عليه ، بل كان يجب أن يكونوا مضطرّين إلى معرفة إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولو كان كذلك لما صحّ ما قد ثبت عنهم من مواقف الإمامة» (٢) انتهى ملخصا ، ثمّ نقل السيّد كلاما طويلا عن أبي جعفر ابن قبّة رحمه‌الله في كتابه «الانصاف» يعالج فيه مشكلة ما جرى في الإمامة مع وجود النص ، وأضاف إليه أمورا أخر ، ثمّ بدأ بنقض ما ادّعاه القاضي «من انه مع وجود النصّ يجب أن يكونوا مضطرّين إلى معرفة إمامة أمير المؤمنين» بأنه لا ملازمة بين العلم بالنصّ وعدم وقوفهم في أمر الإمامة تلك المواقف ؛ إذ يمكن أن يدفعوا الضرورة في النص ويعملوا بخلافه لا على جهة

__________________

(١) الرسائل ، ١ : ٤٢٠.

(٢) المغني ، ٢٠ : ١١٩.

٨٨

التعمّد ، بل لدواع أخر ـ إلى أن قال : ـ] (١) وقد جرت العادات التي لا يتمكّن أحد من دفعها بعمل الجماعات بخلاف ما نعلمه لبعض الأغراض وكتمان ما نعرفه لمثل ذلك ، وقد نطق الكتاب بمثله قال الله تعالى مخبرا عن أهل الكتاب : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢) وقال جل ذكره : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٣). وقد علمنا من جهة القرآن أيضا والأخبار ما وقع من ضلال قوم موسى عند دعاء السامري لهم إلى عبادة العجل ، وكثرة من اغترّ به ومال إلى قوله مع قرب عهدهم بنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكثرة ما تكرر على أسماعهم من بيانه وحججه التي يقتضي جميعها توقي الشبهة بنفي التشبيه عن ربّه تعالى ، ولعلّ من ضلّ بعبادة العجل من قوم موسى عليه‌السلام كانوا أكثر من جميع المسلمين الذين كانوا في المدينة لما قبض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا جاز الضلال والعدول عن المعلوم على أنّه من الأمم فهو على جماعة من جملة أمّة أجوز ، والذي يقوله المخالفون عند احتجاجنا بقصة السامري من أنّ ضلال قوم موسى لعبادة العجل إنّما كان للشبهة لا على طريق التعمّد والعناد ، وقولكم في النصّ يخالف هذا ؛ لأنّه كان معلوما لهم عندكم فعدلوا عنه وعملوا بخلافه ، غير صحيح ؛ لأنّ القوم الذين ضلّوا بالسامري قد كانوا من أمّة موسى عليه‌السلام وممن سمع حججه وبيّناته ، وعرف شرعه ودينه ، وما كان يدعو إليه ، ونحن نعلم أن المعلوم من دين موسى لهم نفي التشبيه عن خالقه ، وأنّه دعاهم إلى عبادة من لا يشبه الأجسام ولا يحلّها (٤) ، وإذا كانوا عارفين بهذا من دينه ضرورة ، فليس تدخل عليهم شبهة فيه إلّا من حيث شكّوا في نبوته ، واعتقدوا أنّ ما دعاهم إليه ليس بصحيح ، ولم يكن القوم الذين ضلّوا بالسامري ممن أظهر الشكّ في نبوّة موسى عليه‌السلام والخروج عن دينه ، بل الظاهر عنهم أنّهم كانوا مع عبادتهم له متمسّكين بشريعته ، ولهذا قال لهم السامري :

__________________

(١) الشافي في الإمامة وابطال العامّة ، ٢ : ١٢٥ ، ١٣٢.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٤٦.

(٣) سورة النمل ، الآية : ١٤.

(٤) أي يحلّ فيها.

٨٩

(هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) مشيرا إلى العجل ، فلم يبق مع ضلالهم بالعجل وعبادتهم له ، إلّا العمل بخلاف المعلوم لبعض الأغراض (١).

ـ (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) [طه : ٩٧].

... لم يكن الهه على الحقيقة ، بل كان كذلك فى اعتقاده [واراد الله ذمه والازراء على اعتقاده] (٢).

ـ (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤].

[إن سأل سائل] فقال : ما معنى هذه الآية؟ فإنّ ظاهرها لا يدلّ على تأويلها.

الجواب : قلنا : قد ذكر المفسّرون في هذه الآية وجهين نحن نذكرهما ، ونوضّح عنهما ، ثمّ نتلوهما بما خطر لنا فيهما زائدا على المسطور.

وأحد ما قيل في هذه الآية : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا نزل عليه القرآن وسمعه من جبرائيل قرأ عليه‌السلام معه ما يوحى به إليه من القرآن أوّلا قبل استتمامه والانتهاء إلى المنزّل منه في الحال ، وقطع الكلام عليها ، وإنّما كان يفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك حرصا على حفظه وضبطه ، وخوفا من نسيان بعضه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ليثبت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلاوة ما يسمعه من القرآن ، حتّى ينتهي إلى غايته لتعلّق بعض الكلام ببعض.

قالوا : ونظير هذه الآية قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩)) (٣) ؛ فضمن الله تعالى أن يجمع له عليه‌السلام حفظ القرآن ، ثمّ يثبته في صدره ، ليؤدّيه إلى أمّته ،

__________________

(١) الشافي في الإمامة وابطال حجج العامة ، ٢ : ١٣٣ ، ١٣٤.

(٢) الشافي في الإمامه وإبطال حجج العامّة ، ٣ : ١١٣ وراجع أيضا الرسائل ، ١ : ٤٣٣.

(٣) سورة القيامة ، الآيات : ١٦ ـ ١٩.

٩٠

وأسقط عنه كلفة الاستعجال بترداد تلاوته ، والمسابقة إلى تلاوة كلّ ما يسمعه منه ؛ تخفيفا عنه وترفيها له ، وأكّدوا ذلك بقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي إذا انتهينا إلى غاية ما تريد إنزاله في تلك الحال ، فحينئذ اتّبع قراءة ذلك وتلاوته ، فلم يبق منه ما ينتظر في الحال نزوله.

والوجه الآخر أنهم قالوا : إنّما نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تلاوة القرآن على أمّته وأداء ما يسمعه منه إليهم ، قبل أن يوحى الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببيانه ، والإيضاح عن معناه وتأويله ؛ لأنّ تلاوته على من لا يفهم معناه ، ولا يعرف مغزاه لا تحسن.

قالوا : ومعنى قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) المراد به : قبل أن يقضي إليك وحي بيانه ، وتفسير معناه ؛ لأنّ لفظة «القضاء» وإن كانت على وجوه معروفة في اللغة ، فهي هاهنا بمعنى الفراغ والانتهاء إلى الغاية ؛ كما قال تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (١).

وكما قال الشاعر :

ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة

ومسّح بالأركان من هو ماسح (٢)

أي فرغنا من حاجاتنا ، وانتهينا إلى غاية الوطر منها.

فأمّا الجواب الثالث الزائد على ما ذكر : فهو أنّه غير ممتنع أن يريد : لا تعجل بأن تستدعي من القرآن ما لم يوح إليك به ؛ فإنّ الله تعالى إذا علم مصلحة في إنزال القرآن عليك أمر بإنزاله ، ولم يدّخره عنك ؛ لأنّه لا يدخّر عن عباده الاطّلاع لهم على مصالحهم.

فإن قيل على هذا الوجه : إنّه يخالف الظاهر ؛ لأنّه تعالى قال : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) ولم يقل بطلبه واستدعائه ، والظاهر يقتضي أنّ الاستعجال بنفس القرآن لا بغيره.

قلنا : الأمر على ما ظنّه السائل. وعلى الوجوه الثلاثة في تأويل الآية لا بدّ من تقدير ما ليس في الظاهر ؛ لأنّ على الوجهين الأولين المذكورين لا بدّ من أن

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ١٢.

(٢) البيت ينسب لكثير ؛ وانظر الجزء الأول.

٩١

يقدّر : لا تعجل بتلاوة القرآن ؛ إمّا على سبيل الدرس والتحفّظ على ما ذكر في الوجه الأول ، و [إمّا] أن يتلوه على أمّته قبل إنزال البيان [على الوجه الثاني]. وأيّ فرق في مخالفة الظاهر ؛ بين أن يقدّر : ولا تعجل بتلاوة القرآن ، أو يقدّر : لا تعجل بطلب القرآن واستدعاء نزوله؟.

فإن قيل : هذا يدلّ على وقوع معصية من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في استدعائه ما لم يكن له أن يستدعيه من القرآن ؛ لأنّ النهي لا يكون إلّا عن قبيح.

قلنا : النهي لا يكون إلّا عن قبيح لا محالة ؛ لكنّ النهي لا يدلّ على وقوع الفعل المنهيّ عنه ؛ لأنّه قد ينهى عن الفعل من لم يواقعه قطّ ولا يواقعه ، ألا ترى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهي عن الشرك وسائر القبائح ؛ كما نهينا ، ولم يدلّ ذلك على وقوع شيء ممّا نهي عنه منه!.

وهذا أيضا يمكن أن يكون جوابا لمن اعتمد على الوجهين الأوّلين إذا قيل له : أفوقع منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلاوة القرآن على أمّته قبل نزول بيانه ، أو عجل بتكريره على سبيل الدرس كما نهي عنه؟.

ويمكن من اعتمد على الوجه الأوّل في تأويل الآية أن يقول في قوله تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) وإن كان ظاهره النهي ليس بنهي على الحقيقة ؛ وقد يرد ما هو بلفظ النهي وهو غير نهي على التحقيق ، كما يرد ما هو بصفة الأمر وليس بأمر ؛ وإنّما ذلك تخفيف عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترفيه ، ورفع كلفة المشقّة ، فقيل له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تتكلّف المسابقة إلى تكرير ما ينزل عليك خوفا من أن تنساه ؛ فإنّ الله تعالى يكفيك هذه المؤونة ، ويعينك عن حفظه وضبطه ؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ؛ أي جمعه في حفظك وتأمورك (١).

وبعد ؛ فإنّ الأولى التوقّف عن معرفة غاية الكلام التي ينتهي إليها ، ويقطع عليها. والتلاوة لما يرد منه الأوّل فالأوّل ؛ تلاوة لما لا يعرف معناه ؛ لتعلّق الكلام بعضه ببعض ؛ فندب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الأولى من التوقّف على غايته.

__________________

(١) التأمور : القلب.

٩٢

وأمّا الوجه الثاني الذي اعتمد فيه على أنّ النهي إنّما هو عن تلاوته على الأمة قبل نزول بيانه ؛ فإن كان المعتمد على ذلك يقول : ليس يمتنع أن تكون المصلحة في التوقّف عن الأداء قبيل البيان ؛ فنهي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ؛ لأنّ المصلحة في خلافه ؛ فهذا جائز لا مطعن فيه ؛ وإن كان القصد إلى أنّ الخطاب لا يحسن إلّا مع البيان ؛ على مذهب من يرى أنّ البيان لا يتأخّر عن الخطاب ؛ فذلك فاسد ، لأنّ الصحيح أنّ البيان يجوز أن يتأخّر عن وقت الخطاب ؛ وإنّما لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة.

وقد بيّنّا الكلام في هذه المسألة ، والأدلّة على صحّة ما ذهبنا إليه منها في مواضع من كتبنا ، وتكلّمنا على فساد قول من أوجب اقتران البيان بالخطاب ، على أنّ من اعتمد على هذه الطريقة في هذا الموضع فقد غلط ؛ لأنّ الآية تدلّ على أنّ الله تعالى قد خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يحتاج إلى بيان من غير انضمام البيان إليه. وإذا جاز ذلك في خطابه تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاز مثله في خطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمته ؛ لأنّ من أبطل تأخير البيان عن زمان الخطاب يوجب ذلك في كلّ خطاب.

وليس يمكن أن يدّعى أنّه تعالى قد بيّن له ؛ لأنّ تأويلهم يمنع من ذلك ؛ لأنّه قيل له على هذا الوجه : لا تعجل بتلاوة القرآن على أمّتك قبل أن يقضى إليك وحيه ؛ يعني قبل أن ينزل إليك بيانه ؛ فالبيان متأخّر عنه على ذلك الوجه ؛ وذلك قبيح على مذهب من منع من تأخير البيان من وقت الخطاب.

والتأويل الذي ذكرناه زائدا على الوجهين المذكورين يمكن أن تفسّر به الآية الأخرى التي هي قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) ، بطلب ما لم ينزل عليك من القرآن ؛ فإنّ علينا إنزال ما تقتضي المصلحة إنزاله عليك وجمعه لك ؛ وقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩)) ، يدلّ ظاهره على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب ؛ لأنّه تعالى أمره : إذا قرأ عليه الملك وأوحى به إليه أن يقرأه ، ثمّ صرّح بأنّ البيان يأتي بعده ؛ فإنّ «ثمّ» لا يكون إلّا للتراخي ، وما هو مقترن بالشيء لا تستعمل فيه لفظة «ثمّ» ألا ترى أنّه لا يقال : أتاني زيد

٩٣

ثمّ عمرو ، وإنّما حضرا في وقت واحد! (١).

ـ (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥]

أنظر البقرة : ٢٨٦ من الأمالي ، ٢ : ١١٤ والكهف : ٥٦ ، ٧٠ من التنزيه : ١١٨.

ـ (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١].

قالوا : وهذا تصريح بوقوع المعصية التي لا تكون إلّا قبيحة ، وأكدّه بقوله : (فَغَوى) ، وهذا تصريح بوقوع المعصية ، والغيّ ضدّ الرشد.

الجواب : يقال : لهم أمّا المعصية فهي مخالفة الأمر ، والأمر من الحكيم تعالى قد يكون بالواجب وبالمندوب معا ، فلا يمتنع على هذا أن يكون آدم عليه‌السلام مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة ، ويكون بمواقعتها تاركا نفلا وفضلا وغير فاعل قبيحا ، وليس يمتنع أن يسمّى تارك النفل عاصيا ، كما يسمّى بذلك تارك الواجب ؛ فإن تسمية من خالف ما أمر به سواء كان واجبا أو نفلا بأنّه عاص ظاهرة ، ولهذا يقولون : «أمرت فلانا بكذا وكذا من الخير فعصاني وخالفني» ، وإن لم يكن ما أمره به واجبا ، وأما قوله «فغوى» ، فمعناه أنّه خاب ؛ لأنّا نعلم أنّه لو فعل ما ندب إليه من ترك التناول من الشجرة لأستحقّ الثواب العظيم ، فإذا خالف الأمر ولم يصر إلى ما ندب إليه ، فقد خاب لا محالة ، من حيث أنّه لم يصر إلى الثواب الّذي كان يستحقّ بالامتناع ، ولا شبهة في أنّ لفظ «غوى» يحتمل الخيبة. قال الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما (٢) (٣)

[على] انّ قوله تعالى : (فَغَوى) بعد قوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) لا يليق إلّا بالخيبة ، ولا يليق بالغي الّذي هو القبيح وضدّ الرشد ؛ لأنّ الشيء يعطف على

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٣٠٠.

(٢) البيت للمرقش الأصغر راجع الأغاني ٢ : ١٥٨.

(٣) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٢٥.

٩٤

نفسه ، ولا يكون سببا في نفسه ، ومحال أن يقال : عصى فعصى. ولا بدّ أن يراد بما عطف بالفاء غير المعنى الأوّل.

والخيبة هي حرمان الثواب بالمعصية الّتي هي ترك المندوب وسبب فيها ، فجاز أن يعطف عليها. والغي الّذي هو الفعل القبيح ، ولا يجوز عطفه على المعصية ولا أن يكون سببا فيه.

فإن قالوا : ما المانع من أن يريد بعصى أي لم يفعل الواجب من الكف عن الشجرة. والواجب يستحقّ بالإخلال به حرمان الثواب ، كالفعل المندوب إليه ، فكيف رجحتم ما ذهبتم إليه على ما ذهبنا نحن إليه؟

قلنا : الترجيح لقولنا ظاهر. إذ الظاهر من قوله تعالى : «عصى فغوى» أن الذي دخلته الفاء جزاء على المعصية ، وأنه كلّ الجزاء المستحقّ بالمعصية ؛ لأنّ الظاهر من قول القائل : سرق فقطع ، وقذف فجلد ثمانين ، أن ذلك جميع الجزاء لا بعضه.

وكذا إذا قال القائل : من دخل داري فله درهم ، حملناه على أن الظاهر يقتضي أن الدرهم جميع جزائه ، ولا يستحقّ بالدخول سواه.

ومن لم يفعل الواجب استحقّ الذمّ والعقاب وحرمان الثواب ، ومن لم يفعل المندوب إليه فهو غير مستحقّ لشيء كان تركه للندب سببا تامّا فيه إلّا حرمان الثواب فقط. وبينا أن من لم يفعل الواجب ليس كذلك ، وإذا كان الظاهر يقتضي أن ما دخلته الفاء جميع الجزاء على ذلك السبب لم يلق إلّا بما قلناه دون ما ذهبوا إليه ، وهذا واضح لمن تدبّره (١).

فإن قيل : كيف يجوز أن يكون ترك الندب معصية؟ أو ليس هذا يوجب أن توصف الأنبياء عليه‌السلام بأنّهم عصاة في كلّ حال ، وأنّهم لا ينفكّون من المعصية ؛ لأنّهم لا يكادون ينفكّون من ترك الندب؟.

قلنا : وصف تارك الندب بأنّه عاص توسّع وتجوّز ، والمجاز لا يقاس عليه

__________________

(١) الرسائل ، ١ : ١٢٣.

٩٥

ولا يعدّى به عن موضعه. ولو قيل : إنّه حقيقة في فاعل القبيح وتارك الأولى والأفضل ، ولم يجز إطلاقه أيضا في الأنبياء عليهم‌السلام إلّا مع التقييد ؛ لأنّ استعماله قد كثر في القبائح ، فإطلاقه بغير تقييد موهم ، لكنا نقول : ان أردت بوصفهم بأنّهم عصاة أنّهم فعلوا القبائح ، فلا يجوز ذلك ، وإن أردت انّهم تركوا ما لو فعلوه استحقّوا الثواب وكان أولى ، فهم كذلك.

فإن قيل : فأيّ معنى لقوله تعالى : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (١) وأيّ معنى لقوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢) فكيف تقبل توبة من لم يذنب؟ أم كيف يتوب من لم يفعل القبيح؟

قلنا : أمّا التوبة في اللغة : الرجوع ، ويستعمل في واحد منّا وفي القديم تعالى. والثاني : أنّ التوبة عندنا وعلى أصولنا فغير موجبة لاسقاط العقاب ، وإنّما يسقط الله تعالى العقاب عندها تفضّلا ، والذي توجبه التوبة وتؤثّره هو استحقاق الثواب ، فقبولها على هذا الوجه إنّما هو ضمان الثواب عليها. فمعنى قوله تعالى : «تاب عليه» أنّه قبل توبته وضمن له ثوابها ، ولا بدّ لمن ذهب إلى أنّ معصية آدم عليه‌السلام صغيرة من هذا الجواب ؛ لأنّه إذا قيل له : كيف تقبل توبته وتغفر له ومعصيته قد وقعت في الأصل مكفّرة لا يستحقّ عليها شيئا من العقاب؟ لم يكن له بدّ من الرجوع إلى ما ذكرناه ، والتوبة قد تحسن أن تقع ممّن لا يعهد من نفسه قبيحا على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والرجوع إليه ، ويكون وجه حسنها في هذا الموضع إستحقاق الثواب بها أو كونها لفظا ، كما يحسن أن تقع ممّن يقطع على أنّه غير مستحقّ للعقاب ، وأنّ التوبة لا تؤثّر في اسقاط شيء يستحقّه من العقاب ، ولهذا جوّزوا التوبة من الصغائر وإن لم تكن مؤثّرة في إسقاط ذمّ ولا عقاب.

فإن قيل : الظاهر من القرآن بخلاف ما ذكرتموه ؛ لأنّه أخبر أنّ آدم عليه‌السلام منهي عن أكل الشجرة بقوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣) وبقوله :

__________________

(١) سورة طه ، الآية : ١٢٢.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٣٧.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٣٥.

٩٦

(أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ)؟ (١) وهذا يوجب بأنّه عليه‌السلام عصى بأن فعل منهيا عنه ولم يعص بأن ترك مأمورا به.

قلنا : أما النهي والأمر معا فليسا يختصّان عندنا بصيغة ليس فيها احتمال ولا اشتراك ، وقد يؤمر عندنا بلفظ النهي وينهى بلفظ الأمر ، فإنّما يكون النهي نهيا بكراهة المنهّي عنه. فإذا قال تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) ، ولم يكره قربها ، لم يكن في الحقيقة ناهيا ، كما أنّه تعالى لمّا قال : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٢) (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) (٣) ، ولم يرد ذلك ، لم يكن أمرا. فإذا كان قد صحّ قوله (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) إرادة لترك التناول ، فيجب أن يكون هذا القول أمرا ، وإنّما سماه منهيا عنه ، ويسمّى أمره له بأنّه نهي من حيث كان فيه معنى النهي ؛ لأنّ [في] النهي ترغيبا في الامتناع من الفعل ، وتزهيدا في الفعل نفسه. ولمّا كان الأمر ترغيبا في الفعل المأمور به وتزهيدا في تركه ، جاز أن يسمّى نهيا. وقد يتداخل هذان الوصفان في الشاهد فيقول أحدنا : «قد أمرت فلانا بأن لا يلقى الأمير» وإنّما يريد أنّه نهاه عن لقائه ، ويقول : «نهيتك عن هجر زيد» وإنّما معناه أمرتك بمواصلته.

فإن قيل : ألّا جعلتم النهي منقسما إلى منهي قبيح ومنهي غير قبيح ، بل يكون تركه أفضل من فعله ، كما جعلتم الأمر منقسما إلى واجب وغير واجب؟

قلنا : الفرق بين الأمرين ظاهر ؛ لأنّ انقسام المأمور به في الشاهد إلى واجب وغير واجب غير مدفوع ، ولا خاف ، وليس يمكن أحدا أن يدفع أنّ في الأفعال الحسنة التي يستحقّ بها المدح والثواب ما له صفة الوجوب ، وفيها ما لا يكون كذلك ، فإذا كان الواجب مشاركا للندب في تناول الارادة له واستحقاق الثواب والمدح به ، فليس يفارقه إلّا بكراهة الترك ؛ لأنّ الواجب تركه مكروه والنفل ليس كذلك. فلو جعلنا الكراهة تتعلّق بالقبيح وغير القبيح من الحكيم

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٢٢.

(٢) سورة فصلت ، الآية : ٤٠.

(٣) سورة المائدة ، الآية : ٢.

٩٧

تعالى ، وكذلك النهي ، كما جعلنا الأمر منه يتعلّق بالواجب وغير الواجب ، لارتفع الفرق بين الواجب والندب مع ثبوت الفصل بينهما في العقول.

فإن قيل : فما معنى حكايته تعالى عنهما قولهما : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (١) وقوله تعالى : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢)؟

قلنا : معناه أنّا نقصنا أنفسنا وبخسناها ما كنّا نستحقّه من الثواب بفعل ما أريد منا من الطاعة ، وحرمناها الفائدة الجليلة من التعظيم من ذلك الثواب ، وإن لم يكن مستحّقا قبل أن يفعل الطاعة الّتي يستحقّ بها ، فهو في حكم المستحقّ ، فيجوز أن يوصف بذلك من فوّت نفسه بأنّه ظالم لها ، كما يوصف من فوّت نفسه المنافع المستحقّة. وهذا معنى قوله تعالى : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ).

فإن قيل : فإذا لم تقع من آدم عليه‌السلام على قولكم معصية ، فلم أخرج من الجنّة على سبيل العقوبة وسلب لباسه على هذا الوجه لو لا أن الاخراج من الجنّة وسلب اللباس على سبيل الجزاء على الذنب ، كما قال الله تعالى : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) (٣) وقال تعالى في موضع آخر : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) (٤)؟

قلنا : نفس الاخراج من الجنة لا يكون عقابا ؛ لأنّ سلب اللّذات والمنافع ليس بعقوبة ، وإنّما العقوبة هي الضرب والألم الواقعان على سبيل الاستخفاف والاهانة ، وكذلك نزع اللباس وإبداء السوأة ، فلو كانت هذه الأمور ممّا يجوز أن تكون عقابا ويجوز أن يكون غيره لصرفناها عن باب العقاب إلى غيره ، بدلالة أنّ العقاب لا يجوز أن يستحقّه الأنبياء عليهم‌السلام. فإذا فعلنا ذلك فيما يجوز أن يكون واقعا على سبيل العقوبة ، فهو أولى فيما لا يجوز أن يكون كذلك.

فإن قيل : فما وجه ذلك إن لم تكن عقوبة؟

قلنا : لا يمتنع أن يكون الله تعالى علم أن المصلحة تقتضي تبقية آدم عليه‌السلام

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٢٣.

(٢) سورة البقرة : ٣٥ ، سورة الأعراف ، الآية : ١٩.

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ٢٠.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٣٦.

٩٨

في الجنّة وتكليفه فيها متى لم يتناول من الشجرة ، فمتى تناول منها تغيّرت الحال في المصلحة وصار إخراجه عنها وتكليفه في دار غيرها هو المصلحة. وكذلك القول في سلب اللباس حتّى يكون نزعه بعد التناول من الشجرة هو المصلحة كما كانت المصلحة في تبقيته قبل ذلك ، وإنّما وصف إبليس بأنّه مخرج لهما من الجنّة من حيث وسوس إليهما وزيّن عندهما الفعل الّذي يكون عنده الاخراج ، وإن لم يكن على سبيل الجزاء عليه لكنّه يتعلّق به تعلّق الشرط في مصلحته ، وكذلك وصف بأنّه مبدىء لسوآتهما من حيث أغواهما ، حتّى أقدما على ما سبق في علم الله تعالى بأنّ اللباس معه ينزع عنهما ، ولا بدّ لمن ذهب إلى أنّ معصية آدم عليه‌السلام صغيرة لا يستحقّ بها العقاب من مثل هذا التأويل ، وكيف يجوز أن يعاقب الله تعالى نبيّه بالاخراج من الجنة أو غيره من العقاب ، والعقاب لا بدّ من أن يكون مقرونا بالاستخفاف والاهانة؟ وكيف يكون من تعبّدنا الله فيه بنهاية التعظيم والتبجيل مستحّقا منا ومنه تعالى الاستخفاف والاهانة؟ وأيّ نفس تسكن إلى مستخفّ بقدره مهان موبّخ مبكت؟ وما يجيز مثل ذلك على الأنبياء عليه‌السلام إلّا من لا يعرف حقوقهم ولا يعلم ما تقضيه منازلهم (١).

ـ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦)) [طه : ١٢٤ ـ ١٢٦]

أنظر الإسراء : ٧٢ من الأمالي ، ١ : ١٠٨.

ـ (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) [طه : ١٢٩].

[ان سأل سائل فقال : ما معنى هذه الآية].

الجواب : معنى هذه الآية أنّه لو لا ما أخبر الله تعالى به وخبّر به من الآجال التي تبقي عباده إليها ، لكان الهلاك الذي قد تقدّم ذكره ، وأنّ الله تعالى أوقعه بالأمم السالفة.

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٢٤.

٩٩

يشهد لذلك قوله تعالى قبل هذه الآية : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) (١).

ويكون تقدير الأية : لو لا الاجال المضروبة للتبقية واستمرار التكلّف لكان الهلاك مستقرّا لازما (٢).

__________________

(١) سورة طه ، الآية : ١٢٨.

(٢) الرسائل ، ٣ : ١٢٨.

١٠٠