تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

وقد يكون هذا الاستثناء غير معتدّ به في كونه كاذبا أو صادقا ؛ لأنّه في الحكم كأنّه قال : لأفعلنّ كذا إذ وصلت إلى مرادي مع انقطاعي إلى الله تعالى وإظهاري الحاجة إليه ؛ وهذا الوجه أيضا ممّا يمكن في تأويل الآية.

ومن تأمّل جملة ما ذكرناه من الكلام عرف منه الجواب عن المسألة التي لا يزال يسأل عنها المخالفون من قولهم : لو كان الله تعالى إنّما يريد العبادات من الأفعال دون المعاصي لوجب إذا قال من لغيره عليه دين طالبه به : «والله لأعطينّك حقّك غدا إن شاء الله» أن يكون كاذبا أو حانثا إذا لم يفعل ؛ لأنّ الله تعالى قد شاء ذلك منه عندكم ، وإن كان لم يقع فكان يجب أن تلزمه الكفّارة ؛ وأن لا يؤثر هذا الاستثناء في يمينه ، ولا يخرجه عن كونه حانثا ؛ كما أنّه لو قال : والله لأعطينّك حقّك غدا إن قدم زيد فقدم ولم يعطه يكون حانثا ؛ وفى إلزام هذا الحنث خروج عن إجماع المسلمين ، فصار ما أوردناه جامعا لبيان تأويل الآية ، وللجواب عن هذه المسألة ونظائرها من المسائل ، والحمد لله وحده (١).

ـ (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف : ٢٩].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ...) [الكهف : ٣٣].

أنظر ص : ٢١ ، ٢٤ من التنزيه : ١٢٦.

ـ (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) [الكهف : ٣٧].

أنظر التوبة : ٤٠ من الشافي ، ٤ : ٢٥.

ـ (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ...) [الكهف : ٥٣].

أنظر ص : ٢١ ، ٢٤ من التنزيه : ١٢٦.

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ١٠٤.

٦١

ـ (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ...) [الكهف : ٦٣]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠)) [الكهف : ٦٥ ـ ٧٠] إلى آخر الآيات المتضمّنة لهذه القصّة.

[فإن قيل : فما وجه قوله تعالى فيما حكاه عن موسى عليه‌السلام والعالم الّذي كان صحبه وقيل : إنّه الخضر عليه‌السلام] وأوّل ما تسألون عنه في هذه الآيات أن يقال لكم : كيف يجوز أن يتّبع موسى عليه‌السلام غيره ويتعلّم منه ، وعندكم أنّ النبي عليه‌السلام لا يجوز أن يفتقر إلى غيره؟ وكيف يجوز أن يقول له : انك لن تستطيع معي صبرا ، والاستطاعة عندكم هي القدرة وقد كان موسى عليه‌السلام على مذهبكم قادرا على الصبر؟ وكيف قال موسى : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) ، فاستثنى المشيئة في الصبر وأطلق فيما ضمنه من طاعته واجتناب معصيته؟ وكيف قال : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) (١) و (شَيْئاً نُكْراً) (٢) وما أتى العالم منكرا في الحقيقة؟ وما معنى قوله : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) (٣) وعندكم أنّ النسيان لا يجوز على الأنبياء عليهم‌السلام؟ ولم نعت موسى عليه‌السلام النفس بأنّها زكيّة ولم تكن كذلك على الحقيقة؟ ولم قال في الغلام : (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) (٤) فإن كان الّذي خشيه الله تعالى على ما ظنّه قوم ، فالخشيّة لا يجوز عليه تعالى؟ وإن كان هو الخضر عليه‌السلام فكيف يستبيح دم الغلام لأجل الخشيّة والخشيّة لا تقتضي علما ولا يقينا؟.

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٧١.

(٢) سورة الكهف ، الآية : ٧٤.

(٣) سورة الكهف ، الآية : ٧٣.

(٤) سورة الكهف ، الآية : ٨٠.

٦٢

الجواب : قلنا : إنّ العالم الّذي نعته الله تعالى في هذه الآيات فلا يجوز إلّا أن يكون نبيّا فاضلا ، وقد قيل : إنّه الخضر عليه‌السلام ، وأنكر أبو علي الجبّائيّ ذلك وزعم أنّه ليس بصحيح قال : لأنّ الخضر عليه‌السلام يقال : إنه كان نبيّا من أنبياء بني إسرائيل الذين بعثوا من بعد موسى عليه‌السلام. وليس يمتنع أن يكون الله تعالى قد أعلم هذا العالم ما لم يعلمه موسى عليه‌السلام ، وأرشد موسى عليه‌السلام إليه ليتعلّم منه ، وإنّما المنكر أن يحتاج النبيّ عليه‌السلام في العلم إلى بعض رعيته المبعوث إليهم ، فأمّا أن يفتقر إلى غيره ممّن ليس له برعية فجائز ، وما تعلّمه من هذا العالم إلّا كتعلّمه من الملك الّذي يهبط عليه بالوحي ، وليس في هذا دلالة على أنّ ذلك العالم كان أفضل من موسى في العلم ؛ لأنّه لا يمتنع أن يزيد موسى عليه‌السلام في سائر العلوم الّتي هي أفضل وأشرف ممّا علّمه ، فقد يعلم أحدنا شيئا من سائر المعلومات وإن كان ذلك المعلوم يذهب إلى غيره ممّن هو أفضل منه وأعلم.

وأمّا نفي الاستطاعة فإنّما أراد بها أن الصبر لا يخفّ عليك انّه يثقل على طبيعتك ، كما يقول أحدنا لغيره : «إنّك لا تستطيع أن تنظر إلي» ، وكما يقال للمريض الّذي يجهده الصوم وإن كان قادرا عليه : إنّك لا تستطيع الصيام ولا تطيقه ، وربّما عبّر بالاستطاعة عن الفعل نفسه ، كما قال الله تعالى حكاية عن الحواريين : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) (١) فكأنّه على هذا الوجه قال : «إنّك لن تصبر ولن يقع منك الصبر». ولو كان إنّما نفى القدرة على ما ظنّه الجهّال ، لكان العالم وهو في ذلك سواء ، فلا معنى لاختصاصه بنفي الاستطاعة ، والّذي يدلّ على أنّه نفى عنه الصبر لاستطاعته قول موسى عليه‌السلام في جوابه : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) ولم يقل : ستجدني إن شاء الله مستطيعا. ومن حقّ الجواب أن يطابق الإبتداء ، فدلّ جوابه على أنّ الاستطاعة في الابتداء هي عبارة عن الفعل نفسه.

وأمّا قوله : (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) فهو أيضا مشروط بالمشيئة ، وليس بمطلق

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ١١٢.

٦٣

على ما ذكر في السؤال ، فكأنّه قال ستجدني صابرا ولا أعصي لك أمرا إن شاء الله. وإنّما قدّم الشرط على الأمرين جميعا وهذا ظاهر في الكلام.

وأمّا قوله : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) فقد قيل : إنّه أراد شيئا عجبا ، وقيل : إنّه أراد شيئا منكرا ، وقيل : إنّ الأمر أيضا هو الداهية. فكأنّه قال : جئت داهية.

وقد ذهب بعض أهل اللغة إلى أنّ الإمر مشتقّ من الكثرة من أمر القوم إذا كثروا ، وجعل عبارة عمّا كثر عجبه ، وإذا حملت هذه اللفظة على العجب فلا سؤال فيها ، وإن حملت على المنكر كان الجواب عنها وعن قوله : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) واحدا.

وفي ذلك وجوه :

منها : انّ ظاهر ما أتيته المنكر ومن يشاهده ينكره قبل أن يعرف علّته.

ومنها : أن يكون حذف الشرط فكأنّه قال : إن كنت قتلته ظالما فقد جئت شيئا نكرا.

ومنها : أنّه أراد أنّك أتيت أمرا بديعا غريبا ؛ فإنّهم يقولون فيما يستغربونه ويجهلون علته : إنّه نكر ومنكر ، وليس يمكن إن يدفع خروج الكلام مخرج الاستفهام والتقرير دون القطع. ألا ترى إلى قوله : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) (١) وإلى قوله : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) (٢). ومعلوم أنّه إن كان قصد بخرق السفينة إلى التغريق ، فقد أتى منكرا. وكذلك إن كان قتل النفس على سبيل الظلم.

وأمّا قوله : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) (٣) فقد ذكر فيه وجوه ثلاثة :

أحدها : أنّه أراد النسيان المعروف ، وليس ذلك بعجب مع قصر المدّة ، فإنّ الإنسان قد ينسى ما قرب زمانه لما يعرض له من شغل القلب وغير ذلك.

والوجه الثاني : انّه أراد لا تأخذني بما تركت. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) (٤) أي ترك ، وقد روي هذا الوجه عن

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٧١.

(٢) سورة الكهف ، الآية : ٧٤.

(٣) سورة الكهف ، الآية : ٧٣.

(٤) سورة طه ، الآية : ١١٥.

٦٤

ابن عبّاس ، عن أبيّ بن كعب ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قال موسى : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) يقول : بما تركت من عهدك.

والوجه الثالث : انّه أراد لا تؤاخذني بما فعلته مما يشبه النسيان فسمّاه نسيانا للمشابهة ، كما قال المؤذّن لأخوة يوسف عليه‌السلام : إنّكم لسارقون ، أي إنّكم تشبهون السرّاق ، وكما يتأوّل الخبر الّذي يرويه أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «كذب إبراهيم عليه‌السلام ثلاث كذبات في قوله : سارة اختي ، وفي قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) ، والمراد بذلك ـ إن كان هذا الخبر صحيحا ـ أنّه فعل ما ظاهره الكذب. واذا حملنا هذه اللفظة على غير النسيان الحقيقي فلا سؤال فيها. وإذا حملناها على النسيان في الحقيقة كان الوجه فيه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤدّيه عن الله تعالى أو في شرعه أو في أمر يقتضي التنفير عنه فأمّا فيما هو خارج عمّا ذكرناه فلا مانع من النسيان ، ألا ترى أنّه إذا نسي أو سهى في مأكله أو مشربه على وجه لا يستمرّ ولا يتّصل ، ينسب إلى أنّه مغفل ، فإنّ ذلك غير ممتنع. وأمّا وصف النفس بأنّها زكية فقد قلنا : إنّ ذاك خرج مخرج الاستفهام لا على سبيل الإخبار. وإذا كان استفهاما فلا سؤال على هذا الموضع. وقد اختلف المفسّرون في هذه النفس ، فقال أكثرهم : إنّه كان صبيّا لم يبلغ الحلم ، وأنّ الخضر وموسى عليهما‌السلام مرّا بغلمان يلعبون ، فأخذ الخضر عليه‌السلام منهم غلاما فأضجعه وذبحه بالسكين. ومن ذهب إلى هذا الوجه يجب أن يحمل قوله زكية على أنّه من الزكاة الذي هو الزيادة والنماء ؛ لأنّ الطهارة في الدين من قولهم : زكت الأرض تزكو : إذا زاد ريعها.

وذهب قوم إلى أنه كان رجلا بالغا كافرا ولم يكن يعلم موسى عليه‌السلام باستحقاقه القتل ، فاستفهم عن حاله. ومن أجاب بهذا الجواب إذا سئل عن قوله تعالى : (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) (١) يقول لا يمتنع تسمية الرجل بأنه غلام على مذهب العرب وإن كان بالغا.

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٧٤.

٦٥

فأمّا قوله : (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) فالظاهر يشهد أنّ الخشية من العالم لا منه تعالى. والخشية ههنا قيل : العلم ، كما قال الله تعالى : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) (١) وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) (٢) وقوله عزوجل : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) (٣) وكل ذلك بمعنى العلم.

وعلى هذا الوجه كأنّه يقول : إنّني علمت بإعلام الله تعالى لي أنّ هذا الغلام متى بقي كفر أبواه ، ومتى قتل بقيا على إيمانهما ، فصارت تبقيته مفسدة ووجب اخترامه ، ولا فرق بين أن يميته الله تعالى وبين أن يأمر بقتله.

وقد قيل : إنّ الخشية هاهنا بمعنى الخوف الّذي لا يكون معه يقين ولا قطع. وهذا يطابق جواب من قال : إنّ الغلام كان كافرا مستحقّا للقتل بكفره ، وانضاف إلى استحقاقه ذلك بالكفر خشية إدخال أبويه في الكفر وتزيينه لهما.

قال قوم : إنّ الخشية ههنا هي الكراهية ، يقول القائل : فرّقت بين الرجلين خشية أن يقتتلا ، أي كراهة لذلك ، وعلى هذا التأويل والوجه الّذي قلنا : انّه بمعنى العلم ، لا يمتنع أن تضاف الخشية إلى الله تعالى.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) (٤) والسفينة البحرية تساوي المال الجزيل ، وكيف يسمّى مالكها بأنّه مسكين والمسكين عند قوم شرّ من الفقير؟ وكيف قال : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٥) ومن كان وراءهم قد سلموا من شرّه ونجوا من مكروهة وإنّما الحذر ممّا يستقبل. قلنا : أما قوله : (لِمَساكِينَ) ففيه أوجه :

منها : أنّه لم يعن بوصفهم بالمسكنة ، الفقر ، وإنّما أراد عدم الناصر وانقطاع الحيلة ، كما يقال لمن له عدوّ يظلمه ويهضمه : إنّه مسكين ومستضعف وإن كان كثير المال واسع الحال ؛ ويجري هذا مجرى ما روي عنه عليه‌السلام من قوله :

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٢٨.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٩.

(٣) سورة التوبة ، الآية : ٢٨.

(٤) سورة الكهف ، الآية : ٧٩.

(٥) سورة الكهف ، الآية : ٧٩.

٦٦

«مسكين مسكين رجل لا زوجة له» وإنّما أراد وصفه بالعجز وقلّة الحيلة ، وإن كان ذا مال واسع.

ووجه آخر : وهو أنّ السفينة الواحدة البحرية الّتي لا يتعيش إلّا بها ولا يقدر على التكسّب إلّا من جهتها كالدار الّتي يسكنها الفقير هو وعياله ولا يجد سواها ، فهو مضطرّ إليها ومنقطع الحيلة إلّا منها ، فإذا انضاف إلى ذلك أن يشاركه جماعة في السفينة حتّى يكون له منها الجزء اليسير ، كان أسوأ حالا وأظهر فقرا.

ووجه آخر : أنّ لفظة المساكين قد قرئت بتشديد السين وفتح النون ، فإذا صحّت هذه الرواية فالمراد بها البخلاء. وقد سقط السؤال.

فأما قوله تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) فهذه اللفظة يعبّر بها عن الأمام والخلف معا ، فهي هاهنا بمعنى الامام. ويشهد بذلك قوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) يعني من قدّامه وبين يديه. وقال الشاعر :

ليس على طول الحياة ندم

ومن وراء المرء ما لا يعلم

وقال الآخر :

أليس ورائي إن تراخت منيتّي

لزوم العصى تحنى عليها الأصابع

ولا شبهة في أنّ المراد بجميع ذلك : القدّام.

وقال بعض أهل العربية إنّما صلح أن يعبّر بالوراء عن الأمام إذا كان الشيء المخبر عنه بالوراء يعلم أنّه لا بدّ من بلوغه ثمّ يسبقه ويخلفه ، فتقول العرب : «البرد وراءك» وهو يعني قدّامك ؛ لأنّه قد علم أنّه لا بدّ من أن يبلغ البرد ثمّ يسبق.

ووجه آخر : وهو أنّه يجوز أن يريد أنّ ملكا ظالما كان خلفهم ، وفي طريقهم عند رجوعهم على وجه لا انفكاك لهم منه ، ولا طريق لهم إلّا المرور به ، فخرق السفينة حتّى لا يأخذها إذا عادوا عليه ؛ ويمكن أن يكون وراءهم على وجه الاتباع والطلب والله أعلم بمراده (١).

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١١٨.

٦٧

ـ (قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) [الكهف : ٧٣].

تقدّم تفسيرها في الآية السابقة.

ـ (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) [الكهف : ٧٤].

إن سأل سائل فقال : ألستم تزعمون أنّ ما كان في عقولنا حسنا فهو عند الله حسن؟ وما كان قبيحا فهو عند الله تعالى كذلك؟ ولا يجوز أن يكون حسن شيء هو عنده يفيده ولا قبح أمر هو عنده بخلافه.

قلنا : الأمر كذلك.

فان قال : أليس الله تعالى قد قال : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) (١) وقال : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٢) وقد أمر أن يقتل غلام زكي لم يجب عليه أن يقتل ، وقصته في سورة الكهف (٣) ، وذلك الفعل في الظاهر كان عند موسى فظيعا قبيحا وعند الله حسنا.

فيقال له : لمّا تضمّن قتل هذه النفس أمرين حسنتين ومصلحتين عظيمتين ، تناسب كلّ واحد من أبوي الغلام على الإيمان ، وبعدهما من الكفر والطغيان حسن قتله.

فيقول هذا السائل : وإن كان الأمر كذلك ، فليس ذلك بمدخل للغلام في وجوب قتله ، ولا كفر أبويه يلزمه ذنبا ، وقد قال الله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٤) وقال : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) (٥).

ألا ترون هذا الغلام إذا قال يوم القيامة : بأيّ ذنب قتلت ، لم يكن ذلك ذنبا قد اكتسبه ، وقد كان الله قادرا على إماتة هذا الغلام ، ليكون الغلام بما قضى عليه من منيته داخلا فيما حتمه من الموت على دينه ، ويصير الموت لنفسه

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٥١.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٤٥.

(٣) سورة الكهف ، الآية : ٧٤.

(٤) سورة فاطر ، الآية : ١٨.

(٥) سورة الروم ، الآية : ٤٤.

٦٨

مرهقا ، ولا يكون بقاؤه بالكفر لأبويه مرهقا ، وليس له بالإماتة أن يقول يوم القيامة : ربّ لم أمتني ، وله أن يقول : إنّي لم قتلت ولا ذنب لي.

ويجيء من هذا أنّ للسلطان إذا علم أنّ في قتل من لم يجب قتله مصلحة ، لا بل مصالح كثيرة ، أن يقتله ، وإذا علم أيضا أن مع الإنسان ما لا يرهقه الطغيان والاستعلاء على ما هو دونه ، والاستذلال للناس أن يأخذ ماله ، لما في ذلك من المصلحة ، وليس الأمر كذلك.

فدلّ هذا على أنّ الله تعالى فاعل ما يشاء وأراد ، وليس لأحد أن يقول : لم لا؟ وكيف؟ ، ولا يعارض ولا يعجب ، قال الله تعالى : (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) (١) وقال : (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) (٢) وقال : (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها) (٣) فعطف القتل على لقاء الغلام بالفاء ، ولم يدخل في خرق السفينة على الركوب حرف عطف ، ولا في الاستطعام على إتيان أهل القرية عطفا ، لأيّ معنى دخلت الفاء في موضع دون موضع؟ فلا بدّ لذلك في معنى يخصّه.

الجواب : إنّ العلم بحسن الحسن وقبح القبيح لا يختلف بالإضافة إلى العالمين ، ولا فرق في هذا العلم بين القديم تعالى والمحدث.

فأمّا موسى عليه‌السلام فإنّما استقبح على البديهة قتل الغلام ؛ لأنّه لم يعرف الوجه الذي هو عليه حسن قتله وقبح تبقيته ، ولو علم ذلك لعلم حسن القتل وقبح التبقية. وإنّما وجب قتل الغلام ؛ لأنّ في تبقيته على ما ذكر الله تعالى في القرآن مفسدة من حيث علم الله تعالى أنّه يدعو أبويه إلى الكفر فيجيبان له ، والمفسدة وجه قبيح ، وليس كلّ وجوه وجوب القتل للاستحقاق بجناية تقدّمت ، بل المفسدة وجه من وجوه القبح. وإذا علم الله تعالى أنّ في التبقية مفسدة وجب القتل.

فأمّا ما مضى في السؤال من أنّه تعالى كان قادرا على إزالة الحياة بالموت من غير ألم ، فتزول التبقية التي هي المفسدة من غير إدخال إيلام عليه بالقتل.

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٧١.

(٢) سورة الكهف ، الآية : ٧٤.

(٣) سورة الكهف ، الآية : ٧٧.

٦٩

فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن يكون الله تعالى علم أن أبويه لا يثبتان على الإيمان ويعدلان عن الكفر ، إلّا بأن يقتل هذا الغلام ، فيكون هذا وجه وجوب القتل خاصّة دون غيره.

والوجه الاخر : أنّ التبقية إذا كانت هي المفسدة ، والله تعالى مخيّر في إزالتها باتضاد (١) الحياة بالموت من غير المراد بالقتل أيضا ؛ لأنّ القتل وإن كان فيه ألم يلحق المقتول ، فبأزاء ذلك الألم أعواض عظيمة يوازي الإنتفاع بها المضرة بالقتل ، ويزيد عليه أضعاف مضاعفة ، فيصير القتل بالأعواض المستحقّة عليه كأنّه ليس بألم ، بل هو نفع واحسان ، ويجري ذلك مجرى من علم الله تعالى أنّه يؤمن إن فعل به ألما ، كما يؤمن إذا فعل به ما ليس بألم.

فالمذهب الصحيح أنّه تعالى مخيّر في استصلاح هذا المكلّف ، وفعل ما هو لطف له في الإيمان ، بين فعل الآلام وفعل ما ليس بألم ، وإن كان قد ذهب قوم إلى أنّه تعالى ـ والحال هذه ـ لا يفعل به إلّا ما ليس بألم ، وأخطأوا.

وقد بيّنا الكلام في هذه المسألة واستقصيناه في مواضع من كتبنا.

فأمّا إلزامنا أن يكون السلطان متى علم أنّ في قتل بعض الناس مصلحة أن يقتله ، وكذلك في أخذ المال فغير لازم ؛ لأنّ أحدا منّا لا يجوز أن يعلم قطعا المصلحة والمفسدة وانّما يظنّ ذلك والله تعالى يعلمه. ثم إنّ الله تعالى إذا قتل من ذكرنا حاله أو يأمر بقتله ، لضمن إيصاله إلى الاعواض الزائدة النفع على ما دخل عليه من ضرر القتل ؛ لأنّه عالم بذلك وقادر على إيصاله. وأحدنا لا يعلم ذلك ولا يقدر أيضا على إيصاله ، فصادفت حالنا في هذه المسألة حال القديم تعالى.

وأمّا دخول الفاء في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) (٢) وسقوطها من

__________________

(١) كذا في المطبوعة.

(٢) سورة الكهف ، الآية : ٧٤.

٧٠

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) (١) ومن قوله : (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها) (٢) فقد قيل : إنّ الوجه فيه أنّ اللقاء لما كان سببا للقتل أدخلت الفاء إشعارا بذلك ، ولمّا لم يكن في السفينة الركوب سببا للخرق ولا إتيان القرية سببا للاستطعام لم يدخل الفاء ، وهذا وجه صحيح (٣).

ـ (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) [الكهف : ٧٧]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩].

أنظر الكهف : ٥٦ ، ٧٠ من التنزيه : ١١٨.

ـ (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف : ٩٦]

أنظر المائدة : ٦ ، الأمر الثاني من الرسائل ، ٣ : ١٦١.

ـ (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ...) [الكهف : ٩٨].

أنظر هود : ١١٨ ، ١١٩ من الأمالي ، ١ : ٩٤.

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٧١.

(٢) سورة الكهف ، الآية : ٧٧.

(٣) الرسائل ، ٣ : ١٧٧.

٧١

سورة مريم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)) [مريم : ٥ ـ ٦].

[قال السيّد :] فخبر أنه خاف من بني عمّه ؛ لأنّ الموالي هاهنا هم بنو العم بلا شبهة ، وإنّما خافهم أن يرثوا ماله فينفقوه في الفساد ؛ لأنّه كان يعرف ذلك من خلائقهم وطرائقهم ، فسأل ربّه ولدا يكون أحقّ بميراثه منهم ، والذي يدلّ على أن المراد بالميراث المذكور في الآية ميراث المال دون العلم والنبوّة ـ على ما يقولون ـ إن لفظة الميراث في اللغة والشريعة جميعا لا يعهد إطلاقها إلّا على ما يحق وأن ينتقل على الحقيقة من المورث إلى الوارث كالأموال وما في معناها ، ولا يستعمل في غير المال إلّا تجوازا واتساعا ، ولهذا لا يفهم من قول القائل : لا وارث لفلان إلّا فلان ، وفلان يرث مع فلان بالظاهر ، والإطلاق إلّا ميراث الأموال والأعراض دون العلوم وغيرها ، وليس لنا أن نعدل عن ظاهر الكلام وحقيقته إلى مجازه بغير دلالة ، وأيضا فإنه تعالى خبر عن نبيّه صلوات الله عليه أنه اشترط في وارثه أن يكون رضيّا ، ومتى لم يحمل الميراث في الآية على المال دون العلم والنبوّة لم يكن للاشتراط معنى ، وكان لغوا عبثا ؛ لأنّه إذا كان إنّما سأل من يقوم مقامه ويرث مكانه فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في جملة كلامه وسؤاله ، فلا معنى لاشتراطه ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول : «اللهمّ ابعث إلينا نبيّا واجعله عاقلا ومكلّفا» فإذا ثبتت هذه الجملة صحّ أن زكريا موروث ماله ، وصحّ أيضا بصحّتها أن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممن يورث المال ؛ لأن الإجماع واقع على أن حال نبيّنا عليه‌السلام لا يخالف حال الأنبياء المتقدّمين في ميراث المال ، فمن مثبت للأمرين وناف للأمرين.

٧٢

وممّا يقوي ما قدّمناه أنّ زكريّا خاف بني عمّه فطلب وارثا لأجل خوفه ، ولا يليق خوفه منهم إلّا بالمال دون النبوّة والعلم ؛ لأنّه عليه‌السلام كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيّا من ليس بأهل للنبوّة وأن يورث علمه وحكمه من ليس أهلا لها ، ولأنه إنّما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته.

فإن قيل : فهذا يرجع عليكم في الخوف من وراثة المال ؛ لأن ذلك غاية الضنّ والبخل.

قلنا : معاذ الله أن يستوي الحال ؛ لأن المال قد يصحّ أن يرزقه الله تعالى المؤمن والكافر ، والعدوّ والولي ، ولا يصحّ ذلك في النبوّة وعلومها. وليس من الضنّ أن يأسى على بني عمه ـ وهم من أهل الفساد ـ أن يظفروا بماله فينفقوه على المعاصي ، ويصرفوه في غير وجوهه المحبوبة ، بل ذلك هو غاية الحكمة وحسن التدبير في الدين ؛ لأن الدين يحظر تقوية الفساق وإمدادهم بما يعينهم على طرائقهم المذمومة ، وما يعد ذلك شحّا ولا بخلا إلّا من لا تأمل له.

فإن قيل : فألاجاز أن يكون خاف من بني عمّه أن يرثوا علمه وهم من أهل الفساد على ما ادّعيتم ، فيستفسدوا به الناس ويموهونه عليهم؟.

قلنا : لا يخلو هذا العلم الذي أشرتم إليه من أن يكون هو كتب علمه وصحف حكمته ؛ لأن ذلك قد يسمّى علما على طريق المجاز ، أو أن يكون هو العلم الذي يحل القلوب ، فإن كان الأول : فهو يرجع إلى معنى المال ويصحّح أن الأنبياء عليهم‌السلام يورثون أموالهم وما في معناها ، وإن كان الثاني : لم يخل هذا العلم من أن يكون هو العلم الذي بعث النبيّ صلوات الله عليه بنشره وأدائه ، أو أن يكون علما مخصوصا لا يتعلّق بالشريعة ، ولا يجب اطلاع جميع الأمة عليه ، كعلم العواقب وما يجري في المستقبل من الأوقات وما جرى مجرى ذلك ، والقسم الأول لا يجوز على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاف من وصوله إلى بني عمّه وهم من جملة أمّته الذين بعث إلى أن يطلعهم على ذلك ويؤديه إليهم ، وكأنّه على هذا

٧٣

الوجه يخاف ممّا هو الغرض في بعثته. والقسم الثاني فاسد أيضا ؛ لأن هذا العلم المخصوص إنّما يستفاد من جهته ويوقف عليه باطلاعه وإعلامه ، وليس هو ممّا يجب نشره في جميع الناس ، فقد كان يجب إذا خاف من إلقائه إلى بعض الناس فسادا أن لا يلقيه إليه ؛ فإن ذلك في يده ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك ، وممّا يدلّ على أن الأنبياء عليهم‌السلام يورثون قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (١) والظاهر من إطلاق لفظ الميراث يقتضي الأموال وما في معناها على ما دلّلنا عليه من قبل ، ويدل أيضا على ذلك قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (٢) الآية وقد أجمعت الأمّة على عموم هذه اللفظة إلّا من أخرجه الدليل ، فيجب أن يتمسّك بعمومها لمكان هذه الدلالة ، ولا يخرج عن حكمها إلّا من أخرجه دليل قاطع (٣).

ـ (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) [مريم : ٢٣].

ومعلوم أن ذلك لم يكن منها على سبيل التوبة من قبيح ، وأنها خافت الضرر العاجل بالتهمة (٤).

ـ (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩)) [مريم : ٢٨ ـ ٢٩].

[إن سأل سائل] فقال : من هارون الذي نسبت مريم إلى أنّها أخته؟ ومعلوم أنّها لم تكن أختا لهارون أخي موسى. وما معنى (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) ، ولفظة «كان» تدلّ على ما مضى وعيسى عليه‌السلام في حال قولهم ذلك كان في المهد؟.

الجواب : قلنا : هارون الذي نسبت إليه مريم قد قيل فيه أقوال :

منها : أن هارون المذكور كان رجلا فاسقا مشهورا بالعهر والشرّ وفساد

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ١٦.

(٢) سورة النساء ، الآية : ١١.

(٣) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٤ : ٦٣.

(٤) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٤ : ٣٦٠.

٧٤

الطريقة ، فلما أنكروا ما جاءت به من الولد ، وظنّوا بها ما هي مبرأة منه نسبوها إلى هذا الرجل تشبيها وتمثيلا ؛ وكان تقدير الكلام : يا شبيهة هارون في فسقه وقبح فعله ؛ وهذا القول يروى عن سعيد بن جبير.

ومنها : أن هارون هذا كان أخاها لأبيها دون أمّها ؛ وقيل : إنّه كان أخاها لأبيها وأمها ، وكان رجلا معروفا بالصلاح وحسن الطريقة والعبادة والتألّه.

وقيل : إنّه لم يكن أخاها على الحقيقة ؛ بل كان رجلا صالحا من قومها ، وإنّه لما مات شيّع جنازته أربعون ألفا ، كلّهم يسمّى هارون ، من بني إسرائيل ، فلمّا أنكروا ما ظهر من أمرها قالوا لها : (يا أُخْتَ هارُونَ) ؛ أي يا شبيهته في الصلاح ، ما كان هذا معروفا منك ، ولا كان والدك ممّن يفعل القبيح ، ولا تتطرّق عليه الرّيب!.

وعلى قول من قال إنّه كان أخاها يكون معنى قولهم : إنّك من أهل بيت الصلاح والسداد ؛ لأنّ أباك لم يكن امرأ سوء ، ولا كانت أمك بغيّا ، وأنت مع ذلك أخت هارون المعروف بالصلاح والعفة ، فكيف أتيت بما لا يشبه نسبك ، ولا يعرف من مثلك!.

ويقوّي هذا القول ما رواه المغيرة بن شعبة قال : لمّا أرسلني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أهل نجران قال لي أهلها : أليس نبيّكم يزعم أن هارون أخو موسى ، وقد علم الله تعالى ما كان بين موسى وعيسى من السنين! فلم أدر ما أردّ عليهم حتى رجعت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرت ذلك فقال لي : «فهلّا قلت إنّهم كانوا يدعون بأنبيائهم والصالحين قبلهم»!.

ومنها : أن يكون معنى قوله : (يا أُخْتَ هارُونَ) يا من هي من نسل هارون أخي موسى ؛ كما يقال للرجل : يا أخا بني تميم ، ويا أخا بني فلان.

وذكر مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (يا أُخْتَ هارُونَ) [قال : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «هارون الذي ذكروه هو هارون أخو موسى عليهما‌السلام».

قال مقاتل : تأويل] (يا أُخْتَ هارُونَ) يا من هي من نسل هارون كما قال

٧٥

تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) (١) ، (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) (٢) يعني بأخيهم أنّه من نسلهم وجنسهم.

وكلّ قول من هذه الأقوال قد اختاره قوم من المفسّرين.

فأمّا قوله تعالى : (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) فهو كلام مبنيّ على الشرط والجزاء ، مقصود به إليهما ؛ والمعنى : من يكن في المهد صبيا ، فكيف نكلّمه! ووضع في ظاهر اللفظ الماضي موضع المستقبل ، لأن الشارط لا يشرط إلّا فيما يستقبل ، فيقول القائل : إن زرتني زرتك ؛ يريد إن تزرني أزرك ؛ قال الله تعالى : (إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) (٣) يعني إن يشأ يجعل.

وقال قطرب : معنى «كان» هاهنا معنى صار ؛ فكأنّ المعنى : وكيف نكلّم من صار في المهد صبيا ، ويشهد بذلك قول زهير :

أجزت إليه حرّة أرحبيّة

وقد كان لون اللّيل مثل الأرندج (٤)

وقال غيره : «كان» هاهنا بمعنى خلق ووجد ؛ كما قالت العرب : كان الحرّ ، وكان البرد ؛ أي وجدا وحدثا.

وقال قوم : لفظة «كان» وإن أريد بها الماضي فقد يراد بها الحال والاستقبال ؛ كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (٥) ، أي أنتم كذلك ، وكذلك قوله تعالى : (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (٦) وقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٧) ؛ وإن كان قد قيل في هذه الآية الأخيرة غير هذا ؛ قيل : إنّ

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٦٥.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٧٣.

(٣) سورة الفرقان ، الآية : ١٠.

(٤) ديوانه : ٣٣٣ ؛ والرواية فيه :

زجرت عليه حرّة أرحبيّة

وقد كان لون الليل مثل اليرندج

ـ الضمير يعود إلى الطريق في البيت قبله ، والحرة : الكريمة ، والأرحبية : منسوب إلى أرحب ؛ وهو بطن من همدان تنسب إليه النجائب ؛ لأنها من نسله. والأرندج واليرندج : السواد ، يسود به الخفّ.

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١١٠.

(٦) سورة الإسراء ، الآية : ٩٣.

(٧) سورة النساء ، الآية : ١٧.

٧٦

القوم شاهدوا من آثار علمه وحكمته تعالى ما شاهدوا ، فأخبرهم تعالى أنّه لم يزل عليما حكيما ، أي فلا تظنّوا أنّه استفاد علما وحكمة لم يكن عليهما.

وممّا يقوي مذهب من وضع لفظة الماضي في موضع الحال والاستقبال قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) (١) وقوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) (٢) ؛ وقولهم في الدعاء : غفر الله لك ، وأطال بقاك! وما جرى مجرى ذلك.

ومعنى الكلّ يفعل الله ذلك بك ؛ إلّا أنّه لمّا أمن اللبس وضع لفظ الماضي في موضع المستقبل ، قال الشاعر :

فأدركت من قد كان قبلي ولم أدع

لمن كان بعدي في القصائد مصعدا

أراد لمن يكون بعدي.

وممّا جعلوا فيه المستقبل في موضع الماضي قول الصّلتان العبديّ يرثي المغيرة بن المهلّب :

قل للقوافل والغزاة إذا غزوا

والباكرين وللمجدّ الرّائح

إنّ الشّجاعة والسّماحة ضمّنا

قبرا بمرو على الطّريق الواضح

فإذا مررت بقبره فأعقر به

كوم الجلاد وكلّ طرف سابح

وانضح جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون أخا دم وذبائح

معناه : فلقد كان كذلك (٣).

ـ (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [مريم : ٣٨].

[إن سأل سائل] فقال : ما تأويل هذه الآية؟ فإن كان المراد بها التعجّب من قوّة أسماعهم ونفاذ أبصارهم ؛ فكيف يطابق ما خبّر به عنهم في مواضع كثيرة من الكتاب بأنّهم لا يبصرون ولا يسمعون وأنّ على أسماعهم وأبصارهم غشاوة؟

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ١١٠.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٤٤.

(٣) الأمالي ، ٢ : ١٧٠.

٧٧

وما معنى قوله تعالى : (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)؟ أيّ يوم هو اليوم المشار إليه؟ وما المراد بالضلال المذكور؟.

الجواب : قلنا : أمّا قوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) ؛ فهو على مذهب العرب في التعجّب ؛ ويجري مجرى قولهم : ما أسمعه! وما أبصره! والمراد بذلك الإخبار عن قوّة علومهم بالله تعالى في تلك الحال ؛ وأنّهم عارفون به على وجه الاعتراض للشبهة عليه ؛ وهذا يدلّ على أنّ أهل الآخرة عارفون بالله تعالى ضرورة ؛ ولا تنافي بين هذه الآية وبين الآيات التي أخبر تعالى عنهم فيها بأنّهم لا يسمعون ولا يبصرون ؛ وبأنّ على أبصارهم غشاوة ؛ لأنّ تلك الآيات تناولت أحوال التكليف ، وهي الأحوال التي كان الكفّار فيها ضلّالا عن الدين ، جاهلين بالله تعالى وصفاته. وهذه الآية تتناول يوم القيامة ؛ وهو المعنى بقوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتُونَنا) ؛ وأحوال القيامة لا بدّ فيها من المعرفة الضرورية. وتجري هذه الآية مجرى قوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (١).

فأمّا قوله تعالى : (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فيحتمل أن يريد تعالى بقوله : (الْيَوْمَ) الدّنيا وأحوال التكليف ؛ ويكون الضلال المذكور إنّما هو الذّهاب عن الدين والعدول عن الحقّ ، فأراد تعالى أنّهم في الدنيا جاهلون ، وفي الآخرة عارفون ؛ بحيث لا تنفعهم المعرفة. ويحتمل أن يريد تعالى باليوم يوم القيامة ؛ ويعنى تعالى «بالضلال» العدول عن طريق الجنّة ودار الثواب إلى دار العقاب ؛ فكأنّه قال : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) غير أنّهم مع معرفتهم هذه وعلمهم يصيرون في هذا اليوم إلى العقاب ؛ ويعدل بهم عن طريق الثواب.

وقد روي معنى هذا التأويل عن جماعة من المفسّرين فروي عن الحسن في قوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) قال : يقول تعالى : هم يوم القيامة سمعاء بصراء ؛ لكن الظالمون اليوم في الدنيا ليسوا سمعاء وبصراء ؛ ولكنّهم في ضلال عن الدين مبين.

__________________

(١) سورة ق ، الآية : ٢٢.

٧٨

وقال قتادة وابن زيد : ذلك والله يوم القيامة ؛ سمعوا حين لم ينفعهم السمع ، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر.

وقال أبو مسلم بن بحر في تأويل هذه الآية كلاما جيّدا قال : معنى (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) ما أسمعهم! وما أبصرهم! وهذا على طريق المبالغة في الوصف ؛ يقول : فهم يوم يأتوننا أي يوم القيامة سمعاء بصراء ؛ أي عالمون وهم اليوم في دار الدنيا في ضلال مبين ، أي جهل واضح. قال : وهذه الآية تدلّ على أنّ قوله : (بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١) ليس معناه الآفة في الأذن ، والعين والجوارح ؛ بل هو أنّهم لا يسمعون عن قدرة ، ولا يتدبّرون ما يسمعون ، ولا يعتبرون بما يرون ؛ بل هم عن ذلك غافلون ؛ فقد نرى أنّ الله تعالى جعل قوله تعالى : (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) مقابلا لقوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) ، أي ما أسمعهم! وما أبصرهم! فأقام تعالى السمع والبصر مقام الهدى ؛ إذ جعله بإزاء الضلال المبين.

وأمّا أبو علي بن عبد الوهّاب فإنّه اختار في تأويل هذه الآية غير هذا الوجه ، ونحن نحكي كلامه على وجهه ، قال : وعنى بقوله : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) أي أسمعهم وبصّرهم وبيّن لهم أنّهم إذا أتوا مع الناس إلى موضع الجزاء سيكونون في ضلال عن الجنّة وعن الثواب الذي يناله المؤمنون والظالمون الذين ذكرهم الله تعالى هم هؤلاء توعّدهم بالعذاب في ذلك اليوم.

ويجوز أيضا أن يكون عنى بقوله : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) ، أي أسمع الناس بهؤلاء الأنبياء وأبصرهم بهم ؛ ليعرفوهم ويعرفوا خبرهم ، فيؤمنوا بهم ، ويقتدوا بأعمالهم.

وأراد بقوله تعالى : (لكِنِ الظَّالِمُونَ) لكن من كفر بهم من الظالمين اليوم ـ وهو يعني يوم القيامة ـ في ضلال عن الجنّة ، وعن نيل الثواب ، مبين.

وهذا الموضع من جملة المواضع التي استدركت على أبي علي ، وينسب

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٧١.

٧٩

فيها إلى الزلل ؛ لأنّ الكلام وإن كان محتملا لما ذكره بعض الاحتمال من بعد ، فإنّ الأولى والأظهر في معنى ما تقدّم ذكره من المبالغة في وصفهم وقوله تعالى : (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) بعد ما تقدّم لا يليق إلّا بالمعنى الذي ذكرناه ؛ لا سيما إذا حمل اليوم على أنّ المراد به يوم القيامة ؛ على أنّ أبا عليّ جعل قوله تعالى : (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من صلة قوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) وتأوّله على أنّ المعنيّ به أعلمهم وبصرّهم بأنّهم يوم القيامة في ضلال عن الجنّة. والكلام يشهد بأنّ ذلك لا يكون من صلة الأوّل وأنّ قوله تعالى : (لكِنِ) استئناف لكلام ثان.

وما يحتاج أبو عليّ إلى هذا ؛ بل لو قال على ما اختاره من التأويل : أنّه أراد أسمعهم وأبصرهم يوم يأتوننا أي ذكّرهم بأهواله ، وأعلمهم بما فيه ؛ ثمّ قال مستأنفا. (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لم يحتج إلى ذكره ؛ وكان هذا أشبه بالصواب.

فأمّا الوجه الثاني الذي ذكره فباطل ، لأنّ قوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) إذا تعلّق بالأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى بقي قوله (يَوْمَ يَأْتُونَنا) بلا عامل ومحال أن يكون ظرف لا عامل له ؛ فالأقرب والأولى أن يكون على الوجه الأوّل مفعولا.

ووجدت بعض من اعترض على أبى عليّ يقول رادّا عليه : لو كان الأمر على ما ذهب إليه أبو عليّ لوجب أن يقول تعالى : أسمعهم وأبصرهم بغير باء ، وهذا الردّ غير صحيح ؛ لأنّ الباء في مثل هذا الموضع غير منكر زيادتها ؛ وذلك موجود كثير في القرآن والشعر ؛ قال الله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (١) ، (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) (٢) ، (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) (٣) ، (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) (٤).

وقال الأعشى :

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا

__________________

(١) سورة العلق ، الآية : ١.

(٢) سورة الإنسان ، الآية : ٦.

(٣) سورة مريم ، الآية : ٢٥.

(٤) سورة الممتحنة ، الآية : ١.

٨٠