تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

ولم يثبت بهذا الكلام في أخلاقهم فحشا أصلا وجزعا غير سيّء ، وإنّما نفي الفحش والجزع على كلّ حال ، ولو لا ذلك لكان هاجيا لهم ولم يكن مادحا.

وقال الفرزدق :

ولم تأت غير أهلها بالذي أتت

به جعفرا يوم الهضيبات عيرها (١)

أتتهم بتمر لم يكن هجرية (٢)

ولا حنطة الشام المزيت خميرها (٣)

فقوله «لم يكن هجرية» أي لم يحمل التمر الذي يكون كثير في هجر (٤) ، ولم يرد بباقي البيت أنّ هناك حنطة ليس في خميرها زيت ، بل أراد بها لم يحمل تمرا ولا حنطة ، ثم وصف الحنطة بأنّ الزيت يجعل في خميرها.

ونظائر هذا الباب أكثر من أن تحصى.

فعلى ما ذكرناه لا ينكر أن يريد تعالى : انّا فضلناهم على جميع من خلقنا وهم كثير ، فجرى ذكر الكثرة على سبيل الوصف المعلّق لا على وجه التخصيص وليس لأحد أن يخبر بقوله : «فعل كذا وكذا كثير من الناس» على سبيل التخصيص دون العموم.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٥) وقوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) (٦) ، وذلك أنّا لم نقل : إنّ هذه اللفظة في كلّ موضع تستعمل بمعنى واحد ، بل الوجه في استعمالها يختلف ، وربّما أريد بها التخصيص وربّما أريد ما ذكرناه ممّا تقدّم ، وإنّما يرجع في ذلك إمّا إلى الوضع أو إلى الدلالة تدلّ على المعنى المقصود ، وإنّما أردنا الردّ على من ادّعى أنّها تقتضي التخصيص لا محالة ، فدفعناه عن ذلك بما أوردناه.

__________________

(١) كذا في الديوان ، وفى الاصل : به جعفر القرم يوم الهضاب عيرها.

(٢) كذا في الاصل ، وفى الديوان : أتتهم بعير لم تكن هجرية.

(٣) ديوان الفرذوق : ١ / ٣٦٨.

(٤) هجرى مدينة ، هي قاعدة البحرين ، وقيل ناحيه البحرين كلها هجر (معجم البلدان ٥ / ٣٩٣).

(٥) سورة الأنعام ، الآية : ١١٩.

(٦) سورة المؤمنون ، الآية : ٣٣.

٤١

وليس لأحد أن يدّعي أنّ الظاهر من هذه اللفظة يقتضي التخصيص وأنّها إذا وردت لا تقتضيه كانت مجازا وعمل عليه بدلالة ؛ لأنّ ذلك تحكّم من قائله.

وإذا عكس عليه وقيل له : بل التخصيص هو المجاز وورودها مورد النعت والوصف هو الحقيقة ، لم يجد فصلا.

ووجه آخر : وهو أنّ الجنس إنّما يكون مفضلا على الجنس على أحد وجهين : إمّا بأن يكون كلّ عين من أعيانه أفضل من أعيان الجنس الآخر ، أو بأن يكون الفضل في أعيانه أكثر ، وليس يجوز أن يفضّل الجنس على غيره بأن يكون فيه عين واحدة أفضل من كلّ عين في الجنس الآخر وباقيه خال من فضل ، ويكون الجنس الآخر لكلّ عين منه فضلا وإن لم يبلغ إلى فضل تلك العين التي ذكرناها ، ولهذا لا يجوز أن يفضّل أهل بغداد على أهل الكوفة إن كان في بغداد فاضل واحد أفضل من كلّ واحد من أهل الكوفة وباقي أهل بغداد لا فضل لهم ، حتى كان كثير من أهل الكوفة ذوي فضل وإن لم يبلغوا إلى منزلة الفاضل الذي ذكرناه.

فإذا صحّت هذه المقدمة لم ينكر أنّ جنس بني آدم مفضول ؛ لأنّ الفضل في الملائكة عامّ لجميعهم على مذهب أكثر الناس أو لأكثرهم ، والفضل في بني آدم مخصّص بقليل من كثير.

وعلى هذا لا ينكر أن يكون الأنبياء عليهم‌السلام أفضل من الملائكة وإن كان جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم ، للمعنى الذي ذكرناه ، ولمّا تضمّنت الآية ذكر بني آدم على سبيل الجنسية وجب أن يفضّلوا على من عدا الملائكة ، ولو ذكر الأنبياء بذكر يخصّهم ممّن عداهم ممّن ليس بذي فضل لفضلهم على الملائكة (١).

ووجه آخر ممّا يمكن أن يقال في هذه الآية أيضا : إنّ مفهوم الآية إذا تؤمّلت يقتضي أنّه تعالى لم يرد الفضل الذي هو زيادة الثواب ، وإنّما أراد النعم

__________________

(١) الرسائل ، ٢ : ١٦٩ وأيضا ، ١٦٢.

٤٢

والمنافع الدنيوية ، ألا ترى قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) والكرامة إنّما هي الترفيه وما يجري مجراه ، ثمّ قال : (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ).

ولا شبهة في أنّ الحمل لهم في البرّ والبحر ورزق الطيبات خارج عمّا يستحقّ به الثواب ، ويقتضي التفضيل الذي وقع الخلاف فيه ، فيجب أن يكون ما عطف عليه من التفضيل داخلا في هذا الباب وفي هذا القبيل ، فإنّه أشبه من أن يراد به غير ما سياق الآية وارد به ومبنيّ عليه. وأقلّ الأحوال أن تكون لفظة «فضلناهم» محتملة للأمرين ، فلا يجوز الاستدلال بها على خلاف ما تذهب إليه (١).

ـ (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) [الإسراء : ٧٢].

[إن سأل سائل] فقال : كيف يجوز أن يكونوا في الآخرة عميا ، وقد تظاهر الخبر عن الرسول «عليه وآله السلام» بأنّ الخلق يحشرون كما بدئوا سالمين من الآفات والعاهات ، قال الله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢) ، وقال عزوجل : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٣) ، وقال جلّ وعلا : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٤).

الجواب : يقال في هذه الآية أربعة أجوبة :

أحدها : أن يكون العمي الأوّل إنّما هو عن تأمّل الآيات ، والنظر في الدّلالات والعبر التي أراها الله المكلّفين في أنفسهم وفيما يشاهدون ، ويكون العمي الثاني هو عن الإيمان بالآخرة ، والإقرار بما يجازى به المكلّفون فيها من ثواب أو عقاب ، وقد قال قوم : إنّ الآية متعلّقة بما قبلها من قوله تعالى : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (٥) إلى قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى

__________________

(١) الرسائل ، ٢ : ١٦٤.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٢٩.

(٣) سورة الأنبياء ، الآية : ١٠٤.

(٤) سورة ق ، الآية : ٢٢.

(٥) سورة الإسراء ، الآية : ٦٦.

٤٣

كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (١) ثمّ قال بعد ذلك : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٢) يعني في هذه النعم ، وعن هذه العبر ، فهو في الآخرة أعمى ؛ أي هو عمّا غيّب عنه من أمر الآخرة أعمى ، ويكون قوله : (فِي هذِهِ) كناية عن النّعم لا عن الدنيا ويقال : إن ابن عباس «رحمة الله عليه» سأله سائل عن هذه الآية فقال له : اتل ما قبلها ، ونبّهه على التأويل الذي ذكرناه.

والجواب الثاني : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) يعني الدنيا (أَعْمى) عن الإيمان بالله والمعرفة بما أوجب الله عليه المعرفة به ؛ فهو في الآخرة أعمى عن الجنّة والثواب ؛ بمعنى أنه لا يهتدي إلى طريقهما ، ولا يوصل إليهما ، أو عن الحجّة إذا سوئل ووقف ، ومعلوم أنّ من ضلّ عن معرفة الله تعالى والإيمان به يكون يوم القيامة منقطع الحجة ، مفقود المعاذير.

والجواب الثالث : أن يكون العمى الأوّل عن المعرفة والإيمان ، والثاني بمعنى المبالغة في الإخبار عن عظم ما يناله هؤلاء الكفار الجهّال بالله من الخوف والغم والحزن الذي أزاله الله عن المؤمنين العارفين بقوله : (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣) ، ومن عادة العرب أن تسمّى من اشتدّ همّه وقوي حزنه أعمى سخين العين ، ويصفون المسرور بأنّه قرير العين ، قال الله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤).

والجواب الرابع : أنّ العمى الأوّل يكون عن الإيمان ، والثاني هو الآفة في العين على سبيل العقوبة ؛ كما قال الله تعالى : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦)) (٥). ومن يجيب بهذا الجواب يتأوّل قوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) على أنّ المعنى فيه الإخبار عن الاقتدار وعدم المشقّة في

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٧٠.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٧٢.

(٣) سورة يونس ، الآية : ٦٢.

(٤) سورة السجدة ، الآية : ١٧.

(٥) سورة طه ، الآيات : ١٢٤ ـ ١٢٦.

٤٤

الإعادة ؛ كما أنّها معدومة في الابتداء ، ويجعل ذلك نظيرا لقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (١) ، ويتأوّل قوله تعالى : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) على أنّ معناه الإخبار عن قوّة المعرفة ، وأنّ الجاهل بالله في الدنيا يكون عارفا في الآخرة ؛ والعرب تقول : «فلان بصير بهذا الأمر» و «زيد أبصر بكذا من عمرو» ولا يريدون إبصار العين ، بل العلم والمعرفة ؛ ويشهد بهذا التأويل قوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ، أي : كنت غافلا عمّا أنت الآن عارف به ، فلمّا أن كشفنا عنك الغطاء بأن أعلمناك وفعلنا في قلبك المعرفة عرفت وعلمت.

فأمّا الخبر الذي تدّعي روايته فهو خبر واحد ، ولا حجّة في مثله ؛ وإذا عرف لفظه ربّما أمكن تأوّله على ما يطابق هذا الجواب ، ومن ذهب إلى الأجوبة الأول يجعل العمى الأوّل والثاني معا غير الآفة في العين ، فإن عورض بقوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (٢) تأوّله على العمى عن الثواب أو عن الحجّة ، وقال في قوله تعالى : (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) (٣) إن معناه : كنت بصيرا في اعتقادي وظنّي ، من حيث كنت أرجو الهداية إلى الثواب وطريق الجنّة.

والمحصّل من هذه الجملة أنّه لا يجوز أن يراد بالعمى الأوّل والثاني جميعا الآفة في العين ؛ لأنّه يؤدي إلى أنّ كلّ من كان مؤوف البصر في الدنيا ، من مؤمن وكافر وطائع وعاص يكون كذلك في الآخرة ، وهذا باطل وبمثله يبطل أن يراد بلفظه «أعمى» الثانية المبالغة بمعنى أفضل من فلان ، ويبطله أيضا أنّ العمى الذي هو الخلقة لا يتعجّب منه بلفظة «أفعل» وإنّما يقال : ما أشدّ عماه! ولا يجوز أن يراد بالعمى الأولى العين والثاني العمى عن الثواب أو الجنّة أو الحجّة ، لأنّا نعلم أنّ فيمن عميت عينه في الدنيا من يستحقّ الثواب ، ويوصل

__________________

(١) سورة الروم ، الآية : ٢٧.

(٢) سورة طه ، الآية : ١٢٤.

(٣) سورة طه ، الآية : ١٢٥.

٤٥

إليه ، ولا يجوز أن يراد بالأوّل والثاني العمى عن المعرفة والإيمان ، لا على طريقة المبالغة والتعجّب ولا على غير ذلك ؛ لأنّا نعلم أنّ الجهّال بالله تعالى ، المعرضين في الدنيا عن معرفته لا يجوز أن يكون في الآخرة كذلك ؛ فضلا أن يكونوا على أبلغ من هذه الحالة لأنّ المعارف في الآخرة ضرورية ، يشترك فيها جميع الناس ، فلم يبق بعد الذي أبطلناه إلّا ما دخل في الأجوبة. وعلى الأجوبة الثلاثة الأول إذا أريد بأعمى الثانية المبالغة والتعجب كان في موضعه ؛ لأنّ عمى القلب وضلاله يتعجّب منه بلفظة «أفعل» وإن لم يجر ذلك في عمى الجارحة.

ولمن أجاب بالجواب الرابع أن لا يجعل قوله تعالى : (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) لفظة تعجّب ، بل يجعله إخبارا عن عماه من غير تعجّب ، وإن عطف عليه بقوله تعالى : (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ويكون تقدير الكلام : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وهو أضلّ سبيلا.

فإن قيل : ولم أنكرتم التعجب من الخلق بلفظة «أفعل»؟ قلنا : قد قال النحويون في ذلك : إنّ الألوان والعيوب لا يتعجّب منها بلفظة التعجّب وإنّما يعدل فيها إلى أشدّ وأظهر وما جرى مجراهما ؛ قالوا : لأنّ العيوب والألوان قد ضارعت الأسماء ، وصارت خلقة كاليد والرّجل ونحو ذلك ، فلا يقال : ما أسوده وما أعوره ، كما لا يقال : ما أيداه وما أرجله ؛ ويقال : ما أشدّ سواده! كما يقال : ما أشدّ يده ورجله! واعتلّوا بعلّة أخرى ، قالوا : إن الفعل من الألوان والعيوب على «افعلّ» و «افعالّ» ، نحو أحمرّ وأعورّ وأحولّ وأحوالّ ، والتعجّب لا يدخل فيما زاد على ثلاثة أحرف من الأفعال ؛ ألا ترى أنّه لا يدخل في انطلق واستخرج ودحرج لزيادته على ثلاثة أحرف (١)؟

فإن قيل لهم فقد قالوا : عورت عينه وحولت ، قالوا : هذا منقول من «افعلّ» وهو في الحكم زائد على ثلاثة أحرف ، يدلّ على ذلك صحّة الواو فيه ؛ كما

__________________

(١) حاشية بعض النسخ : «إنّما امتنعت صورة التعجب في الرباعي ؛ لأن فعل التعجب يكون أبدا أربعة أحرف ؛ أحدها ألف النقل والثاني الفعل ؛ فإذا أدخلت على الرباعي لم يكن بدّ من طرح أحد الحروف ، ولا يمكن ذلك لأن كلها أصول فعلها ؛ إذن التعجب يختص الثلاثي فحسب».

٤٦

صحّت في أسودّ وأبيض ولو لا أنّه منقول لاعتلّت الواو ، فقلت : عارت وحالت ، كما قيل : خاف وهاب.

وحكى عن الفرّاء في ذلك جوابان :

أحدهما : أنّ «أفعل» في التعجّب فيه زيادة على وصف قبله إذا قال القائل أفضل وأجمل ، فهو أزيد في الوصف من جميل وفاضل ، ولم يقولوا : ما أبيض زيدا! لئلا يسقط التزيد ، ولا يكون قبل أبيض وصف يزيد أبيض عليه ، يخالف لفظه لفظه ؛ كما خالف أفضل وأجمل فاضلا وجميلا ، فلمّا فاتهم في أبيض وأحمر علم التزيد أدخلوا عليه ما تبين الزيادة فيه ، وقالوا : ما أظهر حمرة زيد : وما أشدّ سواد عمرو! لأنّ «أظهر» يزيد على ظاهر ، و «أشدّ» يزيد على شديد.

والجواب الآخر : أنّ التعجب مبنيّ على زيادة يصلح أن يتقدّمها نقص وتقصير عن بلوغ التناهي ، فقالوا : ما أعلم زيدا! ليدلّوا على زيادة علمه ؛ لأنهم في قولهم : عالم وعليم لم يبلغوا في التناهي مبلغ «أعلم» ، ولم يقولوا : ما أبيض زيدا! لأنّ البياض لا تأتي منه زيادة بعد نقص ، فعدلوا إلى التعجّب بأشدّ وأبين وما جرى مجراهما ، وهذا الجواب ليس بسديد ؛ لأنّ الألوان قد تتأتّي فيها الزيادة بعد نقص ، وقد تدخل فيها المفاضلة ، ألا ترى أنّ ما حلّه قليل أجزاء البياض يكون أنقص حالا من البياض مما حلّه الكثير من الأجزاء!

والجواب الأول الذي حكيناه عن الفراء أصوب ، وإن كان ما قدّمناه عن البصريين هو المعتمد وقد أنشد بعضهم معترضا على ما ذكرناه قول الشاعر :

يا ليتني مثلك في البياض

أبيض من أخت بني إباض (١)

وأنشدوا أيضا قول الشاعر (٢) :

__________________

(١) البيت في اللسان (بيض) ، وروايته فيه :

جاريّة في درعها الفضفاض

أبيض من أخت بني إباض

وفي حاشية بعض النسخ : «أبيض ، بالرفع على تقدير : أنت أبيض ، وبالفتح على أنه حال من أنا أو أنت. وإباض : اسم رجل».

٤٧

أمّا الملوك فأنت اليوم ألأمهم

لؤما وأبيضهم سربال طبّاخ

فأمّا البيت الأول فإنّ أبا العباس المبرّد حمله على الشذوذ ، وقال : إنّ الشاذّ النادر لا يطعن في المعمول عليه ، والمتّفق على صحّته ، ويجوز أيضا أن يقال في البيت الثاني مثل ذلك ، وقد قيل في البيت الثاني : إنّ أبيض فيه ليس هو للمفاضلة ، وإنّما هو أفعل الذي مؤنثه فعلاء ، كقولك أبيض وبيضاء ؛ ويجري ذلك مجرى قولهم هو حسن [القوم وجها ، وشريفهم] خلقا ؛ فكأنّ الشاعر قال : ومبيضّهم ، فلمّا أضافه انتصب ما بعده لتمام الاسم ، وهذا أحسن من حمله على الشذوذ.

ويمكن فيه وجه آخر وهو أنّ أبيض في البيت وإن كان في الظاهر عبارة عن اللون فهو في المعنى كناية عن اللؤم والبخل ، فحمل لفظ التعجب على المعنى دون اللفظ ، ولو أراد بأبيضهم بياض الثوب ونقاءه على الحقيقة لما جاز أن يتعجب بلفظة «أفعل» ، فالذي جوّز تعجّبه بهذه اللفظة ما ذكرناه.

فأمّا قول المتنبي :

أبعد بعدت بياضا لا بياض له

لأنت أسود في عيني من الظّلم(١)

فقد قيل فيه إنّ قوله : «لأنت أسود في عيني» كلام تام ، ثمّ قال : «من الظلم» أي من جملة الظّلم ؛ كما يقال : حرّ من أحرار ، ولئيم من لئام ؛ أي من جملتهم ، وقال الشاعر(٢) :

__________________

(١) في حاشية بعض النسخ : «قال السيد المرتضى رضي الله عنه : هو لطرفة ؛ وإنّما أراد ذمه بقلة القرى في بيته ، فطباخه نقي الثوب».

واليت في ديوانه : ١٥ ، وروايته فيه :

إن قلت نصر فنصر كان شرّ فتى

قدما وأبيضهم سربال صبّاخ

وهو أيضا في اللسان (بيض) ، وروايته فيه :

إذ الرجال استووا واشتدّ أكلهم

فأنت أبيضهم سربال طبّاخ

(٢) ديوانه : ٤ / ٣٥ ؛ وهو يخاطب الشيب ، وقبله :

ضيف ألمّ برأسي غير محتشم

والسّيف أصدق فعلا منه بالّلمم

٤٨

وأبيض من ماء الحديد كأنّه

شهاب بدا واللّيل داج عساكره

(١) كأنّه قال : وأبيض كائن من ماء الحديد ، وقوله : «من ماء الحديد» وصف لأبيض ، وليس يتّصل به كاتّصال «من» بأفضل في قولك : هو أفضل من زيد ، ولفظة «من» في بيت المتنبّي مرفوعة الموضع ، لأنّها وصف لأسود ؛ وإذا أريد المفاضلة والتعجّب كانت منصوبة الموضع بأسود كما يقال : «زيد خير منك» ، فمنك في موضع نصب بخير ، كأنّه قال : قد خارك بخيرك ، أي فضلك في الخير ؛ وهذا التأويل المذكور في بيت المتنبّي يمكن أن يقال في قول الشاعر :

أبيض من أخت بني إباض

ويحمل على أنّه أراد من جملتها ومن قومها ، ولم يرد التعجّب وتأوّله على هذا الوجه أولى من حمله على الشذوذ ، فأمّا قول المتنبّي :

أبعد بعدت بياضا لا بياض له

فالمعنى الظاهر للناس فيه أنّه أراد : لا ضياء له ولا نور ولا إشراق ، من حيث كان حلوله محزنا مؤذنا بتقضي الأجل ؛ وهذا لعمري معنى ظاهر ؛ إلّا أنه يمكن فيه معنى آخر ؛ وهو أنّه يريد إنّك بياض لا لون بعده ، لأنّ البياض آخر ألوان الشعر ، فجعل قوله : «لا بياض له» بمنزلة قوله : لا لون بعده ، وإنّما سوّغ ذلك له أنّ البياض هو الآتي بعد السّواد ، فلمّا نفى أن يكون للشيب بياض كان نفيا لأن يكون بعده لون.

وقد اختلف القراء في فتح الميم وكسرها من قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) ، فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو بفتح الميمين معا ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائيّ بكسر الميم فيهما معا ، وفي رواية حفص عن عاصم : لا يكسرهما ، وكسر أبو عمرو الأولى وفتح الأخيرة ؛ ولكلّ وجه ، أمّا من ترك إمالة الجميع ؛ فإن قوله حسن ، لأنّ كثيرا من

__________________

(١) البيت في شرح العكبري لبيت المتنبي ، أورده من غير عزو.

٤٩

العرب لا يميلون هذه الفتحة ، وأمّا من أمال الجميع فوجه قوله أن ينحو بالألف نحو الياء ، ليعلم أنّها تنقلب إلى الياء ، وأمّا قراءة أبي عمرو بإمالة الأولى وفتح الثانية فوجه قوله أنّه جعل الثانية أفعل من كذا مثل أفضل من فلان ، وإذا جعلها كذلك لم تقع الألف في آخر الكلمة ؛ لأنّ آخرها إنّما هو من كذا وإنّما تحسن الإمالة في الأواخر ، وقد حذف من «أفعل» الذي هو للتفضيل الجارّ والمجرور جميعا ، وهما مرادان في المعنى مع الحذف ، وذلك نحو قوله تعالى : (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (١) ؛ المعنى وأخفى من السرّ ، فكذلك قوله تعالى : (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) ، أي أعمى منه في الدنيا ، أو أعمى من غيره ، ويقوّي هذه الطريقة ما عطف عليه من قوله تعالى : (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ، فكما أنّ هذه لا يكون إلّا على «أفعل من كذا» كذلك المعطوف عليه (٢).

ـ (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) [اسراء : ٧٨].

[فيها أمران : الأوّل : قال الناصر رحمه‌الله :] «للمغرب وقتان كسائر الصلوات».

عندنا أنّ أوّل وقت المغرب مغيب الشمس ، وآخر وقتها مغيب الشفق الذي هو الحمرة ، وروي ربع اللّيل ، وحكى بعض أصحابنا : أنّ وقتها يمتدّ إلى نصف اللّيل ... (٣) وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمّد ، ومالك ، والثوري ، وابن حيّ : لصلاة المغرب أوّل وآخر كسائر الصلوات (٤).

وقال الشافعي : ليس للمغرب إلّا وقت واحد (٥).

دليلنا بعد الاجماع المتقدّم ، قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) وقيل في الدلوك : إنّه الزوال ، وقيل : إنّه الغروب ؛ وهو عامّ لهما جميعا ، فحصل : وقت المغرب ممتدّ إلى غسق اللّيل ، والغسق اجتماع الظلمة ، وإذا ثبت

__________________

(١) سورة طه ، الآية : ٧.

(٢) الأمالي ، ١ : ١٠٨.

(٣) مختلف الشيعة ، ٢ : ٢٠.

(٤) المجموع ، ٣ : ٣٤.

(٥) الأم ، ١ : ٩٢.

٥٠

أن وقت المغرب ممتد إلى وقت اجتماع الظلمة ، فقد وضح أنّ لها وقتين (١).

[الثاني : قال الناصر رحمه‌الله :] «ولا بأس بقضاء الفرائض عند طلوع الشمس ، وعند استوائها ، وعند غروبها».

هذا صحيح ، وعندنا أنّه يجوز أن يصلّي في الأوقات المنهيّ عن الصلاة فيها كلّ صلاة لها سبب متقدّم ، وإنّما لا يجوز أن يبتدئ فيها النوافل ...

دليلنا بعد الإجماع المتكرر قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ) ، والظاهر يتناول جميع الأوقات ، ولا يلزم على ذلك فعل النوافل في الأوقات المنهيّ عنها ، لأنّه خرج بدليل.

وما روي عنه عليه‌السلام من قوله : «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها» (٢) ، ولم يفصّل بين وقت وآخر.

وما روي من أنّ قيس بن قهد صلّى بعد الصبح ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما هاتان الركعتان»؟ فقال : ركعتا الصبح (٣).

فلو لم يكن جائزا لأنكر عليه.

فإن تعلّقوا بقوله عليه‌السلام «لا صلاة بعد الصبح حتّى تطلع الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتّى تغرب الشمس» (٤).

الجواب عنه : أنّ ذلك عامّ في الصلوات التي لها أسباب والتي لا أسباب لها ، وأخبارنا خاصة في جواز ما له سبب (٥) (٦).

ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [سورة الإسراء : ٨٥] (٧).

وقد ظنّ قوم من غفلة الملحدين وجهّالهم أنّ الجواب عمّا سئل عنه في هذه

__________________

(١) الناصريات : ١٩٣.

(٢) سنن البيهقي ، ٢ : ٤٥٦.

(٣) نفس المصدر.

(٤) سنن البيهقي ، ٢ : ٤٥٢.

(٥) الناصريات : ١٩٩.

(٦) الكافي ، ٣ : ٢٩٢.

(٧) سورة الإسراء ، الآية : ٨٥.

٥١

الآية لم يحصل ، وأنّ الامتناع منه إنّما هو لفقد العلم به ، وأنّ قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) تبكيت وتقريع لم يقعا موقعهما ؛ وإنّما هو على سبيل المحاجزة والمدافعة عن الجواب.

وفي هذه الآية وجوه من التّأويل تبطل ما ظنّوه ، وتدلّ على ما جهلوه :

أوّلها : أنّه تعالى إنّما عدل عن جوابهم لعلمه بأنّ ذلك أدعى لهم إلى الصلاح في الدّين ، وأنّ الجواب لو صدر منه إليهم لازدادوا فسادا وعنادا ؛ إذ كانوا بسؤالهم متعنّتين لا مستفيدين ؛ وليس هذا بمنكر ؛ لأنّا قد نعلم في كثير من الأحوال ممّن يسألنا عن الشّيء أنّ العدول عن جوابه أولى وأصلح في تدبيره.

وقد قيل إنّ اليهود قالت لكفار قريش : سلوا محمدا عن الرّوح فإن أجابكم فليس بنبيّ ، وان لم يجبكم فهو نبيّ ؛ فإنّا نجد في كتبنا ذلك ؛ فأمره الله تعالى بالعدول عن ذلك ليكون علما ودلالة على صدقه ، وتكذيبا لليهود الرادّين عليه ؛ وهذا جواب أبي عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبّائيّ (١).

وثانيها : أنّ القوم إنّما سألوه عن الرّوح : هل هي محدثة مخلوقة أو ليست كذلك؟ فأجابهم إنّها من أمر ربّي ، وهو جوابهم عمّا سألوه عنه بعينه ؛ لأنّه لا فرق بين أن يقول في الجواب : إنّها محدثة مخلوقة ، وبين قوله إنّها من أمر ربّي ؛ لأنّه إنّما أراد أنّها من فعله وخلقه ، وسواء على هذا الجواب أن تكون الرّوح التي سألوا عنها هي التي بها قوام الجسد أو عيسى عليه‌السلام ، أم جبرئيل صلّى الله عليه. وقد سمّى الله جبرائيل روحا ، وعيسى أيضا مسمّى بذلك في القرآن.

وثالثها : أنّهم سألوا عن الرّوح الذي هو القرآن ، وقد سمّى الله القرآن روحا في مواضع من الكتاب ؛ فإذا كان السؤال عن القرآن فقد وقع الجواب

__________________

(١) حاشية بعض النسخ : «أبو علي من قرية يقال لها جبّاء ؛ وهي من رستاق كاور من ناحية الأهواز ، ويقال لأهل هذه الناحية الربعيون ؛ لأنهم كانوا استنفروا ليقاتلوا الحسين عليه‌السلام فجاؤوا وقد فرغ من أمره ، فطلبوا الأجرة ، فقال ابن زياد : إنكم لم تبلوا بلاء ، وأعطى كل واحد منهم ربع دينار. قال دامت أيامه : أخبرني بذلك العراقي البصري». وكانت وفاة أبي علي هذا في سنة ٣٠٦. (وانظر ترجمته في ابن خلكان : ٤٨١ ـ ٤٨٠).

٥٢

موقعه ، لأنّه قال لهم : الروح الذي هو القرآن من أمر ربّي ، وممّا أنزله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ليجعله دلالة له وعلما على صدقه ، وليس من فعل المخلوقين ، ولا ممّن يدخل في إمكانهم ؛ وهذا جواب الحسن البصريّ.

ويقويه قوله تعالى بعد هذه الآية : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) (١). فكأنّه قال تعالى : إنّ القرآن من أمري وفعلي وممّا أنزلته علما على نبوّة رسولي ، ولو شئت لرفعته وأزلته وتصرّفت فيه ، كما يتصرّف الفاعل فيما يفعله (٢).

ـ (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢)) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩٢]

أنظر البقرة : ٢٣ من الذخيرة : ٣٦٤.

ـ (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣]

أنظر مريم : ٢٨ ، ٢٩ من الأمالي ، ٢ : ١٧٠.

ـ (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) [الإسراء : ٩٤].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء : ١١٠].

[فيها أمران :

الأول :] سأل بعض الإخوان وقد خطر بباله عند قراءة شيء من أخبار الأئمة وأدعية السادة عليهم‌السلام من ذكر اسم الله تعالى الأعظم ، وما خصّ به من الفضيلة دون سائر أسماء الله تعالى ، وما أعطي من دعا به من سرعة الإجابة ؛ مثل آصف بن برخيا وصيّ سليمان عليه‌السلام ومجيئه بعرش بلقيس من سبأ اليمن إلى بيت المقدس في أقلّ من طرفة العين ؛ وما نقله الأنبياء والأئمه والصالحون من

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٨٦.

(٢) الأمالي ، ١ : ٣٩.

٥٣

المعجزات ، وعن قول الأئمة عليهم‌السلام في أدعيتهم : «اللهم إنّي أسألك باسمك الأعظم» ، وفيهم من قال : «الأعظم الأعظم» متى زاد على ذلك ، ومنهم من قال : «الأكبر الأكبر». قال : فهل ترى أنّ «الأعظم» غير «الأكبر» ، أو «الأعظم الأعظم» غير «الأعظم» مرّة واحدة؟. قال : وإذا قلنا «أعظم» فيجب أن يكون ثمّ «ألطف» ، وإذا قلنا «أكبر» يجب أن يكون ثمّ «أصغر» ؛ والله يتعالى من أن يكون له اسم ألطف من اسم أو أصغر ، إذ كانت أسماؤه تعالى لا تذكر إلّا على معنى واحد ؛ ولا يشار بها إلّا إليه ؛ وقد نطق القرآن بتساويها في المنزلة ، وهي قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ؛ وقال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (١) ؛ وذكر أنّها كلّها حسنى ، فلم خصّ الأئمة عليهم‌السلام أحدها بالتعظيم دون سائرها ، والمقصود بها والمراد منها واحد تبارك وتعالى!.

فإن قيل له : لأنّ فيه ما يشاركه فيه المخلوقون : مثل كريم ورحيم وعالم وحاكم وغير ذلك ؛ فلهذا كانت رتبة بعضها في التعظيم أقلّ من بعض.

قال : والجواب عن ذلك : أنّه قد بقي منها عدّة أسماء لا يشاركه فيها أحد من المخلوقين ، ولا يستحقّها سواه مثل الله وإله وسبّوح وقدّوس وما أشبه ذلك ؛ ممّا لا يوصف بها غيره ، ولا تليق إلّا به «عزوجل» ، فلم اختصّ الاسم الأعظم بأحد هذه دون الأجرام ؛ أم هل الاسم الأعظم أو الأكبر شيء غير هذه الأسماء المتعارفة بين العوام! (٢).

الجواب عن المسألة : أنّ الأولى أن يكون اسم الله تعالى الأعظم خارجا عن هذه الأسماء والصفات التي في أيدي الناس يناجون الله تعالى بها ، ويدعونه ويسألونه ؛ لأنّ ذلك الاسم لو كان من جملتها ـ وقد أجمعوا على أنّ الله تعالى لم يسأل به شيئا إلّا أعطاه ـ لكان يجب في كلّ داع بهذه الأسماء والصفات إذا كان الاسم من جملتها أن تجاب دعوته ، وتنجح مسألته ، وقد علمنا خلاف

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٨٠.

(٢) في حاشية بعض النسخ : «في هذا الكلام بعض التخليط كانّه ليس من تحرير السيّد رحمه‌الله.

٥٤

ذلك ، وأنّ أكثر الداعين بهذه الأسماء المسطورة غير مجابين ؛ فعلمنا أنّ «الأعظم» ليس من جملتها.

فإذا قيل لنا : فلم خصّ الله تعالى بهذا الاسم قوما دون قوم ، ولم يجره مجرى سائر أسمائه؟

فالجواب أنّه تابع للمصلحة ، وإذا كان المعلوم أنّ كلّ سائل بذلك الاسم مجاب لا محالة ، فمن علم أنّ في إجابته مفسدة لا يجوز أن يمكّن من ذلك الاسم.

فإذا قيل : فينبغي لمن يسأله تعالى ، وقال : بحقّ اسمك الأعظم ، أعطني كذا أن يجاب لا محالة ؛ وقد علمنا خلاف ذلك؟

فالجواب أنّه غير ممتنع أن تكون الإجابة إنّما تكون واجبة عند التصريح والتلفّظ بهذا الاسم دون الكناية عنه.

فأمّا تسميته بأنّه أعظم ، وأنّ ذلك يقتضي أن يكون من أسمائه ما ليس بأعظم ؛ فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن تكون لفظة «أفعل» هنا راجعة إلى باقي أسمائه ؛ والوجه الآخر : أن ترجع إلى أسماء وصفات غيره.

وبيان الوجه الأوّل : أنّ معنى «أعظم» هو اختصاصه بفضيلة أن الدّعاء به مجاب ، وهذه المزية ليست في باقي الأسماء ؛ فكأنّه أعظم منها لاختصاصه برتبة عالية ليست لباقيها.

وأما الوجه الثاني : فيكون المعنى أنّه أعظم بالإضافة إلى أسمائكم وصفاتكم ؛ لأنّه ليس لشيء من صفاتنا هذه المزيّة ؛ ولم تجعل هذه المزيّة لأجل فقد المشاركة في المعنى ؛ فيلزم عليه إله وقديم ورحمن ؛ على ما مضى في السؤال ؛ بل لأن الله تعالى خصّ هذا الاسم بهذه المزيّة لما علم من المصلحة.

فأمّا إلزامنا أن يكون في أسمائه تعالى ما هو أصغر فلا يلزم على الجواب الثاني ؛ فإذا ألزمنا ذلك على الجواب الأوّل قلنا : إذا كان قولنا «أعظم» بالإضافة

٥٥

إلى أسمائة تعالى معناه أنّ له هذه المزية والرتبة ، فلا محالة أنّه يجب فيما ليس له هذه المزيّة من أسمائه ألّا يكون الأعظم. ولا يجوز أن نقول : أصغر وأحقر وما يجري مجرى ذلك ؛ لأنّه يوهم المهانة وما لا تجوز في شيء من أسمائه.

وأمّا قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) فإنّما سمّاها كلّها الحسنى ؛ وليس يمتنع أن يكون فيما هو حسن تفاضل وتزايد ، وكذلك قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا) معناه التخيير لنا بين أن ندعوه بأيّ الاسمين شئنا ؛ والأشبة أن يراد باللّفظتين معنى واحد.

وأمّا تكريم لفظ «الأعظم» فهو على سبيل التأكيد والتفخيم ؛ لا لأنّ «الأعظم» مرّة واحدة غير «الأعظم» مرّتين ، وبالله التوفيق (١).

[الثاني :] وممّا ظنّ انفراد الإمامية به وهو مذهب مالك (٢) جواز الدعاء في الصلاة المكتوبة أين شاء المصلّي منها ...

والحجة لنا إجماع طائفتنا وظاهر أمر الله تعالى بالدعاء مثل قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) وقوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٣) (٤).

ـ (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ...) [الإسراء : ١١١]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٢٧٠ و ٢٧٣.

(٢) المجموع ، ٣ : ٤٧١.

(٣) سورة غافر ، الآية : ٦٠.

(٤) الانتصار : ٤٧.

٥٦

سورة الكهف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً ...) [الكهف : ١ ـ ٢].

أنظر البقرة : ١٠٢ من الأمالي ، ١ : ٣٩٩ والبقرة : ٧٢ ، ٧٣ من الأمالي ، ٢ : ١٩٢.

ـ (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ...) [الكهف : ٢٢].

أنظر البقرة : ١٧٧ من الأمالي ، ١ : ٢٠٧ وآل عمران : ٧ من الأمالي ، ١ : ٤١٨.

ـ (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ـ ٢٤].

[إن سأل سائل] فقال : ما تنكرون أن يكون ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون جميع ما نفعله يشاؤه ويريده؟ لأنّه لم يخصّ شيئا من شيء ؛ وهذا بخلاف مذهبكم. وليس لكم أن تقولوا : إنّه خطاب للرسول «عليه وآله السلام» خاصّة ؛ وهو لا يفعل إلّا ما يشاء الله ؛ لأنّه قد يفعل المباح بلا خلاف ؛ ويفعل الصغائر عند أكثركم ؛ فلا بدّ من أن يكون في أفعاله تعالى ما لا يشاؤه عندكم ، ولأنّه أيضا تأديب لنا ، كما أنّه تعليم له عليه‌السلام ؛ ولذلك يحسن منا أن نقول ذلك فيما يفعله.

الجواب : قلنا : تأويل هذه الآية مبنيّ على وجهين :

أحدهما : أن يجعل حرف الشرط الذي هو «إن» متعلّقا بما يليه وبما هو متعلّق به في الظاهر من غير تقدير محذوف ؛ ويكون التقدير : ولا تقولنّ إنّك تفعل إلّا ما يريد الله.

٥٧

وهذا الجواب ذكره الفراء ، وما رأيته إلّا له. ومن العجب تغلغله إلى مثل هذا ؛ مع أنّه لم يكن متظاهرا بالقول بالعدل. وعلى هذا الجواب لا شبهة في الآية ، ولا سؤال للقوم علينا.

وفي هذا الوجه ترجيح لغيره من حيث اتّبعنا فيه الظاهر ، ولم نقدّر محذوفا ، وكلّ جواب مطابق الظاهر ولم يبن على محذوف كان أولى.

والجواب الآخر : أن نجعل «أن» متعلّقة بمحذوف ؛ ويكون التقدير : ولا تقولنّ لشيء إنّي فاعل ذلك غدا إلّا أن تقول : «إن شاء الله» لأنّ من عاداتهم إضمار القول في مثل هذا الموضع ، واختصار الكلام إذا طال وكان في الموجود منه دلالة على المفقود.

وعلى هذا الجواب يحتاج إلى الجواب عما سئلنا عنه ، فنقول : هذا تأديب من الله تعالى لعباده ، وتعليم لهم أن يعلّقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة ؛ حتى يخرج من حدّ القطع.

ولا شبهة في أنّ ذلك مختصّ بالطاعات ، وأنّ الأفعال القبيحة خارجة عنه ؛ لأنّ أحدا من المسلمين لا يستحسن أن يقول : إنّي أزني غدا إن شاء الله ، أو أقتل مؤمنا ، وكلّهم يمنع من ذلك أشدّ المنع ؛ فعلم سقوط شبهة من ظنّ أنّ الآية عامة في جميع الأفعال.

وأمّا أبو عليّ محمد بن عبد الوهاب فإنّه ذكر في تأويل هذه الآية ما نحن ذاكروه بعينه ، قال : «إنّما عنى بذلك أنّ من كان لم يعلم أنّه يبقى إلى غد حيّا فلا يجوز أن يقول : إنّي سأفعل غدا وكذا وكذا ، فيطلق الخبر بذلك وهو لا يدري ، لعلّه سيموت ولا يفعل ما أخبر به ؛ لأنّ هذا الخبر إذا [لم يوجد مخبره على ما أخبر به] فهو كذب ؛ وإذا كان المخبر لا يأمن أن لا يوجد مخبره لحدوث أمر من فعل الله نحو الموت أو العجز أو بعض الأمراض ، أو لا يحدث ذلك بأن يبدو له هو في ذلك ، فلا يأمن من أن يكون خبره كذبا في معلوم الله عزوجل ، وإذا لم يأمن ذلك لم يجز أن يخبر به ؛ ولا يسلم خبره هذا من الكذب إلّا بالاستثناء

٥٨

الذي ذكره الله تعالى ؛ فإذا قال : إنّي صائر غدا إلى المسجد إن شاء الله فاستثنى في مصيره بمشيئة الله تعالى ؛ أمن أن يكون خبره في هذا كذبا ؛ لأنّ الله تعالى إن شاء أن يلجئه إلى المصير إلى المسجد غدا ألجأه إلى ذلك ؛ وكان المصير منه لا محالة ؛ فإذا كان ذلك على ما وصفنا لم يكن خبره هذا كذبا ؛ وإن لم يوجد منه المصير إلى المسجد ؛ لأنّه لم يوجد ما استثناه في ذلك من مشيئة الله تعالى».

قال : «وينبغي أن لا يستثني مشيئة دون مشيئة ، لأنّه إن استثنى في ذلك مشيئة الله لمصيره إلى المسجد على وجه التعبّد ، فهو أيضا لا يأمن أن يكون خبره كذبا ؛ لأنّ الإنسان قد يترك كثيرا ممّا يشاؤه الله تعالى منه ويتعبّده به ، ولو كان استثناء مشيئة الله لأن يبقيه ويقدّره ويرفع عنه الموانع كان أيضا لا يأمن أن يكون خبره كذبا ؛ لأنّه قد يجوز ألّا يصير إلى المسجد مع تبقية الله تعالى له قادرا مختارا ، فلا يأمن من الكذب في هذا الخبر دون أن يستثني المشيئة العامة التي ذكرناها ، فإذا دخلت هذه المشيئة في الاستثناء فقد أمن أن يكون خبره كذبا إذا كانت هذه المشيئة متى وجدت وجب أن يدخل المسجد لا محالة».

قال : «بمثل هذا الاستثناء يزول الحنث عمّن حلف فقال : والله لأصيرنّ غدا إلى المسجد إن شاء الله ، لأنّه إن استثنى على سبيل ما بيّنا لم يجز أن يحنث في يمينه ، ولو خصّ استثناءه بمشيئة بعينها ثمّ كانت ولم يدخل معها إلى المسجد حنث في يمينه».

وقال غير أبي عليّ : إن المشيئة المستثناة هاهنا هي مشيئة المنع والحيلولة ؛ فكأنّه قال : إن شاء الله يخلّيني ولا يمنعني.

وفي الناس من قال : القصد بذلك أن يقف الكلام على جهة القطع وإن لم يلزم به ما كان يلزم لو لا الاستثناء ، ولا ينوي في ذلك إلجاء ولا غيره ؛ وهذا الوجه يحكى عن الحسن البصريّ.

واعلم أنّ للاستثناء الداخل على الكلام وجوها مختلفة :

فقد يدخل على الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الأخبار ، فإذا دخل ذلك اقتضى التوقيف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم

٥٩

ما يلزم به إزالته عن الوجه الذي وضع له ؛ ولذلك يصير ما تكلّم به كأنّه لا حكم له ؛ ولذلك يصحّ على هذا الوجه أن يستثنى في الماضي فيقول : قد دخلت الدار إن شاء الله ، ليخرج بهذا الاستثناء من أن يكون كلامه خبرا قاطعا أو يلزمه حكم.

وإنّما لم يصحّ دخوله في المعاصي على هذا الوجه ؛ لأنّ فيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى ؛ والمعاصي لا يصحّ ذلك فيها ؛ وهذا الوجه أحد ما يحتمله تأويل الآية. وقد يدخل الاستثناء في الكلام فيراد به اللطف والتسهيل.

وهذا الوجه يخصّ الطاعات ، ولهذا الوجه جرى قول القائل : لأقضينّ غدا ما عليّ من الدين ، ولأصلّينّ غدا إن شاء الله مجرى أن يقول : إنّي أفعل ذلك إن لطف الله تعالى فيه وسهّله ؛ فعلم أنّ المقصد واحد ، وأنّه متى قصد الحالف فيه هذا الوجه لم يجب إذا لم يقع منه هذا الفعل أن يكون حانثا وكاذبا ، لأنّه إن لم يقع علمنا أنّه لم يلطف له ، لأنّه لا لطف له.

وليس لاحد أن يعترض هذا بأن يقول : الطاعات لا بدّ فيها من لطف ؛ وذلك لأنّ فيها ما لا لطف فيه جملة ، فارتفاع ما هذه سبيله يكشف عن أنّه لا لطف فيه ، وهذا الوجه لا يصحّ أن يقال في الآية أنّه يخص الطاعات ؛ والآية تتناول كلّ ما لم يكن قبيحا ؛ بدلالة إجماع المسلمين على حسن الاستثناء ما تضمّنته في كلّ فعل لم يكن قبيحا.

وقد يدخل الاستثناء في الكلام ويراد به التسهيل والإقدار والتخلية والبقاء على ما هي عليه من الأحوال ؛ وهذا هو المراد به إذا دخل في المباحات.

وهذا الوجه يمكن في الآية إلّا أنه يعترضه ما ذكره أبو عليّ ممّا حكيناه من كلامه.

وقد يذكر استثناء المشيئة أيضا في الكلام وإن لم يرد به في شيء ممّا تقدم ؛ بل يكون الغرض إظهار الانقطاع إلى الله تعالى من غير أن يقصد إلى شيء من الوجوه المتقدّمة.

٦٠