تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

يجوزها المثقلون ، وأنا أريد أن أتخفّف لتلك العقبة» : وروي عن ابن عباس أنّه قال : هي عقبة كؤود في جهنّم ، وروي أيضا أنّه قال : العقبة هي النّار نفسها ؛ فعلى الوجه الأوّل يكون التفسير للعقبة بقوله : (فَكُّ رَقَبَةٍ) على معنى ما يؤدّي إلى اقتحام هذه العقبة ؛ ويكون سببا لجوازها والنجاة منها ، لأنّ فكّ رقبة وما أتى بعد ذلك ليس هو النار نفسها ولا موضعا منها.

وقال آخرون : بل العقبة ما ورد مفسّرا لها من فكّ الرقبة والإطعام في يوم المسغبة ؛ وإنّما سمّي ذلك عقبة لصعوبته على النفوس ومشقّته عليها.

وليس يليق بهذا الوجه الجواب الذي ذكرناه في معنى قوله (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) وأنّه على وجه الدعاء ؛ لأنّ الدعاء لا يحسن إلّا بالمستحقّ له ؛ ولا يجوز أن يدعى على أحد بأن لا يقع منه ما كلّف وقوعه ، وفكّ الرقبة والإطعام المذكور من الطاعات ؛ فكيف يدعى على أحد بأن لا يقع منه! فهذا الوجه يطابق أن تكون (الْعَقَبَةَ) هي النار نفسها أو عقبة فيها.

وقد اختلف الناس في قراءة : (فَكُّ رَقَبَةٍ) ، فقرأ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومجاهد ، وأهل مكة ، والحسن ، وأبو رجاء العطارديّ ، وأبو عمرو ، والكسائيّ : (فَكُّ رَقَبَةٍ) بفتح الكاف ونصب الرقبة ، وقرؤوا «أو أطعم» على الفعل دون الاسم. وقرأ أهل المدينة ، وأهل الشام ، وعاصم ، وحمزة ، ويحيى بن وثاب ، ويعقوب الحضرميّ : (فَكُ) بضم الكاف وبخفض (رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ) على المصدر وتنوين الميم وضمها.

فمن قرأ على الاسم ذهب إلى أنّ جواب الاسم بالاسم أكثر في كلام العرب ، وأحسن من جوابه بالفعل ، ألا ترى أنّ المعنى : ما أدراك ما اقتحام العقبة! هو فكّ رقبة ، أو إطعام ؛ وذلك أحسن من أن يقال : هو فكّ رقبة ، أو أطعم.

ومال الفرّاء إلى القراءة بلفظ الفعل ، ورجّحها بقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، لأنّه فعل ؛ والأولى أن يتبع فعلا. وليس يمتنع أن يفسّر اقتحام

٤٦١

العقبة ـ وإن كان اسما ـ بفعل يدلّ على الاسم ؛ وهذا مثل قول القائل : ما أدراك ما زيد؟ يقول ـ مفسّرا ـ : يصنع الخير ، ويفعل المعروف ، وما أشبه ذلك ، فيأتي بالأفعال.

والسغب : الجوع ؛ وإنّما أراد أنّه يطعم في يوم ذي مجاعة ؛ لأنّ الإطعام فيه أفضل وأكرم.

فأمّا «مقربة» فمعناه يتيما ذا قربى ؛ من قرابة النسب والرّحم ؛ وهذا حضّ على تقديم ذي النسب والقربى المحتاجين على الأجانب في الإفضال.

والمسكين : الفقير الشديد الفقر. والمتربة : مفعلة ، من التراب ، أي هو لاصق بالأرض من ضرّه وحاجته ؛ ويجرى مجرى قولهم في الفقير : مدقع ؛ وهو مأخوذ من الدّقعاء ؛ وهو الأرض التي لا شيء فيها.

وقال قوم : (ذا مَتْرَبَةٍ) أي ذا عيال. والمرحمة : مفعلة من الرحمة ؛ وقيل : إنّه من الرّحم. وقد يمكن في (مَقْرَبَةٍ) أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى ؛ بل هو من القرب ، الذي هو من الخاصرة ، فكأنّ المعنى أنّه يطعم من انطوت خاصرته ولصقت من شدّة الجوع والضرّ ؛ وهذا أعم في المعنى من الأوّل وأشبه بقوله (ذا مَتْرَبَةٍ) ؛ لأنّ كلّ ذلك مبالغة في وصفه بالضّرّ ؛ وليس من المبالغة في الوصف بالضرّ أن يكون قريب النّسب. والله أعلم بمراده (١).

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٢٤٧.

٤٦٢

سورة الشمس

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس : ١].

أنظر البقرة : ١ من الرسائل ، ٣ : ٢٩٧ ، ٣٠٥.

ـ (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧)) [الشمس : ٦ ، ٧].

أنظر الكافرون من الأمالي ، ١ : ١٣٨.

٤٦٣

سورة الليل

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ٢٠].

أنظر القصص : ٨٨ من الأمالي ، ١ : ٥٥٤.

٤٦٤

سورة الضّحى

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَالضُّحى) [الضحى : ١].

وممّا انفردت به الإمامية القول : بوجوب قراءة سورة تضمّ إلى الفاتحة في الفرائض خاصة على من لم يكن عليلا ، ولا معجلا بشغل أو غيره ، وأنّه لا يجوز قراءة بعض سورة في الفريضة ، ولا سورتين مضافتين إلى الحمد في الفريضة وإن جاز ذلك في السنة ، ولا إفراد كلّ واحدة من سورة «الضحى» وسورة «ألم نشرح» عن صاحبتها ، وكذلك مع انفراد سورة «الفيل» عن «لايلاف قريش» ، فالوجه في ذلك مع الاجماع المتردّد طريقة اليقين ببراءة الذمة ، فأمّا قرائة بعض سورة فانّما لا تجزي من لم يكن له عذر في ترك قرائة السورة الثانية بكمالها ؛ فأمّا صاحب العذر فكما يجوز له أن يترك قراءة جميع السورة الثانية فيجوز أن يترك بعضها ؛ لأنّه ليس ترك البعض بأكثر من ترك الكلّ ، والوجه في المنع من إفراد السورة التي ذكرناها ، أنّهم يذهبون إلى أنّ سورة «الضحى» و «ألم نشرح» سورة واحدة ، وكذلك «الفيل» و «لايلاف قريش» فإذا اقتصر على واحدة كان قارئا بعض سورة (١).

ـ (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٧].

[فان قيل : ما معنى هذه الآية] أو ليس هذا يقتضي اطلاقه الضلال عن الدين؟ وذلك ممّا لا يجوز عندكم قبل النبوّة ولا بعدها؟

الجواب : قلنا في معنى هذه الآية أجوبة :

__________________

(١) الانتصار : ٤٤.

٤٦٥

أولها : أنّه أراد : وجدك ضالّا عن النبوّة فهداك إليها ، أو عن شريعة الإسلام الّتي نزلت عليه وأمر بتبليغها إلى الخلق ، وبارشاده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ما ذكرناه أعظم النعم عليه. والكلام في الآية خارج مخرج الإمتنان والتذكير بالنعم.

وليس لأحد أن يقول : إنّ الظاهر بخلاف ذلك ؛ لأنّه لا بدّ في الظاهر من تقدير محذوف يتعلّق به الضلال ؛ لأنّ الضلال هو الذهاب والانصراف فلا بدّ من أمر يكون منصرفا عنه ، فمن ذهب إلى أنّه أراد الذهاب عن الدين فلا بدّ له من أن يقدّر هذه اللفظة ثمّ يحذفها ليتعلّق بها لفظ الضلال ، وليس هو بذلك أولى منّا فيما قدّرناه وحذفناه.

وثانيها : أن يكون أراد الضلال عن المعيشة وطريق الكسب ؛ يقال للرجل الّذي لا يهتدي طريق معيشته ووجه مكسبه : «هو ضالّ لا يدري ما يصنع ولا اين يذهب» ، فامتنّ الله تعالى عليه بأن رزقه وأغناه وكفاه.

وثالثها : أن يكون أراد : وجدك ضالّا بين مكّة والمدينة عند الهجرة فهداك وسلّمك من أعدائك. وهذا الوجه قريب لو لا أنّ السورة مكية وهي متقدّمة للهجرة إلى المدينة ، اللهم إلّا أن يحمل قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ) على أنّه سيجدك على مذهب العرب في حمل الماضي على معنى المستقبل فيكون له وجه.

ورابعها : أن يكون أراد بقوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) أي مضلولا عنه في قوم لا يعرفون حقّك فهداهم إلى معرفتك وأرشدهم إلى فضلك. وهذا له نظير في الاستعمال ؛ يقال : فلان ضالّ في قومه وبين أهله إذا كان مضلولا عنه.

وخامسها : أنّه روي في قراءة هذه الآية الرفع : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (٧)) على أنّ اليتيم وجده وكذلك الضالّ ، وهذا الوجه ضعيف ؛ لأنّ القراءة غير معروفة ؛ ولأنّ هذا الكلام يسمج ويفسد أكثر معانيه (١).

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٥٠.

٤٦٦

سورة الشّرح

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣)) [الشرح : ١ ـ ٣].

[فان قيل : ما معنى هذه الآية] أو ليس هذا صريحا في وقوع المعاصي منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

الجواب : قلنا : أمّا الوزر في أصل اللغة فهو الثقل ، وإنّما سمّيت الذنوب بأنّها أوزارا ؛ لأنّها تثقل كاسبها وحاملها ، فإذا كان أصل الوزر ما ذكرناه ، فكلّ شيء أثقل الإنسان وغمّه وكدّه وجهده جاز أن يسمّى وزرا ، تشبيها بالوزر الّذي هو الثقل الحقيقي. وليس يمتنع أن يكون الوزر في الآية إنّما أراد به غمّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهمّه بما كان عليه قومه من الشرك ، وأنّه كان هو وأصحابه بينهم مستضعفا مقهورا ، فكلّ ذلك ممّا يتعب الفكر ويكدّ النفس ، فلمّا أن أعلى الله كلمته ونشر دعوته وبسط يده خاطبه بهذا الخطاب تذكيرا له بمواقع النعمة عليه ، ليقابله بالشكر والثناء والحمد.

ويقوّي هذا التأويل قوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (١) وقوله عزوجل : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦)) (٢) والعسر بالشدائد والغموم أشبه ، وكذلك اليسر بتفريج الكرب وإزالة الهموم والغموم أشبه.

فإن قيل : هذا التأويل يبطله أنّ هذه السورة مكيّة نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في الحال الّذي ذكرتم أنّها تغمّه من ضعف الكلمة وشدّة الخوف من الأعداء ، وقبل أن يعلي الله كلمة المسلمين على المشركين ، فلا وجه لما ذكرتموه.

__________________

(١) سورة الإنشراح ، الآية : ٤.

(٢) سورة الانشراح ، الآية : ٥.

٤٦٧

قلنا : عن هذا السؤال جوابان : أحدهما : أنّه تعالى لمّا بشّره بأنّه يعلي دينه على الدين كلّه ويظهره عليه ويشفي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أعدائه غيظه ، وغيظ المؤمنين به ، كان بذلك واضعا عنه ثقل غمّه بما كان يلحقه من قومه ، ومطيّبا لنفسه ومبّدلا عسره يسرا ؛ لأنّه يثق بأنّ وعد الله تعالى حقّ لا يخلف ، فامتنّ الله تعالى عليه بنعمة سبقت الامتنان وتقدّمته.

والجواب الآخر : أن يكون اللفظ وإن كان ظاهره الماضي ، فالمراد به الاستقبال ؛ ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والاستعمال ؛ قال الله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) (١) وقوله تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) (٢) ، إلى غير ذلك ممّا شهرته تغني عن ذكره (٣).

ـ (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦)) [الشرح : ٥ ، ٦].

اعلم أنّ الصحيح هو أنّ الأمر إذا تكرّر ، فالظاهر يقتضي تناول الثاني لغير ما تناوله الأوّل (٤).

فأمّا قول من يشترط في تغاير متناول الأمر المتكرّر ألّا يكون الأمر الأوّل يتناول الجنس أو العهد ، وادّعى أنّ الجنس يقتضي الاستغراق ، فلا يجوز أن يفضل منه ما يتناوله الأمر الثاني ، وأنّ العهد يقتضي صرف مقتضى الثاني إلى مقتضى الأوّل ، فليس بصحيح ؛ لأنّ القائل إذا قال إفعل الضرب ، وكرّر ذلك ؛ فإنّ قوله الأوّل يحتمل أن يريد به الاستغراق للجنس ، ويحتمل أيضا أن يريد به بعض الجنس ، والظاهر من تغاير الأمرين تغاير مقتضاهما ، حتّى يكون كلّ واحد منهما مفيدا لما لا يفيده الآخر ، وأمّا العهد ، فإن كان بين المتخاطبين ، وعلم المخاطب أنّ المخاطب أراد الأوّل ، بعرف ، أو عادة ، حملناه على ذلك ضرورة ، ولقيام الدلالة ، فأمّا مع الإطلاق ، فيجب حمل الثاني على غير مقتضى الأوّل.

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٥٠.

(٢) سورة الزخرف ، الآية : ٧٧.

(٣) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٦١.

(٤) الذريعة ، ١ : ١٢٥.

٤٦٨

والّذي يحكى عن ابن عبّاس رحمه‌الله في قوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦)) ، وأنّه قال : لا يغلب عسر يسرين (١) ، من حيث حمل العسر المعرّف على أن الثاني هو الأوّل ، واليسر المنكر على التغاير ، فممّا يربأ بابن عبّاس رحمه‌الله عنه ، لموضعه من الفصاحة والعلم بالعربيّة.

والمراد بالآية أنّ مع جنس العسر جنس اليسر ، وإن عرّف أحدهما ونكّر الآخر ولا فرق بين ذلك وبين أن يقول : إنّ مع العسر اليسر ، ويكرّر ، أو يقول : إنّ مع عسر يسرا ، ويكرّر ؛ لأنّ المنكّر يدلّ على الجنس كالمعرّف ، كما يقول القائل : مع خير شرّ ، ويقول تارة أخرى : إنّ مع الخير الشرّ ، وأراد الله تعالى أن يبيّن أنّ العسر واليسر لا يفترقان.

فإن قيل : فما الوجه في التكرار ، إذا لم تذهبوا إلى حسن التأكيد.

قلنا : الوجه في ذلك التكرار هو الوجه فيما تكرّر من القرآن في سورة الرحمن والمرسلات وغيرهما ، وقد ذكرنا في كتاب الغرر الوجوه المختلفة فيه (٢).

__________________

(١) انظر الطبري ، ٢١ : ١٠٧ وفيه : قال ابن عبّاس : يقول الله تعالى خلقت عسرا واحدا وخلقت يسرين ولن يغلب عسر يسرين.

(٢) الذريعة ، ١ : ١٢٦. وسيأتي نقل كلامه من الغرر ، ذيل تفسير سورة «الكافرين».

٤٦٩

سورة العلق

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق : ١].

[بحث فقهي]

وممّا انفردت به الإمامية المنع في صلاة الفريضة خاصة من القرائة بعزائم السجود وهي سجدة لقمان وسجدة الحواميم ، وسجدة النجم واقرأ باسم ربك الذي خلق.

وروي عن مالك أنه كان يكره ذلك (١) ، وأجاز أبو حنيفة قراءة السجدات فيما يجهر فيه بالقرائة من الصلاة دون ما لا يجهر فيه (٢) ، وأجازه الشافعي في كل صلاة (٣). والوجه في المنع من ذلك مع الاجماع المتكرر أن في كل واحدة من هذه السور سجودا واجبا محتوما ، فان سجده كان زائدا في الصلاة ، وإن تركه كان مخلا بواجب.

فإن قيل : السجود إنما يجب عند قراءة الموضع المخصوص من السور التي فيها ذكر السجود ، وأنتم تمنعون من قرائة كل شيء من السور.

قلنا : إنما منع أصحابنا من قرائة السورة وذلك إسم يقع على الجميع ويدخل فيه موضع السجود ، وليس يمتنع أن يقرأ البعض الذي لا ذكر فيه للسجود إلا أن قراءة بعض سورة في الفرائض عندنا لا يجوز فامتنع ذلك لوجه آخر (٤).

__________________

(١) عمدة القاري ، ٧ : ١١٢.

(٢) المغني (لابن قدامة) ، ١ : ٦٥٤.

(٣) نفس المصدر.

(٤) الانتصار : ٤٣.

٤٧٠

سورة البيّنة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)) [البينة : ٤ ـ ٥].

أنظر البقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

٤٧١

سورة الزّلزلة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ٢].

معناه أخرجت ما فيها من الكنوز ، وقال قوم : عني به الموتى ، وأنّها أخرجت موتاها ، فسمّى الله تعالى الموتى ثقالا تشبيها بالحمل الذي يكون في البطن ، لأنّ الحمل يسمّى ثقلا ، قال تعالى : (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) (١). والعرب تقول : إنّ للسيد الشجاع ثقلا على الأرض ، فإذا مات سقط عنها بموته ثقل ، قالت الخنساء ترثي أخاها صخرا :

أبعد ابن عمرو من آل الشري

د حلّت به الأرض أثقالها (٢)

معناه أنّه لمّا مات حلّ عنها بموته ثقل لسؤدده وشرفه ، وقال قوم : معنى «حلّت» زيّنت موتاها به ، وهو مأخوذ من الحلية ؛ وقال الشّمردل اليربوعيّ يرثي أخاه :

وحلّت به أثقالها الأرض وانتهى

لمثواه منها وهو عفّ شمائله (٣) (٤)

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٨٩.

(٢) ديوانها ٢٠١.

(٣) البيت من قصيدة مذكورة (في أمالي اليزيدي ٣٢ ـ ٣٤ ، والأغاني ١٢ / ١١٣ ـ ١١٤ ، وأبيات منها في ابن أبي الحديد ٤ / ٣٨٣ ، وحماسة ابن الشجري ٨٣) وفي حاشية بعض النسخ : شمائله : أخلاقه ، والواحد شمال ، بالكسر ، قال الشاعر :

وما لومي أخي من شماليا

(٤) الأمالي ، ١ : ١١٦.

٤٧٢

سورة العاديات

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) [العاديات : ١]

أنظر يوسف : ١٨ من الأمالي ، ١ : ١٢٤.

٤٧٣

سورة التكاثر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤)) [التكاثر : ٣ ، ٤].

أنظر الكافرون من الأمالي ، ١ : ١٣٨.

ـ (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦)) [التكاثر : ٥ ، ٦].

أنظر يوسف : ٢٤ من التنزيه : ٧٣.

٤٧٤

سورة العصر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)) [العصر : ١ ـ ٣].

أنظر طه : ١٢ من الأمالي ، ١ : ١٧٩.

٤٧٥

سورة الكوثر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)) [سورة الكوثر : ١ ، ٣].

قال لي قائل وقد أسى : إذا كنتم معشر المسلمين تظنون الآن من نفوسكم أنّ من أتاكم بمثل سورة من سور القرآن صغيرة كانت أو كبيرة ، كانت الحجّة له لا عليه.

فها أنا أورد لكم مثل سورة «إنّا أعطيناك الكوثر» على وجهين :

أحدهما : «لقد أتيناك المفخر ، فتهجّد به وأشهر ، واصبر فعدوّك الاصغر».

والآخر : «لقد أنذرناك المحشر ، وشددنا أزرك بحذر ، فاصبر على الطاعة تؤجر».

فقلت له : الاوّل كلام أبدل بكلام في معناه ، فقال : وما الذي تخرجه عن المعارضة وإن كان كذلك ، مع أنّ الثاني على غير هذه الصفة ، وقد صحّت فيه الفصاحة والنظم اللّذان وقع التحدّي بهما. ثم ذكر (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (١) وادّعى أنّها لبعيدة من الفصاحة.

وسيدنا «فسح الله في مدّته» لينعم بما عنده في ذلك ، وبايضاح خروج ذلك عن المعارضة ، هذا ان كان قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (٢) يوجب تخييرهم طوال السور وقصارها.

وهل يجوز أن يكون القول بقيد سورة يختارها هو عليه ، أو يكون هذا

__________________

(١) سورة الكافرون ، الآية : ١.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٣.

٤٧٦

القول قبل نزول القصار ، أو يكون الهاء راجعة في هذا المكان عليه عليه‌السلام وهو لأن مثله ممّن لم يستفد من المخلوقين العلم والحظّ لا يأتي بذلك ولا أولاه بالاجابة عن هذه الشبهة ، فلما يرد من عنده المزيّة القويّة الراجحة ، لا أعدمه الله تعالى التوفيق وقمع به كلّ ضالّ وزنديق.

الجواب :

إعلم أنّ الذي يعلم أنّ هذا الذي حكي في المسألة من الكلام المسجوع ليس بمعارضة للقرآن ، وأنّ معارضته لا تتأتّى في أنف الزمان ، كما لا تتأتى في سالفه. أنّ من المعلوم ضرورة أنّ الذين تحدّوا بالقرآن من فصحاء العرب وبلغائهم وخطبائهم وشعرائهم كانوا على المتأخرة لو كانت متأتية غير ممنوعة أقدر وبها أبصر وأخبر.

فلمّا وجدناهم مع التصريح والتعجيز وتحمل الضرر الشديد في مفارقة الاديان والاوطان والربانيات والعبادات قعدوا عن المعارضة ، ونكلوا عن المقابلة علمنا أنّ من يأتي بعدهم عنها أعجز ومنها أبعد.

وإنّ كلّ شيء تكلّفه بعض الملحدين في هذه الازمان القريبة وادّعوا أنّه معارضة ليس بواقع ؛ لأنّ ما يقدر عليه أهل زماننا هذا من كلام فصيح ، ذلك السلف عليه أقدر و [ما] أعجز عنه ذلك السلف ، فمن يأتي بعدهم أولى بالعجز.

وهذا دليل في نفي المعارضة ، وما يحتاج معه إلى تصفّح المعارضات وتأمّلها وبيان قصور منزلتها عن منزلة القرآن.

فأمّا هذا الكلام المسطور المحكي في المسألة كلام لا فصاحة له ولا بلاغة فيه ، ولا يتضمّن معنى دقيقا ولا جليلا ، فكيف يعارض به ويقابل ما هو في غاية الفصاحة ، والكلفة والتحمّل فيه ظاهر.

وأين قوله : «لقد أتيناك المفخر» من قوله : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ)؟ وأين قوله : «فتهجد لله واشهر» من قوله : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)؟ وأين قوله : «فاصبر فعدوك الاصغر» من قوله : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)؟ ومن له أدنى علم

٤٧٧

بفصاحة وبلاغة لا يعدّ هذا الذي تكلّف ـ وأمارات الكلفة والهجنة فيه بادية ـ فصيحا ولا بليغا بل ولا صحيحا مستقيما.

فأمّا (الْكَوْثَرَ) فقد قيل : إنّه نهر في الجنّة. وقيل : إنّ الكوثر النهر بلغة أهل السماوة. وقيل : إنّ الكوثر إنّما أراد به الكثير ، فكأنّه تعالى قال : إنّا أعطيناك الخير الكثير. وهو أعجب التأويلين إلي ، وأدخل في أن يكون الكلام في غاية الفصاحة ، فانّ العبارة عن الكثير بالكوثر من قوي الفصاحة.

وقوله «فصل لربك وانحر» ان استقبل القبلة في نحرك ، وهو أجود التأويلات في هذه اللفظة من أفصح الكلام وأبلغه وأشدّه اختصارا ، والعرب تقول : هذه منازل تتناحر. أي تتقابل. وقال بعضهم :

أبا حكم هل أنت عم مجالد

وسيد أهل الابطح المتناحر (١)

فأمّا قوله : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) فمن أعجب الكلام بلاغة واختصارا وفصاحة ، وكم بين الشاني والعدوّ في الفصاحة وحسن العبارة. وقيل : إنّ الابتر هو الذي لا نسل له ولا ذكر له من الولد ، وإنّه عني بذلك العاص بن وابل السهمي. وقيل : إنّ الابتر هاهنا هو المنقطع الحجّة والامل والخير ، وهو أحبّ إلي وأشبه بالفصاحة.

فهذه السورة على قصرها كما تراها في غاية البلاغة إذا انتقدت ، وركية تنبع كلّ فصاحة إذا اختبرت. ومن لم يقدر على هذا الاختيار والاعتبار ، فيكفيه في نفي المعارضة والقدرة عليها ما قدّمناه من الدليل على سبيل الجملة.

فأمّا قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) فداخل فيه الطوال والقصار من غير تعيين على سورة يقع الاختبار عليها منه عليه‌السلام من غير تفرقة بين القصار والطوال.

ولا خلاف بين المسلمين في ذلك ؛ لأنّ التحدي أوّلا وقع بجميع القرآن في قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ

__________________

(١) سمعه الفراء من بعض بني أسد انظر لسان العرب مادّة «نحر».

٤٧٨

بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١) ثمّ وقع الاقتصار على سورة واحدة فقال تعالى (: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ولم يفرق بين طويلة وقصيرة. والهاء في قوله «مثله» راجعة إلى القرآن لا إليه عليه‌السلام بلا شك ولا مرية.

فأمّا سورة الكافرين وادّعاء من جهل في حالها أنّها بعيدة من الفصاحة ، والذي يكذب هذه الدعوى على خلوّها من الفصاحة ولقالوا له : كيف يعدّ زيادة فصاحة قراءتك على فصاحتنا ، وهذه السورة خالية من الفصاحة (٢) ، فقد وافقوا على ما هو دون ذلك ، وهم للفصاحة أنقد وبمواضعها أعلم. وإنّما يجهل فصاحة هذه السورة من لم يعرف ، فظنّ أنّ تكرار الالفاظ فيها لغير فائدة مجدّدة ، والامر بخلاف ذلك.

وقد بيّنا في كتابنا المعروف ب «غرر الفرائد» (٣) أنّ هذه السورة وإن تكرّرت فيها الألفاظ ، فكلّ لفظ منها تحته معنى مجدّد ، وأنّ المتكرر ليس هو على وجه التأكيد الذي ظنّه الاغبياء ، وبيّنا فوائد كلّ متكرّر من ألفاظها ، ومن فهم ما قلناه فيها علم أنّها في سماء الفصاحة والرجاحة (٤) (٥).

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٨٨.

(٢) كذا في المطبوعة.

(٣) كذا والمشهور «غرر الفوائد».

(٤) سيأتي في سورة الكافرون ان شاء الله تعالى.

(٥) الرسائل ، ١ : ٤٣٦.

٤٧٩

سورة الكافرون

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)) [الكافرون : ١ ـ ٦].

إن سأل سائل فقال : ما وجه التّكرار في سورة الكافرون ، وما الذي حسّن إعادة النفي لكونه عابدا ما يعبدون ؛ وكونهم عابدين ما يعبد ، وذكر ذلك مرّة واحدة يغني. وما وجه التكرار أيضا في سورة الرحمن لقوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١).

الجواب : يقال له : قد ذكر ابن قتيبة في معنى التّكرار في سورة الكافرون وجها ، وهو أن قال : القرآن لم ينزل دفعة واحدة ، وإنّما كان نزوله شيئا بعد شيء ، والأمر في ذلك ظاهر ، فكأنّ المشركين أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا له : استلم بعض أصنامنا حتى نؤمن بك ؛ ونصدّق بنبوّتك ، فأمره الله تعالى بأن يقول له : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) الكافرون (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ، ثمّ غبروا مدّة من الزمان وجاؤوه فقالوا له : أعبد آلهتنا ، واستلم بعض أصنامنا يوما أو شهرا أو حولا ، لنفعل مثل ذلك بإلهك ، فأمره الله تعالى بأن يقول لهم : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣)) ؛ أي إن كنتم لا تعبدون إلهي إلّا بهذا الشرط فإنّكم لا تعبودنه أبدا.

وقد طعن بعض الناس على هذا التأويل بأن قال : إنّه يقتضي شرطا وحذفا

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية : ١٣.

٤٨٠