تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

سورة عبس

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)) [عبس : ١ ـ ٤].

فإن قيل : أليس قد عاتب الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إعراضه عن ابن أمّ مكتوم لمّا جاءه وأقبل على غيره وهذا أيسر ما فيه أن يكون صغيرا.

الجواب : قلنا : أمّا ظاهر الآية فغير دالّ على توجّهها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا فيها ما يدلّ على أنّه خطاب له ، بل هي خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه. وفيها ما يدلّ عند التأمل على أنّ المعني بها غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه وصفه بالعبوس وليس هذا من صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قرآن ولا خبر مع الاعداء المنابذين ، فضلا عن المؤمنين المسترشدين ؛ ثمّ وصفه بأنّه يتصدّى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء ، وهذا ممّا لا يوصف به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يعرفه ، فليس هذا مشبها لأخلاقه الواسعة وتحنّنه على قومه وتعطّفه ، وكيف يقول له : «وما عليك الّا يزكى» ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبعوث للدعاء والتنبيه؟ وكيف لا يكون ذلك عليه؟ وكان هذا القول إغراء بترك الحرص على إيمان قومه. وقد قيل إنّ هذه السورة نزلت في رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان منه هذا الفعل المنعوت فيها ، ونحن وإن شككنا في عين من نزلت فيه فلا ينبغي أن نشكّ إلى أنّها لم يعن بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأيّ تنفير أبلغ من العبوس في وجوه المؤمنين والتلّهي عنهم والإقبال على الأغنياء الكافرين والتصدي لهم؟ وقد نزّه الله تعالى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا هو دون هذا في التنفير بكثير (١).

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٦٦.

٤٤١

ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)) [عبس : ٣٨ ـ ٤٢].

أنظر البقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

٤٤٢

سورة التّكوير

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)) [التكوير : ٨ ـ ٩].

[إن سأل سائل] فقال : كيف يصحّ أن يسأل من لا ذنب له ولا عقل؟ وأيّ فائدة في سؤالها عن ذلك؟ وما وجه الحكمة فيه؟ وما المؤودة؟ ومن أيّ شيء اشتقاق هذه اللفظة؟.

الجواب : قلنا : أمّا معنى (سُئِلَتْ) ففيه وجهان :

أحدهما : أن يكون المراد أنّ قاتلها طولب بالحجّة في قتلها ، وسئل عن قتله لها ، وبأيّ ذنب كان ؛ على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجّة. فالقتلة هاهنا هم المسؤولون على الحقيقة لا المقتولة ؛ وإنّما المقتولة مسؤول عنها. ويجري هذا مجرى قولهم : سألت حقي ، أي طالبت به ؛ ومثله قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (١) ؛ أي مطالبا به مسؤولا عنه.

والوجه الآخر : أن يكون السؤال توجّه إليها على الحقيقة على سبيل التوبيخ لقائلها ، والتقريع له ، والتنبيه له على أنّه لا حجّة له في قتلها ؛ ويجري هذا مجرى قوله تعالى لعيسى عليه‌السلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) (٢) ، على طريق التوبيخ لقومه وإقامة الحجّة عليهم.

فإن قيل على هذا الوجه : كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم!.

والجواب : أنّ في الناس من زعم أنّ الغرض بهذا القول إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه وإدخال الغمّ عليه في ذلك الوقت على سبيل العقاب لم يمتنع أن

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٣٤.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ١١٦.

٤٤٣

يقع ، وإن لم يكن من المؤودة فهم له ؛ لأنّ الخطاب وإن علّق عليها ، وتوجّه إليها فالغرض في الحقيقة به غيرها ؛ وهذا يجري مجرى من ضرب ظالم طفلا من ولده يقول : ولم ضربت؟ ما ذنبك؟ وبأي شيء استحلّ هذا منك؟ وغرضه تبكيت الظالم لا خطاب الطفل ، فالأولى أن يقال في هذا : إنّ الأطفال وإن كانوا من جهة العقول لا يجب في وصولهم إلى الأغراض المستحقّة أن يكونوا كاملي العقول ؛ كما يجب مثل ذلك في الوصول إلى الثواب ؛ فإنّ الخبر متظاهر ، والأمة متّفقة على أنّهم في الآخرة ، وعند دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات ؛ وأفضل الأحوال ؛ وإنّ عقولهم تكون كاملة ؛ فعلى هذا يحسن توجّه الخطاب إلى المؤودة ؛ لأنّها تكون في تلك الحال ممّن تفهم الخطاب وتعقله ، وإن كان الغرض منه التبكيت للقائل ، وإقامة الحجّة عليه.

وقد روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ وابن عباس ، ويحيى بن يعمر ، ومجاهد ، ومسلم بن صبيح ، وأبي الضحى ؛ ومروان ، وأبي صالح ، وجابر بن زيد أنّهم قرؤوا «سالت» بفتح السين والهمزة وإسكان التاء (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) باسكان اللام وضم التاء الثانية ؛ على أنّ المؤودة موصوفة بالسؤال ، وبالقول (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ).

وروى القطعيّ عن سليمان الأعمش عن حفص عن عاصم : (قُتِلَتْ) بضم التاء الثانية ، وفي «سئلت» مثل قراءة الجمهور بضم السين.

وروي عن أبي جعفر المدنيّ : (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) بالتشديد وإسكان التاء الثانية.

وروي عن بعضهم : (سُئِلَتْ) بفتح الميم والواو.

فأمّا من قرأ «سألت» بفتح السين ؛ فيمكن فيه الوجهان اللذان ذكرناهما ؛ من أنّ الله تعالى أكملها في تلك الحال ، وأقدرها على النطق.

والوجه الآخر : أن يكون معنى «سألت» أي سئل لها وطولب بحقّها وانتصف لها من ظالمها ؛ فكأنّها هي السائلة تجوّزا واتّساعا. ومن قرأ بفتح

٤٤٤

السين من «سألت» ويضم التاء الثانية من (قُتِلَتْ) فعلى أنّها هي المخاطبة بذلك.

ويجوز في هذا الوجه أيضا «قتلت» بإسكان التاء الأخيرة كقراءة الجماعة ؛ لأنّه إخبار عنها ، كما يقال : سأل زيد : بأي ذنب ضرب ؛ وبأي ذنب ضربت. ويقوّي هذه القراءة في «سألت» ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «يجيء المقتول ظلما يوم القيامة وأوداجه تشخب دما ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك ، متعلّقا بقاتله يقول : يا رب سل هذا فيم قتلني».

فأمّا القراءة المأثورة عن حفص عن عاصم في ضمّ التاء الأخيرة من «قتلت» مع ضم السين (سُئِلَتْ) فمعناها (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) : ما تبغي؟ فقالت : (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) فأضمر قولها. والعرب قد تضمر مثل هذا لدلالة الخطاب عليه ، وارتفاع الإشكال عنه ؛ مثل قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) (١) ؛ أي ويقولان ذلك ؛ ونظائره في القرآن كثيرة جدا.

فأمّا قراءة من قرأ : (قُتِلَتْ) بالتشديد فالمراد به تكرار الفعل بالموؤدة هاهنا ، وإن كان لفظها لفظ واحدة فالمراد به الجنس ، وإرادة التكرار جائزة.

فأمّا من قرأ (الْمَوْؤُدَةُ) بفتح الميم والواو ، فعلى أنّ المراد الرحم والقرابة ، وأنّه يسأل عن سبب قطعها وتضييعها ، قال الله تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (٢).

فأمّا المؤودة فهي المقتولة صغيرة ، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات بأن يدفنوهنّ أحياء ، وهو قوله تعالى : (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) (٣).

وقوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٤).

ويقال : إنّهم كانوا يفعلون ذلك لأمرين :

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٢٧.

(٢) سورة محمّد ، الآية : ٢٢.

(٣) سورة النحل ، الآية : ٥٩.

(٤) سورة الأنعام ، الآية : ١٤٠.

٤٤٥

أحدهما : أنّهم كانوا يقولون : إنّ الملائكة بنات الله ، فألحقوا البنات بالله ، فهو أحقّ بها منّا.

والأمر الآخر : أنّهم كانوا يقتلونهنّ خشية الإملاق ، قال الله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (١).

[أقول] : وجدت أبا علي الجبائيّ وغيره يقول : إنّما قيل لها موؤدة ؛ لأنها ثقّلت بالتراب الذي طرح عليها حتى ماتت. وفي هذا بعض النظر ؛ لأنّهم يقولون من الموؤدة : وأدت ائد وأدا ، والفاعل وائد ، والفاعلة وائدة ، ومن الثّقل يقولون : آدنى الشيء يئودني ؛ إذا أثقلني ، أودا.

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سئل عن العزل فقال : «ذاك الوأد الخفيّ».

وقد روي عن جماعة من الصحابة كراهية ذلك ، وقال قوم في الخبر الذي ذكرناه : إنّه منسوخ بما روي عنه عليه‌السلام : أنّه قيل له : إنّ اليهود يقولون في العزل هو الموؤدة الصغرى ، فقال : «كذبت يهود ، لو أراد الله تعالى أن يخلقه لم يستطع أن يصرفه».

وقد يجوز أن يكون قوله عليه‌السلام : «ذاك الوأد الخفيّ» على طريق تأكيد الترغيب في طلب النسل وكراهيّة العزل ؛ لا على أنّه محظور محرّم (٢).

ـ (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)) [التكوير : ٢٦ ـ ٢٩].

[إن سأل سائل] فقال : ما تأويل هذه الآية؟ أو ليس ظاهرها يقتضي أنّا لا نشاء شيئا إلّا والله تعالى شاء له ، ولم يخصّ إيمانا من كفر ، ولا طاعة من معصية؟

الجواب : قلنا : الوجه المذكور في هذه الآية ، أنّ الكلام متعلّق بما تقدّمه من ذكر الاستقامة ؛ لأنّه تعالى قال : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) ثمّ قال : (وَما

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٥١.

(٢) الأمالي ، ٢ : ٢٤٠.

٤٤٦

تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ؛ أي ما تشاؤون الاستقامة إلّا والله تعالى مريد لها ؛ ونحن لا ننكر أن يريد الله تعالى الطاعات ؛ وإنّما أنكرنا إرادته المعاصي ؛ وليس لهم أن يقولوا : تقدّم ذكر الاستقامة لا يوجب قصر الكلام عليها ؛ ولا يمنع من عمومه ؛ كما أنّ السبب لا يوجب قصر ما يخرج من الكلام عليه حتى لا يتعدّاه ، وذلك أنّ الّذي ذكروه إنّما يجب فيما يستقلّ بنفسه من الكلام دون ما لا يستقلّ.

وقوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) لا ذكر للمراد فيه ؛ فهو غير مستقلّ بنفسه ؛ وإذا علّق بما تقدّم من ذكر الاستقامة استقلّ ؛ على أنّه لو كان للآية ظاهر يقتضي ما ظنّوه ـ وليس لها ذلك ـ لوجب الانصراف عنه بالأدلّة الثابتة ؛ على أن الله تعالى لا يريد المعاصي ولا القبائح ؛ على أنّ مخالفينا في هذه المسألة لا يمكنهم حمل الآية على العموم ؛ لأنّ العباد قد يشاؤون عندهم ما لا يشاؤه الله تعالى ؛ بأن يريدوا الشيء ويعزموا عليه ، فلا يقع لمنع أو غيره ؛ وكذلك قد يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكفّار الإيمان ، وتعبّدنا بأن نريد من المقدم على القبيح تركه ؛ وإن كان تعالى عندهم لا يريد ذلك إذا كان المعلوم أنّه لا يقع ؛ فلا بدّ لهم من تخصيص الآية ؛ فإذا جاز لهم ذلك بالشّبهة جاز لنا مثله بالحجّة ؛ وتجرى هذه الآية مجري قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (١) (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢) ، وقوله تعالى : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٣) ، في تعلّق الكلام بما قبله.

فإن قالوا : فالآية تدلّ على مذهبنا وبطلان مذهبكم من وجه آخر ؛ وهو أنّه عزوجل قال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ؛ وذلك يقتضي أنّه يشاء الاستقامة في حال مشيئتنا لها ؛ لأنّ «أن» الخفيفة إذا دخلت على الفعل المضارع اقتضت الاستقبال ؛ وهذا يوجب أنّه يشاء أفعال العباد في كلّ حال ، ويبطل ما تذهبون إليه من أنّه إنّما يريد الطاعات في حال الأمر.

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية : ١٩.

(٢) سورة الإنسان ، الآية : ٣٠.

(٣) سورة المدثر ، الآية : ٥٦.

٤٤٧

قلنا : ليس في ظاهر الآية ألّا نشاء إلّا ما شاءه الله تعالى في حال مشيئتنا كما ظننتم ؛ وإنّما يقتضي حصول مشيئته لما نشاؤه من الاستقامة من غير ذكر لتقدّم ولا تأخّر ؛ ويجري ذلك مجرى قول القائل : ما يدخل زيد هذه الدار إلّا أن يدخلها عمرو ؛ ونحن نعلم أنّه غير واجب بهذا الكلام أن يكون دخولهما في حالة واحدة ؛ بل لا يمتنع أن يتقدّم دخول عمرو ، ويتلوه دخول زيد ، و «أن» الخفيفة وإن كانت للاستقبال على ما ذكروه ، فلم يبطل على تأويلنا معنى الاستقبال فيها ؛ لأنّ تقدير الكلام : وما تشاؤون الطاعات إلّا بعد أن يشاء الله تعالى ، ومشيئته تعالى قد كانت لها حال الاستقبال.

وقد ذهب أبو عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبّائيّ إلى أنه لا يمتنع أن يريد تعالى الطاعات حالا بعد حال ؛ وإن كان قد أرادها في حال الأمر ، كما يصحّ أن يأمر بها أمرا بعد أمر ؛ قال : لأنّه قد يصحّ أن يتعلّق بإرادته ذلك منّا بعد الأمر وفي حال الفعل مصلحة ؛ ويعلم تعالى أنّا نكون متى علمنا ذلك كنّا إلى فعل الطاعات أقرب ، وعلى هذا المذهب لا يعترض بما ذكروه.

والجواب الأول واضح إذا لم نذهب إلى مذهب أبي عليّ في هذا الباب ؛ على أنّ اقتضاء الآية للاستقبال من أوضح دليل على فساد قولهم ؛ لأنّ الكلام إذا اقتضى حدوث المشيئة واستقبالها بطل قول من قال منهم : إنّه مريد لنفسه ، أو مريد بإرادة قديمة ، وصحّ ما نقوله من إنّ إرادته متجدّده محدثة.

ويمكن في تأويل الآية وجه آخر مع حملنا إيّاها على العموم ؛ من غير أن نخصّها بما تقدّم ذكره من الاستقامة ؛ ويكون المعنى : وما تشاؤون شيئا من فعالكم إلّا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئته ، وإقداركم عليها والتخلية بينكم وبينها ؛ وتكون الفائدة في ذلك الإخبار عن الافتقار إلى الله تعالى ؛ وأنّه لا قدرة للعبد على ما لم يقدّره الله تعالى عزوجل ، وليس يجب عليه أن يستبعد هذا الوجه ؛ لأنّ ما تتعلّق به المشيئة في الآية محذوف غير مذكور ؛ وليس لهم أن

٤٤٨

يعلّقوا قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) بالأفعال دون تعلّقه بالقدرة ؛ لأنّ كلّ واحد من الأمرين غير مذكور ، وكلّ هذا واضح بحمد الله (١).

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٥٠٧ وراجع أيضا الملخص ، ٢ : ٣٨٩ و ٣٩٣.

٤٤٩

سورة الانفطار

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار : ١٤].

أنظر غافر : ١٨ من الذخيرة : ٥٠٤.

٤٥٠

سورة المطفّفين

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥)) [المطففين : ٣٤ ـ ٣٥]

أنظر البقرة : ١٥ من الأمالي ، ٢ : ١٢٦.

٤٥١

سورة البروج

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) [البروج : ١].

أنظر البقرة : ١ من الرسائل ، ٣ : ٢٩٧ ، ٣٠٥.

ـ (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) [البروج : ٤].

أنظر البقرة : ١ من الرسائل ، ٣ : ٢٩٧ ، ٣٠٥.

٤٥٢

سورة الطّارق

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) [الطارق : ١٥].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق : ١٧].

أنظر الأنعام : ٣٣ من الأمالي ، ٢ : ٢٢٨.

٤٥٣

سورة الأعلى

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣)) [الأعلى : ١ ـ ٣]

أنظر الواقعة : ٧٤ من الانتصار : ٤٥ والبقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١)) [الأعلى : ١٠ ، ١١].

أنظر البقرة : ٢٠٢ من الأمالي ، ١ : ٣٧٤.

ـ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الاعلى : ١٤ ، ١٥].

[قال الناصر رحمه‌الله :] «تكبيرة الافتتاح من الصلاة» ...

لم أجد لأصحابنا إلى هذه الغاية نصّا في [هذه المسألة] ، ويقوى في نفسي أن تكبيرة الافتتاح من الصلاة ، ... دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه من أنّ تكبيرة الافتتاح من الصلاة : أنّه لا خلاف في أنّ نيّة الصلاة إمّا تتقدم عليه بلا فصل أو تقارنه ، على الاختلاف بين الفقهاء في ذلك ، ونيّة الصلاة لا تجب مقارنتها إلّا لما هو من الصلاة لتؤثر فيه ، وما ليس من الصلاة فلا يجب أن تتقدم عليه ولا تقارنه ، وفي وجوب مقارنة النيّة أو التقديم لتكبيرة الافتتاح دليل على أنّها من جملة الصلاة.

وأيضا فلا يكون من الصلاة إلّا ما كان شرطه استقبال القبلة ؛ لأنّ استقبال القبلة إنّما هو شرط في الصلاة دون غيرها من الأفعال ، ولا يلزم على هذا الأذان والإقامة ؛ لأنّ الأذان والإقامة مستحب فيهما استقبال القبلة ، وليس بواجب فيهما. وأيضا لو لم تكن تكبيرة الافتتاح من الصلاة ، ما كان الوضوء

٤٥٤

شرطا فيه ؛ لأنّ الوضوء إنّما هو شرط في أفعال الصلاة دون ما هو خارج عنها.

فإن قيل : إنّما هو شرط فيه الوضوء ؛ لأنّ الصلاة عقيبه بلا فصل ، فلو وقع بغير وضوء لدخل في أوّل جزء من الصلاة بغير وضوء.

قلنا : ليس الأمر كذلك ؛ لأنّا لو فرضنا رجلا مستقبلا للقبلة وعلى يمينه حوض عال يقدر أن يتناول منه الماء بغير مشقّة ، فابتدأ بأوّل التكبير ومدّ بقوله : (الله) صوته ، وهو في حال امتداد صوته يتوضّأ من ذلك الماء ، حتّى يكون فراغه من آخر الوضوء قبل أن يختم لفظ التكبير بحرف أو حرفين ، فمعلوم أنّ هذا جائز ، فعلمنا أنّ الوضوء شرط في التكبير نفسه لا للتعذر من وقوع الصلاة عقبه بغير وضوء.

فإن تعلّق المخالف بقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥)) فجعله مصلّيا عقيب الذكر ؛ لأنّ الفاء للتعقيب ، والذكر الذي يكون عقيبه الصلاة وهو ذكر الافتتاح ، فلو كان من الصلاة لكان مصلّيا معه ، والله تعالى جعله مصلّيا عقيبه.

والجواب عن ذلك : أنّا لا نسلّم أن المراد بالذكر تكبيرة الافتتاح ، بل لا نمنع أن يراد به الأذكار التي يؤتى بها قبل الصلاة من الخطبة والأذان.

على أنّ أصحابنا (١) يذهبون إلى أنّه مسنون للمصلّي أن يكبّر تكبيرات قبل تكبيرة الافتتاح التي هي الفرض ، وليست هذه التكبيرات من الصلاة ، فيجوز أن يحمل الذكر الّذي تضمنته الآية على هذه التكبيرات (٢).

__________________

(١) المختلف ، ٢ : ١٨٨.

(٢) الناصريات : ٢٠٨.

٤٥٥

سورة الغاشية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ) [الغاشية : ٩ ـ ٨].

أنظر القصص : ٨٨ من الأمالي ، ١ : ٥٥٤ والقيامة : ٢٢ ، ٢٣ من الملخص ، ٢ : ٢٥٧.

٤٥٦

سورة الفجر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) [الفجر : ١٦].

أنظر الأنبياء : ٧ ، ٨ من التنزيه : ١٤١.

ـ (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢].

أنظر القيامة : ٢٢ ، ٢٣ من الملخص ، ٢ : ٢٥٧ وأيضا المقدّمة الثانية ، الأمر الثاني.

٤٥٧

سورة البلد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) [البلد : ٤].

أنظر يونس : ١٠٠ من الأمالي ، ١ : ٦٤.

ـ (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)) [البلد : ١٠ ـ ٢٠]

[إن سأل سائل] فقال : [ما تأويل هذه الآيات؟ وما معنى ما تضمّنته؟]

الجواب : أمّا ابتداء الآية فتذكير بنعم الله تعالى عليهم ، وما أزاح به علّتهم في تكاليفهم ، وما تفضّل به عليهم من الآلات التي يتوصّلون بها إلى منافعهم ، ويستدفعون بها المضارّ عنهم ؛ لأنّ الحاجة ماسّة في أكثر المنافع الدينيّة والدنيوية إلى العين للرؤية ، واللسان للنطق ، والشفتين لحبس الطعام والشراب ومسكهما في الفم والنطق أيضا.

فأمّا النّجد في لغة العرب فهو الموضع المرتفع من الأرض ، والغور الهابط منها ؛ وإنّما سمّي الموضع المرتفع من أرض العرب نجدا لارتفاعه.

واختلف أهل التأويل في المراد بالنجدين ، فذهب قوم إلى أنّ المراد بهما طريقا الخير والشرّ ؛ وهذا الوجه يروى عن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وابن مسعود ، والحسن وجماعة من المفسرين.

وروي أنّه قيل لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : إنّ ناسا يقولون في قوله :

٤٥٨

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) : إنّهما الثديان ، فقال عليه‌السلام : لا ، إنهما الخير والشرّ.

وروي عن الحسن أنّه قال : بلغني أنّ رسول لله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أيها الناس ، إنّهما نجدان : نجد الخير ونجد الشر ، فما جعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير».

وروي عن قوم آخرين أنّ المراد بالنّجدين ثديا الأمّ.

فإن قيل : كيف يكون طريق الشرّ مرتفعا كطريق الخير ، ومعلوم أنّه لا شرف ولا رفعة في الشرّ؟.

قلنا : يجوز أن يكون إنّما سمّاه نجدا لظهوره وبروزه لمن كلّف اجتنابه ؛ ومعلوم أنّ الطريقتين جميعا باديان ظاهران للمكلّفين. ويجوز أيضا أن يكون سمّي طريق الشرّ نجدا من حيث يحصل في اجتناب سلوكه والعدول عنه الشرف والرفعة ؛ كما يحصل مثل ذلك في سلوك طريق الخير ؛ لأنّ الثواب الحاصل في اجتناب طريق الشرّ كالثواب في سلوك طريق الخير.

وقال قوم : إنّما أراد بالنجدين أنّا بصرناه وعرفناه ما له وعليه ، وهديناه إلى طريق استحقاق الثواب ؛ وثنّى النجدين على طريق عادة العرب في تثنية الأمرين إذا اتّفقا في بعض الوجوه ، وأجرى لفظة أحدهما على الآخر ، كما قيل في الشمس والقمر : القمران ، قال الفرزدق :

لنا قمراها والنّجوم الطّوالع (١)

ولذلك نظائر كثيرة.

فأمّا قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ؛ ففيه وجهان :

أحدهما : أن يكون (فَلَا) بمعنى الجحد وبمنزلة «لم» ، أي فلم يقتحم العقبة ؛ وأكثر ما يستعمل هذا الوجه بتكرير لفظ «لا» ؛ كما قال سبحانه : (فَلَا

__________________

(١) ديوانه : ٥١٩ ؛ صدره :

أخذنا بآفاق السّماء عليكم

٤٥٩

صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (١) أي لم يصدّق ولم يصلّ ، وكما قال الحطيئة :

وإن كانت النّعماء فيهم جزوا بها

إن أنعموا ، لا كدّروها ولا كدّوا (٢)

وقلّما يستعمل هذا المعنى من غير تكرير لفظ ؛ لأنهم لا يقولون : لا جئتني ولا زرتني ؛ يريدون : ما جئتني ؛ فإن قالوا : لا جئتني ولا زرتني صلح ؛ إلّا أنّ في الآية ما ينوب مناب التكرار ويغني عنه ، وهو قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ؛ فكأنّه قال : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ، ولا آمن ؛ فمعنى التكرار حاصل.

والوجه الآخر : أن يكون «لا» جارية مجرى الدعاء ؛ كقولك : لا نجا ولا سلم ، ونحو ذلك.

وقال قوم : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي فهلّا اقتحم العقبة! أو أفلا اقتحم العقبة قالوا : ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) ، ولو كان أراد النفي لم يتّصل الكلام.

وهذا الوجه ضعيف جدّا ، لأنّ قوله تعالى : (فَلَا) خال من لفظ الاستفهام ، وقبح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع ، وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله :

ثمّ قالوا : تحبّها؟ قلت : بهرا

عدد القطر والحصى والتراب (٣)

فأمّا الترجيح بأنّ الكلام لو أريد به النفي لم يتصل وقد بيّنا أنّه متّصل ، مع أنّ المراد به النفي ؛ لأنّ قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) معطوف على قوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ، أي فلا اقتحم العقبة ، ثمّ كان من الذين آمنوا. والمعنى أنّه ما اقتحم العقبة ولا آمن ؛ على ما بيّنّا.

فأمّا المراد بالعقبة فاختلف فيه ، فقال قوم : هي عقبة ملساء في جهنّم ، واقتحامها فكّ رقبة. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ أمامكم عقبة كؤودا لا

__________________

(١) سورة القيامة ، الآية : ٣١.

(٢) ديوانه : ٢٠.

(٣) ديوانه : ٤٢٣ (مطبعة السعادة).

٤٦٠