تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

قائلا له بعينه ، وإنّما يكون قائلا لما معناه معنى هذا الكلام وفائدته فائدته ، فظاهر الأمر متروك لا محالة (١).

[الرابع :] وممّا انفردت به الإمامية القول : بأنّ الجنب والحائض يجوز أن يقرأ من القرآن ما شاء إلّا عزائم السجود وهي سجدة لقمان وسجدة الحواميم وسورة النجم ، و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (٢) من غير تعيين على سبع آيات أو أكثر منها أو أقلّ (٣).

دليلنا على صحة ما ذكرنا الاجماع الذي تكرّر وقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) وقوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (٤) وظاهر عموم ذلك يقتضي حال الجنابة وغيرها ، فان ألزمنا قراءة السجدات ، قلنا : أخرجناها بدليل ، ويمكن أن يكون الفرق بين عزائم السجود وغيرها ، أنّ فيها سجودا واجبا والسجود لا يكون إلّا على طهر (٥).

__________________

(١) الناصريات : ٢٢١.

(٢) الانتصار : ٣١.

(٣) الرسائل : ٢ / ٢١٨.

(٤) سورة علق ، الآية : ١.

(٥) الانتصار : ٣١.

٤٢١

سورة المدّثر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر : ٤].

[قال الناصر رحمه‌الله :] «لا يجوز إزالة النجاسات بشيء من المائعات ، سوى الماء المطلق».

عندنا : أنّه يجوز إزالة النجاسة بالمائع الطّاهر وإن لم يكن ماء (١) ؛ وبه قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف (٢).

وقال محمّد ، وزفر ، ومالك ، والشافعي : لا يجوز ذلك (٣).

دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه بعد الاجماع المقدّم ذكره ، قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) فأمر بتطهير الثوب ولم يفصّل بين الماء وغيره.

وليس لهم أن يقولوا : إنّا لا نسلّم أنّ الطهارة تتناول الغسل بغير الماء.

لأنّ تطهير الثوب ليس هو بأكثر من إزالة النجاسة عنه ، وقد زالت بغسله بغير الماء مشاهدة ؛ لأنّ الثوب لا يلحقه عبادة.

وأيضا ما روي عنه عليه‌السلام في المستيقظ من النوم : «لا يغمس يده في الإناء حتّى يغسلها» (٤) فأمر بما يتناوله اسم الغسل ، ولا فرق في ذلك بين سائر المائعات.

__________________

(١) لا يخفى أنه لم يوافقه أحد من علمائنا على ما ذهب إليه منذ زمنه وإلى يومنا هذا انظر الخلاف ، ١ : ٥٩.

(٢) المجموع ، ١ : ٩٥.

(٣) نفس المصدر.

(٤) صحيح مسلم ، ١ : ٢٣٣ ح ٨٧.

٤٢٢

وأيضا حديث عمّار رضي الله عنه وقوله عليه‌السلام : «إنّما يغسل الثوب من المني والدم» (١) وهذا عموم فيما يسمّى غسلا.

وأيضا حديث خولة بنت يسار ، أنها سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب ، فقال عليه‌السلام : «حتّيه ثمّ اقرصيه ، ثمّ اغسليه» (٢) ولم يذكر الماء.

وليس لهم أن يقولوا : إنّ إطلاق الأمر بالغسل ينصرف إلى ما يغسل [به] في العادة ، ولا يعرف في العادة إلّا الغسل بالماء دون غيره.

وذلك أنّه لو كان الأمر على ما قالوه ، لوجب ألّا يجوز غسل الثّوب بماء الكبريت والنفط وغيرهما ، ممّا لم تجر العادة بالغسل به ، فلمّا جاز ذلك ولم يكن معتادا بغير خلاف ـ علم أنّ المراد بالخبر ما يتناوله اسم الغسل حقيقة من غير اعتبار العادة (٣).

ـ (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدّثر : ٥].

أنظر الأنفال : ١١ من الانتصار : ١٥ والأعراف : ١٥٧ من الناصريات : ٦٧.

ـ (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧)) [المدثر : ٣٨ ، ٤٧].

[استدلّ السيّد بهذه الآيات على أن الكفّار مكلّفون بالفروع أيضا ، قال :] وهذا يقتضي أنّهم عوقبوا مع كفرهم على أنّهم لم يصلّوا ، وهذا يقتضي كونهم مخاطبين بالصلاة.

وليس لأحد أن يقول : أيّ حجّة في قول أصحاب النار ، ولعلّ الأمر

__________________

(١) سنن البيهقي ، ١ : ١٤.

(٢) انظر سنن البيهقي ، ٢ : ٤٠٨.

(٣) الناصريات ١٠٥.

٤٢٣

بخلاف ما قالوه ؛ وذلك أنّ جميع معارف أهل الآخرة ضروريّة ، فلا يجوز أن يعتقدوا جهلا ، وهم ملجؤن إلى الامتناع من فعل القبيح ، فلا يجوز أن يقع منهم كذب ، ولا ما جرى مجراه.

وليس له أن يحمل قوله تعالى : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) ، على أنّ المراد لم نكن من أهل الصلاة والإيمان. وذلك أن هذا يقتضي التكرار للمعنى الواحد ؛ لأنّ قوله سبحانه : (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) يغني عن أن ينفي أن يكونوا من أهل الصلاة والإيمان ، وأيضا فإنّ الظاهر من قول القائل : لم أك مصلّيا ، نفي فعل الصلاة ، دون الإيمان بها (١).

ـ (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [المدثر : ٥٦].

أنظر التكوير : ٢٦ ، ٢٩ من الأمالي ، ١ : ٥٠٧.

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٧٨.

٤٢٤

سورة القيامة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩)) [القيامة : ١٦ ـ ١٩].

أنظر طه : ١١٤ من الأمالي ، ٢ : ٣٠٠.

ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣].

[استدلّ المجوزون لرؤية الله تعالى بهذه الآية ، قالوا :] النظر اذا عدّى ب «إلى» اختصّ بالرؤية وزال عنه الاحتمال ، وربّما زادوا في ذلك بأن يكون متعلّقا بالوجه (١).

[يجاب عن ذلك بأن] الآية التي تعلّقوا بها إنّما يتضمّن ذكر النظر دون الرؤية ، وليس النظر محتملا للرؤية ، ولا هي ممّا يستفاد بهذه اللفظة في اللغة.

والذي يدلّ على ذلك جعلهم الرؤية غاية للنظر ، فيقولون : «ما زلت أنظر إليه حتّى رأيته» ، ويقول أحدهم لغيره وقد شاهد شيئا ادّعى صاحبه أنّه لم يشاركه في رؤيته ... ، (٢) والشيء لا يكون غاية لنفسه ، فلو لا أنّ النظر غير الرؤية لما ساغ هذا الكلام.

ودعوى من ادّعى منهم أنّ ذلك وإن استعمل فعلى سبيل المجاز ، لا يلتفت إليها ؛ لأنّه تحكّم واقتراح بغير حجّة ، والظاهر من الاستعمال الحقيقة ، وإنّما ينتقل إلى المجاز بالأدلّة.

__________________

(١) الملخص ، ٢ : ٢٥٥.

(٢) بياض في الأصل.

٤٢٥

ويدلّ أيضا : على ذلك قولهم «نظرت إلى الهلال فلم أره» ، و «نظرت كذا فما رأيته» ، كما تقولون : «أصغيت إليه فلم أسمعه» و «ذقته فلم أجد له طعما» ، فلو كان النظر هو الرؤية لكان هذا الكلام يتضمّن النفي والإثبات للشيء الواحد.

ويقوّي أيضا ما ذكرناه انّا نعلم بالمشاهدة كون الناظر ناظرا إذا كان محدقا نحو الشيء ، ولا نعلمه رائيا له إذا كان المرئي خفيا ملتبسا ، ولهذا يحتاج في أنّه راء له إلى الرجوع إلى قوله ، ولا يحتاج إلى ذلك في كونه ناظرا ، ولهذا يقولون : «رأيته ينظر إلى كذا» ولا يقولون : «رأيته يرى كذا».

ويدلّ أيضا عليه : أنّ أهل اللغة جعلوا للنظر أصنافا من حيث عرّفوه ، وجرى في الحكم مجرى ما يشاهدونه ، فقالوا : «نظر غضبان» و «نظر راض» و «نظر شرر» و «نظر متعة» و «نظر بغضة» ولم نجدهم صنّفوا للرؤية أصنافا ، ولا جعلوها ضروبا ، فيجب أن يكون المختلف الضروب عندهم غير ما هو شيء واحد ، ولهذا لا يسمع من أحد منهم «رؤية محبّ» و «رؤية راض» ، ولا أن يبدّلوا لفظة «النظر» في المواضع التي ذكرناها بلفظ الرؤية ، فدلّ على أنّ الفائدة فيهما مختلفة.

والنظر عندنا هو تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئيّ أو مكانه طالبا لرؤيته ، وهذه الفائدة لا تصحّ فيه تعالى ، فينبغي أن ينفى عن الآية فائدة النظر المختصّة بالغير ، ويحمل ذلك على ما يصحّ من الانتظار أو غيره.

على أنّا لو سلّمنا لهم أنّ النظر يفيد الرؤية وأنّها إحدى فوائده ، لم يسلّم استدلالهم أيضا بالآية ؛ لأنّ لفظ «النظر» لها فوائد كثيرة من الذكر والاعتبار والتعطّف والانتظار ، فما المنكر من أن يريد بها في الآية الانتظار ، ولا شبهة في أنّ الانتظار ممّا يفاد بهذه اللفظة ، قال الله تعالى : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (١) ، ويقول القائل : «إنّما أنظر إلى الله وإليك» ولا يريد إلّا الانتظار ، وقال الشاعر :

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٣٥.

٤٢٦

إنّي إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغنيّ الموسر (١)

وقال آخر :

كلّ الخلائق ينظرون سجاله

نظر الحجيج إلى طلوع هلال

واحتمال لفظة : «النظر» للانتصار أوضح من أن يستشهد عليه وأظهر ، وكلّ ما استشهد بأنّه ممّا عدّي النظر فيه ب «إلى» ولم يرد به الرؤية ، ويسقط تعلّقهم بالتعدية.

فأمّا ضمّهم إلى ذلك ذكر الوجوه ، فأوّل ما نقول لهم فيه :

من أين لكم أنّ «النظر» إذا قرن بالوجه وعدّي ب «إلى» لم يحتمل إلّا الرؤية ، وما الشاهد على ذلك ، فليس هذا ممّا يقبل فيه محض الاقتراح؟ ومتى طلبوا على ذلك شاهدا معروفا عجزوا عنه.

فأمّا استشهاد بعضهم على هذه الدعوى ، بأنّهم يقولون : «أنظر إليّ بوجهك» فخلف من الكلام غير مستعمل ولا معروف ، وإنّما المعروف [قولهم :] «أقبل عليّ بوجهك» و «أنظر إليّ بعينك» من حيث كانت العين آلة في الرؤية.

على أنّ هذا لو كان معروفا لم يكن نظيرا للآية ؛ لأنّ النظر في قولهم : «انظر إليّ بوجهك» لو صحّ ، معلّق بالوجه على حدّ يقتضي كونه آلة فيه ، والوجه ليس يكون كالآلة إلّا في النظر الذي هو الرؤية ، والآية أضيف النظر فيها إلى الوجوه إضافة لا يقتضي كونها آلة ، فجاز أن يحمل على الانتظار ؛ لأنّه لا مانع من ذلك كما منع فيما أوردوه.

وليس لأحد أن يقول : كيف يصحّ أن تكون الوجوه منتظرة ؛ لأنّها كما لا تكون منتظرة كذلك لا تصحّ أن تكون رائية على الحقيقة ، فما لقائل ذلك إلّا مثل ما عليه؟ وهذا هو الذي يدلّ على أنّ المراد بالوجوه غير الجوارح ، وقد استقصينا هذا الكلام في مسألة كنّا أمليناها قديما نقضنا بها كلام بعض من نظر طريقة الأشعري في هذه الآية.

__________________

(١) البيت لجميل بن معمر.

٤٢٧

على أنّ في أصحابنا من أنشد أبياتا يتضمّن تعليق النظر بالوجوه مع التعدية ب «إلى» ، والمراد بها الانتظار ، فمن ذلك قول الشاعر :

ويوما بذي قار رأيت وجوههم

إلى الموت من وقع السّيوف نواظرا

وقول الآخر :

وجوه يوم بدر ناظرات

إلى الرّحمان يأتي بالفلاح

فإن قيل : كما انّ تعليق الإدراك بالبصر يقتضي أن تكون الرؤية دون سائر ما تحتمله هذه اللفظة ، فكذلك النظر إذا علّق بالوجه يجب أن يكون مفيدا للرؤية.

قلنا : الفرق بين الأمرين أنّ الإدراك إنّما وجب فيه متى علّق بالبصر أن يكون محمولا على الرؤية ، من حيث علّق بما يختصّ بكونه آلة في الرؤية دون غيرها ، وليس كذلك الآية ؛ لأنّ النظر لم يعلّق فيها بما يختصّ بكونه آلة في الرؤية من حيث لم تكن الوجه آلة في الرؤية ، وليس من حيث كانت العين وهي آلة الرؤية في الوجه تلحقه هذه التسمية ، كما لم يجب أن تكون آلة في الشمّ لكون آلة الشمّ فيه ؛ ولأنّ الوجوه المذكورة فيها لم ترد بها الجوارح ، وإنّما كنى بها عن الحمل ؛ ولأنّا لما ادّعينا ذلك في الإدراك استشهدنا عليه بالمتعارف في الخطاب ، وليس في شيء من الخطاب تعليق النظر على الوجوه.

ثمّ يقال لهم : أيجب حمل النظر المقرون بذكر الوجوه على الرؤية متى أريد بالوجوه الجوارح ، أو إذا أريد بذلك ذو الوجوه؟

فإن قالوا : على الوجهين يجب أن يحمل على الرؤية كما يروا ، بطل استشهادهم بقول القائل : «أنظر إليّ بوجهك» ، وبما يقوله في الإدراك إذا علّق بالبصر ؛ لأنّ كلّ ذلك إنّما هو في الوجوه التي هي الجوارح.

فإن قالوا : يجب حمل ذلك على الرؤية متى أريد بالوجوه الجوارح.

قلنا لهم : فدلّوا على أنّ المراد بالوجوه في الآية الجوارح ؛ فإنّا لا نسلّم ذلك لهم ، ونقول : إنّ المراد بها ذو الوجوه ، وبهذا جرت عادة العرب ؛ لأنّهم يقولون : «هذا وجه الرائي» و «وجه الأمر» ، وقال الله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا

٤٢٨

وَجْهَهُ) (١) ، و (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢) ، وقال تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)) (٣) وقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩)) (٤) ولا شبهة في أنّ المراد بكلّ ذلك الذوات دون غيرها.

وقد قيل : إنّه إنّما جاز أن يعبّر عن الجملة بالوجه ، من حيث كان التمييز يقع بين الجمل بالوجوه ، والمعرفة بها يتعلّق ، فأجريت مجراها.

فإن قيل : كيف يكون المراد بالوجوه في الآية الجمل ، وقد وصفها بصفة لا تليق إلّا بالأعضاء وهي النضارة؟

قلنا : من شأن العرب بأن يثنّي الكلام تارة على ألفاظه وأخرى على معانيه ، والبناء على الألفاظ أحسن ، وإذا كان تعالى قد كنّى عن الجمل بلفظ الوجوه [تارة ، و] أخرى في الوصف على اللفظ والنضارة من صفة الوجوه ، كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) (٥) وإنّما أراد أهلها ولم يقل فيها ، وكذلك قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) فأجرى الوصف على اللفظ ، ثمّ قال : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٦) فعاد إلى المعنى.

على أنّ البشارة أيضا من صفات الوجوه التي هي الجوارح ، وكذلك النعمة ، ولم يقتض ذلك في حمل قوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) (٧) ، وقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) على الجوارح التي تليق بها هذه الصفات.

على أنّه لا بدّ من حمل ذكر الوجوه في الآية [على أنّ] المراد به الجمل دون الجوارح على كلّ حال ، لأنّ الجوارح لا تصحّ أن تكون ناظرة بمعنى رائية ، ولا بمعنى منتظرة ، ولا يصحّ إضافة شيء من فوائد هذه اللفظة إليها على الحقيقة.

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٨٨.

(٢) سورة الرحمن ، الآية : ٢٧.

(٣) سورة القيامة ، الآيتان : ٢٤ ، ٢٥.

(٤) سورة الغاشية ، الآيتان : ٨ ، ٩.

(٥) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

(٦) سورة الأعراف ، الآية : ٤.

(٧) سورة القيامة ، الآية : ٢٥.

٤٢٩

فإن قالوا : لو كان النظر يحتمل الانتظار لصحّ أن يقال : «أنا منتظر إلى فلان» كما يقال : «أنا ناظر إليه» ؛ لأنّ معناهما إذا كان واحد فينبغي أن لا يختلف تصرّفهما؟

قيل لهم : لو منع هذا من أن يكون النظر يحتمل الانتظار ، لمنع من احتماله للرؤية ؛ لأنّ الرؤية ؛ لا تعدّى ب «إلى» كما يعدّى النظر. ألا ترى انّهم لا يقولون : «رأيت فلان» كما يقولون : «نظرت إليه».

على أنّ ما هو معروف ضرورة من اللغة ، [أنّه] لا يقدح فيه الاستنباط والاستخراج ، وأنّ النظر يحتمل الانتظار ، ويعبّر به عنه ، [و] أظهر من أن يبطل بمثل هذا الكلام.

على أنّ اللفظتين وإن اتّفقتا في المعنى والفائدة ، فغير منكر أن يختلف تصرّفهما ، ولهذا نظائر كثيرة في اللغة ، ومنه قولهم : «فلان يحبّ فلانا» معناه أنّه يريد منافعه ؛ لأنّ المحبّة هي الإرادة ، ولا يسوغ أن يدلّ على هذا الوجه لفظ المحبّة بلفظ الإرادة ، حتّى يقول : «فلان يريد فلانا» ، فصار في إحدى اللفظتين من التعارف ما ليس في الأخرى ، وإن كان معناهما واحدا ، وقد روي هذا الوجه في الآية (١) عن جماعة من الصحابة والتابعين من غير طريق.

وليس لهم أن يقولوا : متى حملناها على الانتظار احتجنا أن نقدّر محذوفا ؛ لأنّه تعالى لا يصحّ أن يكون منتظرا في نفسه ، وإنّما منتظر ثوابه وعطائه ، وإذا حملناها على الرؤية لم نحتج إلى تقدير محذوف ، فتأويلكم يقتضي كون الآية مجازا وتأويلنا لا يقتضي ذلك.

والجواب عنه : انّ العدول عن ظاهر الكلام واجب إذا اقتضى الدليل ذلك ، ولمّا كان تعالى في نفسه لا يصحّ أن يكون مرئيا ولا منتظرا ، وجب أن نقدّر ما يصحّ ذلك فيه ، وما عدلنا كلمة (٢) عن ظاهره من القرآن أكثر من أن يحصى.

__________________

(١) في الأصل : وقد روى هذا الوجه عن جماعة عن جماعة من غير طريق في الآية عن ...

(٢) في الأصل : كلتا.

٤٣٠

على أنّا لا نسلّم أنّ ذلك مجاز ؛ لأنّ تعارف الخطاب في هذه اللفظة واستعمالها في الغالب مع الحذف بجعل المفهوم منها هو الحقيقة ؛ لأنّهم يقولون : «انتظرت زيدا» ، «أنا منتظر فلانا» فيستعملون لفظ الانتظار مع حذف ما يتعلّق به على الحقيقة من الأفعال ؛ لأنّ الانتظار لا يصحّ على ذات زيد ، وإنّما يصحّ على أفعاله ، وجرى مجرى لفظ «الملك» في قولهم : «فلان ملك داره وعبده» ، في أنّه وإن تعلّق محذوف فهو الحقيقة بالعرف ، وهذا الاستعمال مع الحذف أظهر وأشهر من قولهم : «تملّك التصرّف في داره وعبده».

وقد روي عن أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه وآله ـ وعن جماعة من أصحابه والتابعين ، كابن عبّاس ومجاهد في هذه الآية وجه آخر ، وهو أن يكون المراد أنّها ناظرة إلى ثواب ربّها ؛ لأنّ الثواب ممّا يصحّ عليه الرؤية ، فحذف ذكر الثواب كما حذف في قوله تعالى : (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) (١) وقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) (٢) وما أشبه ذلك.

وليس يمتنع أن يريد تعالى بالآية الوجهين معا ، فيريد أنّها منتظر ثوابه ومنتظر إليه وتعانيه مستبشرة به.

فإن قالوا : فكيف يوصف أهل الجنّة بالانتظار والمنتظر لا يكون نعمه خالصا ، بل لا بدّ أن يكون مغموما منتقطا؟

قلنا لهم : إنّما يلحق الغمّ والتنقيص المنتظر متى كان ما ينتظره يحتاج إليه في الحال ، وملحقة بقوله : «ناظرة» وهو غير قاطع على الوصول إليه ، فأمّا من ينتظر شيئا هو غير محتاج إليه في الحال ، وهو واثق بوصوله إليه عند حاجته ، فهو غير مغموم ولا متنقص ، بل ذلك زائد في سروره ونعيمه.

وليس لهم أن يقولوا : إنّ من قطع على حصول الشيء ، لا يوصف بأنّه منتظر له!

وذلك أنّ الانتظار هو توقّع ما يعلم أو يظنّ حصوله في المستقبل ، ولا فرق

__________________

(١) سورة الغافر ، الآية : ٤٢.

(٢) سورة الفجر ، الآية : ٢٢.

٤٣١

فيه بين العلم والظنّ ، وكيف يكون كذلك وقد حمل جماعة من الصحابة الآية على الانتظار ، وليس هم ممّن يخفى عليه حقيقة الانتظار ، وقد قال الله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) (١) ، وإنّما أراد به الانتظار الذي يصاحب العلم لا محالة.

وقد يمكن في الآية ـ على تسليم أنّ النظر فيها هو الرؤية ـ وجه آخر لا يفتقر فيه إلى تقدير محذوف يتعلّق بالرؤية ، إذا حملناه على الرؤية ، وإن حملنا النظر في الآية على الانتظار لم نحتج أيضا إلى تقدير محذوف ، وهو أن نحمل قوله : (إِلى رَبِّها) على أنّ المراد به نعمة ربّها ؛ لأنّ الآلاء (٢) النعم ، وفي واحدها لغات أربع يقال : إلى مثل أنا وإلى مثل معى (٣) ، إلى مثل إني (٤) وإلى مثل حلى (٥).

قال أعشى بكر بن وائل :

أبيض لا يرهب الهزال ، ولا

يقطع رحما ، ولا يخون إلا (٦)

أراد لا يخون نعمة من أنعم عليه.

وإنّما أسقط التنوين من (إِلى رَبِّها) للإضافة ، وهذا وجه قاطع للسيف (٧).

وليس لأحد أن يطعن على هذا الوجه أنّه مبتدع لم يسبق إليه أحد من المفسّرين وأهل التأويل!

وذلك إنّ ما طريقه الاستنباط والاستخراج ، يجوز أن يقع للمتأخّر فيه ما لا يقع للمتقدّم ، وإن كان الوجه جائزا صحيحا لم يضرّه ألّا يسبق إليه.

على أنّه غير مسلّم أنّه لم يسبق إليه ؛ لأنّ التأويلين المرويّين عن الصحابة

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢١٠.

(٢) الآلاء معناها النعم ومفردها إلى.

(٣) الأمعاء جمع معدة.

(٤) الإني : واحد الإناء.

(٥) في الأصل : حسى.

(٦) ديوانه ، ١٥٥ ، لسان العرب (ألى) أبيض : كريم ، الهزال كناية عن قلّة ذات اليد ، وخيانة النعمة أن يبخل بها.

(٧) هكذا تقرأ الكلمة في الأصل.

٤٣٢

والتابعين جميعا يجوز أن يطابقا هذا التأويل ؛ لأنّ من حمل الآية على أنّ المراد بها انتظار الثّواب ، ومن حمل المراد بها (١) على نظر الثواب ، لم يفصح بأنّ لفظة «إلى» في الآية هي اسم أو حرف ، وجائز على تأويله أن يكون اسما ، وإذا كانت اسما فهو التأويل الذي ذكرناه أخيرا بعينه.

وليس لهم أن يقولوا : كيف يصحّ الجمع بين قولكم : إنّ النظر لا يحتمل الرؤية جملة ، وبين ما رويتموه من تأويل من حمل الآية على رؤية الثواب ، أو ليس هذا يوجب أنّ النظر يحتمل الرؤية؟

وذلك أنّ النظر وإن كان لم يحتمل الرؤية على سبيل الحقيقة ، فقد يعبّر به عنها على سبيل التجوّز من حيث كان طريقا إليها ، والعرب قد تعبّر بالشيء عمّا يقاربه ، ويكون طريقا إليه ، فليس فيما قلناه اختلاف ولا تناقض بحمد الله (٢).

__________________

(١) في الأصل : بهما.

(٢) الملخص ، ٢ : ٢٥٧ وراجع أيضا الأمالي ، ١ : ٦١.

٤٣٣

سورة الإنسان

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الإنسان : ١].

أنظر إبراهيم : ٢٥ من الانتصار : ١٦٠.

ـ (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ...) [الإنسان : ٣].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ...) [الإنسان : ٩].

أنظر القصص : ٨٨ من الأمالي ، ١ : ٥٥٤.

ـ (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ ...) [الإنسان : ١٥ ـ ١٦].

أنظر الشعراء : ٣٢ من الأمالي ، ١ : ٥٢.

ـ (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٢٩ ـ ٣٠]

أنظر التكوير : ٢٦ ، ٢٩ من الأمالي ، ١ : ٥٠٧ والبقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

٤٣٤

سورة المرسلات

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ١٥].

أنظر الكافرون من الأمالي ، ١ : ١٣٨.

ـ (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦)) [المرسلات : ٣٥ ـ ٣٦].

أنظر هود : ١٠٣ ، ١٠٤ ، ١٠٥ من الأمالي ، ١ : ٦٨.

٤٣٥

سورة النّبأ

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) [النبأ : ٦].

أنظر المؤمنون : ١٧ من الرسائل ، ٣ : ١٤٠.

ـ (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) [النبأ : ٩].

[إن سأل سائل] فقال : إذا كان السّبات هو النوم ؛ فكأنّه قال : وجعلنا نومكم نوما ، وهذا مما لا فائدة فيه.

الجواب : قيل له في هذه الآية وجوه :

منها : أن يكون المراد بالسّبات الراحة والدّعة ، وقد قال قوم : إنّ اجتماع الخلق كلّهم كان في يوم الجمعة ، والفراغ منه في يوم السبت ، فسمّي اليوم بالسبت للفراغ الذي كان فيه ؛ ولأنّ الله تعالى أمر بني إسرائيل فيه بالاستراحة من الأعمال ؛ قيل : وأصل السّبات التمدّد ؛ يقال : سبتت المرأة شعرها إذا حلّته من العقص وأرسلته ، قال الشاعر :

وإن سبتته مال جثلا كأنّه

سدى واهلات من نواسج خثعما (١)

أراد : إن أرسلته.

ومنها : أن يكون المراد بذلك القطع ؛ لأنّ السبت القطع ، والسبت أيضا الحلق ؛ يقال : سبت شعره سبتا إذا حلقه ، وهو يرجع إلى معنى القطع ، والنعال السّبتيّة التي لا شعر عليها ؛ قال عنترة :

__________________

(١) الجثل من الشعر : ما كثف واسود ، وفي حواشي بعض النسخ : «شبه شعرها في وقت الإرسال بسدى ثبات مسترخيات مرسلات. والنواسج : جمع ناسجة ، وخثعم : قبيلة».

٤٣٦

بطل كأنّ ثيابه في سرحة

يحذى نعال السّبت ، ليس بتوأم (١)

ويقال لكلّ أرض مرتفعة منقطعة ممّا حولها : سبتاء ، وجمعها سباتي ، فيكون المعنى على هذا الجواب : جعلنا نومكم سباتا ، أي قطعا لأعمالكم وتصرّفكم. ومن أجاب بهذا الجواب يقول : إنّما سمّي يوم السبت بذلك لأنّ بدء الخلق كان يوم الأحد ؛ وجمع يوم الجمعة ، وقطع يوم السبت ، فترجع التسمية إلى معنى القطع.

وقد اختلف الناس في ابتداء الخلق فقال أهل التوراة : إنّ الله ابتدأه في يوم الأحد ، وكان الخلق في يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة ، ثمّ فرغ في يوم السبت ؛ وهذا قول أهل التوراة.

وقال آخرون : إنّ الابتداء كان في يوم الاثنين إلى السبت ، وفرغ في يوم الأحد ؛ وهذا قول أهل الإنجيل.

فأمّا قول أهل الاسلام فهو أنّ ابتداء الخلق كان يوم السبت ، واتّصل إلى يوم الخميس ، وجعلت الجمعة عيدا ؛ فعلى هذا القول الأخير يمكن أن يسمّي اليوم بالسبت ، من حيث قطع فيه بعض خلق الأرض.

فقد روى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إنّ الله تعالى خلق التربة في يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد».

ومنها : أن يكون المراد بذلك أنّا جعلنا نومكم سباتا ليس بموت ؛ لأنّ النائم قد يفقد من علومه وقصوده وأحواله أشياء كثيرة يفقدها الميّت ؛ فأراد تعالى أن يمتنّ علينا بأن جعل نومنا الذي تضاهي فيه بعض أحوالنا أحوال الميّت ليس بموت على الحقيقة ، ولا بمخرج لنا عن الحياة والإدراك ؛ فجعل التأكيد

__________________

(١) المعلقة : ١٩٩ ـ بشرح التبريزي ، وفي حواش بعض النسخ : «السرحة : شجرة طويلة ، يصفه بالطول. وأراد بقوله : «يحذى نعال السبت» أنه من الملوك ؛ لأن نعال السبت نعال الملوك. والسبت : شيء يشبه القرظ ، تدبغ به النعال ؛ ووصفه بالشدة والقوة في قوله : «ليس بتوأم» ، لأنه إذا لم يكن معه توأم كان أقوى وأتم لخلقه».

٤٣٧

بذكر المصدر قائما مقام نفى الموت ، وسادّا مسدّ قوله : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ) ليس بموت.

ويمكن أن يكون في الآية وجه آخر لم يذكر فيها ، وهو أن السّبات ليس هو كلّ نوم ، وإنّما هو من صفات النوم إذا وقع على بعض الوجوه ، والسّبات هو النوم الممتدّ الطويل السكون ، ولهذا يقال فيمن وصف بكثرة النوم إنّه مسبوت ، وبه سبات ؛ ولا يقال ذلك في كلّ نائم ، وإذا كان الأمر على هذا لم يجر قوله : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) مجرى أن يقول : وجعلنا نومكم نوما.

والوجه في الامتنان علينا بأن جعل نومنا ممتدّا طويلا ـ ظاهر ، وهو لما في ذلك لنا من المنفعة والراحة ؛ لأنّ التهويم والنوم الغرار لا يكسبان شيئا من الراحة ؛ بل يصحبهما في الأكثر القلق والانزعاج ، والهموم وهي التي تقلّل النوم وتنزّره ، وفراغ القلب ورخاء البال يكون معهما غزارة النوم وامتداده ؛ وهذا واضح.

[أقول] : وجدت أبا بكر محمّد بن القاسم الأنباريّ يطعن على الجواب الذي ذكرناه أوّلا ، ويقول : إنّ ابن قتيبة أخطأ في اعتماده ؛ لأنّ الراحة لا يقال لها : سبات ، ولا يقال : سبت الرجل بمعنى استراح وأراح ، ويعتمد على الجواب الذي ثنّينا بذكره ، ويقول فيما استشهد به ابن قتيبة من قولهم سبتت المرأة شعرها : إن معناه أيضا القطع ، لأنّ ذلك إنّما يكون بإزالة الشّداد الذي كان مجموعا به وقطعه.

والمقدار الذي ذكره ابن الأنباري لا يقدح في جواب ابن قتيبة ، لأنّه لا ينكر أن يكون السبات هو الراحة والدعة إذا كانتا عن نوم ، وان لم توصف كلّ راحة بأنها سبات ، ويكون هذا الاسم يختصّ الراحة إذا كانت على هذا الوجه ؛ ولهذه نظائر كثيرة في الأسماء ، وإذا أمكن ذلك لم يكن في امتناع قولهم : سبت الرجل بمعنى استراح في كلّ موضع دلالة على أنّ السّبات لا يكون اسما للراحة عند النوم ؛ والذي يبقى على ابن قتيبة أن يبيّن أن السبات هو الراحة والدعة ،

٤٣٨

ويستشهد على ذلك بشعر أو لغة فإن البيت الذي ذكره يمكن أن يكون المراد به القطع دون التمدّد والاسترسال.

فإن قيل : فما الفرق بين جواب ابن قتيبة وجوابكم الذي ذكرتموه أخيرا؟

قلنا : الفرق بينهما بيّن ، لأنّ ابن قتيبة جعل السّبات نفس الراحة ، وجعله عبارة عنها ، وأخذ يستشهد على ذلك بالتمدّد وغيره ، ونحن جعلنا السبات من صفات النوم ، والراحة واقعة عنده للامتداد وطول السكون فيه ؛ فلا يلزمنا أن يقال : سبت الرجل بمعنى استراح ؛ لأنّ الشيء لا يسمّى بما يقع عليه حقيقة ، والاستراحة تقع على جوابنا عند السبات ، وليس السبات إيّاها بعينها ؛ على أنّ في الجواب الذي اختاره ابن الأنباريّ ضربا من الكلام ؛ لأنّ السّبت وإن كان القطع على ما ذكره فلم يسمع فيه البناء الذي ذكره وهو السبات ، ويحتاج في اثبات مثل هذا البناء إلى سمع عن أهل اللغة ، وقد كان يجب أن يورد من أيّ وجه ؛ إذا كان السبت هو القطع جاز أن يقال سبات على هذا المعنى ؛ ولم نره فعل ذلك (١).

ـ (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) [النبأ : ٣٦].

أنظر البقرة : ٢٠٢ من الأمالي ، ١ : ٣٧٤.

ـ (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) [النبأ : ٣٩]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٣٢٩.

٤٣٩

سورة النّازعات

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) [النازعات : ١].

أنظر البقرة : ١ من الرسائل ، ٣ : ٢٩٧ ، ٣٠٥.

ـ (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠].

أي بسطها (١).

[انظر أيضا المؤمنون ١٧ من الرسائل ، ٣ : ١٤٠].

ـ (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥].

أنظر البقرة : ٢ من الرسائل ، ٤ : ٢٢٧.

__________________

(١) الرسائل ، ٤ : ٩١.

٤٤٠