تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

أَرْحامِهِنَ) إنّما هو في غير الحوامل ، فانّ من استبان حملها لا يقال فيها : لا يحلّ لها أن تكتم ما خلق الله تعالى في رحمها ، وإذا كانت هذه خاصّة في غير الحوامل لم تعارض آية الوضع ، وهي عامة في كل حامل من مطلّقة وغيرها (١).

[الثالث :] وممّا انفردت به الإمامية أنّ عدّة الحامل المتوفّى عنها زوجها أبعد الأجلين ، وتصوير هذه المسألة : أنّ المرأة إذا كانت حاملا فتوفّى عنها زوجها ، ووضعت حملها قبل أن تنقضي العدة أربعة أشهر وعشرة أيام لم تنقض بذلك عدّتها حتى تمضي أربعة أشهر وعشرة أيام ، فإن مضت عنها أربعة أشهر وعشرة أيام ولم تضع حملها لم يحكم لها بانقضاء العدّة حتى تضع الحمل ، فكان العدة تنقضي بأبعد هذين الأجلين مدّة ، إمّا مضي الأشهر أو وضع الحمل. وهذه المسألة يخالف فيها الإمامية جميع الفقهاء في أزماننا هذا ؛ لأنّ الفقهاء يحكون في كتبهم ومسائل خلافهم خلافا قديما فيها ، وأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وعبد الله بن عباس كانا يذهبان إلى مثل ما تفتي به الإمامية الآن فيها (٢) ، والحجة للامامية الاجماع المتردد في هذا الكتاب ، وأيضا فإنّ العدّة عبادة يستحقّ فيها الثواب ، وإذا بعد مداها زادت مشقّتها ، وكثر الثواب عليها في العدّة ، ومن وضعت حملها عقيب وفاة زوجها لا مشقّة عليها في العدّة ، وإذا مضت عليها أربعة أشهر وعشرة أيام كانت المشقة أكثر والثواب أوفر ، فقولنا أولى من قولهم.

فإن احتجّوا بظاهر قوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ، وأنّه عام في المتوفّى عنها زوجها وغيرها عارضناهم بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (٣) وأنّه عام في الحامل وغيرها ، ثمّ لو كانت آيتهم التي ذكروها عامّة الظاهر جاز أن نخصّها بدليل ، وهو إجماع الفرقة المحقّة الذي قد بيّنا أنّ الحجة فيه (٤).

__________________

(١) الانتصار : ١٤٨ وراجع أيضا الناصريات : ٣٥٩.

(٢) المغني (لابن قدامة) ، ٩ : ١١٠.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٣٤.

(٤) الانتصار : ١٤٩ وراجع أيضا الناصريات : ٣٥٩.

٤٠١

ـ (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) [الطلاق : ٧]

أنظر الأنبياء : ٧ ، ٨ من التنزيه : ١٤١.

ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩)) [الطلاق : ٨ ـ ٩]

أنظر النمل : ١٦ من الأمالي ، ٢ : ٢٩٣.

ـ (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ ...) [الطلاق : ١٠ ـ ١١]

أنظر الأنبياء : ٢ من الملخص ، ٢ : ٤٢٣.

ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ...) [الطلاق : ١٢].

[إن سأل سائل فقال :] الفراغ له نهاية ، والقديم تعالى يعلم منتهى نهايته ، وهذا الفراغ أي شيء هو ، وكذلك الطبقة الثانية من الأرض والثامنة من السماء نقطع أن هنا لله فراغا أم لا ، فإن قلت : لا ، طالبناك بما وراء الملاء ، وهل القديم تعالى يعلم أن هناك نهاية ، فإن قلت : نعم ، طالبناك أي شيء وراء النهاية؟

الجواب وبالله التوفيق :

إن الفراغ لا يوصف بأنه منتهاه ، ولا أنه غير منتهاه على وجه الحقيقة ، وإنّما ؛ لا يوصف بذلك مجازا واتساعا.

وأما قوله : وهذا الفراغ أي شيء هو ، فقد قلنا : إنه لا جوهر ولا عرض ولا قديم ولا محدث ولا هو ذات ولا معلوم كالمعلومات.

فأمّا الطبقة الثانية من الأرض فما نعرفها ، والذي نطق به القرآن «سبع سماوات ومن الأرض مثلهن» فأما غير ذلك فلا طريق يقطع به من عقل ولا شرع.

[انظر أيضا المؤمنون : ١٧ من الرسائل ، ٣ : ١٤٠].

٤٠٢

سورة التحريم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التحريم : ١].

[فان قيل : ما وجه هذه الآية] أو ليس ظاهر هذا الخطاب يتضمّن العتاب؟ والعتاب لا يكون إلّا على ذنب كبير أو صغير؟.

الجواب : قلنا : ليس في ظاهر الآية ما يقتضي عتابا وكيف يعاتبه الله تعالى على ما ليس بذنب ؛ لأنّ تحريم الرجل بعض نسائه لسبب أو لغير سبب ليس بقبيح ولا داخل في جملة الذنوب ، وأكثر ما فيه أنّه مباح.

ولا يمتنع أن يكون قوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) خرج مخرج التوجّع من حيث يتحمّل المشقّة في إرضاء زوجاته ، وإن كان ما فعل قبيحا. ولو أن أحدنا أرضى بعض نسائه بتطليق أخرى أو بتحريمه الحسن أن يقال له : لم فعلت ذلك وتحمّلت المشقّة فيه ، وإن كان ما فعل قبيحا. ويمكن أيضا إذا سلّمنا أنّ القول يقتضي ظاهره العتاب أن يكون ترك التحريم أفضل من فعله ، فكأنّه عدل بالتحريم عن الأولى. ويحسن أن يقال لمن عدل عن النفل : لم لم تفعله؟ وكيف عدلت عنه؟ والظاهر الذي لا شبهة فيه قد يعدل عنه لدليل ، فلو كان للآية ظاهر يقتضي العتاب لجاز أن يصرفه إلى غيره لقيام الدلالة على أنّه لا يفعل شيئا من الذنوب ، ولأنّ القصّة الّتي خرجت الآية عليها لا يقتضي ما له تعلّق بالذنب على وجه من الوجوه (١).

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٦٨. وراجع أيضا الأمالي ، ٢ : ٣٣٠.

٤٠٣

ـ (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) [التحريم : ٣].

أنظر البقرة : ٢٣ من الذخيرة : ٣٦٤.

ـ (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤].

[فيها أمران :]

[الأوّل : استدلّ بهذه الآية على أنّ أقلّ الجمع اثنان : قال السيّد :] فأمّا قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) ، ففيه تصرّف مليح فصيح ؛ لأنّا نعلم أنّ القلب نفسه لا يصغى ولا يتعلّق بغيره ، وإنّما المتعلّق بغيره ما يحلّ فيه من دواع ، ومحبّات ، وإرادات ، فحذف ذكر الحالّ فيه ، وأقام المحلّ مقامه ، وجمع المحلّ الّذي هو القلب ، لما كان هو والحالّ جمعا ، ومن عادتهم ذلك ، لقرب الحالّ من محلّه ، والمحلّ من الحالّ ، ويجوز أن يكون شاهدا له قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي) (١) و «جاء ربّك» لإقامة المضاف إليه مقام المضاف (٢).

[الثاني : قال القاضي : دليل لهم آخره ، ربّما تعلقوا بهذه الآية] ويقولون المراد بصالح المؤمنين هو أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وقد جعله الله تعالى مولى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يجوز أن يخصه بذلك إلّا لأمر يختصّ (٣) به دون سائر المؤمنين ، وذلك الأمر ليس إلّا طريقة الإمامة (٤).

ثم أورد كلاما كثيرا أبطل به دلالة هذه الآية على النصّ ، والذي نقوله إن الآية التي تلاها لا تدلّ عندنا على النصّ على أمير المؤمنين عليه‌السلام بالإمامة ولا اعتمدها أحد من شيوخنا في هذا الموضع ، وكيف يصحّ اعتمادها في النصّ من حيث تتعلّق بلفظة «مولاه»؟ ونحن نعلم إن هذه اللفظة لو اقتضت النصّ بالإمامة لوجب أن يكون أمير المؤمنين عليه‌السلام إماما للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأن المكنّى عنه بالهاء

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

(٢) الذريعة ، ١ : ٢٣٣.

(٣) يختصه خ ل.

(٤) المغني ، ٢٠ : ١٣٩.

٤٠٤

التي في لفظة «مولاه» هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو اقتصر صاحب الكتاب في إبطال دلالة الآية على النصّ على ما ذكرناه لكفاه ولاستغنى عن غيره.

وإنّما يعتمد أصحابنا هذه الطريقة من الآية في الدلالة على فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام وتقدّمه وعلوّ رتبته ، فإن جعل لها تعلّق بالنصّ على الإمامة من حيث دلّت على الفضل المعتبر فيها وكان الإمام لا يكون إلّا الأفضل جاز ، وذلك لا يخرجها من أن يكون غير دالة بنفسها على الإمامة ، بل يكون حكمها في الدلالة على الفضل حكم غيرها من الأدلّة عليه وهي كثيرة ، وربما استدل أصحابنا بهذه الآية على سوء طريقة المرأتين اللتين توجه العتب إليهما ، واللوم في الآية ، ويذكرون في السر الذي أفشته إحداهما إلى صاحبتها خلاف ما يذكره المخالفون ، والطريقة لنصرة هذا الوجه معروفة ، ولو لا أن الموضع لا يقتضيها لبسطناها ضربا من البسط.

فأما وجه دلالة الآية على الفضل والتقدّم فواضح ؛ لأنّه قد ثبت بالخبر الذي اشتركت في روايته رواة الخاصة والعامة أن «صالح المؤمنين» المذكور في الآية هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وليس يجوز أن يخبر الله تعالى أنه ناصر رسوله إذا وقع التظاهر عليه بعد ذكر نفسه تعالى وذكر جبرئيل عليه‌السلام إلّا من كان أقوى الخلق نصرة لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمنعهم جانبا في الدفاع عنه ، ولا يحسن ولا يليق بموضوع الكلام ذكر الضعيف النصرة ، والمتوسط فيها ألا ترى أن أحد الملوك لو تهدّد بعض أعدائه ممن ينازعه سلطانه ويطلب مكانه ، فقال : «لا تطمعوا فيّ ولا تحدّثوا نفوسكم بمغالبتي ، فإن معي من أنصاري فلانا وفلانا» ؛ فإنه لا يحسن أن يدخل في كلامه إلّا من هو الغاية في النصرة ، والمشهور بالشجاعة ، وحسن المدافعة؟

فأمّا ما حكاه عن أبي مسلم من أن المراد بصالح المؤمنين الجميع وسقطت الواو كما سقطت من قوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) (١) فما قاله جائز

__________________

(١) سورة القمر ، الآية : ٦.

٤٠٥

غير ممتنع ، وجائز أيضا أن يريد بصالح المؤمنين الجميع ، وإن كان أتى بلفظ الواحد ، غير أن العمل بالرواية يمنع من حمل الآية على الجميع.

فأمّا حكايته عن أبي هاشم قوله : إن الآية لا تليق إلّا بالجمع ؛ لأنّه تعالى بيّن لهم حال الرسول بنصرة الغير ومظاهرته ، فلا بدّ من أن يذكر الجمع فيه» فتوهم منه طريف ؛ لأن المخصوص بالذكر إذا كان أعظم شأنا في النصرة وأظهر حالا في الغناء (١) وصدق اللقاء كان تخصيصه أولى بالحال من ذكر الجميع الذين ليست لهم هذه المنزلة ، فكان ذكر الأفضل في النصرة والأشهر بها أليق بمثل هذا الكلام.

قال صاحب الكتاب : «وربّما تعلّقوا بهذه الآية من وجه آخر بأن يقولوا يدلّ على أنه الأفضل لتخصيصه بالذكر (٢) ، ولأنّه جعل صالح المؤمنين وهو بمعنى الأصلح من جماعتهم ، فإذا كان الأفضل أحق بالإمامة فيجب أن يكون إماما».

قال : ونحن نبيّن من بعد أن الأفضل ليس بأولى بالإمامة وأنه (٣) لا يمتنع العدول عنه إلى غيره ، وبعد فإن قوله : «وصالح المؤمنين» لا يدلّ على أنه أصلحهم وأفضلهم وإنما يدل على أنه صالح ، وأنه ظاهر الصلاح ، فهو بمنزلة قول القائل : «فلان شجاع القوم» إذا ظهرت شجاعته فيهم ، وإن لم يكن بأشجعهم ، فلا اللغة تقتضي ذلك ولا التعارف ، وإن كنا قد بيّنا أن تسليم ذلك لا يوجب ما قالوه ، وبيّنا أن الآية لا تدلّ على أنه المراد به دون غيره ، ولا الروايات المرويّة في ذلك متواترة فيقطع بها» (٤).

يقال له : أما التخصيص بالذكر فيفيد ما قدّمناه من التقدّم في النصرة لكلّ أحد ، ولم نرك أبطلت ذلك بشيء ، وإنما تكلّمت على الأصلح ، والظاهر من قوله تعالى : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) يقتضي كونه أصلح من جميعهم بدلالة العرف

__________________

(١) الغناء ـ بفتح ـ : إذا كان بالمعجمة فهو الدفع والمنع ، وإذا كان بالمهملة فهو التعب.

(٢) في المغني «لتخصيصه بالولي».

(٣) في المغني «مع أنّه لا يمتنع».

(٤) المغني ، ٢٠ : ١٤١.

٤٠٦

والاستعمال ؛ لأن أحدنا إذا قال : «فلان عالم قومه» ، و «زاهد أهل بلده» ، لم يفهم من كلامه إلّا كونه أعلمهم وأزهدهم ، ويشهد أيضا بصحة قولنا ما روي عن أبي عمرو بن العلاء من قوله : كان أوس بن حجر شاعر مضرّ حتى نشأ النابغة وزهير فطأطئا منه ، فهو شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع ، وإنما أراد بلفظة شاعر أشعر لا غير.

فأمّا ما ذكره من قولهم : «فلان شجاع القوم» فهو جار مجرى ما ذكرناه ؛ لأنه لا يفهم منه إلّا أنه أشجعهم ، ألا يعلم أنه لا يقال في كلّ واحد من القوم إذا ظهرت منه شجاعة مّا : «إنّه شجاع القوم» ، وقد دلّلنا على أن الأفضل أحق بالإمامة ، وإنها لا تجوز للمفضول فيما تقدّم ، والرواية الواردة بنزول الآية في أمير المؤمنين عليه‌السلام وإن لم تكن متواترة فهي مما ظهر نقله بين أصحاب الحديث خاصتهم وعامتهم ، وما له هذا الحكم من الرواية يجب قبوله ، على أن الشيعة مجمعة على توجّه الآية إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام واختصاصه بها وإجماعهم حجّة (١).

[الثالث : انظر المائدة ٦٧ من الشافي ، ٢ : ٢٥٨].

ـ (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦].

فأمّا القبيح فتختلف أحوال الفاعلين فيه ... وأما الملائكة : فالرسل منهم لا يجوز عليهم فعل القبيح ، ولا دليل يدلّ على أنّ جميعهم بهذه الصفة ؛ لأنّ قوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) لا دليل يوجب القطع على عمومه في جماعتهم ، أو في جميع أفعالهم (٢).

__________________

(١) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٢ : ٢٤٨.

(٢) الذريعة ، ٢ : ٥٧٠.

٤٠٧

سورة الملك

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ...) [الملك : ٣].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤].

ويوصف تعالى بأنه «لطيف» مقيّدا بالتدبير والصنع ، ولا يطلق عليه تعالى لاقتضائه اللطافة ، وهي من صفات الجواهر (١).

ـ (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧)) [الملك : ١٦ ـ ١٧].

... فالسماء هي الارتفاع والعلو ...

ويقال : سما فلان يسمو سموّا ، إذا ارتفع شأنه وعلا أمره ، [وفي هذه الآية] أخبر تعالى بقدرته وسلطانه وعلوّ شأنه ونفاذ أمره.

وقد قيل في قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) غير هذا ، وأنّ المراد : أأمنتم من في السماء أمره وآياته وقدرته ورزقه ؛ وما جرى مجرى ذلك (٢). وقال أميّة بن أبي الصلت شاهدا لما تقدّم :

وأشهد أنّ الله لا شيء فوقه

عليّا وأمسى ذكره متعاليا

__________________

(١) الذخيرة : ٥٨٩.

(٢) أقول : أوّل السيّد هذه الآية «١٦» في «الملخص» هكذا : «هل أمنتم من في السماء عذابه وملائكته المؤكّلون» وذلك في الردّ على من استدلّ بها على كونه تعالى في جهة. راجع الملخص ، ٢ : ٢١١ و ٢١٢.

٤٠٨

وقال سليمان بن يزيد العدويّ :

لك الحمد يا ذا الطّول والملك والغنى

تعاليت محمودا كريما وجازيا

علوت على قرب بعزّ وقدرة

وكنت قريبا في دنوّك عاليا

والسماء أيضا سقف البيت ، ومنه قوله تعالى : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) (١).

وقال ابن الأعرابيّ : يقال لأعلى البيت : سماء البيت ، وسماواته ، وسراته ، وصهوته ؛ والسماء أيضا : المطر قال الله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) (٢) ؛ ومنه الحديث الذي رواه أبو هريرة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ على صبرة طعام ، فأدخل عليه‌السلام يده فيها ، فنالت أصابعه بللا ؛ فقال : ما هذا يا صاحب البرّ؟ قال : أصابته السماء يا رسول الله ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أو لا جعلته فوق الطّعام ، يراه الناس! من غشّ فليس منا». وقال المثقّب العبديّ :

فلمّا أتاني والسّماء تبلّه

فقلت له : أهلا وسهلا ومرحبا

ويقال أيضا لظهر الفرس : سماء ؛ كما يقال في حوافره : أرض. ولبعضهم في فرس :

وأحمر كالدّينار ، أمّا سماؤه

فخضب ، وأمّا أرضه فمحول (٣)

وإنّما أراد أنّه سمين الأعلى ، عريان القوائم ممشوقها ؛ وكلّ معاني السماء التي تتصرّف وتتنوع ترجع إلى معنى الارتفاع والعلوّ والسموّ ؛ وإن اختلفت المواضع التي أجريت هذه اللفظة فيها (٤).

ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) [الملك : ٣٠].

أنظر البقرة : ١٧٧ من الأمالي ، ١ : ٢٠٧.

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ١٥.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ٦.

(٣) البيت لطفيل الغنوي ، وهو في ملحقات ديوانه ٦٣ ، واللسان (سما).

(٤) الأمالي ، ٢ : ١٤٦.

٤٠٩

سورة القلم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) [القلم : ٢٨].

أنظر البقرة : ١٤٣ من الشافي ، ١ : ٢٢٩.

ـ (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) [القلم : ٤٣]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ : إلى ٢٤٧.

ـ (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) [القلم : ٤٨]

أنظر الأنبياء : ٧ ، ٨ من التنزيه : ١٤١.

٤١٠

سورة الحاقة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩].

أنظر المائدة : ٦ ، الأمر الثاني من الرسائل ، ٣ : ١٦١.

ـ (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقّة : ٢٤].

اعلم أن سقوط التكليف عن جميع أهل الآخرة واجب ، أمّا أهل الثواب فلأنه يجب أن يكون خالصا من المشاق وجب سقوط تكليفهم ، وأمّا المعاقب فلو كان مكلّفا لجاز وقوع التوبة منه وسقوط العقاب بها.

ولو اعتمد في سقوط التكليف عن أهل الآخرة عن أن الإجماع مانع من تجويز استحقاق الثواب هناك أو عقاب لكان واضحا ، وقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) لأهل الجنّة ليس بأمر على الحقيقة وان كانت له صورته.

وعند أبي علي وأبي هاشم أنه أمر ، لكنّه زائد في سرور أهل الجنّة إذا علموا إنّ الله تعالى أراد منهم الأكل وأمرهم به ، ويكون الأمر تكليفا إذا انضمت إليه المشقّة.

فإذا قيل : فأهل الجنّة يشكرون الله تعالى على نعمه.

قلنا : الشكر بالقلب يرجع إلى الاعتقادات ، والله تعالى يفعل فيهم المعارف كلّها ، فلا وجوب عليهم ، وأمّا الشكر باللسان فيجوز أن يكون لهم فيه لذّة ، فيكون غير مناف للثواب.

وممّا يجب عليه : أن معارف أهل الآخرة ضرورية ، وهم ملجأون إلى أن لا يفعلوا القبيح.

٤١١

والّذي يدلّ على أنهم يعرفون الله تعالى ـ قبل أن نبيّن كيفيّة هذه المعرفة ـ أن المثاب لا بدّ أن يعلم وصول الثواب إليه على الوجه الّذي استحقّه ، وقد علمنا أن العلم بما ذكرناه لا يصحّ إلّا مع كمال العقل والمعرفة بالله تعالى وحكمته ، ليعلم أن ما فعله به هو الّذي استحقّه ، والقول في المعاقب مثله في المثاب.

وأيضا فإن من شرط الثواب أن يصل إلى مستحقّه مع الإعظام والإكرام من فاعل الثواب ؛ لأن الإعظام من غير فاعل الثواب لا يؤثّر فيه ، والإعظام لا يعلم إلّا مع القصد إلى التعظيم ، ولا يجوز أن يعلموا قصده ولا يعلموه ، وكذلك القول في العقاب ووصوله على سبيل الاستخفاف والإهانة ، ووجوب معرفة القصد من فاعله.

وأيضا فإنّ الثواب يجب وصوله إلى المثاب إلى أبلغ وجوه الانتفاع ، وهذا يقتضي أن يكون المثاب كامل العقل ، وإذا فعل به الثواب ولم يعلم أنه هو الّذي استحقّه عرّض بذلك الاعتقاد الجهل ؛ لأن الأصل في النفع أنه تفضل ، وكذلك أهل النار متى لم يعرفوا ربّهم ، وأنه قد أوصل إليهم الآلام على سبيل الاستخفاف كانوا معرّضين لاعتقاد كونها ظلما ، وهو جهل.

ويقدح في هذا الوجه خاصّة : أن العاقل يعلم بعقله قبح الاقدام على ما لا يأمن كونه جهلا ، وإذا لم يعلموا جهة وقوع الثواب أو العقاب بهم وجب أن يتوقّفوا عن الاعتقاد فيشكوا.

وإذا وجب في أهل الآخرة أن يكونوا عارفين بالله تعالى فلا يخلو معرفتهم من أن يكون من فعل الله تعالى فيهم أو من فعلهم ، فإن كانت من فعلهم لم يخل من أن تكون واقعة عن نظر مختار ، أو ملجأ إلى فعله ، أو عن تذكر نظر ، أو بأن يلجأ الفاعل إلى نفس المعرفة من تقدّم نظر ، وإذا أبطلنا ما عدا المعرفة الضروريّة ثبت ما أردناه.

ولا يجوز أن تكون واقعة عن نظر مبتدأ ؛ لأن ذلك تكليف وهو مشقّة ، وقد بيّنا سقوط التكليف عنهم.

٤١٢

وليس لهم أن يقولوا : إن الشبهات لا تعرض في دار الآخرة بمعاينة تلك الآيات والأحوال ؛ لأن ذلك كلّه لا يمنع من تطرق الشبهة ، وأن تكون المعرفة مكتسبة ، كما لا يمنع معاينة المعجزات وظهور خرق العادات في الدنيا من اكتساب المعرفة وتطرق الشبهة ، وان قلّت أو كثرت.

ولا يجوز أن يكون الالجاء إلى المعرفة ؛ لأن الإلجاء إلى أفعال القلوب الّتي تخفى عن غير الله تعالى لا يجوز أن يكون إلّا من الله تعالى ، وإذا وجب أن يكون الملجأ إلى العلم عارفا بالله تعالى ، فقد استغنى بتقدّم المعرفة حقّ الإلجاء إليها.

وقد قيل : إنّما يلجأ إلى العلم ، بأن يعلم أنه ميت حاول اعتقاد غيره منع منه فقد أمر على الاعتقاد الّذي وصفنا حاله ، لا يكون له الاعتقاد علما ؛ لأنه ليس من الوجوه المذكورة الّتي يكون لها الاعتقاد علما ، كالنظر وتذكر الدليل وغيرهما ، وإذا بطلت الأقسام الّتي قسمناها (١) وجب كون معارفهم ضروريّة.

واعلم أن أهل الآخرة أن يكونوا مضطرّين إلى أفعالهم ـ على ما ذهب إليه أبو الهذيل ؛ لأن الاضطرار في الأفعال ينقص من لذّتها ـ فالتخيير فيها أبلغ في اللّذة والسرور ؛ لأنّ الله تعالى إنّما رغّب في وصول الثواب إلينا في الآخرة على الوجه المأوّل المعروف في الدنيا ، وإنّما يكون ذلك على وجه التخيير.

وهذا الوجه وان لم يستمرّ في أهل النار ولا في جمع أهل الموقف ، فبالإجماع نعلم تساوي الجميع في هذا الحكم ؛ لأن الناس بين قائلين : فقائل ذهب إلى الضرورة ويعمّ بها على جميع أهل الآخرة ، والآخر يذهب إلى الاختيار فيعمّهم به أيضا.

وإذا تأملت القرآن وجدته دالّا على أن أهل الآخرة متخيّرون لأفعالهم ؛ لأنه تعالى أضاف إليهم الأفعال ، فقال تعالى : (يَأْكُلُونَ) و (يَشْرَبُونَ) و (يَفْعَلُونَ) ، وذلك يقتضي أنها أفعال لهم لا ضرورة فيه ، وقوله تعالى : (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) (٢) صريح في أنهم مختارون.

__________________

(١) في النسختين «قسماها».

(٢) سورة الواقعة ، الآية : ٢٠.

٤١٣

وإذا ثبت أنهم غير مضطرّين إلى أفعالهم ولم يجز أن يكلّفوا ترك القبيح لما تقدّم ذكره ، فلا بدّ إذا علمنا أن القبيح لا يقع منهم من أن يكونوا ملجئين إلى أن لا يفعلوا ، وإنّما يكونوا ملجئين بأن يعلمهم الله تعالى أنهم متى حاولوا القبيح منعوا منه. وقد ثبت في الشاهد أن الإلجاء يقع بهذا الوجه مع غلبة الظنّ وتظاهر الأمارات ، فبأن يقع مع العلم أولى.

ويمكن أن يلجأ بوجه آخر ، وهو : أن يعلمهم استغناءهم عن القبيح بالحسن المطابق لأغراضهم وشهواتهم مع ما في القبيح من المضمرة ، فيكونوا ملجئين إلى أن لا يفعلوه ، ويخالف حالهم في ذلك حال القديم تعالى إذا لم يفعل القبيح لقبحه ؛ لأن المنافع والمضارّ لا يجوزان عليه تعالى ، فالإلجاء فيه غير متصوّر.

وليس يجب إذا كانوا متصوّرين للمضرّة في القبح أن يكونوا في الحال مغمومين وعلى مضرّة ؛ لأن تصوّر المضرّة في المستقبل لا يوجب في الحال ، لا سيّما إذا كان الوصول إليها مأمونا ، والوجه الأوّل كأنه أبين وأوضح (١).

__________________

(١) الذخيرة : ٥٢٤.

٤١٤

سورة المعارج

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥)) [المعارج : ٢٤ ـ ٢٥]

أنظر المقدمة الثالثة ، الأمر الرابع.

٤١٥

سورة نوح

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ...) [نوح : ١].

أنظر المائدة : ٥٥ من الشافي ، ٢ : ٢١٧ والتوبة : ٤٠ من الشافي ، ٤ : ٢٥.

ـ (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [نوح : ٣ ، ٤].

أنظر الأنعام : ٢ من الذخيرة : ٢٦١.

ـ (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٦].

أنظر آل عمران : ٨ من الأمالي ، ٢ : ٢٥.

ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) [نوح : ١٩].

أنظر المؤمنون : ١٧ من الرسائل ، ٣ : ١٤٠.

٤١٦

سورة الجنّ

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) [الجن : ٧].

أنظر المائدة : ٦ ، الأمر الثاني من الرسائل ، ٣ : ١٦١.

ـ (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) [الجن : ٢٣].

أنظر النور : ٦٣ من الذريعة ، ١ : ٦٦.

٤١٧

سورة المزمّل

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [المزمل : ١٩].

أنظر التكوير : ٢٦ ، ٢٩ من الأمالي ، ١ : ٥٠٧ والبقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ...) [المزمل : ٢٠].

[فيها أمور :

الأوّل : قال الناصر رحمه‌الله :] «تجب القراءة في الركعتين الأوّليين».

عندنا : أنّ القراءة في الركعتين الأوليين واجب ، ولا يجوز الإخلال بها ، وأمّا الركعتان الآخرتان فهو مخير بين القراءة وبين التسبيح ، وأيّهما فعل أجزأه ...

دليلنا على صحّته : الاجماع المتكرر ذكره ... وأيضا قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) وظاهر هذه الآية يقتضي عموم الأمر الذي هو على الوجوب لكلّ الأحوال ، الذي من جملتها الصلاة ، فوجب أن تكون القراءة واجبة في الأوّلتين تضييقا وفي الآخرتين أيضا ، إلّا أنّه لمّا قام الدليل على أنّ التسبيح في الأخيرتين يقوم مقام القراءة قلنا : إنّ إيجاب القراءة فيهما على سبيل التخيير ، وكون الشيء مخيّرا فيه لا يخرجه من أن يكون واجبا ، ومن الدخول تحت ظاهر الآية (١).

[الثاني : قال الناصر رحمه‌الله :] وجوب القراءة متعيّن بفاتحة الكتاب ، وغير متعيّن بالسورة الأخرى».

__________________

(١) الناصريات : ٢١٦.

٤١٨

عندنا : أنه لا يجزي في الركعتين الأوّلتين إلّا بفاتحة الكتاب ، ووافق الشافعيّ على ذلك ، وزاد إيجاب قراءة الفاتحة في كل ركعة لمن أحسنها (١) ... دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه بعد الاجماع المتردّد ، ما رواه عبادة بن صامت : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا صلاة لمن لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» (٢).

فإن قيل : هذا يقتضي وجوب قراءة الفاتحة في كلّ ركعة ، ولا يجوز غيرها.

قلنا : ليس كذلك ، لأن قوله : «لا صلاة لمن لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» إنّما يدلّ على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة في الجملة ، من غير تفصيل الركعات ، وأبو حنيفة يجوّز صلاة ليس في شيء منها الفاتحة ، فالخبر دليل عليه ...

فإن قيل : قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) فهو مخيّر بين الفاتحة وغيرها.

قلنا : الآية مجملة ، وأخبارنا (٣) مفسّرة مبيّنة فالعمل عليها أولى.

وليس لهم أن يقولوا : هذا نسخ الآية.

وذلك أنّ البيان والتفسير ليس بنسخ ، ولو قال الله تعالى : فاقرأوا ما تيسر من القرآن وهو فاتحة الكتاب صحّ ، ولو كان يقتضي النسخ لما صحّ أن يضم إلى اللفظ في الصريح (٤).

[الثالث : قال الناصر رحمه‌الله :] «لو قرأ بالفارسيّة بطلت صلاته».

وهذا هو الصحيح عندنا ... دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه بعد الاجماع المتكرر قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».

والاحتجاج بالآية والخبر صحيح إذا سلّموا لنا أنّ من عبّر عن القرآن بالفارسية فلا يقال له قرآن.

__________________

(١) الأمّ ، ١ : ١٢٩.

(٢) صحيح مسلم ، ١ : ٢٩٥ / ٣٤.

(٣) الكافي ، ٣ : ٣١٧.

(٤) الناصريات : ٢١٨.

٤١٩

وإن لم يسلّموا ذلك وادّعوا أنه قرآن ، استدللنا على فساد قولهم بقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (١) وقوله عزوجل : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)) (٢).

وأيضا ؛ فإن القرآن ليس بأدون حالا من الشعر ، ولو أن معبّرا عبّر عن قصده من الشعر بالفارسيّة لما سمّى أحد ما سمعه بأنه شعر ، فبأن لا يقال ذلك في القرآن أولى.

وأيضا ؛ فإن إعجاز القرآن في لفظه ونظمه ، فإذا عبّر عنه بغير عبارته لم يكن قرآنا.

فإن تعلّق المخالف بقوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)) (٣) وبقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (٤) والصحف الأولى لم تكن بالعربية ، وإنّما كانت بلغة غيرها.

فالجواب عن هذا : أنّه تعالى لم يرد أنّ القرآن كان مذكورا في تلك الكتب بتلك العبارة ، وإنّما أراد أن حكم هذا الذي ذكر في القرآن مذكور في تلك الكتب. وقيل أيضا : إنّه أراد صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر شريعته ودينه في الصحف الأولى.

فإن قيل : قد حكى الله تعالى عن نوح عليه‌السلام أنه قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٥) وعن غيره من الأمم الماضية ، ونحن نعلم أنهم لم يقولوا ذلك بهذه العربية ، وإنّما قالوه بلغاتهم المخالفة لها ، إلّا أنه لما حكى المعنى أضاف الأقوال إليهم ، وهذا يقتضي أنّ من عبّر عن القرآن بالفارسية تكون عبارته قرآنا.

قلنا : لا أحد من الناس يقول إنّ من غيّر الكلام بما يوجد فيه معناه يكون

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٢.

(٢) سورة شعراء ، الآيتان : ١٩٣ و ١٩٥.

(٣) سورة الأعلى ، الآيتان : ١٨ و ١٩.

(٤) سورة الشعراء ، الآية : ١٩٦.

(٥) سورة نوح ، الآية : ٢٦.

٤٢٠