تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

وليس لهم أن يتأوّلوا الفقراء هاهنا على أن المراد به الفقر إلى الله دون ما يرجع إلى الأموال ؛ لأن الظاهر من لفظ الغني والفقير ينبىء عن معنى الأموال دون غيرها. وإنّما يحملان على ذلك بدليل يقتضي العدول عن الظاهر ، وما قلناه في الآية [١٨ من سورة الفتح] من أن الألف واللام لا يقتضيان الاستغراق على كلّ حال يطعن أيضا على معتقدهم في هذه الآية ، وبعد فإن سياق الآية يخرج ظاهرها عن أيديهم ويوجب الرجوع عليهم إلى غيرها ؛ لأنّ الله تعالى قال : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) فوصف بالصدق من تكاملت له الشرائط ، ومنها ما هو مشاهد كالهجرة والإخراج من الديار والأموال ، ومنها ما هو باطن لا يعلمه إلا الله تعالى وهو ابتغاء الفضل والرضوان من الله ونصرة الرسول والله تعالى ؛ لأنّ المعتبر في ذلك ليس بما يظهر بل بالبواطن والنيّات ، فيجب على الخصوم أن يثبتوا اجتماع هذه الصفات في كلّ واحد من الذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأموالهم ، ولا بدّ في ذلك من الرجوع إلى غير الآية (١).

ـ (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) [الحشر : ١٠].

[نقل القاضي استدلال واصل بن عطاء بهذه الآية على بطلان طريقة الإمامية في سوء الثناء على بعض الصحابة.

قال السيّد :] لا حجّة فيه لأنّه علّق المغفرة بالسبق إلى الإيمان وهذا شرط يحتاج إلى دليل في إثباته للجماعة ، ومع هذا فهو سؤال وليس كلّ سؤال يقتضي الإجابة (٢).

ـ (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)) [الحشر : ٢٠].

__________________

(١) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٤ : ١٨.

(٢) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٤ : ٢٠.

٣٨١

[فيها أمران :]

[الأوّل :] وممّا يظنّ إعتبار الإمامية به القول : بأنّه لا شفعة لكافر على مسلم ، وأكثر الفقهاء يوجبون الشفعة للكافر ، ولا يفرّقون بينه وبين المسلم (١).

وقد حكي عن ابن حيّ أنّه قال : لا شفعة للذمّي في أمصار المسلمين التي إبتدأها المسلمون ؛ لأنّهم لا يجوز لهم سكناها ، ولا تملّكها ، ولهم الشفعة في القرى (٢). وإنفراد قول الإمامية عن قول ابن حيّ باق ، إلّا أنّه قد حكي عن الشعبي وأحمد بن حنبل أنّهما أسقطا شفعة الذمي على المسلم (٣) ، وهذه منهما موافقة للامامية.

والذي يدلّ على صحّة مذهبنا بعد الاجماع المتكرّر ذكره قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) ، ومعلوم أنّه تعالى إنّما أراد لا يستوون في الأحكام ، والظاهر يقتضي العموم إلّا ما أخرجه دليل قاهر. فان قيل : أراد في النعيم والعذاب بدلالة قوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) قلنا : قد بيّنا في الكلام على أصول الفقه (٤) أنّ تخصيص إحدى الجملتين لا يقتضي تخصيص الأخرى وإن كانت لها متعقّبة (٥).

[الثاني :] أصحاب الشافعيّ يستدلّون بهذه الآية على أنّ المؤمن لا يقتل بكافر.

وطعن قوم على هذا الاعتماد منهم بأن قالوا : ما تعلّق الاستواء به غير مذكور ، ولا يمكن ادّعاء العموم فيه ، فهو كالمجمل الّذي لا ظاهر له.

وليس يمتنع التعلّق بهذا الآية ، لا سيّما على مذهب من يقول في كلّ شيء يحتمل لأشياء مختلفة : أنّ اللفظ إذا أطلق ، ولم يبيّن المتكلّم به أنّه قصد وجها بعينه ، حمل على العموم ، ولهذا يقولون في الأمر ـ إذا عري من ذكر وقت أو

__________________

(١ و ٢ و ٣) المغني (لابن قدامة) ، ٥ : ٥٥١.

(٤) الذريعة ، ١ : ٣٠٣ وتقدّم أيضا في البقرة : ٢٣٦.

(٥) الانتصار : ٢١٨.

٣٨٢

مكان ـ : أنّه عامّ في الأوقات والأماكن ، فما المانع من أنّ الاستواء إذا لم يتخصّص وجب حمله على كلّ الصفات.

على أنّا كما علمنا من عادة الصحابة والتابعين وعرفهم أن يحملوا ألفاظ العموم على الاستغراق إلّا أن يقوم دليل ، كذلك علمنا منهم أن يحملوا الألفاظ المطلقة المحتملة على كلّ ما تصلح له إلّا أن يمنع دليل (١).

ـ (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر : ٢١].

ومعنى الكلام : إنّنا لو أنزلنا القرآن على جبل ، وكان الجبل ممّا يتصدّع إشفاقا من شيء ؛ أو خشية لأمر لتصدّع مع صلابته وقوّته ؛ فكيف بكم معاشر المكلّفين ، مع ضعفكم وقلّتكم! فأنتم أولى بالخشية والإشفاق ؛ وقد صرّح الله تعالى بأنّ الكلام خرج مخرج المثل بقوله : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ؛ ومثله قوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) (٢) (٣).

ـ (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [حشر : ٢٣].

الملك : تقدّم فى سورة الفاتحة (٤) :

القدوس : الفائدة في ذلك تنزيهه عما لا يجوز عليه فى ذاته وأفعاله (٥).

المؤمن : يوصف تعالى بانه «مؤمن» على وجهين : احدهما : أنه مصدّق لنفسه وأوليائه ، والوجه الآخر : انه يؤمن العباد من اضاعة حقوقهم ويؤمن مستحق الثواب من العقاب (٦).

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٣٥٨.

(٢) سورة مريم ، الآية : ٩٠.

(٣) الأمالي ، ١ : ٤٠٨.

(٤) الذخيرة : ٥٧٩.

(٥) الذخيرة : ٥٨٩.

(٦) الذخيرة : ٥٩٧.

٣٨٣

المهيمن : بمعنى انه امين على جميع الأمور (١).

العزيز : تقدم فى سورة البقرة : ١٢٩ (٢).

الجبار : معناه انه عزيز لا ينال باهتضام ، ومن ذلك أنهم وصفوا النخلة بانّها جبارة لما بعد منالها (٣).

__________________

(١) الذخيرة : ٥٩٨.

(٢) الذخيرة : ٥٨٠.

(٣) الذخيرة : ٥٨١.

٣٨٤

سورة الممتحنة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ ...) [الممتحنة : ٤].

أنظر التوبة : ١١٤ من التنزيه : ٥٥.

ـ (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ...) [الممتحنة : ١٠].

أنظر غافر : ١٨ من الذخيرة : ٥٠٤ والمقدّمة الرابعة ، الأمر الثالث عشر.

٣٨٥

سورة الصّف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ ...) [الصف : ١٤]

أنظر المائدة : ٦ الأمر الأول من الوضوء ، من الناصريات : ١١٦.

٣٨٦

سورة الجمعة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة : ٩].

وأقلّ ما يجزئ في الجمع والصلاة العيدين سبعة نفر ، ليسوا بمرضى ولا مسافرين ولا غازين. وأقلّ ما يجزيء في الجمعة خمسة نفر بالصفات المذكورة.

واعلم أنّ مذهبنا المشهور المعروف في أقلّ العدد الذي تنعقد صلاة الجمعة خمسة الإمام أحدهم ، وهذا العدد بعينه في صلاة العيدين من غير زيادة عليه.

وقال أبو حنيفة والثوري : إنّ الجمعة تنعقد بأربعة ، وروي عن أبي يوسف والليث أنّها تنعقد بثلاثة. وقال الشافعي : لا تنعقد بأقلّ من أربعين نفسا ، وروي عن الحسن والحسين أنّها تنعقد باثنين.

وقال مالك : إذا كانت قريبة سوق ومسجد ، فعليهم الجمعة من غير اعتبار عدد.

ودليلنا على صحّة مذهبنا : هو إجماع الطائفة المحقّة. ويمكن أيضا أن يستدلّ بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) وهذا عموم ، إنّما أخرجنا منه من نقص عن العدد بالذي ذكرناه (١).

ـ (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [الجمعة : ١١].

أنظر البقرة : ٢٣ من الذخيرة : ٣٦٤.

__________________

(١) الرسائل ، ١ : ٢٢٢.

٣٨٧

سورة المنافقون

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١].

أنظر التوبة : ٣٠ من الأمالي ، ١ : ٣٥١ والبقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

ـ (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [المنافقون : ٨].

أنظر البقرة : ٢٣ من الذخيرة : ٣٦٤.

ـ (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون : ١٠].

أنظر الأنعام : ٢ من الذخيرة : ٢٦١.

٣٨٨

سورة التّغابن

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) [التغابن : ٩].

لفظة التغابن هاهنا مشتقّة من الغبن ؛ الذي يكون في البيع والتجارة وما أشبه ذلك ، وهو النقصان والخسران ؛ لأنّ المغبون هو الذي زاد غابنه عليه ورجح ؛ ولما كان يوم القيامة يبيّن فيه مستحقّ الثواب ودخول الجنّة والتعظيم فيها من مستحقّ العقاب ودخول النار صار مستحقّ الثواب ودخول الجنان كأنّه غابن لمستحق العقاب ودخول النار ؛ لأنّهما جميعا عرّضا بالتكليف لاستحقاق الثواب ، ففعل أحدهما ما استحقّ به ذلك ، وقصّر الآخر عن هذه الغاية ؛ وعدل إلى فعل ما استحقّ به العقاب ؛ وجريا مجرى متبايعين ؛ فاز أحدهما بما هو أجدى عليه وأنفع وأصلح ؛ واختصّ الآخر بما هو ضارّ هو له ووبال عليه ؛ فيسمى الفائز بالخير والصلاح غابنا والآخر مغبونا.

وتسمية يوم القيامة بأنّه يوم التغابن من أفصح كلام وأخصره وأبلغه. والله الموفّق للصواب (١).

ـ (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن : ١٧].

أنظر البقرة : ٢١٢ من الأمالي ، ١ : ٣٧٦.

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٣٣٣.

٣٨٩

سورة الطّلاق

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ...) [الطلاق : ١].

[فيها أمور :

الأوّل :] وممّا إنفردت به الإمامية أنّ الطلاق لا يقع إلّا بلفظ واحد وهو قوله : «أنت طالق» ولا يقع ، بفارقتك ، وسرّحتك ، ولا باعتدي ، وحبلك على غاربك ، وبخلية ، وبرية ، وبتة ، وبتلة وكلّ لفظ ما عدا ما ذكرناه ، واختلف الفقهاء في ألفاظ الطلاق ... والحجّة لما نذهب إليه ـ بعد إجماع الطائفة ـ أنّ الطلاق يتبعه حكم شرعي لا يثبت إلّا بأدلة الشرع ، ولا خلاف في وقوعه باللفظة التي ذكرناها ، وما عداها من الألفاظ لم يقم دليل على وقوعه بها ، فيجب نفي وقوعه ؛ لأنّ الحكم الشرعي لا بدّ من نفيه إذا انتفى الطريق إليه ، وأيضا فإنّ ألفاظ القرآن كلّها واردة بلفظ الطلاق ، مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) وما أشبه ذلك ، و «طلقتم» مشتق من لفظ الطلاق دون غيره من الألفاظ ، فينبغي أن لا يتعلّق الحكم إلّا بهذه اللفظة.

فان قيل : معنى طلّقتم : فارقتم ، والفراق قد يكون بألفاظ مختلفة. قلنا : هذا خلاف الظاهر ؛ لأنّ لفظ طلّقتم مشتق من حدث فيه طاء ولام وقاف ، كما أنّ ضرب مشتق من حدث فيه ضاد وراء وباء ، ومن فعل ما فيه معنى الضرب لا يقال : ضرب ، وكذلك لا يقال فيمن فعل ما فيه معنى الطلاق : طلّق. فإن قيل : لفظة الطلاق شرعية. قلنا : معاذ الله هذه لفظة لغوية معروفة في خطاب أهل اللغة وإنّما يتبعها أحكام شرعية لا تعرف في اللغة (١).

__________________

(١) الانتصار : ١٢٩ وراجع أيضا الرسائل : ١ / ٢٣٩.

٣٩٠

[الثاني :] وممّا إنفردت به الإمامية : أنّ تعليق الطلاق بجزء من أجزاء المرأة ـ أيّ جزء كان ـ لا يقع فيه الطلاق ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ... دليلنا على ما ذهبنا إليه ـ بعد إجماع الطائفة ـ أنّ تعليق الطلاق ببعضها ليس من الألفاظ المشروعة في الطلاق فيجب أن لا يقع ، وأيضا فانّ الطلاق حكم شرعي ، وقد ثبت أنّه إذا علّقه بها وكملت الشرائط وقع ، ولم يثبت أنّه إذا علّقه ببعضها وقع ، والحكم الشرعي يجب نفيه بانتفاء دليل شرعي عليه.

وممّا يمكن أن يستدلّ به قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) فجعل الطلاق واقعا بما يتناوله إسم النساء ، واليد والرجل لا يتناولهما هذا الاسم بغير شبهة ، وفرق أبو حنيفة بين الرقبة والرأس والفرج وبين اليد والرجل ، لأنهم يقولون عنده كذا وكذا رأسا من العبيد والاماء وكذا كذا رقبة وكذا كذا فرجا ، غير صحيح ؛ لأنّ جميع ما ذكروه مجاز واستعارة ، وكلامنا على الحقائق ؛ ولأنّ اليد قد يعبّر بها أيضا عن جميع البدن ؛ لأنّهم رووا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «على اليد ما أخذت حتى تردّه» (١) وأراد به الجملة وقال الله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) (٢) ، وقال تعالى : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٣) وإنما أراد الجملة دون البعض.

[الثالث :] وممّا انفردت به الإمامية القول : بأنّ الطلاق في الحيض لا يقع ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك (٤) وذهبوا إلى وقوعه إلّا ابن عليّة ، فأنّه روي عنه أنّ الطلاق في الحيض لا يقع (٥).

والحجة لنا ـ بعد إجماع الطائفة ـ : أنّه لا خلاف في أنّ الطلاق في الحيض بدعة ومعصية ، وإن اختلف في وقوعه ؛ لأنّ الله تعالى قال : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) (٦) وفسّروا ذلك بالطهر الذي لا جماع فيه ، وإذا ثبت أنّ الطلاق في

__________________

(١) سنن ابن ماجة ، ٢ : ٨٠٢ ح ٢٤٠٠.

(٢) سورة المسد ، الآية : ١.

(٣) سورة الشورى ، الآية : ٣٠.

(٤) نيل الأوطار ، ٦ : ٢٢١ ، ٢٢٦.

(٥) نيل الأوطار ، ٦ : ٢٢٤.

(٦) سورة الطلاق ، الآية : ١.

٣٩١

الحيض بدعة ومخالف لما أمر الله تعالى بإيقاع الطلاق عليه ، ثبت أنّه لا يقع ؛ لأنّا قد بيّنا أنّ النهي بالعرف الشرعي يقتضي الفساد وعدم الإجزاء ... (١).

[الرابع : انظر النساء : ٢٤ المسألة الثانية من الانتصار ١٠٩].

ـ (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [الطلاق : ١].

أنظر الأحزاب : ٣٣ من الشافي ، ٤ : ١٠٤.

ـ (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ...) [الطلاق : ٢].

[فيها أمور :

الأول :] وممّا انفردت الإمامية به القول : بأنّ شهادة عدلين شرط في وقوع الطلاق ، ومتى فقد لم يقع الطلاق ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ، والحجة لنا ـ بعد إجماع الطائفة ـ قوله جل ثناؤه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) إلى قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) فأمرنا بالإشهاد ، وظاهر الأمر في عرف الشرع يقتضي الوجوب ، فليس لهم أن يحملوا ذلك هاهنا على الاستحباب ، فلا يخلو قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا) من أن يكون راجعا إلى الطلاق ، كأنّه قال : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدّتهن واشهدوا ، أو أن يكون راجعا إلى الفرقة ، أو إلى الرجعة التي عبّر تعالى عنها بالإمساك ، ولا يجوز أن يرجع ذلك إلى الفرقة التى ليست هاهنا شيئا يوقع ويفعل وانّما هو العدول عن الرجعة ، وانّما يكون مفارقا لها بأن لا يراجعها فتبين بالطلاق السابق ، على أنّ أحدا لا يوجب في هذه الفرقة الشهادة ، وظاهر الأمر يقتضي الوجوب ، ولا يجوز أن يرجع الأمر بالشهادة إلى الرجعة ؛ لأنّ أحدا لا يوجب فيها الاشهاد وإنّما هو مستحب فيها ، فثبت أن الأمر بالإشهاد راجع إلى الطلاق.

__________________

(١) الانتصار : ١٣٢. والناصريات : ٣٤٣.

٣٩٢

فإن قيل : كيف يرجع إلى الطلاق مع بعد ما بينهما؟ قلنا : إذا لم يلق إلّا بالطلاق وجب عوده إليه مع بعد وقرب.

فان قيل : أيّ فرق بينكم في حملكم هذا الشرط على الطلاق وهو بعيد منه في اللفظ ، وذلك مجاز وعدول عن الحقيقة ؛ وبيننا إذا حملنا الأمر بالاشهاد هاهنا على الاستحباب ؛ ليعود إلى الرجعة القريبة منه في ترتيب الكلام؟ قلنا : حمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب خروج عن عرف الشرع بلا دليل ، وردّ الشرط إلى ما بعد عنه إذ لم يلق بما قرب ليس بعدول عن حقيقة ولا استعمال توسع وتجوز ، والقرآن والخطاب كلّه مملوّ من ذلك : قال الله جل ثناؤه : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ) (١) والتسبيح وهو متأخر في اللفظ ـ لا يليق إلّا بالله جلّ ثناؤه دون رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[أقول : كذا تقرير الحجّة في «الانتصار» (٢) ؛ لكنّه في جوابات المسائل الموصليات الثالثة قرّره هكذا :]

«إنّ الطلاق لا يقع إلّا بشاهدين عدلين ؛ والحجّة على ذلك إجماع الفرقة المحقّة ؛ ولأنّ الله تعالى قال : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) (٣) فجعل الشهادة شرطا في الفرقة الّتي هي الطلاق لا محالة.

فان قيل : إنّما شرط الشهادة في الرجعة في قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) قلنا : هذا غلط ؛ لأنّ الأمر والشهادة ملاصق لذكر الفرقه ، وإليها أقرب من ذكر الرجعة ، وردّ الكلام إلى الاقرب اولى من ردّه إلى الأبعد ، على أنّه ليس بمتناف أن يرجع إلى الرجعة والفرقة معا ، فيتمّ مرادنا ، على أنّ الأمر بالشهادة يقتضي

__________________

(١) سورة الفتح ، الآيتان : ٨ ، ٩.

(٢) الانتصار : ١٢٧ وراجع أيضا الناصريات : ٣٤٣.

(٣) سورة الطلاق ، الآية : ٢.

٣٩٣

ظاهره الوجوب ، وأن يكون شرطا ، ولم يقل أحد من الأمة أنّ الشهادة في الرجعة واجبة ، وأنها شرط فيه.

وقد اختلفوا في كونها شرطا في الطلاق ، فنفاه قوم ، وأثبته قوم ، فيجب أن يكون الأمر بالشهادة الّذي ظاهره يقتضي الوجوب مصروفا إلى الطلاق دون الرجعة الّتي قد اجتمعت الأمّة على أنّه ليس بشرط فيها (١).

[الثاني :] وممّا إنفردت الإمامية به في هذه الاعصار وإن روي لهما وفاق قديم ، القول بجواز شهادات ذوي الأرحام والقرابات بعضهم لبعض ، إذا كانوا عدولا من غير إستثناء لأحد ، إلّا ما يذهب إليه بعض أصحابنا معتمدا على خبر يرويه (٢) من أنّه لا يجوز شهادة الولد على الوالد وإن جازت شهادته له ، ويجوز شهادة الوالد لولده وعليه ... دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد ، وأيضا قوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، فشرط تعالى العدالة ولم يشرط سواها ، ويدخل في عموم هذا القول ذو القرابات كلّهم ، وقوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) (٣) يدلّ أيضا على هذه المسألة (٤).

[الثالث :] وممّا انفردت به الإمامية إلّا من شذ من جملتهم وسنتكلم عليه ، القول بشهادة العبيد لساداتهم إذا كان العبيد عدولا مقبولة ، وتقبل أيضا على غيرهم ولهم ولا تقبل على ساداتهم وإن كانوا عدولا.

وقد روي عن أنس موافقة الإمامية في قبول شهادة العبيد العدول ، وهو قول الليث ، وأحمد بن حنبل ، وداود ، وأبي ثور (٥) ، وروي عن الشعبي أنّه قال :

يقبل فيما قلّ من الحقوق ولا يقبل فيما كثر (٦).

__________________

(١) الرسائل ١ / ٢٣٨.

(٢) الوسائل ، ١٨ : ٢٧١ ح ٦.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢.

(٤) الانتصار : ٢٤٤ وراجع أيضا الرسائل ، ١ : ٢٤٦.

(٥) المغني (لابن قدامة) ، ١٢ : ٧٠.

(٦) نفس المصدر ، ١٢ : ٧١.

٣٩٤

دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة ، ولا إعتبار بمن شذّ أخيرا عنهم ، وظواهر آيات الشهادة في الكتاب مثل قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وهو عامّ في العبيد إذا كانوا عدولا وغيرهم ، ولا يلتفت إلى ما يروى ممّا يخالف هذه الظواهر من الطرق الشيعية (١) ، ولا الطرق العامية وإن كثرت ، لأنّها تقتضي الظنّ ولا تنتهي إلى العلم ، وهذه الظواهر التي ذكرناها توجب العلم ولا يرجع عنها بما يقتضي الظنّ ، وهذه الطريقة هي التي يجب الرجوع إليها والتعويل عليها ، وهي مزيلة لكلّ شبه في هذه المسألة ، ولو كنّا ممّن يثبت الأحكام بالاستدلالات لكان لنا أن نقول : إذا كان العبد العدل بلا خلاف تقبل شهادته على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في روايته عنه ، فلأن تقبل شهادته على غيره أولى.

وكان أبو علي بن الجنيد من جملة أصحابنا يمتنع من شهادة العبد وإن كان عدلا ، ولما تكلم على ظواهر الآيات في الكتاب التي تعمّ العبد والحرّ ادّعى تخصيص الآيات بغير دليل ، وزعم أنّ العبد من حيث لم يكن كفوا للحرّ في دمه ، وكان ناقصا عنه في أحكامه لم يدخل تحت الظواهر ، وقال أيضا : أن النساء قد يكنّ أقوى عدالة من الرجال ولم تكن شهادتهن مقبولة في كلّ ما يقبل فيه شهادة الرجال (٢) ، وهذا منه غلط فاحش ؛ لأنّه إذا ادّعى أنّ الظواهر اختصت بمن تتساوى أحكامه في الأحرار كان عليه الدليل ؛ لأنّه ادّعى ما يخالف الظواهر ولا يجوز رجوعه في ذلك إلى أخبار الآحاد التي يروونها ؛ لأنّا قد بيّنا ما في ذلك.

فأمّا النساء فغير داخلات في الظواهر التي ذكرناها مثل قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، ومثل قوله تعالى : (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (٣) فإنّما أخرجنا النساء من هذه الظواهر ؛ لأنّهن ما دخلن فيها ، والعبيد العدول داخلون فيها بلا خلاف ويحتاج في إخراجهم إلى دليل (٤).

[الرابع :] وممّا يظنّ إنفراد الإمامية به ولها فيه موافق القول : بأنّ شهادة

__________________

(١) الوسائل ، ١٨ : ٢٥٥ ، ٢٧٧ ، ٢٧٨.

(٢) مختلف الشيعة : ٨ : ٥١٥.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢.

(٤) الانتصار : ٣٤٦.

٣٩٥

الأعمى إذا كان عدلا مقبولة على كلّ حال ، ولا فرق بين أن يكون ما علمه وشهد به كان قبل العمى أو بعده ... دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه ـ زائدا على إجماع الطائفة ـ ظواهر الكتاب التي تلوناها واستدللنا بها على جواز شهادة العبيد وغيرهم ؛ لأنّ الأعمى داخل في هذه الظواهر ولا يمنع عماه من كونها متناولة له ... (١) فاستدلّ المخالف بقوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (٢).

فالجواب عنه أنّ الآية مجملة لم تتضمّن ذكر ما لا يستوون فيه ، وادّعاه العموم فيما لم يذكر غير صحيح ، وظواهر آيات الشهادة تتناول الأعمى كتناولها للبصير إذا كان عدلا ؛ لأنّ قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (٣) يدخل فيه الأعمى كدخول البصير (٤).

[الخامس : ممّا عاب به النظام أمير المؤمنين عليه‌السلام من الأحكام الّتي ادعى انه خالف فيها جميع الأمّة ، قبوله شهادة الصبيان بعضهم على بعض ، والله تعالى يقول : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).

والجواب :] وأمّا قبول شهادة الصبيان فالاحتياط للدين يقتضيه ، ولم ينفرد أمير المؤمنين عليه‌السلام بذلك ، بل قد قال بقوله بعينه أو قريبا منه جماعة من الصحابة والتابعين (٥).

وروي عن عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفان في شهادة الصبي يشهد بعد كبره ، والعبد بعد عتقه ، والنصراني بعد إسلامه أنها جائزة (٦).

وهذا قول جماعة من الفقهاء المتأخّرين كالثوري وأبي حنيفة وأصحابه (٧).

وروى مالك بن انس عن هشام بن عروة ان عبد الله بن الزبير كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح (٨).

__________________

(١) الانتصار : ٢٤٩.

(٢) سورة فاطر ، الآية : ١٩.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢.

(٤) الانتصار : ٢٥٠.

(٥) الام ، ٧ : ٤٧.

(٦) كنز العمّال ، ٧ : ٢٠ ح ١٧٧٧٠ و ٢٧ ح ١٧٧٩٦.

(٧) الحاوي الكبير ، ١٧ : ١٦.

(٨) موطأ ، ٢ : ٧٢٦ ح ٩.

٣٩٦

وروي عن هشام بن عروة أنه قال سمعت أبي يقول يجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض ، يؤخذ بأول قولهم (١).

وروي عن مالك بن أنس أنه قال : المجمع عليه عندنا يعني أهل المدينة أن شهادة الصبيان تجوز فيما بينهم من الجراح ، ولا تجوز على غيرهم إذا كان ذلك قبل ان يتفرقوا ويجيئوا ويعلموا ، فإن تفرقوا فلا شهادة لهم إلا أن يكونوا قد اشهدوا عدولا على شهادتهم قبل ان يتفرّقوا (٢).

ويوشك أن يكون الوجه في الأخذ بأوائل أقوالهم ؛ لأن من عادة الصبي وسجيته إذا أخبر بالبديهة ان يذكر الحقّ الّذي عاينه ، ولا يتعمل لتحريفه.

وليس جميع الشهادات تراعى فيها العدالة ، وجماعة من العلماء (٣) قد أجازوا شهادة أهل الذمّة في الوصية في السفر إذا لم يوجد مسلم ، وتأولوا لذلك قول الله عزوجل : (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) (٤).

وقد أجازوا أيضا شهادة النساء وحدهن فيما لا يجوز أن تنظر إليه الرجال ، وقبلوا شهادة القابلة (٥).

وإنّما أردنا بذكر قبول شهادة النساء ، أن قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) مخصوص غير عام في جميع الشهادات. ألا ترى ان ذلك غير مانع من قبول اليمين مع شهادة الواحد؟ وبعد فليس قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) بمقتض غير الأمر بالشهادة على هذا الوجه ، وليس بمانع من قبول شهادة غير العدلين ولا تعلّق له بأحكام قبول الشهادات (٦).

[السادس : انظر البقرة : ٢٣٧ من الذريعة ، ١ : ٢٩٧].

ـ (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ...) [الطلاق : ٤].

[فيها أمور :

__________________

(١) المحلى ، ٩ : ٤٢١.

(٢) موطأ ، ٢ : ٧٢٦ ذ ح ٩.

(٣) المحلي ، ٩ : ٤٠٦ و ٤٠٧.

(٤) سورة المائدة ، الآية : ١٠٦.

(٥) الحاوي الكبير ، ١٧ : ٨ و ١٩.

(٦) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٢١٥ و ٢١٦.

٣٩٧

الأوّل :] وممّا يظنّ انفراد الإمامية به القول : بأنّ الآيسة من النساء من المحيض إذا كانت في سنّ من لا تحيض لا عدّة عليها متى طلّقت ، وكذلك من لم تبلغ المحيض إذا لم يكن مثلها من تحيض لا عدّة عليها ، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ، ويوجبون العدّة على الآيسة من المحيض ، وعلى التي لم تبلغه على كلّ حال (١) وعدّة هؤلاء عندهم الاشهر ، وهذا المذهب ليس بمذهب لجميع الإمامية وإن كان فيهم من يذهب إليه ، ويعوّل على أخبار آحاد في ذلك ، لا حجّة فيها (٢) ، فليس بمذهب لجميع الإمامية فيلحق بما أجمعوا عليه.

والذي أذهب أنا إليه أنّ على الآيسة من المحيض ، والتي لم تبلغه ، العدّة على كلّ حال من غير مراعاة للشرط الذي حكيناه عن أصحابنا.

والذي يدلّ على صحة هذا المذهب قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) وهذا نصّ صريح في أنّ الآيسات من المحيض واللائي لم يبلغن عدّتهن الاشهر على كلّ حال ؛ لأنّ قوله تعالى : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) معناه واللائي لم يحضن كذلك ، فان قيل : كيف تدعون أنّ الظاهر يقتضي إيجاب العدّة على ما ذكرتم على كل حال وفي الآية شرط وهو قوله تعالى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ)؟ قلنا : أوّل ما نقوله : انّ الشرط المذكور في الآية لا ينفع أصحابنا ؛ لأنّه غير مطابق لما يشرطونه ، وإنّما يكون نافعا لهم الشرط لو قال تعالى : «إن كان مثلهن لا تحيض في الآيسات وفي اللائي لم يبلغن المحيض إذا كان مثلهن تحيض» ، وإذا لم يقل الله تعالى ذلك وقال عزوجل : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) وهو غير الشرط الذي يشرطه أصحابنا ، فلا منفعة لهم به.

وليس يخلو قوله تعالى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) من أن يريد به ما قال جمهور المفسّرين وأهل العلم بالتأويل من أنّه تعالى أراد به إن كنتم مرتابين في عدة هؤلاء النساء وغير عالمين بمبلغها ، فقد رووا ما يقوي ذلك من أن سبب نزول

__________________

(١) البحر الزخّار ، ٤ : ٢٢٠.

(٢) مختلف الشيعة ، ٧ : ٤٦٦.

٣٩٨

هذه الآية هو ما ذكرناه من فقد العلم ، فروى مطرف عن عمرو بن سالم قال قال أبيّ بن كعب : يا رسول الله ، انّ عددا من عدة النساء لم تذكر في الكتاب الصغار والكبار وأولات الأحمال ، فأنزل الله عزوجل : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) إلى قوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فكان سبب نزول هذه الآية الارتياب الذي ذكرناه.

ولا يجوز أن يكون الارتياب بأنّها آيسة أو غير آيسة ؛ لأنّه تعالى قد قطع في الآية على اليأس من المحيض بقوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) والمشكوك في حالها ، والمرتاب في أنّها تحيض أو لا تحيض لا تكون آيسة ، والمرجع في وقوع الحيض منها وإرتفاعه ، إليها وهي المصدّقة على ما تخبر به فيه ، فإذا أخبرت بأنّ حيضها قد ارتفع قطع عليه ، ولا معنى للارتياب مع ذلك ، وإذا كان الحيض المرجع فيه إلى النساء ، ومعرفة الرجال به مبنية على إخبار النساء وكانت الريبة المذكورة في الآية منصرفة إلى اليأس من المحيض ، فكان يجب أن يقول تعالى : إن إرتبتن أو إن إرتبن ؛ لأنّه حكم يرجع إلى النساء ويتعلّق بهنّ فهنّ المخاطبات به ، فلمّا قال الله تعالى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) فخاطب الرجال دون النساء ، علم أنّ المراد هو الإرتياب في العدّة ومبلغها.

فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الارتياب هاهنا إنّما هو بمن تحيض أو لا تحض ممن هو في سنّها على ما يشرطه بعض أصحابكم؟

قلنا : هذا يبطل ؛ لأنّه لا ريب في سنّ من تحيض أو لا تحيض مثلها من النساء ؛ لأنّ المرجع فيه إلى العادة. ثم إذا كان الكلام مشروطا فالأولى أن يعلّق الشرط بما لا خلاف فيه دون ما فيه الخلاف. وقد علمنا أنّ من شرط وجوب الاعلام بالشيء والاطلاع عليه فقد العلم ووقوع الريب ممّن يعلم بذلك ويطّلع عليه ، فلا بدّ إذن من أن يكون ما علّقنا نحن الشرط به ، وجعلنا الريبة ممّن يعلم بذلك ، واقعة فيه مرادا ، وإذا ثبت ذلك لم يجز أن يعلّق الشرط بشيء آخر ممّا ذكروه أو غيره ؛ لأنّ الكلام يستقلّ يعلّق الشرط بما ذكرنا أنّه لا خلاف فيه ولا حاجة به بعد الاستقلال إلى أمر آخر ، ألا ترى أنّه لو استقل بنفسه لما جاز

٣٩٩

اشتراطه؟ فكذلك إذا استقلّ مشروطا بشيء لا خلاف فيه ، فلا يجب تجاوزه ولا تخطيّه إلى غيره (١).

[الثاني :] وممّا يظنّ أنّ الإمامية مجتمعة عليه ، ومنفردة به القول : بأنّ عدّة الحامل المطلّقة أقرب الأجلين ، وتفسير ذلك أنّ المطلقة إذا كانت حاملا ، ووضعت قبل مضي الاقراء الثلاثة فقد بانت بذلك ، وإن مضت الاقراء الثلاثة قبل أن تضع حملها بانت بذلك أيضا.

وقد بيّنا في جواب المسائل الواردة من أهل الموصل الفقهية (٢) أنّه ما ذهب جميع أصحابنا إلى هذا المذهب ، ولا أجمع العلماء منا عليه ، وأكثر أصحابنا يفتي بخلافه ، ويذهب إلى أنّ عدّة من ذكرنا حالها وضعها الحمل ، وإنّ من ذهب إلى خلاف ما نصرناه إنّما عوّل على خبر يرويه زرارة بن أعين عن أبي جعفر عليه‌السلام (٣) وقد بيّنا أنّه ليس بحجة توجب العلم ، وسلّمناه مع ذلك ، وتأوّلناه واستوفينا هناك من الكلام ما لا طائل في إعادته هاهنا (٤) ، وفي الجملة : إذا كانت هذه المسألة ممّا لا يجمع أصحابنا عليها ويختلفون فيها (٥) ، فهي خارجة عمّا بنينا هذا الكتاب عليه.

فإن قيل : فما حجّتكم على كلّ حال على أنّ عدة المطلقة إذا كانت حاملا هي وضعها للحمل دون الاقراء؟ فان إحتججتم بقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) (٦) عورضتم بعموم قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٧).

فالجواب عن ذلك : أنّه لا خلاف بين العلماء في أنّ آية وضع الحمل عامة في المطلّقة وغيرها ، وأنّها ناسخة لما تقدّمها ، وممّا يكشف عن ذلك أنّ قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي

__________________

(١) الانتصار : ١٤٥.

(٢) الرسائل ، ١ : ١٨٦.

(٣) من لا يحضره الفقيه ، ٣ : ٥٠٩ ح ١.

(٤) لمّا كانت المسألة المذكورة مشتملا على تحليل روائي بحت لم نذكره.

(٥) مختلف الشيعة ، ٧ : ٤٩٧ و ٤٩٨.

(٦) سورة الطلاق ، الآية : ٤.

(٧) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٨.

٤٠٠