تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

سورة فصّلت

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١]

أنظر الأعراف : ١٧٢ ، ١٧٣ من الأمالي ، ١ : ٥٤ والنمل : ٢١ ، ٢٢ ، ٢٣ من الرسائل ، ١ : ٤٢٣ ويس : ٨٢ من الملخص ، ٢ : ٤٤٤.

ـ (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت : ١٢].

أنظر طه : ١١٤ من الأمالي ، ٢ : ٣٠٠.

ـ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣].

أنظر الذاريات : ٤١ من الرسائل ، ٣ : ٩٣.

ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) [فصلت : ١٥].

وقوله تعالى : (هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) مجاز ، لأن القوّة الّتي هي القدرة لا توصف بالشدّة ، وهو تعالى قادر لا بقدرة (١).

ـ (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [فصلت : ١٧].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠]

__________________

(١) الذخيرة : ٥٨٢.

٣٢١

أنظر الكافرون من الأمالي ، ١ : ١٣٨.

ـ (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ ...) [فصلت : ٤٩]

أنظر المائدة : ٢٨ ، ٢٩ من الأمالي ، ٢ : ٤٣.

ـ (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ ...) [فصلت : ٥٤].

أنظر البقرة : ١ من الرسائل ، ٣ : ٢٩٧ : ٣٠٥.

٣٢٢

سورة الشّورى

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ...) [الشورى : ١١].

أنظر المائدة : ٦ ، الأمر السادس ، الموضع الأوّل من الرسائل ، ٢ : ٦٧ وأيضا المقدّمة الثانية ، الأمر الثاني.

ـ (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠].

أنظر الطلاق : ١ الأمر الأول من الانتصار : ١٢٩.

ـ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠].

أنظر المائدة : ١١٦ من الأمالي ، ١ : ٣١٧ والبقرة : ١٥ من الأمالي ، ٢ : ١٢٦ والبقرة : ١٥٨ من الذخيرة : ٥٩٨.

ـ (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الشورى : ٥١].

[إن سأل سائل] فقال : أو ليس ظاهر هذا الكلام يقتضي جواز الحجاب عليه وأنتم تمنعون من ذلك!.

الجواب : قلنا : ليس في الآية أكثر من ذكر الحجاب ، وليس فيها أنّه حجاب له تعالى أو لمحلّ كلامه أو لمن يكلّمه. وإذا لم يكن في الظاهر شيء من ذلك جاز صرف الحجاب إلى غيره عزوجل ؛ ممّا يجوز أن يكون محجوبا. وقد يجوز أن يريد تعالى بقوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أنّه يفعل كلاما في جسم محتجب عن المكلّم ، غير معلوم له على سبيل التفصيل ، فيسمع المخاطب الكلام ولا يعرف محله على طريق التفصيل ، فيقال على هذا : هو مكلّم من وراء حجاب.

٣٢٣

وروي عن مجاهد في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) قال : هو داود أوحي في صدره فزبر الزّبور ، «أو من وراء حجاب» وهو موسى ، «أو يرسل رسولا» وهو جبريل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فأمّا الجبّائيّ فإنّه ذكر أنّ المراد بالآية : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) إلّا مثل ما يكلّم به عباده من الأمر بطاعته ، والنهي لهم عن معاصيه ، وتنبيهه إيّاهم على ذلك من جهة الخاطر أو المنام ، أو ما أشبه ذلك على سبيل الوحي.

قال : وإنّما سمي الله ذلك وحيا لأنّه خاطر وتنبيه ، وليس هو كلاما لهم على سبيل الإفصاح ، كما يفصح الرجل منّا لصاحبه إذا خاطبه. والوحي في اللغة إنّما هو ما جرى مجرى الإيماء والتنبيه على شيء من غير أن يفصح به ؛ فهذا هو معنى ما ذكره الله تعالى في الآية.

قال : وعنى بقوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه ، إلّا من يريد أن يكلّمه به ؛ نحو كلامه لموسى عليه‌السلام ، لأنّه حجب ذلك عن جميع الخلق إلّا موسى عليه‌السلام وحده في كلامه إياه أوّلا فأمّا كلامه إيّاه في المرّة الثانية فإنّه إنّما أسمع ذلك موسى عليه‌السلام والسبعين الذين كانوا معه ، وحجب عن جميع الخلق سواهم. فهذا معنى قوله عزوجل : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ، لأنّ الكلام هو الذي كان محجوبا عن الناس.

وقد يقال : إنّه تعالى حجب عنهم موضع الكلام الذي أقام الكلام فيه ؛ فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه ؛ لأنّ الكلام عرض لا يقوم إلّا في جسم.

ولا يجوز أن يكون أراد بقوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أنّ الله تعالى كان (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) يكلّم عباده ؛ لأنّ الحجاب لا يجوز إلّا على الأجسام المحدودة.

قال : وعنى بقوله : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) إرساله ملائكة بكتبه وكلامه إلى أنبيائه عليهم‌السلام ، ليبلّغوا عنه ذلك عباده على سبيل إنزاله القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنزاله سائر الكتب على أنبيائه ؛ فهذا أيضا ضرب من الكلام الذي يكلّم الله تعالى عباده ويأمرهم فيه بطاعته ، وينهاهم عن معاصيه ؛ من غير

٣٢٤

أن يكلّمهم على سبيل ما كلّم به موسى ، وهذا الكلام هو خلاف الوحي الذي ذكره الله تعالى في أوّل الآية لأنّه قد أفصح تعالى لهم في هذا الكلام بما أمرهم به ونهاهم عنه. والوحي الذي ذكره تعالى في أوّل الآية إنّما هو تنبيه وخاطر ، وليس فيه إفصاح.

وهذا الذي ذكره أبو علي أيضا سديد ، والكلام محتمل لما ذكره.

ويمكن في الآية وجه آخر : وهو أن يكون المراد بالحجاب البعد والخفاء ، ونفي الظهور. وقد تستعمل العرب لفظة «الحجاب» فيما ذكرناه ؛ يقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه ، واستبطأ فطنته : بيني وبينك حجاب ، وتقول للأمر الذي تستبعده وتستصعب طريقه ؛ بيني وبين هذا الأمر حجب وموانع وسواتر ؛ وما جرى مجرى ذلك ؛ فيكون معنى الآية : أنّه تعالى لم يكلّم البشر إلّا وحيا ؛ بأن يخطر في قلوبهم ، أو بأن ينصب لهم أدلّة تدلّهم على ما يريده أو يكرهه منهم ؛ فيكون من حيث نصبها للدلالة على ذلك والإرشاد إليه مخاطبا ومكلّما للعباد بما يدلّ عليه. وجعل هذا الخطاب من وراء حجاب من حيث لم يكن مسموعا ـ كما يسمع الخاطر وقول الرسول ـ ولا ظاهرا معلوما لكلّ من أدركه ؛ كما أنّ أقوال الرسل المؤدّين عنه تعالى من الملائكة بهذه الصفة. فصار الحجاب هاهنا كناية عن الخفاء وعبارة عمّا تدلّ عليه الدلالة. وليس لأحد أن يقول : إنّ الذي تدلّ عليه الأجسام من صفاته تعالى وأحواله ومراده. ولا يقال : إنّه تعالى مكلّم لنا به وذلك أنّ غير ممتنع على سبيل التجوّز أن يقال فيما يدلّ عليه الدليل الذي نصبه الله تعالى ليدلّ على مراده ، ويرشد إليه : إنّه مكلّم لنا ومخاطب به ؛ ولا يمتنع المسلمون أن يقولوا : إنّه تعالى خاطبنا بما دلّت عليه الأدلة العقلية ، وأمرنا بعبادته واجتناب ما كرهه منا ، وفعل ما أراده ، وهكذا يقولون فيمن فعل فعلا يدل على أمر من الأمور : قد خاطبنا فلان بما فعل من كذا وكذا ، وقال لنا ، وأمرنا ؛ وزجرنا ، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يجرونها على الكلام الحقيقي. وهذا الاستعمال أكثر وأظهر من أن يورد أمثاله ونظائره (١).

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ١٧٧.

٣٢٥

ـ (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى : ٥٣].

أنظر البقرة : ١ من الرسائل ، ٣ : ٢٩٧ ، ٣٠٥.

٣٢٦

سورة الزّخرف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ...) [الزخرف : ١٩].

أنظر المائدة : ٦٠ من الأمالي ، ٢ : ١٦١.

ـ (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الزخرف : ٢٠].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥].

[إن سأل سائل عن هذه الآية].

قلنا [له] : قد ذكر في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن يكون المعنى ، وسل تبّاع من أرسلنا قبلك من رسلنا ؛ ويجرى ذلك مجرى قولهم : السخاء حاتم ، والشعر زهير ؛ يريدون السخاء سخاء حاتم ، والشعر شعر زهير وأقاموا حاتما مقام السخاء المضاف إليه ؛ ومثل قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) (١) ، ومثله قول شاعر :

لهم مجلس صهب السّبال أذلّة

سواسية أحرارها وعبيدها

والمأمور بالسؤال في ظاهر الكلام النبي «عليه وآله السلام» ؛ وهو في المعنى لأمته ؛ لأنه عليه‌السلام لا يحتاج إلى السؤال ؛ لكنّه خوطب خطاب أمته ، كما قال تعالى : (المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) (٢) فأفرده الله تعالى بالمخاطبة ، ثمّ رجع إلى خطاب أمته فقال : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٧٧.

(٢) سورة الأعراف ، الآيتان : ١ ، ٢.

٣٢٧

رَبِّكُمْ) (١) ، وفي موضع آخر : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) (٢) فخاطبه عليه‌السلام والمعنى لأمته ، لأنه بيّن بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٣) ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (٤) فوحّد وجمع في موضع واحد وذلك للمعنى الذي ذكرناه.

وقال الكميت :

إلى السّراج المنير أحمد لا

تعدلني رغبة ولا رهب

عنه إلى غيره ولو رفع النّا

س إليّ العيون وارتقبوا

لو قيل أفرطت بل قصدت ولو عن

فني القائلون ، أو ثلبوا

لجّ بتفضيلك اللّسان ولو ك

ثر فيك الضّجاج واللّجب

أنت المصفّى المهذّب المحض في التش

بيه إن نصّ قومك النسب

فظاهر الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمقصود به أهل بيته عليهم‌السلام ، لأنّ أحدا من المسلمين لا يمتنع من تفضيله عليه‌السلام والإطناب في وصف فضائله ومناقبه ؛ ولا يعنّف في ذلك أحدا ، وإنّما أراد الكميت : وإن أكثر في أهل بيته وذريته السلام الضجاج واللجب والتقريع والتعنيف ، فوجّه القول إليه عليه والمراد غيره ، ولذلك وجه صحيح وهو أنّ المراد بموالاتهم والانحياز إليهم والانقطاع إلى حبهم ؛ لما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المقصود بذلك أجمع جاز أن يخرج الكميت الكلام هذا المخرج ، ويضعه هذا الموضع.

وقيل : إنّ المراد بتبّاع الأنبياء الذين أمر بمسألتهم هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ونظرائه ، ولا يمتنع أن يكون هو المأمور بالمسألة على الحقيقة كما يقتضيه ظاهر الخطاب ، وإن لم يكن شاكّا في ذلك ، ولا مرتابا به. ويكون الوجه فيه تقرير أهل الكتاب به ، وإقامة الحجّة عليهم باعترافهم ، أو لأنّ بعض مشركي العرب أنكر أن تكون كتب الله المتقدّمة وأنبياؤه الآتون بها دعت

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٣.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ١.

(٣) سورة الأحزاب ، الآية : ٢.

(٤) سورة الطلاق ، الآية : ١.

٣٢٨

إلى التوحيد ، فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتقرير أهل الكتاب بذلك دعت لنزول الشبهة عمن اعترضته.

والجواب الثاني : أن يكون السؤال متوجّها إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون أمّته ، والمعنى : إذا لقيت النبيين في السماء فاسألهم عن ذلك ؛ لأنّ الرواية قد وردت بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقي النبيين في السماء فسلّم عليهم وأمّهم ؛ ولا يكون أمره بالسؤال لأنّه كان شاكا ، لأنّ مثل ذلك لا يجوز عليه الشكّ فيه ؛ لكن لبعض المصالح الراجعة إلى الدين ؛ إمّا لشيء يخصّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو يتعلّق ببعض الملائكة الذين يستمعون ما يجري بينه وبين النبيين من سؤال وجواب.

والجواب الثالث : ما أجاب به ابن قتيبة ، وهو أن يكون المعنى : وسل من أرسلنا إليه قبلك رسلا من رسلنا ـ يعني أهل الكتاب.

وهذا الجواب ـ وإن كان يوافق في المعنى الجواب الأوّل ـ فبينهما خلاف في تقدير الكلام وكيفية تأويله ، فلهذا صارا مفترقين.

وقد ردّ على ابن قتيبة هذا الجواب ، وقيل : إنّه أخطأ في الإعراب ؛ لأنّ لفظة «إليه» لا يصحّ إضمارها في هذا الموضع ؛ لأنّهم لا يجيزون : «الذي جلست عبد الله» ، على معنى «الذي جلست إليه» ، لأنّ «إليه» حرف منفصل عن الفعل ، والمنفصل لا يضمر ، فلمّا كان القائل إذا قال : «الذي أكرمت إياه عبد الله» لم يجز أن يضمر «إياه» ؛ لانفصاله من الفعل كانت لفظة «إليه» بمنزلته.

وكذلك لا يجوز : «الذي رغبت محمد» ، بمعنى «الذي رغبت فيه محمد» ؛ لأنّ الإضمار إنّما يحسن في الهاء المتعلّقة بالفعل كقولك : «الذي أكلت طعامك» ، و «الذي لقيت صديقك» ، معناهما : الذي أكلته ولقيته.

وقال الفرّاء : إنّما حذفت «الهاء» لدلالة الذي عليها. وقال غيره في حذفها غير ذلك ؛ وكلّ هذا ليس ممّا تقدّم في شيء فصحّ أنّ جواب ابن قتيبة مستضعف ، والمعتمد ما تقدّم (١).

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٧١.

٣٢٩

[انظر أيضا البقرة ٢٦ و ٢٧ من الرسائل ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧ رسالة انقاذ البشر من الجبر والقدر].

ـ (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ...) [الزخرف : ٧٧].

أنظر الانشراح : ١ ، ٢ ، ٣ من التنزيه : ١٦١.

ـ (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف : ٨٦].

[إن سأل سائل عن هذه الآية] قلنا : أمّا (الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) فالمراد به ما كان يعتقده المشركون ، ويدعونه إلها من دون الله. والهاء في (دُونِهِ) راجعة إلى اسم الله تعالى. وتحقيق الكلام : ولا يملك الذين يدعون إلها وأربابا من دون الله تعالى الشفاعة. ولمّا كثر استعمال هذه اللفظة فيمن يعبد من دون الله ، ويدعى إلها رازقا استحسنوا الحذف لظهور الأمر في المراد ؛ ولهذا حمل محققو المفسّرين قوله تعالى : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) (١) الآلهة من دونه ، وحذف ما يتعلّق بهذا الدعاء في هذه الآية أشكل من حذفه في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) ؛ لأنّ قوله «جلّ وعزّ» : (مِنْ دُونِهِ) قد نبّه وأيقظ على أنّ المراد : من كان يدعى إلها من دونه.

والآية الأخرى لا دليل فيها من لفظها على ما يتعلّق به قوله : (دُعاؤُكُمْ).

معنى أنّهم لا يملكون الشفاعة ، أي ليس لهم أن يفعلوها ويتصرّفوا فيها ؛ لأنّ معنى المالك ليس هو إلّا من كان قادرا على التصرّف فيه وليس لأحد أن يمنعه من ذلك ؛ والشفاعة قد بيّنا في غير موضع من كتبنا أنّها لا تستعمل على طريقة الحقيقة إلّا في طلب إسقاط المضارّ ؛ وإنّما استعملت في إيصال المنافع تجوّزا فيه واستعارة.

وقيل في معنى الآية وجهان :

أحدهما : أنّ المعبودين من عيسى ومن مريم والملائكة وعزيز عليهم‌السلام ؛ لا

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية : ٧٧.

٣٣٠

يملك الشفاعة عند الله تعالى [أحد منهم] في أحد إلّا فيمن شهد بالحقّ ، وأقرّ التوحيد ، وبجميع ما يجب عليه الإقرار به.

والوجه الآخر : أنّ الذين يدعون من دون الله من البشر والأجسام وجميع المعبودات لا يملك الشفاعة عند الله إلّا من شهد بالحقّ منهم يعني عيسى وعزيرا والملائكة عليهم‌السلام ؛ لا يملكون الشفاعة عند الله تعالى إلّا إذا كانوا على الحقّ شاهدين به ؛ معترفين بجميعه ؛ فإنّهم يملكون الشفاعة عند الله ؛ وإن كان لا يملكها ما عداهم من المعبودات.

والفرق بين الوجهين أنّ الوجه الأوّل يرجّح الاستثناء فيه إلّا من تتناوله الشفاعة ؛ وفي الوجه الثاني يرجّح الاستثناء إلى الشافع دون المشفوع فيه.

فإن قيل : أيّ الوجهين أرجح؟.

قلنا : الثاني ؛ وإنّما رجّحناه لأنّ المقصد بالكلام أنّ الذين يدعونهم من دون الله تعالى لا يملكون لهم نفعا ؛ كما قال تعالى في مواضع أنّهم لا ينفعونكم ، ولا يضرّونكم ، ولا يرزقونكم ؛ ووضع الكلام على نفي منفعة تصل إليهم من جهتهم ؛ ولا غرض في عموم من يشفعون فيه أو خصوصه.

ولمّا كان فيمن عبدوه من نبيّ أو ملك من يجوز أن يشفع فيمن تحسن الشفاعة له ، وجب استثناؤه حتى لا يتوهّم أنّ حكم جميع من عدّده واحد ؛ في أنّه لا تصحّ منه الشفاعة ؛ وأنّ من كان تصحّ منه الشفاعة إنّما يشفع فيمن تحسن الشفاعة له ممّن لم يكن كافرا ولا جاحدا.

ويترجّح هذا الوجه من جهة أخرى ؛ وهي أنّا لو جعلنا الاستثناء يرجع إلى من يشفع فيه لكان الكلام يقتضي أنّ جميع من يدعون من دون الله يشفع لكلّ من شهد بالحقّ ، والأمر بخلاف ذلك ؛ لأنّه ليس كلّ من عبدوه من دون الله تعالى تصحّ منه الشفاعة ؛ لأنّهم عبدوا الأصنام ، وبعض عبد الكواكب والشفاعة لا تصحّ منها ؛ فلا بدّ من أن تخصّص الكلام ونقدّره هكذا : لا يملك بعض الذين يدعون من دونه الشفاعة إلّا فيمن شهد بالحقّ ؛ فعود الاستثناء إلى الشافعين أولى ؛ حتى يتخصّص.

٣٣١

وأيضا فلو عاد الاستثناء إلى المشفوع فيه لوجب أن يكون على غير هذه الصيغة فيقول : «إلّا فيمن شهد بالحقّ» وإذا قال : «إلّا من شهد بالحقّ» كان ذلك بأن يرجع إلى الشافع أولى ؛ لأنّه أليق باللفظ ، لأنّا إذا أردنا أن نستثني من جماعة لا يشفعون قلنا : هؤلاء لا يشفعون إلّا من كان بصفة كذا ؛ وإذا كان الاستثناء ممّن يشفع فيه قلنا : لا يشفعون إلّا فيمن صفته كذا.

وأيضا فعلى الوجه الأوّل وقد تقدّم عموم ظاهر في اللفظة يجوز أن يستثنى منه وهو قوله تعالى : (الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) وما جرى ذكر المشفوع فيه عموما يستثنى بعض.

فإن قيل : الشفاعة لفظ جنس ، يقتضي العموم.

قلنا : قد بيّنّا في غير موضع أنّ ألفاظ الجنس لا تقتضي الاستغراق ، وضربنا المثل بمن يقول : هذه أيّام أكل اللحم ، وزمان لبس الجباب ، فإنّه يقتضي الجنس من غير استغراق. وإن توهّم خصوص أو عموم فخطؤهما لا يعقل.

فإن قيل : أيّ فائدة في قوله تعالى (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وبأيّ شيء يتعلّق علمهم.

قلنا : ليس كلّ من شهد بالحقّ يكون عالما ؛ لأنّ المقلّد والمبخّت ربّما شهد بالحقّ على وجه لا ينفع ؛ وإنّما لا ينفع ذلك من العلم فكأنّه تعالى قال (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) صحّة ما شهدوا به.

فإن قيل : إذا كان المستثنى هم الأنبياء والملائكة فهؤلاء لا يشهدون بالحقّ إلّا مع العلم.

قلنا : ذلك صحيح إلّا أنّ الاستثناء لمّا تناول في اللفظة من كان يصفه ، وكان مجرّد هذه اللفظة لا ينفع في المعنى المقصود إلّا مشروطا بالعلم وجب اشتراط العلم ؛ ليعلم افتقاد تلك الصفة فيمن كانت إليه ؛ وهذا واضح.

فإن قيل : هذا الوجهان اللّذان ذكرتموهما ، ورجّحتم أحدهما يقتضيان مشاركة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشفاعة للمذنبين ؛ ومن مذهب المسلمين أنّه ينفرد بالشفاعة.

٣٣٢

قلنا : ليس فيما ذكر تضعيف لهذين الجوابين من وجوه :

أحدها : أنّ انفراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفاعة للمذنبين حتّى لا يشاركه أحد فيها ليس بمعلوم ولا مقطوع عليه ؛ وإنّما يرجع فيه إلى أقوال قوم غير محصّلين ؛ ألا ترى أنّ عند المسلمين كلّهم إلّا عند المعتزلة ومن وافقهم أنّ للمؤمنين شفاعة بعضهم في بعض! فكيف يدّعي الاختصاص في هذه الرتبة!

وثانيها : أنّ المزية المدّعاة لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشفاعة إنّما هي على الأنبياء المتقدّمين دون الملائكة ؛ لأنّ لا خلاف في أنّ للملائكة شفاعة ، وقد نطق القرآن بذلك فقال : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (١). وإذا كان الأمر على ما ذكرناه فالاستثناء يعود إلى الملائكة عليهم‌السلام ؛ لأنّهم من جملة المعبودين ، فلا يمنع نفي الشفاعة عن الكلّ أن يستثنوا لأنّ لهم شفاعة.

وثالثها : أنّ الشفاعة قد تكون إلى الله تعالى وإلى غيره ؛ فإن ثبت ما ادّعي من تفرّد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفاعة عند الله تعالى في مذنبي أمّته ، جاز أن تثبت الشفاعة لغيره عند غير الله تعالى ؛ فكأنّه قال : أنتم تعبدون من لا يشفع فيكم في الدنيا ولا ينصركم ؛ واستثني من يجوز عليه أن يشفع في الدنيا.

ورابعها : أن يكون المراد بالشفاعة هاهنا النصرة والمعونة والمنفعة ؛ لأنّ الشفاعة فيمن تتناوله نفع يوصل إليه ؛ وإرادة الشفاعة في الأمّة معنى الشفاعة ، وهو المنفعة والنصرة ؛ وتقدير الكلام : إنّكم تعبدون من لا ينفعكم ولا يضرّكم ولا يعينكم ؛ ولمّا كان في جملة هؤلاء المعبودين من يصحّ أن يضرّ وينفع استثني ؛ ليبيّن أنّ حكمهم مفارق لحكم غيرهم ؛ وهذا بيّن لمن تأمّله (٢).

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٢٨.

(٢) الأمالي ، ٢ : ٣٠٦.

٣٣٣

سورة الدّخان

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)) [الدخان : ٢٨ ـ ٢٩].

[إن سأل سائل فقال : ما تأويل قوله تبارك وتعالى مخبرا عن مهلك قوم فرعون وتوريثه نعمهم] وكيف يجوز أن يضيف البكاء إليهما ، وهو لا يجوز في الحقيقة عليهما؟.

والجواب : يقال له في هذه الآية وجوه أربعة من التأويل :

أوّلها : أنّه تعالى أراد أهل السماء والأرض فحذف كما حذف في قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) ؛ وفي قوله تعالى : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) (٢) ؛ أراد أهل القرية ، وأصحاب الحرب ، ويجري ذلك مجرى قولهم : السخاء حاتم ، يريدون :

السخاء سخاء حاتم ؛ قال الحطيئة (٣) :

وشرّ المنايا ميّت وسط أهله

كهلك الفتى قد أسلم الحيّ حاضره

أراد شرّ المنايا ميتة ميّت ، وقال الآخر :

قليل عيبه والعيب جمّ

ولكنّ الغنى ربّ غفور (٤)

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

(٢) سورة محمّد ، الآية : ٤.

(٣) البيت في طبقات الشعراء لابن سلام ص ٩٥ ؛ ضمن أبيات أربعة للحطيئة لم تذكر في ديوانه. وفي حاشية بعض النسخ : «قال السيد الإمام رحمه‌الله : طلبت هذا البيت في شعر الحطيئة فلم أجده فيه».

(٤) البيت لعروة بن الورد ، وهو في ملحقات ديوانه : ١٩٨ ، وهو في شرح المقامات : ٢ / ١٩٢ ، والبيان : ١ / ٩٥ ، والعقد : ١ / ٢١٢.

٣٣٤

أراد : غنى ربّ غفور وقال ذو الرّمة :

لهم مجلس صهب السّبال أذلّة

سواسية أحرارها وعبيدها (١)

أراد أهل مجلس ، وأمّا قوله : «صهب السّبال» فإنّما أراد به الأعداء والعرب تصف الأعداء بذلك ، وإن لم يكونوا صهب الأسبلة ، وقوله : «سواسية» يريد أنّهم مستوون متشابهون ؛ ولا يقال هذا إلّا في الذمّ.

وثانيها : أنّه أراد تعالى المبالغة في وصف القوم بصغر القدر ، وسقوط المنزلة ؛ لأنّ العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قالت : كسفت الشمس لفقده ، وأظلم القمر ، وبكاه الليل والنهار والسماء والأرض ، يريدون بذلك المبالغة في عظم الأمر وشمول ضرره ؛ قال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز :

الشّمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

وقال يزيد بن مفرّغ الحميريّ :

الرّيح تبكي شجوها

والبرق يلمع في الغمامة (٢)

وهذا صنيعهم في وصف كل أمر جلّ خطبه ، وعظم موقعه ؛ فيصفون النهار بالظلام ، وأن الكواكب طلعت نهارا لفقد نور الشمس وضوئها ؛ قال النابغة :

تبدو كواكبه والشّمس طالعة

لا النّور نور ولا الإظلام إظلام (٣)

وقال طرفة :

إن تنوّله فقد تمنعه

وتريه النجم يجري بالظهر (٤)

ومن هذا قولهم : لأريّنك الكواكب بالنهار ، ومعناه أورد عليك ما يظلم له في عينك النهار ، فتظنّه ليلا ذا كواكب.

__________________

(١) ديوانه ١٥٧ وفي حاشية بعض النسخ : «العرب إنّما تسمّي الأعداء صهب السبال ؛ لأنّ أعداءهم كانوا من الروم ؛ والروم صهب الأسبلة ، ثمّ اتّسعوا فسمّوا كلّ عدوّ صهب السبال ؛ وإن لم يكن من الروم ، والقريب من هذا يصفون الأعداء بالزرق العيون».

(٢) الأغاني : ١٧ / ٥٤ ـ ٥٥.

(٣) ديوانه : ٧٢.

(٤) ديوانه : ٦٥.

٣٣٥

فأمّا بيت جرير فقد قيل في انتصاب النجوم والقمر وجوه ثلاثة :

أحدها : أنّه أراد الشمس طالعة وليست مع طلوعها كاسفة نجوم الليل والقمر ، لأنّ عظم الرزء قد سلبها ضوءها ؛ فلم يناف طلوعها ظهور الكواكب.

والوجه الثاني : أن يكون انتصاب ذلك كما ينتصب في قولهم : لا أكلّمك الأبد والدهر ، وطوال المسند ، وما جرى مجرى ذلك ، فكأنّه أخبر بأنّ الشمس تبكيه ما طلعت النجوم وظهر القمر.

والوجه الثالث : أن يكون القمر ونجوم الليل باكين الشمس على هذا المرثي المفقود ، فبكتهن ؛ أي غلبتهنّ بالبكاء ؛ كما تقول : باكاني عبد الله فبكيته ، وكاثرني فكثرته ، أي غلبته وفضلت عليه.

وثالثها : أن يكون معنى الآية الاخبار عن أنّه لا أحد أخذ بثأرهم ولا انتصر لهم ، لأنّ العرب كانت لا تبكي على قتيل إلّا بعد الأخذ بثأره ، وقتل من كان بواء به من عشيرة القاتل ، فكنّي تعالى بهذا اللفظ عن فقد الانتصار ، والأخذ بالثأر ؛ على مذهب القوم الذين خوطبوا بالقرآن.

ورابعها : أن يكون ذلك كناية عن أنّه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منها إلى السماء. ويطابق هذا التأويل ما روي عن ابن عباس رحمه‌الله في قوله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) قيل له : أو تبكيان على أحد؟ فقال : نعم ، مصلّاه في الأرض ، ومصعد عمله في السماء. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ما من مؤمن إلّا وله باب يصعد منه عمله ، وباب ينزل منه رزقه ، فإذا مات بكيا عليه» ، ومعنى البكاء ههنا الإخبار عن الاختلال بعده كما يقال : بكى منزل فلان بعده ، قال ابن مقبل :

لعمر أبيك لقد شاقني

مكان حزنت له أو حزن

وقال مزاحم العقيليّ :

بكت دارهم من أجلهم وتهلّلت

دموعي فأيّ الجازعين ألوم (١)

__________________

(١) ديوانه : ١٥ ـ ١٦.

٣٣٦

أمستعبرا يبكي من الهون والبلى

وآخر يبكي شجوه ويئيم (١)

فإذا لم يكن لهؤلاء القوم الذين أخبر الله عن بوارهم مقام صالح في الأرض ، ولا عمل كريم يرفع إلى السماء جاز أن يقال : فما بكت عليهم السماء والأرض.

ويمكن في الآية وجه خامس ، وهو أن يكون البكاء فيها كناية عن المطر والسّقيا ؛ لأنّ العرب تشبّه المطر بالبكاء ، ويكون معنى الآية أنّ السماء لم تسق قبورهم ، ولم تجد عليهم بالقطر ؛ على مذهب العرب المشهور في ذلك ؛ لأنّهم كانوا يستسقون السحاب لقبور من فقدوه من أعزائهم ، ويستنبتون لمواضع حفرهم الزّهر والرّياض ؛ قال النابغة :

فما زال قبر بين تبنى وجاسم

عليه من الوسميّ طلّ ووابل (٢)

فينبت حوذانا وعوفا منوّرا

سأتبعه من خير ما قال قائل (٣)

وكانوا يجرون هذا الدعاء مجرى الاسترحام (٤) ، ومسألة الله لهم الرضوان ، والفعل الذي أضيف إلى السماء ـ وإن كان لا يجوز إضافته إلى الأرض ـ فقد

__________________

(١) حاشية بعض النسخ : «المستعبر : الذى يأتي بالعبرة ، وهي سين الطلب ، و «مستعبرا» ، بدل الجازعين. ويهيم ، أي يصير هائما ، قال الله تعالى : (فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ).

(٢) ديوانه : ٦٢. والرواية فيه :

سقى الغيث قبرا بين بصرى وجاسم

بغيث من الوسميّ قطر ووابل

وتبنى وجاسم : موضعان بالشام. وفي حاشية بعض النسخ : «الوسمي : أول المطر ، وهو الذي يأتي في الخريف ، والخريف عند العرب ربيع ، والربيع صيف ، والصيف قيظ».

(٣) حاشية بعض النسخ : «فينبت ، النصب في جواب التمني ، والحوذان : نبت ، يقال له بالفارسية مشكك ، وعوف : نبت أيضا ومنورا ، أخرج النور».

وقال البطليوسي شارح الديوان : «الحوذان والعوف نباتان ؛ إلّا أن الحوذان أطيب رائحة ؛ وأنشد سيبويه هذا البيت بالرفع ؛ ولم يجعله جوبا ؛ أراد : وذلك ينبت حوذانا ، أي ينبت الحوذان على كل حال».

(٤) حاشية بعض النسخ : «قال مولانا «رحمة الله عليه» عن ابن الأعرابي : إن العرب إنّما تستسقي القبور لأنها إذا سقيت وعم القطر أعشب المكان ؛ فحضره القوم للرعي ، وترحموا على الموتى».

٣٣٧

يصحّ عطف الأرض على السماء بأن يقدّر لها فعل يصحّ نسبته إليها ، والعرب تفعل مثل هذا ؛ قال الشاعر :

يا ليت زوجك في الوغى

متقلّدا سيفا ورمحا (١)

فعطف الرمح على السيف ، وإن كان التقلّد لا يجوز فيه ، لكنّه أراد حاملا رمحا ، ومثل هذا يقدّر في الآية ، فيقال : إنّه تعالى أراد أنّ السماء لم تسق قبورهم ، وأنّ الأرض لم تعشب عليها ؛ وكلّ هذا كناية عن حرمانهم رحمة الله تعالى ورضوانه (٢).

ـ (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [دخان : ٤٩].

أي أنت كذلك عند نفسك وبين قومك ، ويقول أحدنا : فلان بقية هذه الأمة ، وزيد شاعر هذا العصر ، وهو لا يريد إلّا أنه كذلك في اعتقاد أهل العصر دون أن يكون على الحقيقة بهذه الصفة (٣).

__________________

(١) حواشي بعض النسخ : «روي : «قد غدا متقلدا» ؛ وإذا روي «في الوغى» كان «متقلدا» نصبا على الحال. وقوله : «في الوغى» خبر ليت».

(٢) الأمالي ، ١ : ٧٥.

(٣) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٣ : ١١٣ ، وراجع أيضا الرسائل ، ١ : ٤٣٣ و ٢ : ٦١ والناصريات : ٤١٠.

٣٣٨

سورة الجاثية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [الجاثية : ٢٤].

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا تسبّوا الدّهر ، فإنّ الدّهر هو الله». وقد ذكر قوم في تأويل هذا الخبر أنّ المراد به لا تسبّوا الدهر ، فإنّه لا فعل له ، وإنّ الله مصرّفه ومدبّره ، فحذف من الكلام ذكر المصرّف والمدبّر وقال : «هو الدهر».

وفي هذا الخبر وجه هو أحسن من ذلك الذي حكيناه ، وهو أنّ الملحدين ، ومن نفي الصانع من العرب كانوا ينسبون ما ينزل بهم من أفعال الله كالمرض والعافية ، والجدب والخصب ، والبقاء والفناء إلى الدّهر ، جهلا منهم بالصّانع جلّت عظمته ، ويذمّون الدهر ويسبّونه في كثير من الأحوال ، من حيث اعتقدوا أنّه الفاعل بهم هذه الأفعال ، فنهاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك وقال لهم : لا تسبّوا من فعل بكم هذه الأفعال ممّن تعتقدون أنّه الدّهر ، فإنّ الله تعالى هو الفاعل لها. وإنّما قال : إنّ الله هو الدّهر من حيث نسبوا إلى الدّهر أفعال الله ؛ وقد حكى الله تعالى سبحانه عنهم قولهم : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ). وقال لبيد :

في قروم سادة من قومه

نظر الدّهر إليهم فابتهل (١)

__________________

(١) ديوانه : ٨٠. وفي حاشية بعض النسخ : «قروم ، جمع قرم ؛ وهو سيد وشريف وكريم ؛ وابتهل ؛ من المباهلة ، أي تضرع وذل».

٣٣٩

أي دعا عليهم. وقال عمرو بن قمئة (١) :

كأنّي وقد جاوزت تسعين حجّة

خلعت بها عنّي عذار لجامي

على الرّاحتين مرّة وعلى العصا

أنوء ثلاثا بعدهنّ قيامي

رمتني بنات الدّهر من حيث لا أرى

فكيف بمن يرمي وليس برامي

فلو أنّها نبل إذا لاتّقيتها

ولكنّني أرمى بغير سهام

إذا ما رآني النّاس قالوا ألم تكن

جليدا حديد الطّرف غير كهام

وأفني وما أفني من الدّهر ليلة

ولم يغن ما أفنيت سلك نظام

وأهلكني تأميل يوم وليلة

وتأميل عام بعد ذاك وعام

وقال الأصمعيّ : ذمّ أعرابيّ رجلا فقال : هو أكثر ذنوبا من الدهر ؛ وأنشد الفراء (٢) :

حنتني حانيات الدّهر حتّى

كأنّي خاتل أذنو لصيد

قصير الخطو يحسب من رآني

ولست مقيّدا أنّي بقيد

وقال كثيّر :

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزّمان فشلّت

وقال آخر (٣) :

فاستأثر الدّهر الغداة بهم

والدّهر يرميني وما أرمي

يا دهر قد أكثرت فجعتنا

بسراتنا ووقرت في العظم

__________________

(١) الأبيات في المعمرين ٦٢ ، وحماسة البحتري ٣٢١.

(٢) البيتان في حماسة البحتري ٣٢٣.

(٣) هو الأعشى ، والبيتان في محلقات ديوانه ٢٥٨ ، وثانيهما في اللسان (وقر) وفي حاشية بعض النسخ :

بعدهما :

وسلبتنا ما لست تعقبنا

يا دهر ما أنصفت في الحكم

٣٤٠