تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

عمومها عند من ذهب إلى العموم لكلّ ما لا يعقل ، وإذا أخبر تعالى أنه يغفر ما دون الشرك ، عمّ ذلك الكبير والصغير ، وما وقعت منه توبة وما لم يقع منه توبة ؛ لأجل عموم ظاهر آياتهم ؛ لأنا نعكس ذلك ونقول : بل خصّصوا ظاهر تلك الآيات لعموم ظاهر هذه الآيات.

فإن تعلقوا باشتراط المشيّة بقوله تعالى : (لِمَنْ يَشاءُ) يقتضي الإجمال.

قلنا لهم : ما دخلت المشيّة فيما تناوله اللفظ العام ؛ لأنها دخلت فيمن يغفر له لا فيما يغفره.

ويمكن أن يعارضوا في هذه الآية بوجه آخر ، وهو : أن الله تعالى علق الغفران بالمشيّة ، والظاهر من تعليقه بها أنه تفضل غير واجب ؛ لأن الواجب لا تعلّق بالمشيّة ؛ لأن أحدا لا يقول : أنا أفعل الواجب إن شئت ، وأنا أشكر النعمة إن اخترت.

وأمّا بيان وجه المعارضة بالآية الثانية فهو : أنه تعالى خبّر بأنه يغفر للناس على ظلمهم ، وذلك إشارة إلى الحال الّتي يكونون فيها ظالمين ، ويجري مجرى قول القائل : لقيت فلانا على أكله وأوده على عذره.

وليس لهم أن يشترطوا في هذه الآية التوبة ؛ لأنه عدول عن الظاهر ، ومطرق (١) لمن يشترط في ظواهر آياتهم.

وأمّا وجه المعارضة بالآية الثالثة فهو : أنه تعالى أخبر أن يغفر الذنوب جميعا ، وظاهر ذلك يقتضي غفرانها بغير اشتراط توبة ولا غيرها ، ولو لا أن الكفر أخرجه من هذا الظاهر دليل لكان متناولا له ، وقوله تعالى عقيب هذه الآية : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) (٢) لا يقتضي اشتراط ظاهر الآية الأولى مع إطلاقه ؛ فإن عطف المشروط على المطلق والخصوص على العموم جائز.

__________________

(١) كذا في النسخ.

(٢) سورة الزمر ، الآية : ٥٤.

٣٠١

فأما الطريقة الثالثة الّتي وعدنا بذكرها في الكلام على الآيات الّتي اعتمدوها فهي ، أن نقول لهم :

أنتم تشترطون في عموم آيات الوعيد التوبة وزيادة الثواب ، وإنّما اشترطتموها لأنهما يؤثران في استحقاق العقاب ، ومعلوم أن العفو إذا وقع أسقط العقاب كإسقاط التوبة وزيادة الثواب له ، فقد شارك العفو الشرطين اللذين ذكرتموهما في معناهما ، فألا شرطتموه كما شرطتم ما يجري مجراه.

فإذا قالوا : الفرق بين الأمرين أن العقل يقتضي سقوط العقاب بالتوبة وزيادة الثواب ، وليس في العقل أن العفو قد يقع لا محالة.

قلنا : هذه مغالطة ؛ وذلك أن العقل كما يقتضي سقوط العقاب عند التوبة وزيادة الثواب ، فكذلك يقتضي سقوطه عند وقوع العفو ، وكما يجوّز العقل أن يعفو مالك العقاب وأن لا يعفو ، فكذلك يجوّز أن يقع توبة أو يزيد ثواب كما يجوّز أن لا يكون ذلك ، فيجب أن يقابلوا بين الوقوع والوقوع في الأمرين وبين الحال قبل الوقوع ، فإنّكم تجدون شرطنا مساويا لشرطيكم.

فإن كان على ما تزعمون ظاهر عموم الوعيد يقتضي أنه تعالى لا يختار العفو ، فظاهر ذلك أيضا يقتضي أن أحدا لا يختار التوبة ، ولا ما يزيد ثوابه على عقاب فاعله ؛ لأنكم إنّما تنفون بالظاهر اختياره العفو ليسلم وقوع العقاب بمستحقّه ، وهذا بعينه قائم في التوبة وزيادة الثواب ، فألا كانت الظواهر مؤمّنة من عقابه.

فإن قالوا : لا فائدة في قوله تعالى : من لم يتب ولم يزد ثوابه عقابه ولم أعف عنه فإنّي أعاقبه ؛ فإن ذلك معلوم والضرورة تدعو إليه ؛ فإن كلّ من لم يسقط عقابه بشيء من مسقطات العقاب لا بدّ من أن يكون معاقبا.

قلنا : قد يمكن في مستحقّ العقاب منزلة ثالثة بين أن يستوفي عقابه وبين أن يسقط عقابه ؛ لأنه غير ممتنع أن يبقى العقاب في جنبه مستحقّا فلا يسقط ولا يستوفى ، وإذا كان العقل مجوّزا ذلك جاز أن نستفيد بآيات الوعيد وقوع العقاب بمن لم يسقط عنه.

على أنا إذا سلمنا تبرّعا عدم الفائدة من ذلك فالفائدة إنّما تعدم مع استيفاء

٣٠٢

الشرائط الثلاث ، وأيّ واحدة ألفيناها أدخل الكلام في الفائدة ، فلم جعلتم ما يلغى هو العفو دون التوبة وزيادة الثواب؟

فإن قالوا : قد بنيتم طريقتكم هذه على صحّة إسقاط العقاب ، وليس يخلو إسقاطه من أن يقع قبل المعصية أو في حالها أو بعدها ، ولا يجوز أن يكون واقعا قبلها ولا في حالها ؛ لأن الإسقاط تصرّف في الحقّ وفي مقابلته الاستيفاء ، فكما لا يحسن الاستيفاء قبل المعصية ولا في حالها ، لا يجوز الإسقاط ، وان كان الإسقاط بعد المعصية فقد علمنا أنه لا أحد من المكلّفين إلّا وهو مقطوع إذا سرق وأصرّ على وجه الجزاء والنكال ، وكذلك كلّ زان مصرّ يحدّ على سبيل العقوبة ، فلو جاز العفو لقدح فيما تقرّر من الإجماع.

قلنا : أما إسقاط الحق قبل ثبوته فغير جائز ، غير أنه يمكن أن يقال : إنّه مانع من ثبوت الحقّ مستقبلا ، ويجري مجرى قول القائل لغيره : «كلّ حقّ أستحقّه مستقبلا عليك وهبته لك» ، ولا معنى للمضايقة في هذا القسم ، وإنّما الكلام كلّه معهم في إسقاط العقاب بعد وقوع المعصية.

والّذي ادّعوه من الإجماع في قطع السراق وجلد الزناة فيه من المرجئة كلّ الخلاف ؛ لأنهم لا يقطعون نكالا ولا يجلدون عقوبة إلّا من علموا استحقاقه للعقاب ، وان العفو ما أسقطه عنهم ، ويجرون قطعه من غير علم بسقوط العقاب عنه بالعفو مجرى قطعه مع تجويز كونه تائبا. ولا خلاف بيننا وبينهم في أن المشهود عليه بالسرقة أو الزنا ، والمقرّ بها لا يحدّان على وجه العقوبة والاستحقاق ؛ لأنا لا نأمن أن يكون الباطن بخلاف الظاهر.

فإن قالوا : قولكم يؤدي إلى تعذّر قطع سارق على سبيل العقوبة ، لتعذّر الشرط الّذي راعيتموه.

قلنا : لو لم يكن معرفة ذلك على ما ادعيتم لم تخرج آية القطع من أن تكون مفيدة ؛ لأنها إنّما تدلّ على استحقاق العقوبة فيمن كان على الصفة المخصوصة ، ولا يقدح في ذلك فقد طريق لنا إلى العلم بالشرائط.

٣٠٣

على أن الشروط الّتي يعتبرها مخالفنا في قطع السارق على سبيل النكال والعقوبة تكاد تكون متعذّرة ؛ لأنهم يشترطون علم الإمام بكون السارق سارقا لما يملكه المسروق منه ، وتناوله له من حرز ، وقيمته بالغة القدر الّذي يجب فيه القطع ، ويعلمه في حال التناول كامل العقل ، قد وقعت عنه الشبهات مصرّا غير تائب ، ومعلوم الإحاطة بهذه الشروط كلّها ، فإن ادعي فيه الإمكان تقديرا قدرنا مثل ذلك في العفو ؛ لأنه غير ممتنع فرضا وتقديرا أن يجعل الله تعالى للإمام علامة يميّز بها بين من عفي عنه وبين من لم يعف عنه.

على أن امتثال آيات الحدود ممكن على كلّ حال في الكفّار ؛ لأنا نأمن فيهم ثبوت ما يقتضي إسقاط العقاب.

وربّما استدلّ المخالف في ارتفاع العفو عن مستحقّي العقاب بأن يقول : لو عفا الله عنهم لم تخل حالهم بعد العفو من أمور : إمّا أن يدخلهم الجنّة ، أو النار ، أو لا يدخلهم جنّة ولا نارا ، فإن أدخلهم الجنّة لم يخل من أن يكونوا فيها مثابين أو غير مثابين ، وان أدخلهم النار فأمّا أن يكونوا معاقبين أو غير معاقبين ، وكونهم في غير جنّة ولا نار إمّا بأن افنوا أو اميتوا ، أو بأن يكونوا أحياء في دار أخرى.

يمنع الإجماع منه ؛ لأن الأمّة مجتمعة على أنّ كلّ مكلّف لا منزلة له في الآخرة بين الجنّة والنار ، والإجماع أيضا يمنع من أن يدخلوا الجنّة ولا يثابوا فيها ، ويدفع أيضا أن يكونوا في النار غير معاقبين أو معاقبين ، وان كان العقل يمنع من عقابهم بعد إسقاطه ، فلم يبق إلّا أن يدخلوا الجنّة مثابين ، ولا ثواب لهم يستحّقونه ؛ لأن عقاب معاصيهم قد أحبط ثوابهم والتفضّل بالثواب قبيح ، فوجب القطع على بطلان العفو ، لأن تجويزه يؤدّي إلى علم فساده.

والجواب عن هذه الشبهة : أنها إن بنيت على أن الثواب ينحبط بالعقاب ، وقد دلّلنا فيما تقدّم من هذا الكتاب على بطلان التحابط ، والصحيح فى هذا الموضع أنّ الله تعالى إذا عفا عن فسّاق أهل الصلاة فسقط عقابهم أدخلهم الجنّة ، وأثابهم بما يستحقّونه على إيمانهم وطاعاتهم.

٣٠٤

فإن قيل : مع نفيكم التحابط كيف قولكم فيمن كفر بعد إيمان أو آمن بعد كفر؟ قلنا : نجوّز أن يتلو الإيمان الكفر ، ولا نجوّز أن يكفر المؤمن جملة ، وفي المرجئة من جوز أن يكفر ، لكنّه لا بدّ بعد ذلك من أن يؤمن ويوافي بإيمانه ؛ والصحيح الأوّل.

وإذا وقع الإيمان بعد الكفر ، فإنّ الله تعالى يغفر عقاب الكفر تفضّلا ، ولو شاء يؤاخذ به ، لكن السمع منع من ذلك.

وإنّما قلنا : إن المؤمن لا بدّ من أن يوافي بإيمانه ، أن الإجماع واقع على أن الإيمان يستحقّ به الثواب الدائم ، فلو جاز أن يكفر المؤمن كفرا يوافى به لاستحق فاعله الثواب والعقاب الدائمين ؛ لإجماعهم أيضا على أن الكفر الموافى به يستحقّ عليه العقاب الدائم ، والإجماع يمنع من استحقاق الأمرين على سبيل الدوام.

وأيضا ، فإن التحابط إذا بطل واجتمع الاستحقاق ان الدائمان فلا بدّ إذا فعل المستحقّ منهما من أن يتلو الثواب العقاب والعقاب الثواب ، واجتمعت الأمّة على أن الثواب في الآخرة لا يقطع ولا يتخلله عقاب.

فإذا قيل : كيف تدّعون الإجماع في دوام المستحقّ من الثواب على الإيمان ، وفي الناس من يقول : إنه لا يستحقّ على الله تعالى شيء ، وفيهم من يشترط في استحقاقه الثواب بالإيمان الموافاة ، كما شرطتم ذلك في الكفر.

قلنا : أمّا من نفى أن يستحقّ على الله تعالى شيء من المجبّرة ، أو من نفى استحقاق الثواب من جهة العدول من البغداديين ، فهم معنا مجمعون على أن الثواب إذا لم يحبطه فاعله ، فلا بدّ من أن يفعل به ويوصل إليه ، فلو جعلنا مكان قولنا إنه يستحقّ الثواب أنه لا بدّ من أن يفعل به الثواب الدائم متى لم يحبطه زالت الشبهة.

على أن البغداديين يعترفون بالاستحقاق ، وإنّما يضيفونه إلى الحكمة والجود ، فما خالفوا في أصل الاستحقاق ، والمجبّرة تنفي الاستحقاق لكلّ شيء

٣٠٥

من الأفعال على كلّ وجه ، فإذا قلنا : أجمع كلّ من أثبت استحقاقا بالأفعال على كذا خرجت المجبّرة منه.

وأمّا من شرط استحقاق الثواب بالإيمان الموافاة فقوله باطل ؛ لأن وجوه الأفعال وشروطها الّتي منها يستحقّ بها ما يستحقّ لا يجوز أن تكون منفصلة منها ، ومتأخّرة عن وقت حدوثها ، والموافاة منفصل عن وقت حدوث الإيمان ، فكيف يكون شرطا أو وجها في استحقاق الثواب به؟

ولا يلزمنا ذلك إذا فرقنا بين الكفر الموافى به وما لا يوافى به في دوام المستحقّ عليه من العقاب ؛ لأنا ما جعلنا الموافاة شرطا ولا وجها في الاستحقاق ولا في دوامه ، بل جعلناها دلالة لنا ، وأمارة على صفة المستحقّ ، وإذا لم يواف بكفره دلّنا ذلك على أنّ كفره وقع في حال حدوثه على وجه يقتضي ذلك ، والّذي يوافى به من الكفر نقطع على أنّه وقع للأصل على وجه يقتضي دوام عقابه ، فالموافاة دلالة عندنا ، وليست وجها ولا شرطا في الاستحقاق ، والدلالة لا تجعل المدلول على ما هو عليه.

فإذا قيل لنا : فبأيّ شيء يفسد قول من جعل الموافاة بالإيمان دلالة على وقوعه في حال حدوثه على وجه يوجب دوام ثوابه ، وأن الموافاة إذا لم تحصل دلّ عدمها على أن الإيمان وقع في ابتداء حدوثه مستحقّا به الثواب المنقطع.

قلنا : يمنع من ذلك الإجماع ؛ لأنه لا أحد يقول بذلك من الأمّة كلّها. ومن شرط الموافاة في استحقاق الثواب بالإيمان جعلها وجها لاستحقاقه وجهة ، وجعل ابتداء الاستحقاق عندها ولا يجعلها دلالة وكاشفة ، فكان كلّ من ذهب إلى أن ما يقتضي استحقاق الثواب بالإيمان تابع لحال حدوثه وغير منتظر ، يذهب إلى أن كلّ إيمان يستحقّ به في حال حدوثه الثواب الدائم.

فإذا قيل : بأيّ شيء فصلتم بين الكفر الموافى به والّذي لا يوافى به في دوام العقاب؟

قلنا : بالإجماع ؛ لأنا قد بيّنا أن دوام العقاب أو انقطاعه لا يعلم عقلا ،

٣٠٦

وإنّما يعلم بالسمع ، وقد اجتمعت الأمّة على أن عقاب الكفر الّذي يوافى به دائم ، فقطعنا عليه ، وما لا يوافى به الإجماع على دوامه ولا انقطاعه ، وإنّما يرجع في ذلك إلى الدليل ، ولو كان عقاب الكفر الّذي لا يوافى به دائما لكان قد اجتمع للمكلّف الواحد استحقاق الثواب والعقاب على سبيل الدوام ، وقد بيّنا فساد ذلك.

وإنّما رجّحنا القول بأن المؤمن لا يفكر على القول بجواز كفره من غير أن يوافى به ، من أجل أن الكفر يستحقّ به الاستحقاق والذمّ واللعن ، فلو جامع الإيمان مع بطلان التحابط لوجب أن يكون المرتدّون يستحقّون منّا المدح والتعظيم على ما تقدّم من إيمانهم ، وان استحقّوا الاستخفاف واللعن على كفرهم ، واجتمعت الأمّة على أن كلّ مظهر لكفر وردّة فإنّه لا يستحقّ شيئا من التعظيم والثواب ، وذلك معلوم من دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة.

فإذا قيل لنا : فقد نرى كثيرا ممّن كان مؤمنا يكفر ، وربّما بقي من الكفر إلى حال موته ، وقد قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) (١).

قلنا : ليس كلّ من أظهر الإيمان يكون مؤمنا على الحقيقة ، وإذا وجدنا مظهرا للكفر بعد إظهار الإيمان قطعنا على أن ما أظهر من الإيمان لم يكن في الباطن وعند الله تعالى عليه.

فأمّا المراد بالآية فإنّما سمّى من أظهر الإيمان مؤمنا على العرف ، كما قال الله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) (٢) ، وكما قال الله عزوجل (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (٣) ، ولا شبهة في أنه تعالى أراد إظهار الإيمان (٤).

[الثاني : استدلّ بهذه الآية على أن الرتبة غير معتبرة في الأمر قالوا : لأن الطاعة تعتبر فيها الرتبة كالأمر] (٥).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٩٠.

(٢) سورة الممتحنة ، الآية : ١٠.

(٣) سورة النساء ، الآية : ٩٢.

(٤) الذخيرة : ٥٠٤.

(٥) الذريعة ، ١ : ٣٦.

٣٠٧

والجواب عن الثاني أنّه استعار للإجابة لفظة الطاعة بدلالة أنّ أحدا لا يقول إنّ الله أطاعني في كذا ، إذا أجابه إليه.

وأيضا فظاهر القول يقتضي أنّه ما للظالمين من شفيع يطاع ، وليس يعقل من ذلك نفي شفيع يجاب ، فإذا قيل : فكل شفيع لا يطاع على مذهبكم ، كان في ظالم أو في غيره ؛ لأنّ الشفيع يدلّ على انخفاض منزلته عن منزلة المشفوع إليه ، والطاعة تقتضي عكس ذلك.

قلنا : القول بدليل الخطاب باطل ، وغير ممتنع أن يخصّ الظالمون بأنّهم لا شفيع لهم يطاع ، ، وإن كان غيرهم بهذه المنزلة.

وأيضا فيمكن أن يكون المراد بيطاع غير الله تعالى من الزبانية والخزنة ، والطاعة من هؤلاء لمن هو أعلى منزلة منهم ، من الأنبياء عليهم‌السلام والمؤمنين صحيحة واقعة في موقعها (١).

ـ (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ...) [غافر : ٢٠].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ : إلى ٢٤٧.

ـ (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) [غافر : ٤٠]

أنظر البقرة : ٢١٢ من الأمالي ، ١ : ٣٧٦.

ـ (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) [غافر : ٤٢]

أنظر القيامة : ٢٢ ، ٢٣ من الملخص ، ٢ : ٢٥٧.

ـ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١].

ان سأل سائل فقال : إذا كنتم تزعمون أن عليا والحسن والحسين والتسعة

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٣٧.

٣٠٨

من ولد الحسين عليهم‌السلام صفوة الله بعد نبيّه وحجّته على خلقه وأمينا على دينه ، فلم تمكّن من قتلهم وظلمهم وأسلمهم وخذلهم ، ولا ينصرهم على أعدائهم ، حتى قتلوا بأنواع القتل؟ وظلموا بأفانين الظلم؟

قيل له : هذا سؤال الملحدة في نفي الربوبية وقبح العبادة ، وسؤال البراهمة في نفي النبوّة وإبطال الرسالة.

أمّا الملحدة فتقول : لو كان للعالم خالق خلقه ، ومحدث أحدثه وابتدعه ، لم يمكّن من جحده ومن عصاه ممّن أطاعه ولمنعهم من قتلهم ولنصرهم ولم يسلمهم ، فإذا رأينا من يستمسك بطاعته والاقرار بربوبيته ، مخذولا ولا غير منظور ، وذليلا غير عزيز ، ومظلوما مستظاما ، ومقتولا مستهانا ، علمنا أنّه لا خالق لهم يمنع منهم ، ولا محدث يدفع عنهم.

وأمّا البراهمة فتقول مثل ذلك في الأنبياء عليهم‌السلام.

قيل : وما بالهم من أمرهم وجد بهم من أعدائهم حرفا بحرف ، ومن كان ملحدا أو برهميا فلا يسأل عن الأئمة وخلفاء الأنبياء ، فالرسل دون الأنبياء والرسل وسائر المؤمنين ؛ لأنّ الكل عنده فيما يلحقهم وينزل بهم سواء.

فإن زعم هذا السائل أن يكون ملحدا أو برهميا فلا يسأل الشيعة دون غيرهم من المقرّين بالربوبية المثبتين للنبوّة والرسالة ، ولا يخصّ الأئمة دون الأنبياء والرسل والمؤمنين لم يلزمه جواب الشيعة دون غيرهم ، ممّن أقرّ بالربوبية وأثبت النبوّة والرسالة ، ولم يكن لتخصيصه السؤال على الأئمة وجه ولا فائدة.

وإن تبرأ من الملحدة وانتفى من البراهمة وأقرّ بالربوبية وصدق بالنبوّة والرسالة ، قيل له : فخبّرنا عن أنبيائه ورسله وأتباعهم من المؤمنين ، لمّا مكّن الله تعالى من قتلهم وظلمهم ، ولمّا خذلهم ، ولم ينصرهم حتى قتلوا وظلموا.

فإن أجاب إلى الاقرار بذلك والتصريح بأنّ الله تعالى مكّن أعداءه من الكفّار والمشركين من قتل أنبيائه ورسله وأهاليهم ، ولم ينصرهم بل نصر

٣٠٩

أعداءهم عليهم ، فارق بهذا الإقرار والتصريح ظاهر كتاب الله تعالى ، إذ يقول : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

وفارق إجماع الأمة ؛ بل كلّ من أقرّ بالنبوة [لا] يقدم على القول بأن الله تعالى خذل أنبياءه ونصر أعداءه ، بل الكلّ قائل بأنّ الله تعالى ناصر لأنبيائه وأوليائه ومانع عنهم وخاذل لعدوّهم.

وإن امتنع الإقرار بذلك والتصريح به وقال : إنّهم مع قتلهم والظلم لهم منصورون مؤيّدون.

قيل لهم : أفليس قد ثبت بهذا الإقرار منك أنّ القتل والظلم لا يوجب القول بأنّ الله مكّن من قتل أنبيائه ، وأنّه خذل رسله ولم ينصرهم ، وإن قتلهم اعداؤهم وظلموهم.

فإذا قال : نعم.

قيل : فهلّا سوّغت مثل ذلك فيما جرى على الأئمة عليهم‌السلام من القتل والظلم ، وأنّه غير مبني عن التمكين منهم والخذلان لهم ، وجعلت ما نالهم من القتل والظلم من أعدائهم كالذي نال الأنبياء والرسل من أعدائهم في أنّه غير موجب للتمكين منهم والخذلان لهم.

فإن قال : من ذكرتموه من الأنبياء والرسل لمّا قتلوا أو ظلموا أهلك الله قاتلهم واستأصل ظالمهم ، فعلم بذلك أنّه غير متمكّن منه وخاذل لهم.

قيل له : أوّل ما يسقط ما ذكرته أنّه تعالى لم يهلك جميع من قتل الأنبياء ، ولا استأصل كلّ من ظلمهم ، بل الذي أهلك منهم قليل من كثير ؛ لأنّه لو أثر ذلك لكان ملجئا ، ولبطل التكليف الذي أوكد شروطه التخيير ، وتردّد الدواعي المنافي للالجاء.

وأيضا ؛ فإنّ الهلاك والاستيصال لمن أهلكه واستأصله ليس يمنع من قتل الأنبياء عن قتلهم ، ولا حيلولة بينهم وبين من ظلمهم ، وكيف يكون الهلاك المتأخّر عن القتل والظلم منعا ممّا تقدّم وجوده وحيلولة بينه وبينه ، والمنع

٣١٠

والحيلولة من حقّهما أن يستحيل (١) لمكانهما ووجود ما هما مانع وحيلولة منه.

وبهذا الحكم ينفصل ممّا ليس بمنع ولا حيلولة ، وإنّما قدّم لمن هو حلّ بالهلاك والاستيصال بعض ما يستحقّه من العقاب على وجه يقتضيه المصلحة ولا ينافي التكليف ، فأمّا أن يكون منعا وحيلولة فلا ، وجرى في ذلك مجرى الحدود من أنّها تقدّم بعض المستحقّ للمصلحة ، والردع الذي يختلف بحسب المكلّفين دواعيهم وصوارفهم.

على أنّ هذا السائل يجب عليه أن يكفّ عن إطلاق ما ألزمناه فيمن عوجل قاتله وظالمه من الأنبياء والرسل والمؤمنين ، ويصرّح بهم فيما لم يعاجل قاتله وظالمه منهم ، بأنّ الله تعالى خذله أو سلمه ، ولا فرق بين الكلّ والبعض في ذلك ، وأنّ التصريح به خروج عن الإسلام.

على أنّ الله تعالى لم يستأصل من ظلم خير أنبيائه وأشرف رسله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجب أن يكون تعالى قد خذله ولم ينصره وأسلمه ولم يمنع منه ، وإطلاق ذلك من أقبح الكفر وأعظم الفرية على الله جل اسمه.

فبان بما ذكرناه أنّ ما سأل عنه غير متوجّه إلى الشيعة ويختصّ بأعينهم ، بل هو سؤال الملحدة والبراهمة لكلّ من أقرّ بالربوبية وصدق بالنبوة والرسالة وهذه عادة من خالفهم في استعارة ما يسأل عنه الملحدة ومن فارق الإسلام والملة إذا أرادوا سؤالهم.

فإن قال قائل : فلم لم يعاجل بالعقاب من قتل أئمتكم وعترة نبيّكم ، كما عاجل من تقدّم.

قيل له : هذا أيضا سؤال لا يتوجّه إلى الشيعة دون من خالفهم من فرق الأمة ؛ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ظلم بأنواع الظلم من إخافة وسبّ وحصر وقتل أقاربه ، والتنكيل بعمه حمزة عليه‌السلام بعد القتل ، وما تخصّه في نفسه من إدماء جبينه وكسر رباعيته ، إلى غير ذلك من الأمور التي جرت عليه وعلى أقاربه وأصحابه ، ولم يعاجل أحد منهم بالعقاب.

__________________

(١) في الهامش : يستحل.

٣١١

وقد عوجل عاقر ناقة صالح مع أنّ قدرها وقدر كلّ حيوان غير مكلّف لا يوازن عند الله قدر أقلّ المؤمنين ثوابا.

فأيّ جواب أجاب به جميع المسلمين عمّا نال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونال أقاربه وأصحابه ولم يعاجل من نال منه ومنهم؟ فهو جواب الشيعة عن سؤال من يسألهم عن أئمتهم وقرّة عينهم وما نالهم من القتل والظلم.

فإن قال : فما الجواب لمن يسأل عمّا نال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقاربه وأصحابه وما نال خلفاءه من بعده وعترته وهي المعاجلة بالعقاب؟

قيل له : الجواب عن ذلك أنّ الله تعالى خصّ نبيّنا بأمور شرفه بها وكرّمه على سائر من تقدّم من الأنبياء والرسل ، من جملتها أمان أمته إلى قيام الساعة من المعاجلة بالهلاك والعقاب ، وهذا معلوم من دعوته كما نعلم إكرامه بالشفاعة والحوض والمقام المحمود واللواء ، وأنّه أوّل من ينشق عنه الأرض ، وتأييد شرعه ورفع النبوّة بعده.

وبمثل هذا أجيب ابن الراوندي وغيره من الملحدة «خذلهم الله» لمّا سألوا عن قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) (١) فالأيات هاهنا الاعلام والمعجزات.

قالوا : وهذا القول ينبىء عن المناقضة أو السهو ؛ لأنّ تكذيب من تقدّم لا يمنع من قيام الحجّة علينا والإزاحة لعلمنا ، فكيف يعلّل بالمنع لنا بما يخش (٢) وتكلّفتا بأنّ غيرنا كذّب ولم يصدّق وخالف ولم يجب ، وهذا بعيد من القول.

على أنّه قد ادّعى ظهور الاعلام عليه وفعل المعجزات على يده ، كالقرآن وغيره من مجيء الشجرة ، وتسبيح الحصى ، وحنين الجذع ، وإطعام الخلق الكثير حتّى شبعوا ، وسقيهم حتى ارتووا من القليل من الطعام واليسير من الشراب ، فلو لم يمنع تكذيب الأوّلين إظهار ما ادعاه من الاعلام والمعجزات.

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٥٩.

(٢) كذا في النسخة.

٣١٢

قيل لهم : الاعلام التي تظهر على أيدي الأنبياء والرسل ينقسم إلى ما يظهرها الله تعالى للدلالة على صدقهم حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة وتوجبه إزاحة العلة كسائر الأدلة التي نصبها والتمكين من النظر فيها ، فالمخالف لها [معادل] (١) عن التكليف ، [و] إلى ما تقترحه الأمم عمّن بعث إليهم بعد اظهار ما تقتضيه الحكمة وتوجبه المصلحة من إزاحة العلة ، فحكم الله تعالى في التكذيب بها بعد إظهارها والعدول عن تصديقها المعاجلة ببعض ما يستحقّ عن العقاب.

فكان تقدير الكلام : وما منعنا أن نرسل بالأيات المقترحة إلّا أن كذّب بها الأوّلون بتعجيل بعض ما يستحقّونه من العقاب.

وقد وعدنا رسولنا وشرفنا بأمور :

منها أن [لا] تستأصل أمّته ولا تعاجلها بالعقاب ، وقد ذكر الله تعالى ما اقترح على رسوله ، فقال : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢)) إلى قوله : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (٢).

فإن قال : قدّمتم الجواب لمن وافقكم في الإقرار بالصانع والتصديق للنبوّة ، فما الجواب للملحدة والبراهمة؟

قيل له : الجواب لهم أنّ التمكين يعتبر فيه قصد الممكّن وغرضه دون ما يصلح له ما مكّنه به من الأفعال ، يبين ذلك أنّه لو لم يعتبر فيه ما ذكرنا لم نجد في العالم ممكّنا من قتل عدوّه دون نفسه ووليه ؛ لأنّه لا شيء يتمكّن به من سلاح وجند وسائرها يقوى به إلّا هو يصلح لقتله وقتل وليه ، كما يصلح لقتل عدوّه.

__________________

(١) هذا هو الصحيح وفي المطبوعة «والمعادل».

(٢) سورة الإسراء ، الآيات : ٩٠ ـ ٩٣.

٣١٣

وكذلك الحال فيما تمكّن به من طاعته وامتثال أوامره من الاموال والالات ، في أنّه لا يصلح لمعصيته وارتكاب ما نهى عنه ، كما يصلح لطاعته وامتثال أمره.

وفي علمنا بأنّ الممكّن منّا قد يكون ممكّنا من عدوّه دون نفسه ووليّه من طاعته دون معصيته ، وأنّ الجاحد لذلك متجاهل دافع لما يعلم بالاضطرار دلالة على وجوب اعتبار قصد الممكّن وغرضه ، دون ما يصلح له ما مكّن به.

وإذا ثبت هذا وجب اعتبار حال الممكّن ، فإن كان قصد بما مكّن الحسن دون القبيح. قيل له : مكّن من الحسن دون القبيح ، وإن كان ما مكّن به يصلح القبيح ـ وكذلك إن كان قصده بما مكّن وغرضه القبيح دون الحسن ـ قيل له : إنّه مكّن من القبيح دون الحسن ، وإن كان ما مكّن به يصلح للحسن.

ومتى لم يعتبر هذا الاعتبار ، خرج في المعنى من الإطلاق في اللغة والعرف والمعقول ، ولزم أن لا يكون في العالم من يطلق عليه التمكين من الحسن دون القبيح ، والطاعة دون المعصية ، والنصرة دون الخذلان ، وفي هذا ما قدّمناه من التجاهل.

وإذا وجب اعتبار القصد والغرض في التمكين ، وجب الرجوع إلى حال الممكّن ، دون الرجوع إلى حال ما تمكّن به ، فإن علم من قصده وغرضه وإن لم يعلم ضرورة استدلّ بحال الممكّن وبما يتبع ما مكّن به من أمر ونهي وترغيب ودعاء وحثّ ووعد ، إلى غير ذلك ممّا ينبىء عن قصده ويوضح عن غرضه ، ويتبع الإطلاق والوصف له.

وقد ثبت أنّ الله تعالى لا قصد له إلى القبيح ، فلا غرض له فيه ؛ لأنّه عالم بقبحه ونفيناه عنه ، ولمقارنة الأمر والترغيب والدعاء والحثّ والزجر والوعد بالثواب للواجبات والمحسنات ، ولمقارنة النهي والتخويف والزجر والوعيد للمقبحات ، علم أنّه مكّن من الطاعات دون المعصية ، وجب إطلاق ذلك دون غيره.

٣١٤

فإن قيل : فهلّا مكّن تعالى بما يصلح للطاعة دون المعصية والإيمان دون الكفر والحسن دون القبح.

قيل له : هذا خلف من القول وتناقض في المعنى ؛ لأنّ ما مكن به يصلح لجميع ذلك لنفسه وعيد (١) ولأنّه لو اختصّ بالشيء دون تركه وخلافه ، لكان الممكّن مطبوعا.

ولو كان مطبوعا لم يصحّ الوصف لفعله بالحسن والقبح والطاعة والمعصية والإيمان والكفر ، كما لا يصحّ ذلك في إحراق النار وبرد الثلج وهدّ الحجر وجريان الماء [و] لبطل التكليف والأمر والنهي والمدح والذمّ والثواب والعقاب ؛ لأنّ جميع هذه الاحكام يثبت مع الايثار والتخيّر ، ويرتفع مع الطبع والخلقة وزوال التخيّر.

فلا بدّ على هذا من تعلّق التمكين بالفعل وتركه وخلافه وضدّه ، ليصحّ الايثار والتخيّر ويطابق ما يقتضيه الحكم من حسن التكليف وتوجّه المدح والثواب إلى المطيع واستحقاقه لهما ، فهو الجواب عن التمكين.

وقد بان به أنّ الله تعالى لم يمكّن من قتل أنبيائه ورسله وخلفائهم والمؤمنين من أممهم ؛ لأنّه جلّ اسمه نهى عن ذلك وزجر عنه وتواعد عليه بأليم العقاب وأمرنا باتّباعهم وطاعتهم [و] الانقياد لهم والذبّ عنهم ، فرغب فيه ودعا إليه ووعد عليه بجزيل الثواب.

فأمّا المنع عنهم والنصرة لهم تسقم (٢) أيضا إلى منع ونصرة يزول معها التكليف والأمر والنهي والترغيب والزجر والثواب والعقاب ، وهو ما أدّى إلى الالجاء وينافي التخيّر والايثار.

فهذا الضرب من المنع والنصرة ، لا يجوز أن يفعله تعالى مع التكليف ، لمنافاته الحكمة ، ومباينته لما تقتضيه المصلحة وحسن التدبير ، وإلى منع ونصرة يلائم التكليف والأمر والنهي والترغيب والزجر والثواب والعقاب ، ويثبت معه

__________________

(١) كذا.

(٢) كذا.

٣١٥

التخيير والايثار ، وهو النصرة بإقامة الأدلّة ونصب البراهين والأمر بنصرتهم والجهاد دونهم والطاعة لهم والذبّ عنهم والمنع بالنهي عن مخالفتهم والموالاة لأعدائهم ، وهذا ممّا قد فعل الله تعالى منه الغاية التي لا يبلغها شيء ولا يدركها طلب.

فإن قال : فقد ظهر من أئمتكم الدعاء على من ظلمهم وغصب حقّهم وجحدهم مقامهم ، ونال منهم بالقتل والأذى ، فلم يستجب الله لهم ولم يسمع دعاءهم ، وفي ذلك وهن لهم وحطّ من قدرهم وتنفير عنهم.

قيل له : ليس الأمر كما ظننت في دعائهم عليهم‌السلام لو اجتهدوا في الدعاء والطلب وسألوا الله تعالى هلاك الارض ومن عليها لأجيبوا ، بل كانوا عليهم‌السلام عارفين بالدنيا وصغر قدرها بالإضافة إلى ما أعدّ الله لهم في الأخرة ، فلم يكن لها عندهم محلّ ولا بشيء منها في نفوسهم وزن.

وكيف لا يكونوا كذلك؟ مع علمهم بالله جلّ وعلا ، وما أعدّ لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب ، وأنّهم من أشرف أوليائه الذين اجتباهم واصطفاهم ، وجعلهم الواسطة بينه وبين خلقه ، والأمناء عليهم ، والحفّاظ لدينهم ، فهم القدوة ، وإليهم المفزع من سائر البشر ، وأنّ أعداءهم أعداء الله الذين لعنهم وغضب عليهم وأعدّ لهم أعظم العقاب وأشدّ العذاب.

فقلوبهم مملوّة بالمعرفة لخالقهم ، وما يقرّب إليه ويزلف لديه من الطاعة له والخوف من مخالفته ، والقيام بعباداته. ليس سوى ذلك فيها مكان ، ولا لغير ما يثمر الفوز والنجاة عليها مجال ، ولذلك وجب الحكم بعصمتهم ونزاهتهم وطهارتهم ، حتى قال تعالى فيهم : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (١).

فإذا ثبت هذا من حالهم ، كان الدعاء منهم يحتمل أمورا :

منها : تعليم أممهم ورعاياهم كيف يدعون ويسألون إذا نابتهم النوائب ونزلت بهم الشدائد ، ولا يقصدون بذلك سوى تعليمهم والبيان لهم.

__________________

(١) سورة الدخان ، الآية : ٣٢.

٣١٦

ومنها : الانقطاع إلى الله تعالى والخضوع له ، كما ينقطع إليه من لا يستحقّ العقاب بالتوبة والاستغفار ، ويخضع له بذلك ، وكالدعاء لله تعالى بأن يحكم بالحقّ وإن لم يكن مثله ، لمكان اليقين بأنّه لا يحكم إلّا بالحقّ والقطع عليه ، كما لا يحسن المسألة له بأن يطلع الشمس ويغربها لمكان العلم بذلك والقطع عليه.

ومنها : المسألة لأتباعهم وشيعتهم ، إذا اقتضت الحكمة والمسألة لهم ، وتعلّق كون ما يفعل بهم صلاحا إذا فعل لأجل المسألة والدعاء ، ومتى لم تكن المسألة والدعاء لم يكن فعله صلاحا.

وهذا وجه صحيح في الالطاف والمصالح ، وبذلك وردت الرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سعة الرزق عند الدعاء ، وطول العمر عند البرّ للوالدين ، ودفع البلاء عند الصدقة ، إلى غير ذلك ممّا تكون المصلحة فيه مشروطة بتقديم غيره عليه ، كقوله عليه‌السلام : «حصّنوا أموالكم وداووا أمراضكم بالصدقة» وردّ البلاء بالدعاء والاستغفار والتوبة ثابتة ، ووجب حمل ما ظهر منهم من الدعاء على هذه الوجوه دون المسألة لهم فيما يتعلّق بأمور الدنيا والطلب لمنافعها ودفع مضارّها فيما يرجع إليها خاصة ؛ إذ لا قدر لها عندهم ولا وزن لها في نفوسهم على ما بيّناه.

فإن قال : فإذا لم يتضمّن دعاؤهم المسألة والوصف ، فما معنى الوصف له بأنّه يستجاب ولهم بأنّهم مستجابوا الدعاء؟.

قيل له : عن ذلك أجوبة :

أحدها : أنّا قد بيّنا أنّ من دعائهم ما هو مسألة وطلب لما يتعلّق بمصالح أتباعهم وتدبير شيعتهم ، وان لم تكن مسألة وطلبا فيما يرجع إليهم ، فلأجل دعائهم.

[وثانيها] : قد يتضمّن دعاؤهم المسألة والطلب لثواب الأخرة وعلوّ المنازل فيها ، فالإجابة واقعة بإعطاء ما سألوا وتوقّع ما طلبوا.

٣١٧

وثالثها : أنّ ما لم يكن من دعائهم مسألة وطلب ، وأنّ الإجابة له الإنابة عليه ، لمكان الانقطاع والخضوع والتعليم والأداء ، فلمّا كان مثمرا لغاية المنافع واجلها كان مستجابا ؛ لأنّ معنى الإجابة حصول النفع ودفع الضرر لأجل الدعاء.

فقد ثبت بهذه الوجوه الجواب عمّا تضمّنه السؤال والزيادات فيه. والحمد لله ربّ العالمين (١).

ـ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ...) [غافر : ٦٠].

اعلم أن الدعاء هو طلب الداعي الشيء من غيره.

ويمضى في الكتب أنه يقتضي الرتبة ، وأن يكون المدعو أعلى رتبة من الداعي ، بعكس الأمر. وليس الأمر على ذلك ؛ لأنهم يسمّون السيّد داعيا لعبده إلى سقيه الماء وغيره ممّا يأمر به ، ويقولون : إنّ الله تعالى دعانا إلى عبادته وطاعته ، فبطل اعتبار الرتبة.

لكن قد حصل في إطلاق لفظة «الدعاء» أنه يختصّ بالطلب من الله تعالى دون غيره ، وان كان التقييد يخالف ذلك ؛ لأنهم يقولون : «في هذا الدفتر دعاء» إذا اختصّ بمسألة الله تعالى ولا يقولون ذلك في غيره ، كما اختصّت لفظة «القرآن» بكتاب الله تعالى وان كان أصل اشتقاقها من الجمع المشترك المعنى.

وإنّما سمّوا تمجيد الله تعالى وتسبيحه «دعاء» ؛ لأن المقصد بذلك طلب الرحمة والمغفرة ، ولأنه لا يخلو في الأكثر من مسألة وطلب ، والدعاء إنّما يكون كذلك بالارادة كالأمر.

ومن شرط حسن الدعاء أن يعلم الداعي كون ما يطلب بدعائه مقدورا لمن يدعوه ، وذلك يقتضي في من دعا الله تعالى أن يعرفه جلّ وعزّ بصفاته وقدرته وحكمته.

__________________

(١) الرسائل ، ٣ : ٢٠٩.

٣١٨

ومن شروط حسن الدعاء أيضا أن يعلم حسن ما طلبه بالدعاء ، وإنّما يعلم ذلك بأن لا يكون فيه وجه قبح ظاهر. وما غاب عنه من وجوه القبح ـ مثل كونه مفسدة ـ وجب أن يشرط في دعائه ويطلب ما يطلبه بشرط أن لا يكون مفسدة ، وان لم يظهر هذا الشرط في دعائه جاز أن يضمره في نفسه.

ومن الشروط أن لا يكون عالما بأن ما طلبه لا يقع ولا يفعل ، نحو أن يسأل الله تعالى احياء الموتى ليسرّ بهم أو غفران عقاب الكفّار.

وعند أبي عليّ أن ذلك يقبح عقلا ، وعند أبي هاشم أنه يقبح بالشرع من حيث كان مفسدة وليس بقبيح في العقل.

وقد يحسن منا أن ندعو الله تعالى بأن يفعل ما نعلم أنه يفعله لا محالة ، وإنما يحسن ذلك على سبيل الانقطاع ، ولأن فيه مصلحة ولطفا ، ولهذا حسن منّا الاستغفار للمؤمنين ، والصلاة على الأنبياء والمرسلين والملائكه المقرّبين ، ولا شبهة في أن فعل ذلك عند الدعاء لا يسمّى اجابة له.

وينقسم ما يتناوله الدعاء إلى قسمين :

أحدهما : قد تقدّم العلم بأنه واجب مفعول لا محالة ، نحو اثابة المؤمنين والصلاة على النبيّ صلوات الله وسلامه عليه وآله ، ممّا الفائدة فيه التعبّد والتقرّب لا طلب ما يتناوله الدعاء.

والقسم الآخر : ما لا يعلم وجوبه وحصول فعله لا محالة ، وهو على ضربين :

أحدهما : أن يكون واجبا وإن خفي علينا وجوبه ، مثل أن يكون لطفا في التكليف ، وينقسم إلى ما يكون مصلحة على كلّ حال ، وإلى ما يكون لطفا عند الدعاء ؛ لأن للدعاء على كلّ حال تأثيرا في فعله.

والقسم الآخر من القسمين الأوّلين : ما ليس بواجب من الإحسان والتفضّل ، وذلك ممّا لا يجوز أن يفعل وأن لا يفعل ، فإذا فعله تعالى عند الدعاء فهو اجابة له.

٣١٩

وقولنا : «مجاب الدعوة» يقتضي تكرّر إجابة دعائه ، وأن المفعول عند دعائه على سبيل الكرامة له والرفع من منزلته.

ومتى سأل أحدنا ربّه تعالى أمرا فلم يفعله لا يجب القطع على أنه ما أجيبت دعوته ؛ لأنه إذا سأل بشرط أن لا يكون فيه مفسدة فغير ممتنع أن يكون إنّما لم يفعل ما طلبه ؛ لأنه مفسدة ، وإنّما يكون ممنوعا إذا لم يفعل ما طلبه من غير حصول الشرط الّذي شرطه.

وهذه جملة كافية (١).

ـ (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) [غافر : ٧٥]

أنظر الكافرون من الأمالي ، ١ : ١٣٨.

ـ (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٤ ـ ٨٥]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

__________________

(١) الذخيرة : ٦٠٤.

٣٢٠