تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

المباشرة في المنام؟. وإن كان فيها صحيح وباطل فما السبيل إلى تمييز أحدهما من الآخر؟.

الجواب وبالله التوفيق :

اعلم أن النائم غير كامل العقل ؛ لأن النوم ضرب من السهو ، والسهو ينفي العلوم ، ولهذا يعتقد النائم الاعتقادات الباطلة ، لنقصان عقله وفقد علومه وجميع المنامات إنّما هي اعتقادات يبتدأ بها النائم في نفسه ، ولا يجوز أن يكون من فعل غيره فيه في نفسه ؛ لأن من عداه من المحدثين ـ سواء كان بشرا أو ملائكة أو جنّا ـ أجسام ، والجسم لا يقدر أن يفعل في غيره اعتقادا ، بل ابتداءا. ولا شيئا من الأجناس على هذا الوجه ، وإنّما يفعل ذلك في نفسه على سبيل الابتداء.

وإنّما قلنا أنه لا يفعل في غيره جنس الاعتقادات متولّدا ؛ لأن الّذي يعدي الفعل من محلّ القدرة إلى غيرها من الأسباب إنّما هو الاعتمادات ، وليس في جنس الاعتمادات ما يولد الاعتقادات. ولهذا لو اعتمد أحدنا على قلب غيره الدهر الطويل ما تولّد فيه شيء من الاعتقادات. وقد بين ذلك وشرح في مواضع كثيرة. والقديم تعالى هو القادر أن يفعل في قلوبنا ابتداء من غير سبب أجناس الاعتقادات. ولا يجوز أن يفعل في قلب النائم اعتقادا ؛ لأن أكثر اعتقاد النائم جهل وتناول الشيء على خلاف ما هو به ؛ لأنه يعتقد أنه يرى ويمشي وأنه راكب وعلى صفات كثيرة ، وكلّ ذلك على خلاف ما هو به ، وهو تعالى لا يفعل الجهل ، فلم يبق إلّا أن الاعتقادات كلّها من جهة النائم.

وقد ذكر في المقالات أن المعروف ب (صالح قبة) كان يذهب إلى أن ما يراه النائم في منامه على الحقيقة. وهذا جهل منه يضاهي جهل السوفسطائية ؛ لأن النائم يرى أن رأسه مقطوع ، وأنه قد مات ، وأنه قد صعد إلى السماء. ونحن نعلم ضرورة خلاف ذلك كلّه.

وإذا جاز عند صالح هذا أن يعتقد اليقظان في السراب أنه ماء وفي المردي إذا كان في الماء أنه مكسور وهو على الحقيقة صحيح لضرب من الشبهة واللبس وإلّا جاز ذلك في النائم ، وهو من الكمال أبعد وإلى النقص أقرب.

٢٨١

وينبغي أن يقسم ما يتخيّل النائم أنه يراه إلى أقسام ثلاثة :

منها : ما يكون من غير سبب يقتضيه ولا داع يدعو إليه اعتقادا مبتدءا.

ومنها : ما يكون من وسواس الشيطان ، ومعنى هذه الوسوسة أن الشيطان يفعل في داخل سمعه كلاما خفيا يتضمّن أشياء مخصوصة ، فيعتقد النائم إذا سمع ذلك الكلام أنه يراه ، فقد نجد كثيرا من النيام يسمعون حديث من يتحدّث بالقرب منهم ، فيعتقدون أنهم يرون ذلك الحديث في منامهم.

ومنها : ما يكون سببه والداعي إليه خاطرا يفعله الله تعالى ، أو يأمر بعض الملائكة بفعله. ومعنى هذا الخاطر أن يكون كلاما يفعل في داخل السمع ، فيعتقد النائم أيضا ما يتضمّن ذلك الكلام. والمنامات الداعية إلى الخير والصلاح في الدين يجب أن تكون إلى هذا الوجه معروفة ، كما أن ما يقتضي الشرّ منها الأولى أن تكون إلى وسواس الشيطان مصروفة.

وقد يجوز على هذا فيما يراه النائم في منامه ، ثمّ يصحّ ذلك حتّى يراه في يقظته على حدّ ما يراه في منامه.

وفي كلّ منام يصحّ تأويله أن يكون سبب صحّته أن الله تعالى يفعل كلاما في سمعه بضرب من المصلحة ، بأن شيئا يكون أو قد كان على بعض الصفات ، فيعتقد النائم أن الّذي يسمعه هو يراه. فإذا صحّ تأويله على ما يراه ، فما ذكرناه ان لم يكن ممّا يجوز أن تتفق فيه الصحّة اتّفاقا ، فإن في المنامات ما يجوز أن يصحّ بالاتّفاق وما يضيق فيه مجال نسبته إلى الاتّفاق ، فهذا الّذي ذكرناه يمكن أن يكون وجها فيه.

فإن قيل : أليس قد قال أبو عليّ الجبائي في بعض كلامه في المنامات : أن الطبائع لا تجوز أن تكون مؤثّرة فيها ؛ لأن الطبائع لا تجوز على المذاهب الصحيحة أن تؤثّر في شيء ، وأنه غير ممتنع مع ذلك أن يكون بعض المآكل يكثر عندها المنامات بالعادة ، كما أن فيها ما يكثر عنده بالعادة تخييل الإنسان وهو مستيقظ ما لا أصل له.

قلنا : قد قال ذلك أبو عليّ ، وهو خطأ ؛ لأن تأثيرات المآكل بمجرى العادة

٢٨٢

على المذاهب الصحيحة ، إذا لم تكن مضافة إلى الطبائع ، فهو من فعل الله تعالى ، فكيف تضيف التخيّل الباطل والاعتقاد الفاسد إلى فعل الله تعالى.

فأمّا المستيقظ الّذي استشهد به ، فالكلام فيه والكلام في النائم واحد ، ولا يجوز أن نضيف التخيّل الباطل إلى فعل الله تعالى في نائم ولا يقظان.

فأمّا ما يتخيّل من الفاسد وهو غير نائم ، فلا بدّ من أن يكون ناقص العقل في الحال وفاقد التمييز بسهو وما يجري مجراه ، فيبتدأ اعتقادا لا أصل له ، كما قلناه في النائم.

فإن قيل : فما قولكم في منامات الأنبياء عليهم‌السلام وما السبب في صحّتها حتّى عدّ ما يرونه في المنام مضاهيا لما يسمعونه من الوحي؟.

قلنا : الأخبار الواردة بهذا الجنس غير مقطوع على صحّتها ، ولا هي ممّا توجب العلم ، وقد يمكن أن يكون الله تعالى أعلم النبيّ بوحي يسمعه من الملك على الوجه الموجب للعلم : أنّي سأريك في منامك في وقت كذا ما يجب أن تعمل عليه. فيقطع على صحّته من هذا الوجه ، لا بمجرد رؤيته له في المنام.

وعلى هذا الوجه يحمل منام إبراهيم عليه‌السلام في ذبح ولده (١) ، ولو لا ما أشرنا إليه كيف كان يقطع إبراهيم عليه‌السلام بأنه متعبّد بذبح ولده؟.

فإن قيل : فما تأويل ما يروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثّل بي» وقد علمنا أن المحق والمبطل والمؤمن والكافر قد يرون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويخبر كلّ واحد منهم عنه بضدّ ما يخبر به الآخر ، فكيف يكون رائيا له في الحقيقة مع هذا؟.

قلنا : هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد ، ولا معول على مثل ذلك ، على أنه يمكن مع تسليم صحّته أن يكون المراد به : من رآني في اليقظة فقد رآني على الحقيقة ؛ لأن الشيطان لا يتمثّل بي لليقظان.

__________________

(١) الآية الكريمة : (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) [الصافات : ١٠٢].

٢٨٣

فقد قيل : إن الشيطان ربما تمثل بصورة البشر. وهذا التشبيه أشبه بظاهر ألفاظ الخبر ؛ لأنه قال : من رآني فقد رآني ، فأثبت غيره رائيا له ونفسه مرئية ، وفي النوم لا رائي له في الحقيقة ولا مرئي ، وإنّما ذلك في اليقظة.

ولو حملناه على النوم ، لكان تقدير الكلام : من اعتقد أنه يراني في منامه وإن كان غير راء له في الحقيقة ، فهو في الحكم كأنه قد رآني. وهذا عدول عن ظاهر لفظ الخبر وتبديل لصيغته. وهذا الّذي رتبناه في المنامات وقسمناه أسد تحقيقا من كلّ شيء قيل في أسباب المنامات. وما سطر في ذلك معروف غير محصل ولا محقّق ؛ فأمّا ما يهذي إليه الفلاسفة ، فهو ممّا يضحك الثكلى ؛ لأنهم ينسبون ما صحّ من المنامات لما أعيتهم الحيل في ذكر سببه إلى أن النفس اطلعت إلى عالمها أشرفت على ما يكون.

وهذا الّذي يذهبون إليه في الحقيقة النفس غير مفهوم ولا مضبوط ، فكيف إذا أضيف إليه الاطّلاع على عالمها. وما هذا الاطّلاع وإلى أي يشيرون بعالم النفس؟ ولم يجب أن تعرف الكائنات عند هذا الاطلاع؟.

فكلّ هذا زخرفة ومخرقة وتهاويل لا يتحصّل منها شيء وقول صالح فيه (١) ـ مع أنه تجاهل محض ـ أقرب إلى أن يكون مفهوما من قول الفلاسفة ؛ لأن صالحا ادعى أن النائم يرى على الحقيقة ما ليس يراه ، فلم يشر إلى أمر غير معقول ولا مفهوم ، بل ادعي ما ليس بصحيح وإن كان مفهوما ، وهؤلاء عولوا على ما لا يفهم مع الاجتهاد ، ولا يعقل مع قوّة التأمّل ، والفرق بينهما واضح. وأمّا سبب الإنزال ، فيجب أن يبنى على شيء تحقيق سبب الانزال في اليقظة مع الجماع ، ليس هذا ممّا يهذي به أصحاب الطبائع ؛ لأنا قد بينا في غير موضع أن الطبع لا أصل له ، وأن الإحالة فيه على سراب لا يتحصّل. وإنّما سبب الانزال أن الله أجرى العادة بأن يخرج هذا الماء من الظهر عند اعتقاد النائم أنه يجامع ، وإن كان هذا الاعتقاد باطلا. والحمد لله (٢).

__________________

(١) كذا والظاهر «صالح قبة».

(٢) الرسائل ، ٢ : ٩ ـ : ١٤.

٢٨٤

ـ (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : ٥٣].

أنظر غافر : ١٨ من الذخيرة : ٥٠٤.

ـ (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ...) [الزمر : ٥٦].

أي في طاعته ورضاه ، كما يقال «أحتمل كلّ شيء في جنب فلان» أي في محبّته (١).

ـ (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الزمر : ٦٢].

ويوصف تعالى بأنه «خالق» ؛ لأن فائدة هذه اللفظة وقوع الفعل مقدرا غير مسهوّ عنه ، وبالعرف لا تطلق هذه اللفظة إلّا فيه تعالى وتقيّد في غيره (٢).

ويوصف تعالى بأنه «وكيل» ، ويجب أن يقيد فيقال «وكيل علينا» بمعنى أنه متكفّل بأمورنا ، وهو معنى قولنا : «حسبنا الله ونعم الوكيل». والوكيل في الإطلاق يقتضي في العرف أنه القيم بأمور غيره على سبيل النيابة (٣).

ـ (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤].

أنظر البقرة : ٢٢ من الأمالي ، ٢ : ١٦٣.

ـ (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الزمر : ٦٥].

[فان قيل : ما معنى هذه الآية] وكيف يوجّه هذا الخطاب إلى من لا يجوز عليه الشرك ولا شيء من المعاصي؟

الجواب : قد قيل في هذه الآية : إنّ الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد به أمّته ، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنّه قال : نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة. ومثل ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) (٤) فدلّ قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَ) على أنّ الخطاب توجّه إلى غيره.

__________________

(١) الملخص ، ٢ : ٢٢٤.

(٢) الذخيرة : ٥٩٢.

(٣) الذخيرة : ٥٩٩.

(٤) سورة الطلاق ، الآية : ١.

٢٨٥

وجواب آخر : انّ هذا خبر يتضمّن الوعيد ، وليس يمتنع أن يتوعّد الله تعالى على العموم. وعلى سبيل الخصوص من يعلم أنّه لا يقع منه ما تناوله الوعيد ، لكنّه لا بدّ من أن يكون مقدورا له وجائزا بمعنى الصحّة لا بمعنى الشكّ ، ولهذا يجعل جميع وعيد القرآن عامّا لمن يقع منه ما تناوله الوعيد ، ولمن علم الله تعالى أنّه لا يقع منه. وليس قوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) على سبيل التقدير والشرط بأكثر من قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ؛ لأنّ استحالة وجود ثان معه تعالى ، إذا لم يمنع من تقدير ذلك ، وبيان حكمه فأولى أن يسوغ تقدير وقوع الشرك الّذي هو مقدور ممكن وبيان حكمه.

والشيعة لها في هذه الآية جواب تنفردّ به وهو أنّ النبيّ لمّا نصّ على أمير المؤمنين «عليه الصلاة والسلام» بالإمامة في ابتداء الأمر جاءه قوم من قريش فقالوا له : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ان الناس قريبوا عهد بالاسلام لا يرضون أن تكون النبوّة فيك والإمامة في ابن عمّك عليّ بن أبي طالب ، فلو عدلت به إلى غيره لكان أولى ، فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما فعلت ذلك برأيي فأتخيّر فيه ، لكنّ الله تعالى أمرني به وفرضه علي ، فقالوا له : فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربّك تعالى فأشرك معه في الخلافة رجلا من قريش تركن الناس إليه ، ليتمّ لك امرك ولا يخالف الناس عليك ، فنزلت الآية. والمعنى فيها : «لئن أشركت مع علي في الامامة غيره ليحبطنّ عملك».

وعلى هذا التأويل فالسؤال قائم ؛ لأنّه إذا كان قد علم الله تعالى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يفعل ذلك ولا يخالف أمره لعصمته ، فما الوجه في الوعيد؟ فلا بدّ من الرجوع إلى ما ذكرناه (١).

[انظر أيضا هود : ١١٤ من الذخيرة : ٣١١].

ـ (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر :

٦٧].

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٦٧.

٢٨٦

[المعنى فيها : الاخبار عن تيسّر تصريف القلوب وتقليبها ، والفعل فيها جلت عظمته ، ودخول ذلك تحت قدرته ألا ترى أنهم يقولون : هذا الشيء في خنصري وأصبعي ، وفي يدي وقبضتي ؛ كلّ ذلك إذا أرادوا تسهّله وتيسره وارتفاع المشقّة فيه والمؤونة ؛ وعلى هذا المعنى يتأول المحقّقون هذه الآية] (١).

ـ (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ ...) [الزمر : ٦٩].

أنظر النساء : ١١٥ من الشافي ، ١ : ٢١٦.

ـ (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤)) [الزمر : ٧٣ ـ ٧٤]

أنظر الإسراء : ١٦ من الأمالي ، ١ : ٢٩ والرعد : ٣١ من الأمالي ، ٢ : ٢٦٥.

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٣١٤.

٢٨٧

سورة غافر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [غافر : ٧]

أنظر البقرة : ٢٨٦ من الأمالي ، ٢ : ١١٤.

ـ (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) [غافر : ٨].

أنظر الأعراف : ١٧٢ ، ١٧٣ من الأمالي ، ١ : ٥٤.

ـ (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) [غافر : ١١].

اعلم أن من الناس من أحال عذاب القبر ، وفيهم من أجازه لكنّه ذهب إلى قبحه ، والصحيح أنه جائز غير محال ، ولا وجه فيه للقبح.

فأمّا الدلالة على صحّته ورفع استحالته : فمن حيث إنّ الميّت إذا أعيد حيّا صحّ أن يعاقب ، كما صحّ ذلك فيه قبل الموت ، ولعلّ من أحاله ظنّ أنه يعاقب وهو ميّت.

وأمّا ضيق القبر عن العقاب ، فإنّه يجوز أن يوسّع حتّى يمكن المعاقبة ، على أن المتولّي من الملائكة للمعاقبة لا يحتاج إلى سعة موضع للطافته ، ولا وجه للإحالة.

وإذا كان العقاب مستحقّا جاز تقديم بعضه في أحوال الدنيا ، كما نقوله في الحدود ، ولا يجب أن يكون قبيحا لكونه عبثا لا يمتنع أن يكون مصلحة لمن يتولاه من الملائكة ، ويجوز أن يكون مصلحة لنا في حال التكليف إذا علمنا أن ذلك يقع في القبر ، ونكون معه أقرب إلى الامتناع من القبيح.

٢٨٨

فإذا قيل : لا حال (١) نبشنا فيها الميّت إلّا ونجده على حاله.

قلنا : ليس لعذاب القبر وقت مخصوص ، فليس يمتنع أن لا يوافق حال ظهور الميّت لنا في النبش حال تعذيبه ، وتتقدّم احدى الحالتين على الأخرى وتتأخّر.

فإذا لو قيل : لو عذب في القبر لوجب أن يكون عاقلا (٢) قادرا على الكلام فيجب أن يسمع كلامه.

قلنا : أمّا كمال العقل فيجب مع العقاب على ما بيّناه ، ويجوز أن لا يقدر على كلام يسمع ، وامّا بارتفاع القدرة أو بحصول حائل عن سماعه.

وأمّا الطريق بإثبات عذاب القبر بعد أن بينا جوازه وصحّته فهو الإجماع ؛ لأن الأمّة لا تختلف فيه ، ومن خالف فيه من ضرار بن عمرو ومن وافقه شاذّ ، قد تقدّمه الإجماع وتأخّر عنه.

وأمّا الاستدلال على ذلك بقوله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) فيفسد بأن بعض الإماميّة يقول برجعة بعض الأموات إلى الدنيا ، فيثبتون موتتين ليس منهما الموتة في القبر بعد الحياة منه.

فإذا قيل لهم : فيلزمكم على الرجعة أن يكون الموتات ثلاثا ، قالوا : ليس يجب الرجعة في كلّ ميّت ، ويجوز أن تكون الآية الواردة بتثنية الموتتين خبرا عمّن لم يعد إلى دار الدنيا.

وبعد ، فأمّا الخبر بوقوع الموتتين يمنع من أن يكون الموتة واحدة ، ولا يمنع ممن الزيادة إلى الاثنين. ألا ترى أن قوله تعالى : (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) لم يمنع من حياة ثالثة ، ومن أثبت عذاب القبر لا بدّ له من أن يقول إن الاحياء ثلاث مرّات : مرّة في أحوال التكليف ، وثانية لعذاب القبر ، وثالثة للنشور والبقاء الدائم.

__________________

(١) كذا في النسختين.

(٢) في نسخة «عالما».

٢٨٩

فما يلزم الإماميّة من تثليث الموتة يلزم مخالفيهم في تثنية الاحياء.

وتسمية الملكين بمنكر ونكير جائز ؛ لأن الأسماء ألقاب ، وليس بجارية مجرى الاشتقاق ، وهذا كما لقبت العرب وسمّيت بظالم وكلب وسرّاق وما جرى هذا المجرى. وقد قيل : إن منكرا ونكيرا مشتقّان من استنكار المعاقب لفعلهما ونفاره عنه (١).

ـ (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) [غافر : ١٥].

ولا يوصف تعالى بأنه «رفيع» ولا «شريف» ؛ لأن حقيقتهما في ارتفاع المكان واشرافه ، وإنّما مدح بذلك وأجري على غير هذه الفائدة على سبيل المجاز والاستعارة ، وقوله تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) إنّما هو صفة للدرجات لا له (٢).

ـ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨].

[وفيها أمران :

الأوّل :] وإذا كان قولنا «وعد» و «وعيد» إنّما هو خبران عن إيصال الثواب والعقاب إلى من استحقّهما ، فالكلام في ذلك على الحقيقة يتعلّق بالسمع دون العقل.

ولا معنى أن يدخل في جملة الكلام في استحقاق الثواب والعقاب ، وجهتي استحقاقهما وصفاتهما ، وهل يؤثر أحدهما في الآخر أم لا يؤثر ؛ لأن ذلك كلّه من مقتضى العقل بمجرّده ، وقد ذكرنا من ذلك ما وجب في موضعه ، ولم يبق إلّا الكلام في الوعيد الحقيقي نفسه ، ونحن نشرع فيه :

اعلم أنا لا نقطع على أن من جمع بين الإيمان والفسق يعاقب لا محالة على فسقه ، بل نجوّز أن يغفر الله تعالى له ذنبه ، ويسقط تفضّلا عقابه ، أو بشفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونقطع على عقاب الكفر.

__________________

(١) الذخيرة : ٥٢٨.

(٢) الذخيرة : ٥٨٢.

٢٩٠

ووافقنا في ذلك أصحاب الحديث والمرجئة وخالفنا المعتزلة ، ووافقهم من الزيديّة والخوارج.

والّذي يدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه : أنا قد بيّنا حسن العفو وإسقاط العقاب من جهة العقل ، وأنه يسقط بإسقاط من إليه استيفاؤه ، وإذا كنا قد اعتبرنا السمع وتصفحناه فلم نجد فيه ما يقتضي القطع على وقوع العقاب بمن جمع بين إيمان وفسق ، وجب أن يكون من التجويز على ما كنّا في العقل.

وليس لأحد أن يلزم على هذا الشكّ في عقاب الكفّار ، وذلك أن الإجماع حاصل على عقابهم ، ومعلوم من دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاقبون لا محالة.

دليل آخر :

يدلّ ممّا ذكرناه أنه لا خلاف بين الأمّة في أن للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شفاعة مقبولة وهذه الجملة لا خلاف فيها ، وإنّما الخلاف في كيفيّة هذه الشفاعة ، وقد دلّ الدليل على أن الشفاعة لا تكون إلّا في إسقاط العقاب المستحقّ ، وأن سقوط العقاب عند الشفاعة تفضل لا واجب.

وفي ثبوت ذلك دلالة على تجويز العفو عن عصاة أهل الإيمان ، بل يدلّ على وقوع العفو عن جماعة غير معيّنة من عصاة أهل الإيمان ، من حيث شفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقعة لا محالة ومؤثّرة قطعا.

إن قيل : دلّوا على أن الشفاعة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هي في إسقاط العقاب دون زيادة المنافع.

قلنا : لا تخلو الشفاعة من أن تكون حقيقة في إسقاط الضرر دون غيره أو في زيادة المنافع دون غيرها ، أو في الأمرين. والقسم الأوّل هو الصحيح ، والثاني يقتضي أن من سئل في إسقاط ضرر عن غيره لا يسمّى شافعا ، ولا خلاف في تسميته بذلك ، ويفسد القسم الثالث أنه يوجب أن نكون شافعين في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا سألنا الله تعالى الزيادة في درجاته وكراماته ، ومعلوم أن أحدا لا يطلق ذلك لفظا ولا معنى.

٢٩١

وليس لهم أن يقولوا : إنّما لم تكن شافعين فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان شافعا فينا لأجل رتبته علينا. وذلك أن العقاب على ضربين : ضرب يعتبر فيه الرتبة كالأمر والنهي ، والضرب الآخر لا يعتبر فيه رتبة كالخبر. وما اعتبرت فيه الرتبة إنّما يعتبر بين المخاطب والمخاطب دون من يتعلّق الخطاب به. ألا ترى أن الأمر إنّما يعتبر فيه الرتبة بين الآمر والمأمور ، دون المأمور فيه ؛ لأن العالي الرتبة إذا قال لمن هو دونه : «ألق الأمير» كان كقوله : «ألق الحارس» ولا يختلف كونه أمرا باختلاف حالتي المأمور فيه ، والشفاعة ممّا يعتبر فيه الرتبة كالأمر ، لكنّها معتبرة بين الشافع والمشفوع إليه.

فإذا قيل لنا : أليس لا يقال شفع الحارس إلى الأمير ، وهذا يدلّ على اعتبار الرتبة في المشفوع فيه.

قلنا : إنّما لا يقال ذلك ؛ لأن شفاعة الحارس لم تجر العادة بأن تؤثر في إسقاط ضرر عن الأمير ، فلهذا لا يقال ذلك. فلو فرضنا أن الخليفة وجد على بعض أمرائه وأراد عقابه ، وأظهر أنه لا يسقط العقاب عنه إلّا أن شفع فيه بعض الحرّاس لسمّينا سؤال هذا الحارس شفاعة ، والحال هذه ، وان كنّا لا نسمّي قول الحارس للأمير : «افعل كذا» أمرا في موضع من المواضع ، فبان الفرق بين الأمرين وبين ما ذكرناه : انه كما لا يقال شفع الحارس في الأمير لا يقال سأل الحارس في إسقاط ضرر عن الأمير ، فلو كان إطلاق اللفظ الأوّل لم يجز للرتبة لجاز الثاني ؛ لأن كلّ لفظ يطلق للرتبة أطلق ما في معناه ؛ لأنه لا يقال : «أمر الوضيع الرفيع» ويقال : «سأله وطلب إليه» ، فعلم أنه إنّما لم يجز «شفع الحارس في الأمير» كما ذكرناه أن العادة لم تجر بأن يرجى بشفاعته سقوط ضرر عن الأمير ، ولهذا لم يجز ما في معناه وان لم يكن بلفظه.

وممّا يوضح ما قدمناه : أن كلّ كلام اقتضى الرتبة لم يدخل بين الإنسان ونفسه ، ألا ترى أنه لا يقال : «أمر نفسه ونهاها» ، وقد يقال : «شفع لنفسه وفي حاجة نفسه» ، فلو اقتضت الشفاعة الرتبة في المشفوع فيه لم يجز ذلك.

٢٩٢

ولو سلّمنا تبرعا أن الشفاعة مشتركة بين إسقاط الضرر وزيادة النفع ، لعلمنا أن شفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هي في إسقاط العقاب بالخبر المروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اذخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي (١). وهذا خبر تلقته الأمّة كلّها بالقبول وإنّما اختلافهم في تأويله.

وليس لأحد أن يقول : المراد بالخبر الشفاعة في زيادة النعم ، وإنّما خصّ أهل الكبائر ؛ وذلك أن الشفاعة في زيادة النعم لا تخلو أن تكون بعد اقلاعهم وتوبتهم من الكبائر أو قبل التوبة والاقلاع ، فإن كان الأوّل : فكيف يسمّيهم بأنهم أهل الكبائر ، وهذا اسم ينبئ عن الذمّ وهم لا يستحقون بعد التوبة شيئا من الذم. فإذا قيل : لمن كان من أهل الكبائر ، قلنا : هذا خلاف ظاهر الخطاب ، وان كان الوجه الثاني : فكيف يسأل النفع لمن لا يحصل (٢) إيصال النفع إليه ، ومستحقّ العقاب من أهل الكبائر لا يجوز أن يوصل إليه في حال عقابه شيء من المنافع.

فإن قيل : لفظ «ادخرت شفاعتي» أو «أعددت شفاعتي لأهل الكبائر» وحال الإدخار غير حال وقوع الشفاعة ، فما المنكر أن يكونوا موصوفين بالكبائر في أحوال الادخار وفي حال وقوع الشفاعة ، وهي حال الآخرة يكونون قد تابوا ، فلا يستحقّون الوصف بذلك.

قلنا : أحوال الادخار هي كلّ حال لم يقع فيها الشفاعة ، فإذا كان من يشفع فيه من أهل الكبائر لا بدّ أن يتوب قبل أن يفارق الدنيا ، فهو بعد التوبة وقبل وقوع الشافعة لا يستحقّ الوصف بأنه من أهل الكبائر ، وهذه كلّها من أحوال ادخار الشفاعة إلى وقت وقوعها ، فقد بان كما تراه أن في بعض أحوال الادخار لا يستحقّ بالكبائر ، ولفظ الخبر يقتضي ذلك.

وتعلّقهم في إبطال ما نذهب إليه من الشفاعة بقوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ

__________________

(١) بهذا المضمون في التوحيد للصدوق ص ٤٠٧.

(٢) في م «لمن لا يحسن».

٢٩٣

حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١) باطل ؛ لأن «الظالمين» لفظ محتمل للعموم والخصوص على سواء ، وسندل على ذلك ، فمن أين وجوب عمومه وما المنكر أن يكون مختصّا بالكفّار ، وقال الله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٢) ، على أنه نفى شفيعا يطاع ولا أحد يقول بذلك ، وإنّما اختلفوا في شفيع يجاب.

وتعلّقهم بقوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٣) فاسد ؛ لأن النصرة غير الشفاعة ، وإنّما النصرة المدافعة والمغالبة ، ويقترن بالشفاعة خضوع وخشوع ، وليس كذلك النصرة ، وخلافنا أيضا في العموم معترض على ذلك.

والتعلّق بقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٤) غير نافع لهم ؛ لأن المراد لمن ارتضى أن يشفع فيه ؛ لأن الشفاعة في المذنبين لا يكون على سبيل التقدّم بين يدي الله تعالى بل باذنه ، وقال الله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٥) ، وقال تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٦) ، وليس هذا تركا للظاهر ؛ لأن المرتضى محذوف ، فأيّ فرق بين أن يضمر من ارتضى أفعاله ، وبين أن يضمر من ارتضى أن يشفع فيه؟

وفي المرجئة من لم يمتنع من أن يجعل الفاسق الملي فيمن يطلق عليه أنه مرتضى ، ويراد أن إيمانه مرتضى كما نقول : هذا النجّار مرتضى عندي ، أي للنجارة دون غيرها.

وتعلّقهم بأنه تعالى وصف يوم القيامة بأنه لا يجزي نفس عن نفس شيئا فيه ولا يقبل منها شفاعة (٧) باطل ؛ لأنا كلّنا نرجع عن هذا الظاهر ، ونقول : إن في ذلك اليوم شفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقبولة.

__________________

(١) سورة غافر ، الآية : ١٨.

(٢) سورة لقمان ، الآية : ١٣.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٧٠.

(٤) سورة الأنبياء ، الآية : ٢٨.

(٥) سورة البقرة ، الآية : ٢٥٥.

(٦) سورة النجم ، الآية : ٢٦.

(٧) إشارة إلى الآية ١٢٣ من سورة البقرة.

٢٩٤

فإذا قالوا : إنّما تعلّق نفي قبول الشفاعة بإسقاط العقاب ، قلنا : إنّما نفى قبول الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر.

وربّما تعلّقوا بحسن الرغبة إلى الله تعالى في أن يجعلنا من أهل شفاعة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلو كانت الشفاعة في إسقاط العقاب لكانت رغبتنا في أن يجعلنا فساقا عصاة.

والجواب : أن هذه الرغبة مشروطة بأن يجعلنا من أهل الشفاعة إذا عصينا ، والدعاء كلّه لا بدّ من اشتراطه على ما تبيّن ، ويلزم على التعلّق بذلك إذا رغبنا إلى الله تعالى أن يجعلنا من التوّابين المستغفرين ، والتوبة لا تكون إلّا من الذنوب ، ولذلك الاستغفار أن نكون راغبين من أن يجعلنا من أهل المعاصي ، فأي شيء قالوه قلنا لهم مثله.

فإن اعترضوا على دليلنا الأوّل بقوله تعالى : (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (١) وبقوله تعالى : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) (٢) ، و (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٣) ، و (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (٤) ، وما أشبه ذلك من القرآن.

قلنا : لنا طرق ثلاثة في دفع هذا الكلام :

أوّلها : أن نبيّن أنه لا صيغة في اللغة مبنية لاستغراق الجنس ، وأن جميع الألفاظ الّتي تعلقوا بها مشتركة بين العموم والخصوص ، ومحتملة للأمرين على الحقيقة.

وثانيها : أن نعارض بالآيات الّتي تعلقوا بها بآيات من القرآن يقتضي ظاهرها العفو وإسقاط العقاب.

وثالثها أن نلزم من جوّز العفو عقلا من مخالفينا وشرط في كلّ عموم القرآن الوارد بإيقاع العقاب بارتفاع التوبة وزيادة الثواب على مقادير العقاب ، أن

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٤.

(٢) سورة الفرقان ، الآية : ١٩.

(٣) سورة النساء ، الآية : ١٢٣.

(٤) سورة الإنفطار ، الآية : ١٤.

٢٩٥

يشترط أيضا ارتفاع العفو ؛ لأنه على مذهبه من مزيلات العقاب ، وإذا شرط ارتفاع وجهين وجب أن يشترط ارتفاع الثالث.

والّذي يدلّ على أنه لا صيغة للاستغراق تختصّه : إنّا وجدنا كلّ لفظ يدعون أنه مبنيّ للاستغراق قد يستعمل في الخصوص ؛ لأن القائل يقول : «من دخل داري ضربته» ، و «لقيت العلماء» ، و «قطعت السراق» ، وهو يريد الخصوص تارة كما يريد العموم أخرى ، واستعمال اللفظة في معنيين مختلفين يدلّ ظاهره على أنها حقيقة فيهما ، وموضوعة لهما إلّا أن يقوم دليل قاهر ، وان لم يكن بالاستعمال حقيقة وموضوعا. قلنا : لو لم يقم دليل قاهر ونضطر من قصد أهل اللغة إلى أنهم مستعيرون له لحكمنا بأنه حقيقة مع وجود الاستعمال.

والّذي يوضح ما ذكرناه : أن الأصل في الوضع هو الحقيقة ، وإنّما المجاز داخل عليها ، ولهذا صحّ أن يكون في الكلام حقيقة لا مجاز فيها ، ولا يجوز أن يكون ما هو المجاز لا حقيقة له. وهذا يقتضي أن الأصل في الاستعمال هو الحقيقة ، وعليها يجب حمله إلّا للدليل القاطع.

وإذا قالوا : اللفظ مستعمل في الأمرين ، غير أنه يستعمل مطلقا مجرّد في الاستغراق ، وإنّما يستعمل في الخصوص مقترنا بدلالة.

والجواب : أن هذا دعوى بغير برهان ، والاستعمال الّذي اعتمدناه قد صحّ بغير خلاف ، وإنّما ادعي مع الاستعمال في أحد الموضعين قرينة ، وعلى من يدعي أمرا زائدا على المعلوم الدلالة.

وليس ينفصل المتعلّق بهذه الدعوى من أصحاب الخصوص إذا ادعوا مثلها ، وقالوا : إطلاق هذه الألفاظ موضوع للخصوص ، وإنّما نعلم العموم بقرينة ودلالة.

دليل آخر :

وممّا يدلّ على ما ذهبنا إليه من اشتراك العموم والخصوص حسن استفهام

٢٩٦

كلّ مخاطب بهذه الألفاظ ؛ لأن من قال : «من دخل داري ضربته» ، يحسن أن يستفهم فيقال له : وان دخل فلان ، وكذلك إذا قال : «لقيت العلماء واكرمت الشرفاء» يحسن أن يستفهم عن عموم كلامه أو خصوصه. ومعلوم أن لا يحسن إلّا مع اشتراك اللفظ واحتماله ؛ لأن من قال : «لقيت رجلا» ، و «ابتعت فرسا» لا يحسن استفهامه عن مراده لاختصاص اللفظ ، ولو قال : «رأيت عينا» و «شاهدت شيئا» لحسن الاستفهام للاحتمال ، ومن دفع حسن الاستفهام في الألفاظ الّتي ذكرناها كان دافعا لمعلوم ، ودفع حسن الاستفهام في كلّ لفظ مشترك.

وليس لأحد أن يدّعي أن وجه حسن الاستفهام لتجويز أن يكون المخاطب أراد المجاز ، وذلك أن صحّة هذه العلّة تقتضي حسن الاستفهام في كلّ خطاب ، لأنه ما من لفظ من ألفاظ العربية إلّا ويمكن فيه المجاز ، وقد علمنا قبح الاستفهام في مواضع كثيرة ، فعلم أن العلّة ما ذكرناه.

وبعد ، فإن المخاطب إذا كان حكيما وعدل عن الحقيقة في خطابه إلى المجاز فلا بدّ من أن يدلّ من يخاطبه على ذلك ، فلا معنى لاستفهامه مع فقد دلالة المجاز.

فإن عارضوا بحسن استفهام من قال : «ضربت أبي» ؛ لأنه يحسن أن يقال له : «أباك» ويحسن استفهام من قال : «صمت شهرا» و «دفعت إلى فلان عشرة» ؛ لأنه يحسن أن يقال له : «أصمت شهرا كاملا أو ناقصا» ، وكذلك في العشرة.

فالجواب : أن الاستفهام إنّما هو طلب الفهم والمعرفة ، ولا يحسن على هذا الوجه إلّا مع اشتراك في اللفظ واحتماله ، وقول القائل : «أباك» ليس باستفهام ، وإنّما هو استعظام واستكبار ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول له مصرّحا : «أضربت اباك أم لم تضربه» ، كما يحسن أن يصرّح مع سمع قول القائل : «ضربت غلماني» ، فيقول : «أضربت جميعهم أم بعضهم».

فأمّا لفظ «شهر» فإنّه يقع حقيقة على ثلاثين يوما وعلى تسعة وعشرين يوما ، فكلّ أحد من أهل اللغة يسمّي الشهر الناقص شهرا كما يسمي الكامل بذلك ، والقول في العشرة كالقول في الشهر.

٢٩٧

وقد تعلّق من قال بالعموم : بأن القائل إذا قال : «من دخل داري أكرمته» يحسن استثناء كلّ عاقل من هذا الكلام ، وإنّما يخرج الاستثناء من الجمل ما لولاه لوجب دخوله فيها ، بدلالة قبح استثناء البهائم من هذا اللفظ لما لم يجب دخوله تحته ، وإذا وجب دخول جميع العقلاء تحت لفظة «من» فهي مستغرقة.

فيقال لهم : نحن نخالف فيما حكمتم به في الاستثناء ، ونقول : إنه يخرج من الكلام ما لولاه لصحّ دخوله في الكلام ، وإنّما جاز استثناء كلّ عاقل لصحّة دخوله تحت لفظة «من» لا لوجوب دخوله ، وإنّما لم يحسن استثناء البهائم ؛ لأنه لا يصحّ دخولها تحت هذا اللفظ ، فإذا قالوا من العشرة الواحد أو الاثنين ، إذا كان إنّما يحسن لوجوب دخول ما استثني في الجملة لو لا الاستثناء ، فكذلك كلّ استثناء ؛ لأنه لا يختلف باختلاف مواضعه.

قلنا : قد سوّى قوم من أصحابنا بين الأمرين ، وقالوا : إن الاستثناء من الأعداد يخرج ما لولاه لصحّ دخوله أيضا ، ولم يجب.

وبعد ، فإذا سلّمنا التفرقة بين الأمرين جاز فيه أن نقول : من شأن الاستثناء أن يخرج ما لولاه لصحّ دخوله ، وهذا واجب في كلّ استثناء ، والاستثناء من الأعداد وان وجب دخول المستثنى في الجملة لو لا الاستثناء ، فلن يجب ذلك إلّا بعد صحّته ، فلا بدّ من اعتبار الصحّة ، وان كان في بعض المواضع قد يريد الصحّة حتّى تبلغ الوجوب.

فإن قيل : هذا يقتضي دخول الاستثناء في النكرات.

قلنا : قد يستثنى من النكرة المعرفة ، وهذا حسن بلا خلاف ؛ لأنهم يقولون : «اضرب رجالا إلّا زيدا» ، فأمّا استثناء النكرة من النكرات فقد يحسن إذا خصّصته أو وصفته ، فتقول : «جاءني قوم إلّا رجلا ظريفا أو عاقلا» ، وإنّما لم يحسن بغير تخصيص ولا وصف لبطلان الفائدة.

وإنّما يبطل مذهبهم في الاستثناء : أنه لا شبهة في حسن قول القائل لغيره : «ألق جماعة من العلماء واقتل فرقة من المشركين» ، وانه يحسن استثناء كلّ عالم

٢٩٨

وكلّ كافر من هذا الكلام ، ولم يدلّ ذلك على أن قولنا : «فرقة» و «جماعة» من الألفاظ المستغرقة على سبيل الوجوب ، بل على سبيل الصلاح.

ويلزم أبا هاشم خاصّة على مذهبه في أن ألفاظ الجموع والجنس لا تستغرق ، أن يقال له : قد يحسن استثناء كلّ واحد من ألفاظ الجنس والجموع ، ولم يدلّ ذلك عندك على الاستغراق ، فما المانع من أن يكون لفظة «من» بهذه المثابة.

طريقة أخرى لهم :

وقد استدلّوا بأن القائل إذا قال مستفهما لغيره : «من عندك» صلح أن يجيب بذكر آحاد العقلاء وجماعاتهم ، ولا يصحّ أن يجيبه بذكر البهائم ، فلو لا استغراق لفظة «من» للعقلاء لجاز أن يكون الجواب عنها في بعض الأحوال بذكر بعض العقلاء يجري مجرى الجواب بذكر بهيمة.

وأكّدوا هذه الطريقة : بأن أهل العربية عدلوا عن لفظ الاستفهام في كلّ شخص بعينه إلى هذه اللفظة ، فوجب أن تحلّ هذه اللفظة محلّ الاستفهام عن كلّ عاقل باسمه.

فيقال لهم : قد بنيتم كلامكم على دعوى لا نسلمها ، فمن أين قلتم ، إن من أطلق الاستفهام بلفظة «من» ولم يعلم من قصده العموم والاستغراق من غير مجرّد اللفظ أنه يحسن اجابته بذكر كلّ عاقل ، وما أنكرتم أن جوابه بذكر كلّ عاقل لا يحسن إلّا بعد أن يفهم من قصده الاستغراق من غير مجرّد اللفظ.

يبيّن ما ذكرناه : أنه يحسن ممّن استفهم فقيل له : «ما تملك» و «من جاءك» ، بأن يقول : من المال أو من الفرس ، أو من العبيد أو من الإماء ، وفي جواب «من جاءك» من النساء أو من الرجال ، ولو لا اشتراك اللفظ واحتماله لم يجز ما ذكرناه ، وليس يجزي ذكر بعض العقلاء ، ويصحّ أن يستعمل في جميعهم حقيقة ، وليس كذلك حكم البهيمة.

فأمّا عدولهم عن ألفاظ الاستفهام إلى لفظة «من» فلفائدة معقولة ؛ لأن الاستفهام بذكر كلّ شخص بعينه يتعذّر أو يطول ويبعد ، وليس في جميع الألفاظ

٢٩٩

ما يصحّ أن يقصد به إلى الاستخبار عن جميع العقلاء مفترقين ومجتمعين إلّا لفظة «من» ، وهذه مزيّة بينة لها.

على أنه لو ثبت بهذه الطريقة العموم لم يكن نافعا لهم في المقصود من الكلام في عموم الوعيد ؛ لأن الاستفهام لا يحسن دخوله في خطابه تعالى على وجه من الوجوه.

وليس لهم أن يقولوا : متى ثبت عموم هذه اللفظه في الاستفهام ثبت عمومها في الشرط ؛ لأن ذلك دعوى بغير حجّة ، وقد أوجبوا عموم «من» إذا كانت نكرة في الشرط والجزاء ، ولم يوجبوا عمومها إذا كانت معرفة ، فألّا كانت عامّة في الاستفهام دون سائر المواضع.

وأمّا الطريقة الثانية في الكلام على الآيات الّتي تعلقوا بها فبينة ؛ لأنا نعارضهم بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) ، وبقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٢) ، وبقوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٣).

وبيان وجه الآية الأولى : أنه تعالى لم ينف غفران الشرك على كلّ الوجوه ، بل نفى أن يغفر تفضّلا ، فكأنه تعالى قال : إنّ الله تعالى لا يغفر أن يشرك به تفضلا بل استحقاقا ، فيجب المراد بقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر بغير استحقاق وعلى جهة التفضّل ؛ لأن موضوع هذا الكلام الّذي يدخله النفي والإثبات وينضم إليه الأعلى والأدون أن يخالف الثاني الأوّل.

ألا ترى لا يحسن أن يقول القائل : أنا لا أمضي إلى الأمير إلّا أن يدعوني وأمضي إلى من دونه إذا دعاني ، وإنّما يحسن أن يقول : وأمضي إلى من دونه وان لم يدعني ، وكذلك لا يجوز أن يقول : أنا لا أتفضّل بالكثير وأتفضّل باليسير. وهذا وجه ، ومن خالف فيه فهو مكابرة.

ويمكن أن يعارضوا بهذه الآية على وجه آخر ، وهو أن لفظ «ما» يجب

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٤٨.

(٢) سورة الرعد ، الآية : ٦.

(٣) سورة الزمر ، الآية : ٥٣.

٣٠٠