تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

فزيعان من جرم بن ريّان انّهم

أبوا أن يجيروا في الهزاهز محجما

أي : نحن فزيعان.

ويقال للمتكلم : «مطاع معان». ويقال له : «أراحل أم مقيم»؟ وقال الشاعر :

تقول ابنة الكعبي لمّا لقيتها

أمنطلق في الجيش أم متثاقل

أي : أنت كذلك.

فإذا كان لا بدّ في الكلام من إضمار فليس لهم أن يضمروا شيئا بأولى منّا إذا أضمرنا سواه.

فأمّا قوله : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) إلى آخر الآية فإنّما هو أيضا على جهة التقدير والتمثيل اللذين قدّمناهما ، وحذف من الكلام ما يقتضي فيه التقدير.

ومعنى قوله : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي صار أعزّ منّي. وقيل : إنّه أراد : قهرني وغلبني.

وأمّا قوله : لقد ظلمك من غير مسألة الخصم ، فإنّ المراد به إن كان الأمر كذلك. ومعنى ظلمك : نقصك وثلمك ، كما قال الله تعالى : (آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) (١).

ومعنى «ظنّ» قيل فيه وجهان :

أحدهما : أنّه أراد الظنّ المعروف الّذي هو بخلاف اليقين.

والوجه الآخر : أنّه أراد العلم واليقين ؛ لأنّ الظنّ قد يرد بمعنى العلم ، قال الله تعالى : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) (٢) وليس يجوز أن يكون أهل الآخرة ظانّين لدخول النار بل عالمين قاطعين.

وقال الشاعر :

فقلت لهم ظنّوا بإلقاء مذحج

سراتهم في الفارسيّ المسرّد

أي أيقنوا.

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٣٣.

(٢) سورة الكهف ، الآية : ٥٣.

٢٦١

والفتنة في قوله : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) هي الاختبار والامتحان لا وجه لها إلّا ذلك في هذا الموضع ، كما قال تعالى : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) ، فأما الاستغفار والسجود فلم يكونا لذنب كان في الحال ، ولا فيما سلف على ما ظنّه بعض من تكلّم في هذا الباب ، بل على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والخضوع له والتذلّل والعبادة والسجود ، وقد يفعله الناس كثيرا عند النعم الّتي تتجدّد عليهم وتنزل وتؤول وتردّ إليهم شكرا لمواليها ، وكذلك قد يسبّحون ويستغفرون الله تعالى تعظيما وشكرا وعبادة.

وأمّا قوله تعالى : (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) فالإنابة هي الرجوع ؛. ولمّا كان داود عليه‌السلام بما فعله راجعا إلى الله تعالى ومنقطعا إليه ، قيل فيه : إنّه أناب ، كما يقال في التائب الراجع إلى التوبة والندم : إنّه منيب.

فأمّا قوله تعالى : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) فمعناه انّا قبلنا منه وكتبنا له الثواب عليه ؛ فأخرج الجزاء على وجه المجازات به ، كما قال تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) وقال جلّ وعزّ : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) فأخرج الجزاء على لفظ المجازى عليه.

قال الشاعر :

ألا لا يجهلنّ أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ولمّا كان المقصود في الاستغفار والتوبة إنّما هو القبول ، قيل في جوابه : «فغفرنا لك» اي : فعلنا المقصود به ، كذلك لمّا كان الاستغفار على طريق الخضوع والعبادة المقصود به القربة والثواب ، قيل في جوابه : «غفرنا» مكان قبلنا ؛ على أنّ من ذهب إلى أنّ داود عليه‌السلام فعل صغيرة ، فلا بدّ من أن يحمل قوله تعالى : «غفرنا» على غير إسقاط العقاب ؛ لأنّ العقاب قد سقط بما هناك من الثواب الكثير من غير استغفار ولا توبة ، ومن جوّز على داود عليه‌السلام الصغيرة ، يقول : إنّ استغفاره عليه‌السلام كان لأحد أمور :

أحدها : أنّ أوريا بن حنان لمّا أخرجه في بعض ثغوره قتل ، وكان

٢٦٢

داود عليه‌السلام عالما بجمال زوجته فمالت نفسه إلى نكاحها بعده ، فقلّ غمّه بقتله لميل طبعه إلى نكاح زوجته ، فعوتب على ذلك بنزول الملكين من حيث حمله ميل الطبع على أن قلّ غمّه بمؤمن قتل من إصحابه.

وثانيها : أنّه روى أنّ امرأة خطبها أوريا بن حنان ليتزوّجها ، وبلغ داود عليه‌السلام جمالها فخطبها أيضا فزوّجها أهلها بداود وقدّموه على أوريا وغيره ، فعوتب عليه‌السلام على الحرص على الدنيا ، بأنّه خطب امرأة قد خطبها غيره حتّى قدّم عليه.

وثالثها : أنّه روي أنّ امرأة تقدّمت مع زوجها إليه في مخاصمة بينهما من غير محاكمة لكن على سبيل الوساطة ، وطال الكلام بينهما وتردّد ، فعرض داود عليه‌السلام للرجل بالنزول عن المرأة لا على سبيل الحكم لكن على سبيل التوسّط والاستصلاح ، كما يقول أحدنا لغيره : إذا كنت لا ترضى زوجتك هذه ولا تقوم بالواجب من نفقتها فانزل عنها ، فقدّر الرجل أنّ ذلك حكم منه لا تعريض ، فنزل عنها وتزوّجها داود عليه‌السلام ، فأتاه الملكان ينبّهانه على التقصير في ترك تبيين مراده للرجل ، وأنّه كان على سبيل العرض لا الحكم.

ورابعها : أنّ سبب ذلك أنّ داود عليه‌السلام كان متشاغلا بعبادته في محرابه ، فأتاه رجل وامرأة يتحاكمان ، فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها فيحكم لها أو عليها ، وذلك نظر مباح على هذا الوجه ، فمالت نفسه إليها ميل الخلقة والطباع ، ففصل بينهما وعاد إلى عبادته ، فشغله الفكر في أمرها وتعلّق القلب بها عن بعض نوافله الّتي كان وظفّها على نفسه فعوتب.

وخامسها : أنّ المعصية منه إنّما كانت بالعجلة في الحكم قبل التثبّت ، وقد كان يجب عليه لمّا سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عمّا عنده فيها ، ولا يقضي عليه قبل المسألة. ومن أجاب بهذا الجواب قال : إن الفزع من دخولهما عليه في غير وقت العادة نساه التثبّت والتحفّظ.

وكل هذه الوجوه لا يجوز على الأنبياء عليه‌السلام ؛ لأنّ فيها ما هو معصية ، وقد بيّنا أنّ المعاصي لا تجوز عليهم ، وفيها ما هو منفّر ، وإن لم يكن معصية ، مثل

٢٦٣

أن يخطب امرأة قد خطبها رجل من أصحابه فتقدّم عليه وتزوّجها ، ومثل التعريض بالنزول عن المرأة وهو لا يريد الحكم.

فأمّا الاشتغال عن النوافل فلا يجوز أن يقع عليه عتاب ؛ لأنّه ليس بمعصية ولا هو أيضا منفّر ، فأمّا من زعم أنّه عرض أوريا للقتل وقدّمه أمام التابوت عمدا حتّى يقتل ، فقوله أوضح فسادا من أن يتشاغل بردّه.

وقد روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انه قال : لا أوتي برجل يزعم أنّ داود عليه‌السلام تزوّج بامرأة أوريا إلّا جلّدته حدّين ، حدّا للنبوّة وحدّا للإسلام.

فأمّا أبو مسلم فإنّه قال : لا يمتنع أن يكون الداخلان على داود عليه‌السلام كانا خصمين من البشر ، وأن يكون ذكر النعاج محمولا على الحقيقة دون الكناية ، وإنّما ارتاع منهما لدخولهما من غير إذن وعلى غير مجرى العادة ، قال وليس في ظاهر التلاوة ما يقتضي أن يكونا ملكين.

وهذا الجواب يستغنى معه عما تأولنا به قولهما ، ودعوى أحدهما على صاحبه وذكر النعاج. والله تعالى أعلم بالصواب (١).

ـ (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣)) [ص : ٣٠ ـ ٣٣].

[فان قيل : ما معنى هذه الآية] أو ليس ظاهر هذه الآيات يدلّ على أنّ مشاهدة الخيل ألهاه وأشغله عن ذكر ربّه ، حتّى روي أنّ الصلاة فاتته ؛ وقيل : إنّها صلاة العصر ، ثمّ إنّه عرقب الخيل وقطع سوقها وأعناقها غيظا عليها ، وهذا كلّه فعل يقتضي ظاهره القبح.

الجواب : قلنا : أمّا ظاهر الآية فلا يدلّ على إضافة قبيح إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والرواية إذا كانت مخالفة لما تقتضيه الأدلّة لا يلتفت إليها لو كانت قوية صحيحة

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٢٦.

٢٦٤

ظاهرة ، فكيف إذا كانت ضعيفة واهية؟ والّذي يدلّ على ما ذكرناه على سبيل الجملة أنّ الله تعالى ابتدأ الآية بمدحه وتعريفه والثناء عليه ، فقال : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ، وليس يجوز أن يثني عليه بهذا الثناء ثمّ يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه ، وانّه تلهى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة والذي يقتضيه الظاهر أنّ حبّه للخيل وشغفه بها كان بإذن ربّه وبأمره وتذكيره إياه ؛ لأنّ الله تعالى قد أمرنا بإرباط الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء ، فلا ينكر أن يكون سليمان عليه‌السلام مأمورا بمثل ذلك. فقال : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) ، ليعلم من حضره أنّ اشتغاله بها وإستعداده لها لم يكن لهوا ولا لعبا ، وإنّما اتّبع فيه أمر الله تعالى وآثر طاعته.

وأمّا قوله : (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) ففيه وجهان :

أحدهما : أنّه أراد أنّي أحببت حبّا ثمّ أضاف الحبّ إلى الخير.

والوجه الآخر : أنّه أراد أحببت اتّخاذ الخير. فجعل بدل اتّخاذ الخير «حبّ الخير».

فأمّا قوله تعالى : (رُدُّوها عَلَيَ) فهو للخيل لا محالة على مذهب سائر أهل التفسير.

فأمّا قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ، فإنّ أبا مسلم محمد بن بحر وحده قال : إنّه عائد إلى الخيل دون الشمس ؛ لأنّ الشمس لم يجر لها ذكر في القصة. وقد جرى للخيل ذكر فردّه إليها أولى إذا كانت له محتملة.

وهذا التأويل يبرّىء النبي عليه‌السلام عن المعصية.

فأمّا من قال : إنّ قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) كناية عن الشمس ، فليس في ظاهر القرآن أيضا على هذا الوجه ما يدلّ على أنّ التواري كان سببا لفوت الصلاة ، ولا يمتنع أن يكون ذلك على سبيل الغاية لعرض الخيل عليه ثمّ استعادته لها.

فأمّا أبو عليّ الجبّائيّ وغيره ، فإنّه ذهب إلى أنّ الشمس لمّا توارت

٢٦٥

بالحجاب وغابت كان ذلك سببا لترك عبادة كان يتعبّد بها بالعشي ، وصلاة نافلة كان يصلّيها فنسيها شغلا بهذه الخيل وإعجابا بتقليبها ، فقال هذا القول على سبيل الاغتمام لما فاته من الطاعة.

وهذا الوجه أيضا لا يقتضي إضافة قبيح إليه عليه‌السلام ؛ لأنّ ترك النافلة ليس بقبيح ولا معصية.

وأمّا قوله تعالى : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) فقد قيل فيه وجوه :

منها : أنّه عرقبها ومسح أعناقها وسوقها بالسيف من حيث شغلته عن الطاعة ، ولم يكن ذلك على سبيل العقوبة لها ، لكن حتّى لا يتشاغل في المستقبل بها عن الطاعات ؛ لأنّ للانسان أن يذبح فرسه لأكل لحمها ، فكيف إذا انضاف إلى ذلك وجه آخر يحسنه.

وقد قيل : إنّه يجوز أن يكون لمّا كانت الخيل أعزّ ماله عليه أراد أن يكفّر عن تفريطه في النافلة فذبحها وتصدّق بلحمها على المساكين.

قالوا فلمّا رأى حسن الخيل راقته وأعجبته ، أراد أن يقترب إلى الله تعالى بالمعجب له الرائق في عينه ؛ ويشهد بصحة هذا المذهب قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (١) ، فأمّا أبو مسلم فإنّه ضعّف هذا الوجه وقال : لم يجر للسيف ذكر فيضاف إليه المسح ، ولا يسمّى العرب الضرب بالسيف والقطع به مسحا ، قال فإن ذهب ذاهب إلى قول الشاعر :

مدمن يجلو بأطراف الذّرى

دنس الأسوق بالعضب الأفل

فانّ هذا الشاعر يعني انّه عرقب الابل للأضياف فمسح بأسنمتها ما صار على سيفه من دنس عراقبها ، وهو الدّم الّذي أصابه منها ؛ وليس في الآية ما يوجب ذلك ولا ما يقاربه.

وليس الّذي أنكره أبو مسلم بمنكر ؛ لأنّ أكثر أهل التأويل ـ وفيهم من يشار

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٩٢.

٢٦٦

إليه في اللغة ـ روى أن المسح ههنا هو القطع ، وفي الاستعمال المعروف : «مسحه بالسيف» إذا قطعه وبتره ؛ والعرب تقول : «مسح علاوتها» أي : ضربها.

ومنها : أن يكون معنى مسحها هو أنّه أمرّ يده عليها ؛ صيانة لها وإكراما ، لما رأى من حسنها. فمن عادة من عرضت عليه الخيل أن يمرّ يده على أعرافها وأعناقها وقوائمها.

ومنها : أن يكون معنى المسح ههنا هو الغسل ، فإنّ العرب تسمّي الغسل مسحا ، فكأنّه لمّا رأى حسنها أراد صيانتها وإكرامها فغسل قوائمها وأعناقها ، وكلّ هذا واضح (١).

ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) [ص : ٣٤].

[فان قيل ما معنى هذه الآية] أو ليس قد روي في تفسير هذه الآية أنّ جنّيا ـ كان اسمه صخرا ـ تمثّل على صورته وجلس على سريره ، وأنّه أخذ خاتمه الّذي فيه النبوّة فألقاه في البحر ، فذهبت نبوّته وأنكره قومه حتّى عاد إليه من بطن السمكة.

الجواب : قلنا : أمّا ما رواه الجهّال في القصص في هذا الباب فليس ممّا يذهب على عاقل بطلانه ، وأنّ مثله لا يجوز على الأنبياء عليهم‌السلام ، وأنّ النبوّة لا تكون في خاتم ولا يسلبها النبي عليه‌السلام ولا ينزع عنه ، وانّ الله تعالى لا يمكّن الجنّي من التمثيل بصورة النبي عليه‌السلام ولا غير ذلك ممّا افتروا به على النبي عليه‌السلام ، وإنّما الكلام على ما يقتضيه ظاهر القرآن ، وليس في الظاهر أكثر من أن جسدا ألقي على كرسيه على سبيل الفتنة له وهي الاختبار والامتحان ، مثل قوله تعالى : (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣)) (٢) والكلام في ذلك الجسد [أنّه] ما هو؟ إنّما يرجع فيه إلى الرواية الصحيحة الّتي

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٣٣ وانظر أيضا المائدة : ٦ الأمر السابع الموضع الثاني.

(٢) سورة العنكبوت ، الآيات : ١ ـ ٣.

٢٦٧

لا تقتضي إضافة قبيح إليه تعالى ، وقد قيل في ذلك أشياء : منها : انّ سليمان عليه‌السلام قال يوما في مجلسه وفيه جمع كثير : «لأطوفنّ الليلة على مائة امرأة تلد كلّ امرأة منهنّ غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله» وكان له فيما روي عدد كثير من السراري ، فأخرج كلامه على سبيل المحبّة بهذا الحال ، فنزّهه الله تعالى عن الكلام الّذي ظاهره الحرص على الدنيا والتثبّت بها ؛ لئلا يقتدى به في ذلك ، فلم تحمل من نسائه إلّا امرأة واحدة فألقت ولدا ميتا ، فحمل حتّى وضع على كرسيّه جسدا بلا روح ؛ تنبيها له على أنّه ما كان يجب بأن يظهر منه ما ظهر ، فاستغفر ربّه وفزع إلى الصلاة والدعاء.

وهذا الوجه إذا صحّ ليس يقتضي معصية صغيرة على ما ظنّه بعضهم حتّى نسب الاستغفار والإنابة إلى ذلك ؛ وذلك لأنّ محبّة الدنيا على الوجه المباح ليس بذنب وإن كان غيره أولى منه ، والاستغفار عقيب هذا الحال لا يدلّ على وقوع ذنب في الحال ولا قبلها ، بل يكون محمولا على ما ذكرناه آنفا في قصة داود عليه‌السلام من الانقطاع إلى الله تعالى وطلب ثوابه.

فأمّا قول بعضهم : إنّ ذنبه من حيث لم يستثن بمشيئة الله تعالى لما قال : «تلد كلّ امرأة واحدة منهنّ غلاما» وهذا غلط ؛ لأنّه عليه‌السلام وإن لم يستثن ذلك لفظا قد استثناه ضميرا واعتقادا ؛ إذ لو كان قاطعا مطلقا للقول لكان كاذبا أو مطلقا لما لا يأمن أن يكون كذبا ، وذلك لا يجوز عند من جوّز الصغائر على الأنبياء عليهم‌السلام.

وأمّا قول بعضهم : إنّه عليه‌السلام إنّما عوتب واستغفر لأجل أنّ فريقين اختصما إليه ، أحدهما من أهل جرادة امرأة له كان يحبّها ، فأحبّ أن يقع القضاء لأهلها فحكم بين الفريقين بالحقّ ، وعوتب على محبّة موافقة الحكم لأهل امرأته ، فليس هذا أيضا بشيء ؛ لأنّ هذا المقدار الّذي ذكروه ليس بذنب يقتضي عتابا إذا كان لم يرد القضاء بما يوافق امرأته على كلّ حال ، بل مال طبعه إلى أن يكون الحقّ موافقا لقول فريقها ، وإن يتفق أن يكون في جهتها من غير أن يقتضي ذلك ميلا منه إلى الحكم أو عدولا عن الواجب.

٢٦٨

ومنها : أنّه روي عن الجنّ لمّا ولد لسليمان عليه‌السلام ولد قالوا : «لنلقين من ولده مثل ما لقينا من أبيه» ، فلمّا ولد له غلام أشفق عليه منهم فاسترضعه في المزن وهو السحاب فلم يشعر إلّا وقد وضع على كرسيه ميّتا تنبيها له على أن الحذر لا ينقطع مع القدر.

ومنها : أنّهم ذكروا أنّه كان لسليمان عليه‌السلام ولد شاب ذكيّ وكان يحبّه حبّا شديدا فأماته الله تعالى على بساطه فجأة بلا مرض إختبارا من الله تعالى لسليمان عليه‌السلام وابتلاء لصبره في إماتة ولده ، وألقى جسده على كرسيّه ، وقيل : إنّ الله جلّ ثنائه أماته في حجره وهو على كرسيّه فوضعه من حجره عليه.

ومنها : ما ذكره أبو مسلم ، فإنّه قال : جائز أن يكون الجسد المذكور هو جسد سليمان عليه‌السلام وأن يكون ذلك لمرض امتحنه تعالى به وتلخيص الكلام : «ولقد فتنا سليمان وألقينا منه على كرسيّه جسدا» وذلك لشدّة المرض. والعرب تقول في الإنسان إذا كان ضعيفا : «إنّه لحم على وضم». كما يقولون : «إنّه جسد بلا روح» تغليظا للعلّة ومبالغة في فرط الضعف. (ثُمَّ أَنابَ) أي رجع إلى حال الصحّة ، واستشهد على الاختصار والحذف في الآية بقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١) ولو أتي بالكلام على شرحه لقال : يقول الذين كفروا منهم ، أي من المجادلين ، كما قال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) إلى قوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢).

وقال الأعشى في معنى الاختصار والحذف :

وكأنّ السّموط علّقها السّل

ك بعطفي جيداء أمّ غزال

ولو أتي بالشرح لقال : علّقها السلك منها.

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٢٥.

(٢) سورة الفتح ، الآية : ٢٩. استشهد بها لعدم الاختصار والحذف في قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ).

٢٦٩

وقال كعب بن زهير :

زالوا فما زال انعكاس ولا كشف

عند اللقاء ولا ميل معازيل

وإنّما أراد : فما زال منهم انعكاس ولا كشف. وشواهد هذا المعنى كثيرة (١).

ـ (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [ص : ٣٥].

[فإن قيل : فما معنى قول سليمان عليه‌السلام في هذه الآية] أو ليس ظاهر هذا القول منه عليه‌السلام يقتضي الشحّ والظنّ والمنافة لأنّه لم يقنع بمسألة الملك حتّى أضاف إلى ذلك أن يمنع غيره منه؟

الجواب : قلنا : قد ثبت أنّ الأنبياء عليهم‌السلام لا يسألون إلّا ما يؤذن لهم في مسألته ، لا سيّما إذا كانت المسألة ظاهرة يعرفها قومهم. وجائز أن يكون الله تعالى أعلم سليمان عليه‌السلام أنّه إن سأل ملكا لا يكون لغيره كان أصلح له في الدين والاستكثار من الطاعات ، وأعلمه أنّ غيره لو سأل ذلك لم يجب إليه من حيث لا صلاح له فيه. ولو أنّ أحدنا صرّح في دعائه بهذا الشرط حتّى يقول : «اللهم اجعلني أيسر أهل زماني وارزقني مالا يساويني فيه غيري إذا علمت أنّ ذلك أصلح لي وأنّه أدعى إلى ما تريده مني» ، لكان هذا الدعاء منه حسنا جميلا ، وهو غير منسوب به إلى بخل ولا شحّ. وليس يمتنع أن يسأل النبيّ هذه المسألة من غير إذن إذا لم يكن شرط ذلك بحضرة قومه ، بعد أن يكون هذا الشرط مرادا فيها ، وإن لم يكن منطوقا به ، وعلى هذا الجواب اعتمد أبو عليّ الجبّائيّ.

ووجه آخر : وهو أن يكون عليه‌السلام إنّما التمس أن يكون ملكه آية لنبوّته ليتبّين بها عن غيره ممّن ليس نبيّا ؛ وقوله : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ، أراد به لا ينبغي لأحد غيري ممّن أنا مبعوث إليه ، ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيّين عليه‌السلام ؛ ونظير ذلك أنّك تقول للرجل : «أنا أطيعك ثمّ لا أطيع أحدا

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٣٦.

٢٧٠

بعدك» ، تريد ولا أطيع أحدا سواك. ولا تريد بلفظة «بعد» المستقبل ، وهذا وجه قريب.

وقد ذكر أيضا في هذه الآية وممّا لم يذكر فيها ممّا يحتمله الكلام ، أن يكون عليه‌السلام إنّما سأل ملك الآخرة وثواب الجنّة الّتي لا يناله المستحقّ إلّا بعد انقطاع التكليف وزوال المحنة ، فمعنى قوله : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي لا يستحقّه بعد وصولي إليه أحد من حيث لا يصحّ أن يعمل ما يستحقّ به لانقطاع التكليف ؛ ويقوّي هذا الجواب قوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي) وهو من أحكام الآخرة.

وليس لأحد أن يقول : إنّ ظاهر الكلام بخلاف ما تأوّلتم ؛ لأنّ لفظة (بَعْدِي) لا يفهم منها بعد وصولي إلى الثواب ؛ وذلك أن الظاهر غير مانع من التأويل الّذي ذكرناه ، ولا مناف له ؛ لأنّه لا بدّ من أن تعلّق لفظة (بَعْدِي) بشيء من أحواله المتعلقة به ، وإذا علّقناها بوصوله إلى الملك كان ذلك في الفايدة ومطابقة الكلام كغيره ممّا يذكر في هذا الباب. ألا ترى أنّا إذا حملنا لفظة «بعدي» على نبوتي أو بعد مسألتي أو ملكي ، كان ذلك كلّه في حصول الفايدة به يجري مجرى أن تحملها إلى بعد وصولي إلى الملك ؛ فإنّ ذلك ممّا يقال فيه أيضا : «بعدي»؟ ألا ترى أنّ القائل يقول : «دخلت الدار بعدي» و «وصلت إلى كذا وكذا بعدي» ، وإنّما يريد بعد دخولي وبعد وصولي؟ وهذا واضح بحمد الله (١).

ـ (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) [ص : ٤١].

فإن قيل : فما قولكم في الأمراض والمحن الّتي لحقت أيّوب عليه‌السلام أو ليس قد نطق القرآن بأنّها كانت جزاء على ذنب في قوله : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) والعذاب لا يكون إلّا جزاء كالعقاب ، والآلام الواقعة على سبيل الامتحان لا تسمّى عذابا ولا عقابا ، أو ليس قد روى جميع المفسرين أنّ الله تعالى إنّما عاقبه بذلك البلاء لتركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقصّته مشهورة يطول شرحها؟

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٣٩.

٢٧١

الجواب : قلنا : أمّا ظاهر القرآن فليس يدلّ على أنّ أيوب عليه‌السلام عوقب بما نزل به من المضارّ ، وليس في ظاهره شيء مما ظنّه السائل ؛ لأنّه تعالى قال : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) (١) والنصب هو التعب ، وفيه لغتان : بفتح النون والصاد ، وضمّ النون وتسكين الصاد. والتعب هو المضرّة الّتي لا تختصّ بالعقاب ، وقد تكون على سبيل الامتحان والاختبار.

وأمّا العذاب فهو أيضا يجري مجرى المضارّ الّتي [لا] يختصّ إطلاق ذكرها بجهة دون جهة. ولهذا يقال للظالم والمبتدىء بالظلم : إنّه معذّب ومضرّ ومؤلم ، وربّما قيل : معاقب على سبيل المجاز. وليست لفظة العذاب بجارية مجرى لفظة العقاب ؛ لأنّ لفظة العقاب يقتضي ظاهرها الجزاء ؛ لأنّها من التعقيب والمعاقبة ، ولفظة العذاب ليست كذلك ، فأمّا إضافته ذلك إلى الشيطان ـ وإنّما ابتلاه الله به ـ فله وجه صحيح ؛ لأنّه لم يضف المرض والسقم إلى الشيطان ، وإنّما أضاف إليه ما كان يستضرّ به من وسوسته ويتعب به من تذكيره له ما كان فيه من النعم والعافية والرخاء ، ودعائه له إلى التضجّر والتبرّم مما هو عليه ، ولأنّه كان أيضا يوسوس إلى قومه بأن يستقذروه ويتجنّبوه ويستخفّوه لما كان عليه من الأمراض الشنيعة المنتنة ، ويخرجوه من بينهم. وكلّ هذا ضرر من جهة اللعين إبليس ، وقد روي أنّ زوجته عليه‌السلام كانت تخدم الناس في منازلهم وتصير إليه بما يأكله ويشربه ، وكان الشيطان لعنه الله تعالى يلقي إليهم انّ داءه عليه‌السلام يعدّي ، ويحسّن إليهم تجنّب خدمة زوجته من حيث كانت تباشر قروحه وتمسّ جسده ، وهذه مضارّ لا شبهة فيها.

وأما قوله تعالى في سورة الأنبياء : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)) (٢) فلا ظاهر لها أيضا يقتضي ما ذكروه ؛ لأنّ الضرّ هو الضرر الّذي قد يكون محنة كما يكون عقوبة.

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٤١.

(٢) سورة الأنبياء ، الآيتان : ٨٣ ، ٨٤.

٢٧٢

فأمّا ما روي في هذا الباب عن جهلة المفسّرين فممّا لا يلتفت إلى مثله ؛ لأنّ هؤلاء لا يزالون يضيفون إلى ربّهم تعالى وإلى رسله عليهم‌السلام كل قبيح ومنكر ، ويقذفونهم بكلّ عظيم. وفي روايتهم هذه السخيفة ما إذا تأمّله المتأمّل علم أنّه موضوع باطل مصنوع ؛ لأنّهم رووا أن الله تعالى سلّط إبليس على مال أيوب عليه‌السلام وغنمه وأهله ، فلمّا أهلكهم ودمّر عليهم ورأى من صبره عليه‌السلام وتماسكه ، قال إبليس لربّه : يا ربّ ، إنّ أيّوب قد علم أنّك ستخلف عليه ماله وولده فسلّطني على جسده ، فقال تعالى : سلّطتك على جسده كلّه إلّا قلبه وبصره ، قال : فأتاه فنفخه من لدن قرنه إلى قدمه فصار قرحة واحدة ، فقذف على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف الدوابّ على جسده ، إلى شرح طويل نصون كتابنا عن ذكر تفصيله ، فمن يقبل عقله هذا الجهل والكفر كيف يوثّق روايته ، ومن لا يعلم أنّ الله تعالى لا يسلّط إبليس على خلقه ، وأنّ إبليس لا يقدر على أن يقرح الأجساد ولا [أن] يفعل الأمراض كيف يعتمد روايته؟.

فأمّا هذه الأمراض العظيمة النازلة بأيّوب عليه‌السلام فلم تكن إلّا اختبارا وامتحانا وتعريضا للثواب بالصبر عليها والعوض العظيم النفيس في مقابلتها ، وهذه سنّة الله تعالى في أصفيائه وأوليائه عليهم‌السلام ، فقد روي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : ـ وقد سئل أيّ الناس أشدّ بلاء ـ فقال : «الأنبياء ثمّ الصالحون ثمّ الأمثل فالأمثل من الناس» فظهر من صبره عليه‌السلام على محنته وتماسكه ما صار به إلى الآن مثلا ، حتّى روي أنّه كان في خلال ذلك كلّه صابرا شاكرا محتسبا ناطقا بما له فيه المنفعة والفايدة ، وأنّه ما سمعت له شكوى ولا تفوّه بتضجر ولا تبرّم ، فعوّضه الله تعالى مع نعيم الآخرة العظيم الدائم أن ردّ عليه ماله وأهله وضاعف عددهم في قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) (١) وفي سورة «ص» : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) (٢) ، ثمّ مسح ما به من العلل وشفاه وعافاه وأمره على ما وردت به الرواية ، بأن أركض برجلك الأرض فظهرت له عين فاغتسل

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٨٤.

(٢) سورة ص ، الآية : ٤٣.

٢٧٣

منها فتساقط ما كان على جسده من الداء. قال الله تعالى : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) (١) والركض هو التحريك ومنه ركضت الدابة.

فإن قيل ، أفتصحّحون ما روي أنّ الجذام أصابه حتّى تساقطت أعضاؤه؟

قلنا : إنّ العمل المستقذرة الّتي ينفر من رآها وتوحشه كالبرص والجذام ، فلا يجوز شيء منها على الأنبياء عليهم‌السلام لما تقدّم ذكره في صدر هذا الكتاب ؛ لأنّ النفور ليس بواقف على الأمور القبيحة ، بل قد يكون من الحسن والقبيح معا. وليس ينكر أن يكون أمراض ايوب عليه‌السلام وأوجاعه ومحنته في جسمه ثم في أهله وماله بلغت مبلغا عظيما يزيد في الغمّ والألم على ما ينال المجذوم ، وليس ننكر تزايد الألم فيه عليه‌السلام ، وإنّما ننكر ما اقتضى التنفير.

فإن قيل : أفتقولون : إنّ الغرض ممّا ابتلي به أيوب عليه‌السلام كان الثواب أو العوض أو هما على الاجتماع؟

وهل يجوز أن يكون ما في هذه الآلام من المصلحة واللطف حاصلا في غيرها ممّا ليس بألم أم تمنعون من ذلك؟

قلنا : أمّا الآلام الّتي يفعلها الله تعالى لا على سبيل العقوبة فليس يجوز أن يكون غرضه عزوجل فيها العوض من حيث كان قادرا على أن يبتدي بمثل العوض ، بل الغرض فيها المصلحة وما يؤدّي إلى استحقاق الثواب ، فالعوض تابع والمصلحة أصل ، وإنّما يخرج بالعوض من أن يكون ظلما وبالغرض من أن يكون عبثا.

فأمّا الألم ، إذا كان فيه مصلحة ولطف ، وهناك في المعلوم ما يقوم مقامه فيهما ، إلّا أنّه ليس بألم ، إمّا بأن يكون لذّة أو ليس بألم ولا لذّة ، ففي الناس من ذهب إلى أن الألم لا يحسن في هذا الموضع ، وإنّما يحسن بحيث لا يقوم مقامه ما ليس بألم في المصلحة ، والصحيح انّه حسن ، والله تعالى مخيّر في فعل أيّهما شاء ، والدليل على صحّة ما ذكرناه أنّه لو قبح ـ والحال هذه ـ لم يخل من أن

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٤٢.

٢٧٤

يكون إنّما قبح من حيث كان ظلما أو من حيث كان عبثا. ومعلوم أنّه ليس بظلم ؛ لأنّ العوض الزايد العظيم الّذي يحصل عليه يخرجه من كونه ظلما. وليس أيضا بعبث ؛ لأنّ العبث هو ما لا غرض فيه ، أو ما ليس فيه غرض مثله. وهذا الألم فيه غرض عظيم جليل ، وهو الّذي تقدّم بيانه. ولو كان هذا الغرض غير كاف فيه ولا يخرجه من العبث لما أخرجه من ذلك إذا لم يكن هناك ما يقوم مقامه ، وليس لهم أن يقولوا : إنّه إنّما قبح وصار عبثا من حيث كان هناك ما يغني عنه ؛ لأنّ ذلك يؤدي إلى أنّ كلّ فعلين ألمين كانا أو لذّتين ، أو ليسا بألمين ولا لذّتين ، أو أفعال تساوت في وجه المصلحة ، يقبح فعل كل واحد منهما ؛ لأنّ العلّة الّتي ادّعيت حاصلة. وليس له أن يقول : إنّ الألم إنّما يقبح إذا كان فيه من المصلحة ، مثل ما في فعل هو لذّة من حيث كان يغني عنه ما ليس بألم ، وذلك أنّ العوض الّذي في مقابلته يخرجه من كونه ضررا ويدخله في أن يكون نفعا ، ويجريه على أقلّ الأحوال مجرى ما ليس بضرر ، فقد عاد الأمر إلى أنّ الألم بالعوض قد ساوى ما ليس بألم وحصل فيه من الغرض المودّي إلى المصلحة مثل ما فيه ، فيجب أن يكون مخيّرا في الاستصلاح بأيّهما شاء.

فإن قيل : ما أنكرتم أيكون الفرق بين الأمرين أنّ اللذّة قد يحسن أن يفعل بمجرد كونها لذّة ، ولا يفتقر في حسن فعلها إلى أمر زايد ، والألم ليس كذلك ، فإنّه لا يحسن أن يكون مجرّدا ولا بدّ من أمر زايد يجعله حسنا.

قلنا : هذا فرق بين الأمرين في غير الموضع الّذي جمعنا بينهما فيه ؛ لأنّ غرضنا إنّما كان في التسوية بين الألم واللذة إذا كان كل واحد منهما مثل [ما] في صاحبه من المصلحة ، وأن يحكم بصحّة التخيير في الاستصلاح بكل واحد منهما ، وإن كنّا لا ننكر أنّ بينهما فرقا من حيث كان أحدهما نفعا يجوز الابتداء به واستحقاق الشكر عليه ، والآخر ليس كذلك ، إلّا انّ هذا الوجه وإن لم يكن في الألم ، فليس يقتضي قبحه ، ووجوب فعل اللّذة. ألا ترى أنّ اللّذة قد يساويها في المصلحة فعل ما ليس بألم ولا لذّة ، فيكون المكلّف تعالى مخيّرا في الاستصلاح بأيّهما شاء ، وإن كان يجوز ويحسن أن يفعل اللّذة بمجردها من غير

٢٧٥

عوض زائد ، ولا يحسن ذلك الفعل الآخر الّذي جعلناه في مقابلتها متى تجرّد ، وإنّما يحسن لغرض زائد ولم يخرجهما اختلافهما في هذا الوجه من تساويهما فيما ذكرناه من الحكم. وإذا كانت اللّذة قد تساوي في الحكم الّذي ذكرناه من التخيير في الاستصلاح ما ليس بلذّة ، وبيّنا أنّ العوض قد أخرج الألم من كونه ضررا ، وجعله بمنزلة ما ليس بألم ، فقد بان صحّة ما ذكرناه ؛ لأنّ التخيير بين اللذة وما ليس بلذة ولا ألم ، إذا حسن متى اجتمعا في المصلحة. فكذلك يحسن التخيير بين اللذة وما جرى مجرى ما ليس بألم ولا ضرر من الألم الّذي يقابله المنافع ، وليس بعد هذا إلّا قول من يوجب فعل اللّذة لكونها نفعا ، وهذا مذهب ظاهر البطلان لا حاجة بنا إلى الكلام عليه في هذا الموضع.

فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الاستصلاح بالألم إذا كان هناك ما يستصلح به وليس بألم ، يجري في القبيح والعبث مجرى من بذل المال لمن يحتمّل عنه ضرب المقارع ، ولا غرض له إلّا إيصال المال في انّ ذلك عبث قبيح؟.

قلنا : أمّا قبح ما ذكرته فالوجه فيه غير ما ظننته من أنّ هناك ما يقوم مقامه في الغرض ؛ لأنّا قد بيّنا أنّ ذلك لو كان هو وجه القبح لكان كلّ فعل فيه غرض يقوم غيره فيه مقامه عبثا وقبيحا ، وقد علمنا خلاف ذلك ، وإنّما قبح بذل المال لمن يتحمّل الضرب ـ والغرض إيصال المال إليه ـ من حيث حسن أن يبتدىء بدفع المال الذي هو الغرض من غير تكلّف الضرب ، فصار عبثا وقبيحا من هذا الوجه وليس يمكن مثل ذلك في الألم إذا قابله ما ليس بألم ؛ لأنّ ما فيه من الغرض لا يمكن الابتداء به (١).

ـ (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) [ص : ٤٤].

ممّا عاب به النظام أمير المؤمنين عليه‌السلام من الأحكام الّتي ادعى انه خالف فيها جميع الأمّة ، جلد الوليد بن عقبة أربعين سوطا في خلافة عثمان.

[الجواب :] أمّا جلد الوليد بن عقبة أربعين سوطا ؛ فإن المروي أنه عليه‌السلام

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٩٠.

٢٧٦

جلده بنسعة لها رأسان فكان الحدّ ثمانين كاملة (١) ، وهذا مأخوذ من قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) (٢)

ـ (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) [ص : ٧٥].

[إن سأل سائل] فقال : كيف أضاف إلى نفسه اليد ؛ وهو ممّن يتعالى عن الجوارح؟

الجواب : قلنا في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن يكون قوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) جاريا مجرى قوله : «لما خلقت أنا» ، وذلك مشهور في لغة العرب ، يقول أحدهم : هذا ما كسبت يداك ؛ وما جرّت عليك يداك ؛ هذا كقوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (٣) وقوله تعالى : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (٤) أي بملكه وقدرته ، كما قال تعالى : (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) (٥). وقولهم «فلان يطأ جاريته بملك اليمين» وإنّما يضيفون

__________________

(١) محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن عليّ بن الحكم ، عن موسى بن بكر ، عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : إنّ الوليد بن عقبة حين شهد عليه بشرب الخمر قال عثمان لعليّ عليه‌السلام : اقض بينه وبين هؤلاء الّذين زعموا أنه شرب الخمر ، فأمر عليّ عليه‌السلام بسوط له شعبتان أربعين جلدة. وسائل الشيعة [١٨ : ٤٧٠].

(٢) روى عن ابن عبّاس أن امرأة أيّوب قال لها إبليس إن شفيته تقولين لي أنت شفيته فأخبرت بذلك أيّوب فقال ان شفاني الله ضربتك مائة سوط فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها ضربة واحدة قال عطاء وهي للناس عامة ، وحدّثنا عبد الله بن محمّد بن إسحاق قال حدّثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبد الرزّاق قال أخبرنا معمّر عن قتادة في قوله وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث فأخذ عودا فيه تسعة وتسعون عودا والأصل تمام المائة فضرب به امرأته وذلك أن امرأته أرادها الشيطان على بعض الأمر فقال لها قولي لزوجك يقول كذا وكذا فقالت له قل كذا وكذا فحلف حينئذ أن يضربها تحلة ليمينه وتخفيفا على امرأته قال أبو بكر وفي هذه الآية دلالة على أن من حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط فجمعها كلّها وضربه ضربة واحدة أنه يبر في يمينه إذا أصابه جميعها لقوله تعالى وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث والضغث هو ملء الكف من الخشب أو السياط أو الشماريخ ونحو ذلك فأخبر الله تعالى أنه إذا فعل ذلك فقد برّ في يمينه. أحكام القرآن (للجصّاص) ، ٥ : ١٥٩.

(٣) سورة الحجّ ، الآية : ١٠.

(٤) سورة الزمر ، الآية : ٦٧.

(٥) سورة النور ، الآية : ٣٣.

٢٧٧

كلّ ذلك إلى اليمين تفخيما للأمر وتأكيدا للملك ؛ لأنّ اليمين أشرف من غيرها وأقوى حظا ، ويقرب من ذلك في المعنى قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١) لأن فائدته انه يصرفها ويدبّرها كيف شاء ، وقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٢) معناه انه أقوى منهم واقهر (٣). فإذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضّرب من الكلام فيقولون : فلان لا تمشي قدمه ، ولا ينطق لسانه ، ولا تكتب يده ؛ وكذلك في الإثبات ، ولا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة ؛ بل الفائدة فيه النفي عن الفاعل.

وثانيها : أن يكون معنى اليد هاهنا النعمة ، ولا إشكال في أن أحد محتملات لفظة اليد النعمة.

فأمّا الوجه في تثنيتها فقد قيل فيه : إنّ المراد نعمة الدنيا ونعمة الآخرة ، فكأنّه تعالى قال : ما منعك أن تسجد لما خلقت لنعمتي ؛ وأراد بالباء اللام.

وثالثها : أن يكون معنى اليد هاهنا القدرة ؛ وذلك أيضا معروف من محتملات هذه اللفظة ؛ بقول القائل : ما لي بهذا الأمر من يد ولا يدان ، وما يجري مجرى ذلك ؛ والمعنى : أنّني لا أقدر عليه ولا أطيقه ؛ وليس المراد بذلك إثبات قدرة على الحقيقة ؛ بل إثبات كون القادر قادرا ، ونفي كونه قادرا ، فكأنّه تعالى قال : ما منعك أن تسجد لما خلقت وأنا قادر على خلقه ؛ فعبّر عن كونه قادرا بلفظ اليد الذي هو عبارة عن القدرة ؛ وكلّ ذلك واضح في تأويل الآية (٤).

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٦٧.

(٢) سورة فتح ، الآية : ١٠.

(٣) الملخّص ، ٢ : ٢٢٤.

(٤) الأمالي ، ١ : ٥٣٢.

٢٧٨

سورة الزّمر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ...) [الزمر : ٣]

أنظر الفاتحة من الرسائل ، ٣ : ٢٨٧ ، ٢٩٦.

ـ (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ...) [الزمر : ٧].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر : ٢٨].

أنظر البقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

ـ (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠]

أنظر الصافات : ٨٨ ، ٨٩ من التنزيه : ٤٥.

ـ (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الزمر : ٤٢]

[فيها أمران :

الأول :] أمّا قول الآمدي : إن نفس الإنسان هي الّتي تجتمع وتلتقي لها ما تتمثّله في يقظة أو في نوم ، وان نفس الإنسان هي الّتي تنام ، واستشهاده بالآية ممّا كان ينبغي له أن لا يخوض فيه و [أ] لا يدخل نفسه في مثله ؛ فإنّه ليس من عمله ، ولا ممّا له به علم ولا معرفة ؛ وترك الإنسان الدخول فيما لا يعرفه استر عليه.

٢٧٩

والنفس عبارة في اللغة العربية عن أشياء كثيرة :

منها : الدم ، ولذلك قالوا : «ما لا نفس له سائلة» وسميت النفساء بهذا الاسم لأجل الدم.

ويعبّر بالنفس عن الذات ؛ يقال : فعلت ذلك بنفسي ؛ وجاء زيد نفسه ؛ ونفسي تتوق إلى كذا وكذا ، أي : أنا تائق إليه.

والّذي تهذي به الفلاسفة من أن النفس جوهر بسيط ، وينسبون الأفعال إليها ، ممّا لا محصول له. وقد بينا فساده في مواضع كثيرة من كتبنا ودللنا على أن الفاعل المميّز الحي الناطق هو الإنسان الّذي هو هذا الشخص المشاهد دون جزء فيه أو جوهر بسيط يتعلّق به وليس هذا موضع بيان ذلك والكلام فيه.

فقول الآمدي : إنّ النفس هي الّتي ترى في اليقظة والنوم ؛ وهي الّتي تنام في الحقيقة ، خطأ منه فاحش ؛ لانه قد أضاف أفعال الحيّ الّذي هو الإنسان المشاهد إلى غيره ، والّذي ينام على الحقيقة ويستيقظ هو الحيّ الّذي هو الإنسان المشاهد.

فأمّا قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) ، فمعناه الصحيح : أن الله تعالى هو الّذي يقبض ويجمع حركات الاحياء ، ويصرفهم في وقت موتهم ؛ وعبّر بالنفوس عن ذوات الاحياء ؛ لأن تصرّف الحيّ مع النوم وحركته تنقبض وتقل ، كما تنقبض حركته مع الموت ، وان كان النائم حيّا ، والميّت فاقد لحياته. ثمّ قال تعالى : (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) ، أي : يستمرّ منعها عن جميع التصرّف والأفعال (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، أي : يعيد النائم في أحوال اليقظة إلى ما كان عليه من التصرّف (١).

[الثاني :] مسألة في المنامات صحيحة هي أم باطلة؟ ومن فعل من هي؟ ومن أي جنس هي؟ وما وجه صحّتها في الأكثر؟ وما وجه الانزال عند رؤية

__________________

(١) طيف الخيال : ٥٠ ، ٥١ ، ٥٢.

٢٨٠