تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

وأجاب [القاضي] عن ذلك : «بأن الموضع كان ملكا لعائشة وهي حجرتها التي كانت معروفة بها» قال : «وقد بيّنا أن هذه الحجر كانت أملاكا لنساء الرسول ، وأن القرآن ينطق بذلك [في قوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ)] وذكر أن عمر استأذن عائشة في أن يدفن في ذلك الموضع حتى قال : إن لم تأذن فادفنوني في البقيع ، وعلى هذا الوجه يحمل ما روي عن الحسن عليه‌السلام أنه لما مات أوصى أن يدفن إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن لم يترك ففي البقيع ، فلما كان من مروان وسعيد بن العاص ما كان دفن بالبقيع ، وإنّما أوصى بذلك بإذن عائشة ، ويجوز أن يكون علم من عائشة أنّها جعلت الموضع في حكم الوقف فاستباحوا ذلك لهذا الوجه ، قال : وفي دفنه عليه‌السلام في ذلك ما يدل على فضل أبي بكر ؛ لأنّه عليه‌السلام لما مات اختلفوا في موضع دفنه وكثر القول حتى روى أبو بكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ما يدلّ على أن الأنبياء إذا ماتوا دفنوا حيث ماتوا فزال الخلاف في ذلك» (١).

[قال السيّد :] يقال له : ليس يخلو موضع قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أن يكون باقيا على ملكه أو يكون انتقل في حياته إلى عائشة على ما ادّعاه ، فإن كان الأول لم يخل من أن يكون ميراثا بعده أو صدقة ، فإن كان ميراثا فما كان يحل لأبي بكر ولا لعمر من بعده أن يأمرا بدفنهما فيه إلّا بعد إرضاء الورثة الذين هم على مذهبنا فاطمة عليه‌السلام وجماعة الأزواج ، وعلى مذهبهم هؤلاء والعبّاس ، ولم نجد واحدا منهما خاطب أحدا من هؤلاء الورثة عن ابتياع هذا المكان ، ولا استنزله عنه بثمن ولا غيره ، وإن كان صدقة فقد كان يجب أن يرضى عنه جماعة المسلمين وابتياعه منهم ، هذا إن جاز الابتياع لما يجري هذا المجرى ، وإن كان انتقل في حياته فقد كان يجب أن يظهر سبب انتقاله والحجة فيه ؛ فإن فاطمة عليها‌السلام لم يقنع منها في انتقال فدك إلى ملكها بقولها ولا شهادة من شهد لها ، فأما تعلّقه بإضافة البيوت إلى ملكهن بقوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) فمن

__________________

(١) المغني ، ٢٠ : ٣٥٦.

٢٢١

ضعيف الشبهة ؛ لأنا قد بيّنا فيما مضى أن هذه الإضافة لا تقتضي الملك وإنّما تقتضي السكنى ، والعادة في استعمال هذه اللفظة فيما ذكرناه ظاهرة قال الله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ولم يرد تعالى إلّا حيث يسكنّ وينزلنّ دون حيث يملكن بلا شبهة ، وأطرف من كلّ شيء تقدم قوله : «إن الحسن عليه‌السلام استأذن عائشة في أن يدفن في البيت حتّى منعه مروان وسعيد بن العاص» ؛ لأن هذه مكابرة منه ظاهرة ؛ فإن المانع للحسن من ذلك لم يكن إلّا عائشة ولعلّ من ذكر من مروان وسعيد وغيرهما أعانها ، واتبع في ذلك أمرها ، وروي أنّها خرجت في ذلك اليوم على بغل حتى قال ابن عبّاس : «يوما على بغل ويوما على جمل» فكيف تأذن عائشة وهي في ذلك مالكة للموضع على قولهم ، ويمنع منه مروان وغيره ممن لا ملك له في الموضع ، ولا شركة ولا يد ، وهذا من قبيح ما يرتكب ، وأي فضل لأبي بكر في روايته عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث الدفن ، وعملهم بقوله إن صح ، فمن مذهب صاحب الكتاب وأصحابه العمل بخبر الواحد العدل في أحكام الدين العظيمة ، فكيف لا يعمل بقول أبي بكر في الدفن ، وهم يعملون بقول من هو دونه فيما هو أعظم من ذلك وهذا بيّن (١).

[الثالث : ربّما تعلقوا بقوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) إلى آخر الآية وقالوا :] إن ذلك يدل على عصمتهم ، وبعدهم من الضلال والخطأ ، فإذا صحّ ذلك فيجب أن يكون الإمام فيهم دون غيرهم ممن لم يثبت له العصمة ثمّ قال : «وهذا أبعد ممّا تقدّم ؛ لأنّه إنّما يدلّ على أنه جلّ وعزّ يريد أن يطهرهم ويذهب الرجس عنهم ، ولا يدلّ على أن ما أراده ثابت فيهم ، فكيف يستدلّ بالظاهر على ما ادّعوه فقد صحّ أن الله تعالى يريد تطهير كل المؤمنين (٢) وإزالة الرجس عنهم ؛ لأنّه متى لم نقل بذلك أدى إلى أنه تعالى يريد خلاف التطهير بالمؤمنين وبعد فليس يخلو من

__________________

(١) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٤ : ١٧٠.

(٢) في المغني «أن يطهر كلّ مؤمن».

٢٢٢

أن يريد بذلك المدح والتعظيم ، أو يريد به الأفعال التي يصير بها طاهرا زاكيا ، فإن أريد الأول فكل المؤمنين فيه شرع سواء ، وإن أريد الثاني فكل المكلّفين (١) يتفقون فيه ، وأكثر ما تدلّ الآية عليه أن لأهل البيت مزية في باب الألطاف ، وما يجري مجراها ، فلذلك خصّهم بهذا الذكر ، ولا مدخل للإمامة فيه ، ولو دلّ على الإمامة لم يدلّ على واحد دون آخر بعينه ، ولاحتيج في التعليل إلى دلالة مبتدأة ، ولكانت كافية مغنية عن هذه الجملة ، ولأن الكلام يتضمن إثبات حال لأهل البيت ولا يدلّ على أن غيرهم في ذلك بخلافهم (٢) ، وكذلك القول فيما تقدم ؛ لأنه إذا قال في عترته إن من تمسّك بها لم يضل ، وإنها لا تفارق الكتاب ، فإنما يدلّ ذلك على إثبات هذا الحكم لها ولا يدلّ على نفيه عن غيرها (٣) فقد يجوز في غيرها أن يكون محقّا ولمن تمسّك به هاديا ، ...» (٤).

يقال له : هذه الآية تدلّ على عصمة أهل البيت المختصين بها عليهم‌السلام ، وعلى أن أقوالهم حجّة ، ثمّ تدلّ من بعد على إمامة أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم‌السلام بضرب من الترتيب ، فأمّا وجه دلالتها على العصمة ، فهو ان قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) لا يخلو من أن يكون معناه الإرادة المحضة التي لم يتبعها الفعل وإذهاب الرجس ، أو أن يكون أراد ذلك وفعله ، فإن كان الأول فهو باطل من وجوه ؛ لأنّ لفظ الآية يقتضي اختصاص أهل البيت بما ليس لغيرهم ، ألا ترى أنه قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ) وهذه اللفظة تقتضي ما ذكرنا من التخصيص؟ ألا ترى أن القائل إذا قال : إنما العالم فلان ، وإنّما الجواد حاتم ، وإنّما لك عندي درهم ، فكلامه يفيد التخصيص الذي ذكرناه ، والإرادة للطّهارة من الذنوب من غير أن يتبعها فعل لا تخصيص لأهل البيت عليهم‌السلام بها ، بل الله يريد من كل مكلّف مثل ذلك ، وأيضا فإن الآية تقتضي مدح من تناولته ، وتشريفه ، وتعظيمه ، بدلالة ما روي من أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما جلّل عليا وفاطمة

__________________

(١) في المغني «فكلّ المطيعين».

(٢) في المغني «ولا ينفي ذلك عن غيرهم».

(٣) في المغني «فأمّا أن يدلّ على نفيه فلا».

(٤) المغني ، ٢ / ١٩٣.

٢٢٣

والحسن والحسين عليهم‌السلام بالكساء وقال : «اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» فنزلت الآية ، وكان ذلك في بيت أمّ سلمة رحمة الله عليها ، فقالت له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألست من أهل بيتك؟ فقال لها «إنّك على خير» وصورة الحال وسبب نزول الآية يقتضيان المدحة والتشريف ، ولا مدحة ولا تشريف في الإرادة المحضة التي تعمّ سائر المكلّفين من الكفّار وغيرهم.

فإن قيل : على هذا الوجه فكذلك لا مدحة فيما تذكرونه ؛ لأنكم لا بدّ أن تقولوا إنه أذهب عنهم الرجس وطهّرهم ، بأن لطف لهم بما اختاروا عنده الامتناع من القبائح وهذا واجب عندنا وعندكم ، ولو علم من غيرهم من الكفار مثل ما علمه منهم لفعل مثل ذلك بهم ، فأيّ وجه للمدح؟

قلنا : الأمر على ما ذكرتموه في اللطف ووجوبه ، وأنه لو علمه في غيرهم لفعله ، كما فعله بهم غير أن وجه المدح مع ذلك ظاهر ؛ لأن من اختار الامتناع من القبائح ، وعلمنا أنه لا يقارف شيئا من الذنوب ، وإن كان ذلك عن ألطاف فعلها الله تعالى به ، لا بدّ من أن يكون ممدوحا مشرّفا معظما ، وليس كذلك من أريد منه أن يفعل الواجب ، ويمتنع من القبيح ، ولم يعلم من جهته ما يوافق هذه الإرادة ، فبان الفرق بين الأمرين ، وأيضا فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما وردت به الرواية الظاهرة لم يسأل الله أن يريد أن يذهب عنهم الرجس ، وإنّما سأل أن يذهب عنهم الرجس ويطهّرهم تطهيرا ، فنزلت الآية مطابقة لدعوته ، متضمنة لأجابته ، فيجب أن يكون المعنى فيها ما ذكرناه ، وإذا ثبت اقتضاء الآية لعصمة من تناولته وعني بها وجب أن تكون مختصة من أهل البيت عليهم‌السلام بمن ذهبنا إلى عصمته ، دون من أجمع جميع المسلمين على فقد عصمته ؛ لأنّها إذا انتفت عمّن قطع على نفي عصمته لما يقتضيه معناها من العصمة لم يخل من أن تكون متناولة لمن اختلف في عصمته ، أو غير متناولة له ، وإن لم تتناوله بطلت فائدتها التي تقتضيها ، فوجب أن يكون متناولة له ، وهذه الطريقة تبطل قول من حملها على الأزواج ، لأجل كونها واردة عقيب ذكرهنّ وخطابهنّ ؛ لأن الأزواج إذا لم يذهب أحد إلى عصمتهن وجب أن يخرجن عن الخطاب المقتضي لعصمة من

٢٢٤

يتناوله ، وورودها عقيب ذكرهن لا يدل على تعلّقها بهن ، إذا كان معناها لا يطابق أحوالهن ، وفي القرآن وغيره من الكلام لذلك نظائر كثيرة ، على أن حمل الآية على الأزواج بانفرادهن يخالف مقتضى لفظها ؛ لأنها تتضمّن علامة جمع المذكر والجمع الذي فيه المذكر والمؤنث ، ولا يجوز حملها على الأزواج دون غيرهن ، ألا ترى أن ما تقدّم هذه الآية ثم تأخر عنها لما كان المعني به الأزواج ، جاء جمعه بالنون المختص بالمؤنث ، وممّا يدلّ على اختصاصها بمن نذهب إليه أيضا الرواية الواردة في سبب نزولها ، وقد تقدّم ذكرها ، وإذا كان الأزواج وغيرهن خارجين من جملة من جلّل بالكساء وجب أن تكون الآية غير متناولة له ، وجواب النبي لامّ سلمة يدلّ أيضا على ذلك ، وقد روي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول هذه الآية كان يمرّ على باب فاطمة عليها‌السلام عند صلاة الفجر ويقول : «الصلاة يرحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا» ، فإذا ثبت اختصاص الآية بمن ذكرناه ، ووجبت عصمته وطهارته ، ثم وجدنا كل من أثبت عصمة أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم‌السلام يذهب إلى أن إمامتهم ثبتت بالنص من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد تمّ ما أوردناه.

فأمّا قول صاحب الكتاب : «إنّ أكثر ما تدلّ عليه الآية أن لأهل البيت مزية في باب الألطاف فلذلك خصّهم بهذا الذكر» فإنه متى لم يكن المراد ما ذكرناه لم يكن لهم مزيّة على غيرهم ؛ لأنا قد بيّنا أنه إن أريد بالآية الإرادة الخالصة فلا مزية ، فإذا ثبتت المزية فلا بدّ من أن يثبت فعلا تابعا للإرادة ، وقد بيّنا كيف يدلّ على الإمامة على التفصيل ، فبطل ما ظنّه من أنها لا تدلّ على ذلك.

فأما قوله : «إن الكلام يتضمّن إثبات حال لأهل البيت ولا يدلّ على أن غيرهم في ذلك بخلافهم» فالطريق إلى نفي ما أثبتناه لهم عن غيرهم واضح.

أمّا العصمة فلا خلاف في أن غيرهم لا يقطع فيه عليها.

وأمّا الإمامة فإذا ثبتت فيهم بطلت أن تكون في غيرهم ؛ لاستحالة أن يختصّ بالإمامة اثنان في وقت واحد.

٢٢٥

فأما قوله : «وكذلك القول فيما تقدّم لأنّه إذا قال في عترته : إنّ من تمسّك بها لم يضل فإنّما يدلّ على إثبات هذا الحكم لها ولا يدلّ على نفيه عن غيرها» فباطل ؛ لأنّه قد بيّنا دلالة هذا الخبر على أن إجماع أهل البيت حجّة وممّا أجمعوا عليه ؛ لأن خلافهم غير سائغ ، وإن مخالفهم مبطل فيجب أن يكون قولهم في هذا حجّة كسائر أقوالهم ، وهذا يبطل ما ظنّه صاحب الكتاب من تجويز أن يكون الحق في جهتهم وجهة من خالفهم (١).

ـ (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ...) [الأحزاب : ٣٦].

أنظر النور : ٦٣ من الذريعة ، ١ : ٦٦.

ـ (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) [الاحزاب : ٣٧].

[فان قيل : ما تأويل هذه الآية] أو ليس هذا عتابا له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث أضمر ما كان ينبغي أن يظهره وراقب من لا يجب أن يراقبه فما الوجه في ذلك؟.

الجواب : قلنا : وجه هذه الآية معروف ، وهو أنّ الله تعالى لمّا أراد نسخ ما كان عليه الجاهلية من تحريم نكاح زوجة الدعيّ ، والدعيّ هو الّذي كان أحدهم يجتبيه ويربّيه ويضيفه إلى نفسه على طريق البنوّة ، وكان من عادتهم ان يحرّموا على أنفسهم نكاح أزواج أدعيائهم ، كما يحرّمون نكاح أزواج أبنائهم ، فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن زيد بن حارثة وهو دعيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيأتيه مطلّقا زوجته ، وأمره أن يتزوّجها بعد فراق زيد لها ليكون ذلك ناسخا لسنّة الجاهلية الّتي تقدّم ذكرها ، فلمّا حضر زيد مخاصما زوجته عازما على طلاقها ، أشفق الرسول من أن يمسك عن وعظه وتذكيره لا سيّما وقد كان يتصرف على أمره وتدبيره ، فرجف المنافقون به إذا تزوّج المرأة يقذفونه بما قد نزّهه الله تعالى عنه

__________________

(١) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٣ : ١٣٣.

٢٢٦

فقال له : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) تبرّؤا ممّا ذكرناه وتنزّها ، وأخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعد طلاقه لها لينتهي إلى امر الله تعالى فيها. ويشهد بصحة هذا التأويل قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (١) فدلّ على أن العلّة في أمره في نكاحها ما ذكرناه من نسخ السنّة المتقدّمة.

فإن قيل : العتاب باق على كلّ حال ؛ لأنّه قد كان ينبغي أن يظهر ما أظمره ويخشى الله ولا يخشى الناس.

قلنا : أكثر ما في الآية إذا سلّمنا نهاية الاقتراح فيها أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل ما غيره أولى منه ، وليس يكون صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بترك الأولى عاصيا.

وليس يمتنع على هذا الوجه أن يكون صبره على قذف المنافقين وإهوانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهم أفضل [له] وأكثر ثوابا ، فيكون إبداء ما في نفسه أولى من إخفائه ، على أنّه ليس في ظاهر الآية ما يقتضي العتاب ، ولا ترك الأولى.

وأمّا إخباره بأنّه اخفى ما الله مبديه ، فلا شيء فيه من الشبهة ، وإنّما هو خبر محض.

وأما قوله (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ففيه أدنى شبهة ، وإن كان الظاهر لا يقتضي عند التحقيق ترك الأفضل ؛ لأنّه أخبر أنّه يخشى الناس وأنّ الله أحقّ بالخشية ، ولم يخبر أنّك لم تفعل الأحقّ وعدلت إلى الادون ، ولو كان في الظاهر بعض الشبهة لوجب أن نتركه ونعدل عنه للقاطع من الأدلّة.

وقد قيل : إنّ زيد بن حارثة لمّا خاصم زوجته زينب بنت جحش ـ وهي ابنة عمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأشرف على طلاقها أضمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه إن طلقّها زيد تزوّجها من حيث كانت ابنة عمّته ، وكان يحبّ ضمّها إلى نفسه كما يحبّ أحدنا ضمّ قراباته إليه ، حتّى لا ينالهم بؤس ولا ضرر ، فأخبر الله تعالى رسول

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية : ٣٧.

٢٢٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس بما كان يضمره من ايثار ضمّها إلى نفسه ليكون ظاهر الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وباطنهم سواء ؛ ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للانصار يوم فتح مكة وقد جاء عثمان بعبد الله بن أبي سرح وسأله أن يرضى عنه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ذلك قد هدر دمه فأمر بقتله ، فلمّا رأى عثمان استحى من ردّه ونكس طويلا ليقتله بعض المؤمنين ، فلم يفعل المؤمنون ذلك انتظارا منهم لامر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجدّدا ، فقال للأنصار : أما كان فيكم رجل يقوم إليه فيقتله؟ فقال له عباد بن بشر : يا رسول الله ؛ إنّ عيني ما زالت في عينك انتظارا أن تومىء إليّ فأقتله ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأنبياء لا يكون لهم خائنة أعين. وهذا الوجه يقارب الأوّل في المعنى.

فإن قيل : فما المانع ممّا وردت به الرواية من أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى في بعض الأحوال زينب بنت جحش فهواها فلمّا أن حضر زيد لطلاقها اخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعده وهواه لها ، أو ليس الشهوة عندكم الّتي قد تكون عشقا على بعض الوجوه من فعل الله تعالى وأنّ العباد يقدرون عليها؟ وعلى هذا الوجه [لا] يمكنكم إنكار ما تضمّنه السؤال.

قلنا : لم ننكر ما وردت به هذه الرواية الخبيثة من جهة أنّ فعل الشهوة يتعلّق بفعل العباد وأنّها معصية قبيحة ، بل من جهة أنّ عشق الأنبياء عليهم‌السلام لمن ليس يحلّ لهم من النساء منفّر عنهم وحاطّ من مرتبتهم ومنزلتهم ، وهذا ممّا لا شبهة فيه ، وليس كلّ شيء يجب ان يجتنبه الأنبياء عليهم‌السلام مقصورا على أفعالهم. ألا ترى أنّ الله تعالى قد جنّبهم الفظاظة والغلظة والعجلة ، وكلّ ذلك ليس من فعلهم؟ وأوجبنا أيضا أن يجتنبوا الأمراض المنفّرة والخلق المشينة كالجذام والبرص وتفاوت الصور واضطرابها ، وكلّ ذلك ليس من مقدورهم ولا فعلهم؟ وكيف يذهب على عاقل أنّ عشق الرجل زوجة غيره منفّر عنه معدود في جملة معائبه ومثالبه؟ ونحن نعلم أنّه لو عرف بهذه الحال بعض الأمناء والشهود لكان ذلك قادحا في عدالته وخافضا في منزلته ، وما يؤثّر في منزلة أحدنا أولى من أن

٢٢٨

يؤثّر في منازل من طهّره الله وعصمه وأكمله وأعلى منزلته. وهذا بيّن لمن تدبّره (١).

ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢)) [أحزاب : ٤١ ، ٤٢].

وممّا انفردت به الإمامية القول : باستحباب إفتتاح الصلاة بسبع تكبيرات يفصل بينهن بتسبيح ، وذكر الله جلّ وعزّ مسطور ، وأنّه من السنن المؤكّدة وليس أحد من باقي الفقهاء يعرف ذلك (٢) ، والوجه في ذلك إجماع الطائفة عليه ، وأيضا فلا خلاف في أنّ الله جلّ ثناؤه قد ندبنا في كلّ الأحوال إلى تكبيره وتسبيحه وأذكاره الجميلة ، وظواهر آيات كثيرة من القرآن تدلّ على ذلك مثل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢))، فوقت إفتتاح الصلاة داخل في عموم الأحوال التي أمرنا فيها بالأذكار (٣).

ـ (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) [الأحزاب : ٤٧]

أنظر البقرة : ١٢٤ من الشافي ، ٣ : ١٣٧.

ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) إلى قوله : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [الأحزاب : ٥٠]

[قال الناصر رحمه‌الله :] «وينعقد النكاح بلفظ الهبة».

عندنا : أنّ النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة ، وإنّما ينعقد النكاح المؤبّد بأحد لفظين : إمّا النكاح أو التزويج.

فأمّا نكاح المتعة فينعقد بما ينعقد به المؤبّد من الألفاظ وقوله : أمتعيني نفسك ، وأوجريني أيضا ...

دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه : الاجماع المتردّد ، وأيضا قوله تعالى :

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٥٥. وراجع أيضا الأمالي ، ٢ : ٣٣٠.

(٢) المحلّى ، ٣ : ٢٣٢ : ٢٣٣.

(٣) الانتصار : ٤٠.

٢٢٩

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) إلى قوله : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فجعل النكاح بلفظ الهبة من جملة ما خص الله تعالى به نبيّه عليه‌السلام ، فثبت أنّه مخصوص بذلك.

وليس لأحد أن يحمل قوله تعالى : (خالِصَةً لَكَ) على أنّ المراد به سقوط المهر.

وذلك أنّ الكناية بقوله : (خالِصَةً لَكَ) يجب رجوعه إلى مذكور متقدّم ، والذي تقدّم ذكره هو الموهوبة وقبول نكاحها دون سقوط المهر ، فيجب عود الكناية إلى ما ذكرناه.

وليس لأحد أن يقول : لفظ الهبة يقتضي سقوط البدل ، فقوله : (وَهَبَتْ نَفْسَها) يقتضي سقوط المهر ، وتعود الكناية إليه ، وذلك أنّ الكناية يجب عودها إلى اللفظ دون المعنى ، على أنّا نحمل الكناية على أنّها عائدة إلى الأمرين فلا تنافي بينهما ، ويقف مجمل الكناية على ما ذكرتم لا يفيد تخصيص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما ليس لغيره ؛ لأنّ غيره قد ينكح بلا مهر ، وهو العبد إذا زوّجه سيده بأمته ، فإنّ المهر لا يجب هاهنا في الابتداء والانتهاء.

وليس له أن يقول : إنّ المراد ب «خالصة لك» أنّك إذا قبلت نكاحها صار خالصا لك.

وذلك أنّ هذا التأويل يبطل أيضا الاختصاص ؛ لأنّ غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا تزوّج امرأة خلصت له دون كل أحد.

وأيضا ؛ فإنّه لا خلاف في أنّ النكاح ينعقد بما ذهبنا إليه من اللفظ ، فمن ادعى أنّه ينعقد بزائد على ذلك فقد ادّعى شرعا يزيد على ما أجمعنا عليه فتلزمه الدلالة دوننا.

فإن تعلّق المخالف بما روي : من أنّ امرأة جاءت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله إني قد وهبت لك نفسي.

فقال عليه‌السلام : «ما لي في النساء من حاجة».

فقام إليه رجل فقال : زوّجنيها يا رسول الله.

٢٣٠

فقال : «ملّكتكها بما معك من القرآن» (١).

وإذا ثبت جوازه بلفظ التمليك ثبت بلفظ الهبة ؛ لأنّ أحدا لا يفصل بين الأمرين.

والجواب عن هذا الخبر بعينه ما روي : أنه عليه‌السلام قال له : «زوّجتكها» ، وقيل : إنّ الراوي غلط في نقله «ملكتكها» فأقل ما في الباب أن نتوقف مع الاشتباه ، فلا يكون في الخبر دليل لهم.

فإن تعلّقوا : بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له أن يعقد النكاح بلفظ الهبة لا محالة ، فيجب أن يجوز ذلك لغيره ، لقوله تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ) وقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

فالجواب عن ذلك : أنّا إنّما أمرنا باتّباعه في الأفعال الواجبات والمندوبات دون المباحات ، والنكاح مباح جار مجرى الأكل والشرب اللذين لم نؤمر باتباعه فيهما ، على أنّ ذلك لو كان عموما لأخرجنا غيره منه بالأدلّة التي ذكرناها (٢).

ـ (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) [الاحزاب : ٥١]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) [الأحزاب : ٥٣].

[قال السيّد :] روى محمّد بن سعد عن الواقدي عن محمّد بن عبد الله الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عبّاس [ما طعن به عمر على أصحاب الشورى ، قال فيه مخاطبا طلحة :] أما أنت يا طلحة أفلست القائل إن قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لننكحنّ أزواجه من بعده فما جعل الله محمدا بأحق ببنات أعمامنا منا ، فأنزل الله فيك : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) (٣).

__________________

(١) سنن البيهقي ، ٧ : ١٤٤.

(٢) الناصريات : ٣٢٤.

(٣) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٤ : ٢٠٣.

٢٣١

ـ (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦].

وممّا ظنّ انفراد الإمامية به إيجاب التشهد الأوّل في الصلاة وقد وافقنا على ذلك الليث بن سعد وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه (١) ، وقال أبو حنيفة : التشهدان معا غير واجبين (٢) ، وقال الشافعي الثاني واجب والأول غير واجب (٣) ، دليلنا الاجماع المتردد ، وطريقة برائة الذمة ، وأيضا فهذه حال هو فيها مندوب إلى ذكر الله تعالى وتعظيمه ، والصلاة على النبي وآله ؛ لدخولها في عموم الآيات المقتضية لذلك ، مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وكلّ من أوجب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الحال أوجب التشهد الأوّل ، وممّا نلزمهم أنّهم يروون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يتشهّد التشهدين جميعا ، ورووا كلّهم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : صلّوا كما رأيتموني أصليّ (٤) (٥).

ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) [الأحزاب : ٦٩].

[فان قيل : ما معنى هذه الآية ،] أو ليس قد روي في الآثار أنّ بني إسرائيل رموه عليه‌السلام بأنّه آدر وبأنّه أبرص ، وأنّه عليه‌السلام ألقى ثيابه على صخرة ليغتسل ، فأمر الله تعالى تلك الصخرة بأن تسير فسارت وبقي موسى عليه‌السلام مجرّدا يدور على محافل بني إسرائيل حتّى رأوه وعلموا أنّه لا عاهة به.

الجواب : قلنا : ما روي في هذا المعنى ليس بصحيح وليس يجوز أن يفعل الله تعالى بنبيّه عليه‌السلام ما ذكروه من هتك العورة ليبرّئه من عاهة أخرى ؛ فإنّه تعالى قادر على أن ينزّهه ممّا قذفوه به على وجه لا يلحقه معه فضيحة أخرى ، وليس يرمي بذلك أنبياء الله تعالى من يعرف أقدارهم.

والّذي روي في ذلك من الصحيح معروف ، وهو أنّ بني إسرائيل لمّا مات

__________________

(١ و ٢ و ٣) المغني (لابن قدامة) ، ١ : ٥٧١.

(٤) صحيح البخاري ، ١ : ١٥٤.

(٥) الانتصار : ٤٦ وراجع أيضا الناصريات : ٢٢٨.

٢٣٢

هارون عليه‌السلام قذفوه بأنّه قتله ؛ لأنّهم كانوا إلى هارون عليه‌السلام أميل ، فبرّأه الله تعالى من ذلك ، بأن أمر الملائكة بأن تحمل هارون عليه‌السلام ميتا ، فمرت به على محافل بني إسرائيل ناطقة بموته ومبرّئة لموسى عليه‌السلام من قتله. وهذا الوجه يروى عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

وروي أيضا أنّ موسى عليه‌السلام نادى أخاه هارون فخرج من قبره فسأله هل قتله؟ قال : لا ؛ ثمّ عاد إلى قبره.

وكلّ هذا جائز ، والّذي ذكره الجهّال غير جائز (١).

ـ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢].

[وفيها أمران :

الأوّل : أنظر الرعد : ٣١ من الأمالي ، ٢ : ٢٦٥ والنمل : ٢٢ ، ٢٣ ، ٢٤ من الرسائل ، ١ : ٤٢٣].

[الثاني :] والمراد [من قوله : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ)] الجنس لا تعيين واحد بعينه (٢).

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٢٤.

(٢) الرسائل ، ٤ : ٧٠.

٢٣٣

سورة سبأ

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣)) [سبأ : ١٢ ـ ١٣].

أنظر البقرة : ٣١ من الأمالي ، ٢ : ٦٢ والصافات : ٩٥ ، ٩٦ من الأمالي ، ٢ : ٢٠٣.

ـ (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧)) [سبأ : ١٦ ـ ١٧].

أنظر البقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

ـ (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) [سبأ : ٣٢]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) [سبأ : ٥٠]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

٢٣٤

سورة فاطر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠].

معناه أنّه يتقبّله ويجازي عليه ، كما يقول أحدنا : تابع به فلانا ، واصل إليّ ولاحق بي ، وما أشبه ذلك ، ومعنى ذكر الصعود ارتفاع قدره ومنزلته عنده (١).

ـ (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٣]

أنظر يونس : ٩٤ من الأمالي ، ٢ : ٣١٧.

ـ (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر : ٣٠]

أنظر البقرة : ٢١٢ من الأمالي ، ١ : ٣٧٦.

ـ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) [فاطر : ٣٢].

[فيها أمور :

الأوّل : إن سأل سائل] فقال : أيّ معنى لقوله تعالى : (أَوْرَثْنَا)؟ وما الكتاب المشار إليه؟ وإذا كان الاصطفاء هو الاختيار والاجتباء ـ وذلك لا يليق إلّا بمن هو معصوم مأمون منه القبيح كالأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ـ فكيف قال بعد ذلك : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) ، وهنا وصف لا يليق بمن ذكرناه؟.

الجواب : إن الذي يجب اعتماده في تأويل هذه الآية أنّ قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ) ترجع الكناية فيه إلى العباد ؛ لا إلى الذين اصطفوا ؛ وهو أقرب إليه في الذكر ، فكأنّه تعالى قال : ومن عبادنا ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات.

__________________

(١) الملخص ، ٢ : ٢١٢.

٢٣٥

فإن قيل : فأيّ فائدة في وصف العباد بهذه القسمة؟ وكيف عدل عن وصف الذين اصطفاهم ، وورّثهم الكتاب؟

قلنا : الوجه في ذلك ظاهر ؛ لأنّه تعالى لما علّق توريث الكتاب بمن اصطفاهم من عباده أراد أن يبيّن وجه الاختصاص ؛ وإنّما علّق وراثة الكتاب ببعض العباد دون بعض ؛ لأنّ في العباد من هو ظالم لنفسه ، ومن هو مقتصد ، ومن هو سابق بالخيرات ؛ فوجه المطابقة بين الكلام واضح.

ونحن الآن متبعون ما قيل في تأويل هذه الآية ؛ وموضّحون عمّا فيه من صحّة أو اختلال (١).

ذكر أبو عليّ الجبّائيّ ومن تابعه أنّ المراد بالذين اصطفوا الأنبياء عليهم‌السلام ، والظالم لنفسه من ارتكب الصغيرة منهم ؛ وإنّما وصف بذلك من حيث فوّت نفسه الثواب الذي زال عنه بفعل الصغيرة ، ويؤدّي سائر الواجبات. والسابق إلى الخير هو الذي استكثر من فعل النوافل ؛ وهذا التأويل يفسد من جهة أنّ الدليل قد دلّ على أنّ الأنبياء عليهم‌السلام لا يقع منهم شيء من المعاصي والقبائح. وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتابنا المعروف «بتنزيه الأنبياء والأئمّة» عليهم‌السلام.

ولو عدلنا عن ذلك لم يجز ما قاله ؛ لأنّ قولنا : فلان ظالم لنفسه من أوصاف الذمّ ، والذمّ لا يستحقّه فاعل الصغيرة ؛ فكيف تجرى عليه أوصاف الذم؟ ولا شبهة في أنّ قولنا : فلان ظالم لنفسه من أوصاف الذمّ ؛ لأنّهم يقولون في كلّ من فعل قبيحا : إنّه قد ظلم ، من حيث فعل ما يستحقّ به العقاب ؛ وكأنّه أدخل على نفسه ضررا ما كان يستحقّه ، فأشبه بذلك الظالم لغيره.

ولا يجوز أن يوصف فاعل الصغيرة بأنّه ظالم لنفسه من حيث فوّت نفسه

__________________

(١) أقول : ما نقله من الأقوال هنا يختلف عما نقله في الرسائل ؛ فإنّه قال هناك : قال أبو عليّ الجبائي : «ظالم لنفسه» أي أنه يعمل عليها في العبادة ويضربها ، كما يقول القائل : فلان ظالم للنفسه ، لفرط صومه وكثرة صلاته ، وهذه صفة مدح. وقال آخرون : «ظالم لنفسه» بفعل الصغائر. الرسائل ، ٣ : ١٠٢.

٢٣٦

الثواب ؛ لأنّه إن عنى بذلك الثواب الذي يبطل بعقاب الصغيرة ، فعند أبي عليّ أنّ الصغيرة ينحبط عقابها بالثواب الكثير ؛ من غير أن ينقص من الثواب شيء ؛ لأنّه لا يذهب إلى الموازنة التي يذهب إليها أبو هاشم ، فما فوّتت الصغيرة عنده ثوابا كان مستحقّا له ، وإن عنى بتفويت الثواب أنّه لو لم يفعل هذه المعصية لكان يستحقّ على الامتناع منها ثوابا فإنه يفعلها ، فهذا يوجب أن يكون الأنبياء عليهم‌السلام في كلّ حال مفوّتين لأنفسهم الثواب بفعل المباحات ؛ لأنّهم لو فعلوا الطاعات بدلا منها لاستحقّوا الثواب ، ولوجب أن يوصفوا على الفائتة بأنّهم ظالمون لأنفسهم.

على أنّ وضع الكلام وترتيبه يقتضيان أنّ الظالم لنفسه في الآية في موضع ذمّ ، لأنّه تعالى جعله بإزاء المقتصد ، وليس بإزاء المقتصد إلّا المسرف المذموم.

فإن قيل : فقد قلتم في تأويل حكايته تعالى عن آدم وحوّاء عليهما‌السلام قولهما (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (١) : إنّما أراد أنّا نقصناها الثواب الذي كنّا نستحقّه لو فعلنا ما ندبنا إليه من الامتناع من تناول الشجرة.

قلنا : إنّما قلنا ذلك هناك ، وعدلنا عن الظاهر في هذه اللفظة لقيام الدليل أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يواقع المحظور ، كبيرا ولا صغيرا من الذنوب وليس في الآية التي نحن في الكلام عليها ضرورة توجب العدول عن الظاهر ، بل قد بيّنّا أن ترتيب الكلام ومقابلته يقتضيان أنّ لفظة (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) في الآية تقتضي الذمّ ، لأنّها بإزاء المقتصد.

على أنّه غير ممتنع أن تكون لفظة «ظلم» بخلاف لفظة ظالم في عرف الاستعمال ، كما أنّ عند مخالفنا أنّ لفظة «آمن» بخلاف لفظة «مؤمن» ، لأنّهم يصفون صاحب الكبيرة بأنه آمن ولا يسمّونه بأنّه مؤمن ، ويزعمون أنّ الانتقال عن الاشتقاق إلى إفادة استحقاق الثواب إنّما هو في مؤمن دون آمن ، فلا ينبغي أن ينكروا مثل ذلك في ظلم وظالم.

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٢٣.

٢٣٧

وتأوّل قوم هذه الآية على أنّ المراد من اختاره الله تعالى للتكليف ، وتوريث الكتاب من العقلاء البالغين ، ثمّ قسّمهم الأقسام التي تليق بهم ، من غير أن يكون المراد بالآية الأنبياء عليهم‌السلام.

وهذا الجواب يفسد ، لأنّ الله تعالى يقول : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ، ومن اصطفاه الله واختاره واجتناه بالإطلاق لا يكون إلّا ممدوحا معظّما ، فكيف يكون فيهم من يستحقّ الذمّ والعقاب؟ ومن يختار الله تكليفه شيئا مخصوصا لا يقال بالإطلاق إنّ الله تعالى اصطفاه. والمعتزلة أبدا تنكر على المرجئة تأويلهم قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (١) ، على أنّ المراد من ارتضى الشفاعة فيه ، ويقولون : من ارتضى شيئا يتعلّق به لا يوصف بأنّه مرتضى على الإطلاق ، فكيف يثبتونه هاهنا.

ووجدت أبا قاسم البلخيّ يقول في كتابه تفسير القرآن : «إنّه تعالى أراد العقلاء البالغين ويجوز أن يكونوا عند الاصطفاء أخيارا أتقياء ثمّ ظلم بعضهم نفسه» ؛ فيكون كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) (٢) ؛ وهو في وقت الارتداد غير مؤمن. كذلك يكون في حال ظلمه نفسه ليس من المصطفين». قال : «ويجوز أيضا أن يكون فيهم من ظلم نفسه ثمّ تاب وأصلح ؛ ويكون قوله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي منهم من كان قد ظلم نفسه ؛ ليس أنّه في هذا الوقت ظالم لها».

هذه ألفاظه بعينها حكيناها عنه ؛ وهذا فاسد ؛ لأنّ من كان منهم ظالما فاعلا للقبيح لا يوصفون على الإطلاق بأنّ الله تعالى اصطفاهم. فهذا الوصف يقتضي أن تكون الجماعة أخيارا. وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) بخلاف هذا ؛ لأنّ وصفهم بأنّهم آمنوا في الماضي لا يمنع من الردّه في المستقبل ؛ وقوله تعالى : (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) يمنع أن يكون فيهم من ليست هذه صفته.

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٢٨.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٥٤.

٢٣٨

وأمّا حمل ذلك على من ظلم ثمّ تاب فهو غير صحيح ؛ لأنّ من تاب لا يوصف بعد التوبة بأنّه ظالم لنفسه ؛ لأنّ التوبة تمنع من إجراء ألفاظ الذمّ.

ووجدت بعضهم يتأوّل هذه الآية على أنّ المراد ب (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) من جهد نفسه في العبادة وحمل عليها ؛ وقال : هذا يليق بأوصاف الأنبياء عليهم‌السلام ، ولا تمنع النبوّة منه.

وهذا أيضا غير صحيح ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ لفظة «ظالم لّنفسه» يذمّ بها في التعارف ، فكيف تجري على المدح! ومن هذا الذي يسمّى من جهد نفسه في العبادة بأنّه ظالم لنفسه بالإطلاق!.

على أنّ السابق إلى الخيرات هو المجتهد في العبادة ، الحامل على نفسه فيها ، فأيّ معنى للتكرار؟ وهذا تأويل يفسد القسمة ، وهذه الجملة توضّح أنّ التأويل الصحيح ما قدّمناه.

فأمّا قوله تعالى : (الْكِتابَ) فالظاهر أنّه كناية عن القرآن المنزّل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد صارت هذه اللفظة بالإطلاق عبارة عنه ؛ ولهذا إذا أطلق القائل فقال : هذا ينطق به الكتاب ، ومحرّم في الكتاب ، وورد في الكتاب لم يفهم منه إلّا ما ذكرناه.

ومعنى (أَوْرَثْنَا) يعني علمه وفوائده وأحكامه ؛ وليس يليق ذلك بالأنبياء المتقدّمين ؛ فإنّه لا حظّ لهم في علم هذا الكتاب ؛ وإنّما يختصّ بهذه الفائدة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة من ولده عليهم‌السلام ؛ لأنّهم المتعبّدون بحفظه وبيانه ، والعمل بأحكامه.

وذلك كلّه واضح بحمد الله ومنّه (١).

[الثاني : استدلّ القاضي بهذه الآية وبقولهم : «ما ورثت الأبناء من الآباء شيئا أفضل من أدب حسن» وقولهم : «العلماء ورثة الأنبياء» على بطلان قولنا : «ان إطلاق الميراث لا يكون إلّا في الأموال».

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٣٠٣ ، راجع أيضا الرسائل ، ٣ : ١٠٢.

٢٣٩

قال السيّد : اما اعتراضه بما ذكر على بطلان قولنا] فعجيب ؛ لأن كلّ ما ذكر مقيّد غير مطلق ، وإنّما قلنا : إن مطلق لفظ الميراث من غير قرينة ولا تقييد يفيد بظاهره ميراث الأموال فبعد ما ذكره وعارض به لا يخفى على متأمّل (١).

[الثالث : انظر النور : ٥٥ من الشافي ، ٤ : ٣٦ إلى ٤٥].

ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ...) [فاطر : ٣٩]

أنظر النور : ٥٥ من الشافي ، ٤ : ٣٦ و ٤٥.

__________________

(١) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٤ : ٧٨.

٢٤٠