تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

قيل لكم : هذه الآية إنّما تكون حجّة وموجبة للعلم إذا صحّت النبوّة ، فكيف يجعل نفي الآية دلالة على النبوّة وهو مبنيّ عليها؟

قلنا : الذي يجب أن يعتمد عليه في أنّه عليه‌السلام لا يحسن الكتابة والقراءة قبل النبوّة هو أنّه عليه‌السلام لو كان يحسنها وقد نطق القرآن الذي أتى بنفي ذلك عنه عليه‌السلام قبل النبوّة ، لما جاز له أن يخفي الحال فيه مع التتبع والتفتيش والتنقير ؛ لأنّ هذه الأمور كلّها إنّما يجوز أن تخفى مع عدم الدواعي إلى كشفها ، ومع الغفلة عنها والإعراض عن تأمّل أحوالها.

وأمّا إذا قويت الدواعي وتوفّرت البواعث على كشف حقيقة الحال وتعلّق بذلك دعوى مدّع لمعجزة ، فلا بدّ من الفحص والتفتيش ، ومعها لا بدّ من ظهور حقيقة الحال.

ومن كان يحسن القراءة والكتابة لا بدّ من أن يكون قد تعلّمها أو أخذها من موقف ومعرف ، والذين كانوا يحسنون الكتابة من العرب في ذلك الزمان معدودون قليلون فمن تعلم من أحدهم وكشف عن أمره على طول الأيّام ، لا بدّ من ظهور حاله بمقتضى العادة. وهذه الجملة تدلّ على أنّه عليه‌السلام ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة.

فإن قيل : فقد وصف الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه أمّي في مواضع من القرآن (١). والامّي : «الذي لا يحسن الكتابة» فكيف تقولون أنّه عليه‌السلام أحسنها بعد النبوّة؟

قلنا : أمّا أصحابنا القاطعون على أنّه عليه‌السلام كان يحسن الكتابة بعد النبوّة ، فإنّهم يجيبون عن هذا السؤال بأن يقولوا : لم يرد الله تعالى بقوله ؛ «أمّي» أنّه لا يحسن الكتابة ، وإنّما أراد الله تعالى نسبته إلى أمّ القرى ؛ لأنّه من أسماء مكّة «أمّ القرى» ، فإن كانت هذه النسبة محتملة لأمرين ، لم يجز أن يقطعوا على أحدهما بغير دليل (٢).

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآيتان : ١٥٧ ، ١٥٨.

(٢) الرسائل ، ١ : ١٠٤.

٢٠١

سورة الرّوم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم : ١٧].

أنظر إبراهيم : ٢٥ من الانتصار : ١٦٠.

ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ...) [الروم : ٢١]

أنظر الأعراف : ١٨٩ ، ١٩٠ من الأمالي ، ٢ : ٢٠٢.

ـ (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [الروم : ٢٢].

[إن سأل سائل وقال :] هل يوجب قوله : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أن يكون كلامنا على ظاهر الآية خلقا له تعالى؟

[قلنا :] في هذه الشبهة ثلاثة أجوبة :

منها : أنّ معنى اختلاف ألسنتكم ، أي اختلاف لغاتكم في البيان أو الأشكال.

ومنها : اختلاف مخارج الكلام من ألسنتكم ؛ ككلام الألثغ والأليغ والأرتّ والتّمتام ونحوهم.

ومنها : اختلاف ألسنتكم في خلقها وأشكالها وصيغها ، كالطّويل منها والقصير والعريض والدقيق. والله تعالى الموفّق للصواب (١).

ـ (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ...) [الروم : ٢٧].

أنظر الإسراء : ٧٢ من الأمالي ، ١ : ١٠٨.

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٢٧٨.

٢٠٢

ـ (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ ...) [الروم : ٣٩]

أنظر القصص : ٨٨ من الأمالي ١ : ٥٥٤.

ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) [الروم : ٤٣].

أنظر القصص : ٨٨ من الأمالي ، ١ : ٥٥٤.

٢٠٣

سورة لقمان

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

أنظر غافر : ١٨ من الذخيرة : ٥٠٤.

ـ (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان : ١٥]

وممّا اعتمد عليه [القاضي] في الاستدلال على صحّة الاجماع وإن كان قد ضعفه بعض التضعيف قوله : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) (١) إلى أن قال : لأنّ من أناب إلى الله تعالى هم المؤمنون ؛ لأنّهم هم المختصون بهذه الطريقة (٢) ، وسلك في ترتيب الاستدلال بها المسلك في الآية المتقدمة.

وهذه الآية لا دلالة فيها على ما يذهبون إليه في صحّة الاجماع ، وأكثر الوجوه التي ذكرناها في الآية المتقدمة (٣) يبطل الاحتجاج بهذه الآية.

وأنت إذا تصفّحتها وقفت على الفصل بين ما يختصّ إحدى الآيتين من الوجوه وما يمكن أن يكون كلاما على الجميع ، فلهذا لم نتشاغل بإعادة شيء ممّا مضى.

وممّا يخصّ هذه الآية أنّ الإنابة حقيقتها في اللغة هي الرجوع ، وإنّما تستعمل في التائب من حيث رجع عن المعصية إلى الطاعة ، وليس يصحّ إجراؤها

__________________

(١) سورة لقمان ، الآية : ١٥.

(٢) كلام القاضي هنا نقله السيد بتصرف لم يخرجه عن معناه.

(٣) تقدم في سورة النساء : ١١٥.

٢٠٤

على التمسّك بطريقة واحدة لم يرجع إليها عن غيرها على سبيل الحقيقة ، ولو استعمل فيمن ذكرناه لكان مستعملها متجوّزا عند جميع أهل اللغة ، وإذا كانت حقيقة الإنابة في اللغة هي الرجوع لم يصحّ إجراء قوله تعالى : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ) إلى جميع المؤمنين حتّى يعمّ بها من كان متمسّكا بالإيمان ، وغير خارج عن غيره إليه ، ومن رجع إلى اعتقاده وأناب إليه بعد أن كان على غيره ؛ لأنّا لو فعلنا ذلك لكنّا عادلين باللّفظ عن حقيقتها (١) من غير ضرورة ، والواجب أن يكون ظاهرها متناولا للتائبين من المؤمنين الذين أنابوا إلى الإيمان ، وفارقوا غيره ، وإذا تناولت هؤلاء لم يكن دلالة على مكان الخلاف بيننا وبين خصومنا في الاجماع (٢).

ـ (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [لقمان : ٢٢].

أنظر قصص : ٨٨ من الأمالي ، ١ : ٥٥٤.

__________________

(١) أي حقيقة الإنابة.

(٢) الشافي في الإمامة وابطال حجج العامّة ، ١ : ٢٢٨.

٢٠٥

سورة السّجدة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ...) [السجدة : ٧].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ...) [السجدة : ١٣].

أنظر هود : ١١٨ ، ١١٩ من الأمالي ، ١ : ٩٤.

ـ (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة : ١٧]

أنظر الإسراء : ٧٢ من الأمالي ، ١ : ١٠٨.

ـ (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [سجدة : ١٨].

فالمؤمن هاهنا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، والفاسق الوليد على ما ذكره أهل التأويل (١).

__________________

(١) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٤ : ٢٥٢.

٢٠٦

سورة الأحزاب

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢)) [الأحزاب : ١ ـ ٢]

أنظر الزخرف : ٤٥ من الأمالي ، ٢ : ٧١.

ـ (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب : ٤].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) [الأحزاب : ٥].

[وفيها أمران :

الأوّل :] وممّا ظنّ إنفراد الإمامية به ـ وهو أحد قولي الشافعي ـ أنّ من وطىء ناسيا لم يفسد ذلك حجّه ولا كفارة عليه.

وذهب أبو حنيفة إلى أنّه مع النسيان يفسد الحج وفيه الكفارة ، وهو أحد قولي الشافعي. دليلنا الاجماع المتردد ، ويجوز أن يعارضوا بما يروونه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، ومعلوم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرد رفع هذه الأفعال وإنّما أراد رفع أحكامها ؛ فان حملوا ذلك على رفع الأثم وهو حكم.

قلنا : هذا تخصيص بغير دليل ، على أنّ رفع الاثم عن الخاطىء مستفاد من

٢٠٧

قوله تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) وحمل كلامه تعالى على فائدة ولم تستفد أولى (١).

[الثاني :] وممّا يظنّ أنّ الإمامية انفردت به ، وللشافعي (٢) فيه قولان : أحدهما موافق للامامية ، أنّ من حلف بالله تعالى أن لا يدخل دارا أو لا يفعل شيئا ففعله مكرها أو ناسيا فلا كفارة عليه ، وألزمه باقي الفقهاء الكفّارة (٣) إلّا على أحد قولي الشافعي الذي ذكرناه ، دليلنا على صحة ما ذكرناه وذهبنا إليه الاجماع المتكرر ، وأيضا قوله تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) فإذا قيل : الجناح هو الاثم ، قلنا : قد يعبّر به في القرآن والشريعة عن الاثم وعن كلّ فعل فيجب حمله على الأمرين ما لم يقم دلالة أيضا ؛ فانّ النسيان والاكراه يرفعان التكليف العقلي فكيف لا يرفعان التكليف الشرعي ، وأيضا ، فانّ الكفارة وضعت في الشريعة لازالة الاثم المستحق ، وقد سقط الاثم عن الناسي بلا خلاف فلا كفّارة عليه (٤).

ـ (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ...) [الأحزاب : ٦]

أنظر المائدة : ٦٧ من الشافي ، ٢ : ٢٥٨.

ـ (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦].

وفسّر ذلك بتفسيرين : أحدهما : أنه تعالى أراد أنهن يحرمن علينا كتحريم الأمّهات ، والآخر : أنه يجب علينا من تعظيمهن وتوقيرهن مثلما يجب علينا في أمّهاتنا. ويجوز أن يراد الأمران معا فلا تنافي بينهما.

ومن ذهب لأجل تسميته بأنهن أمّهات المؤمنين إلى أن معاوية خال المؤمنين فقد ذهب مذهبا بعيدا ، وحاد عن رأي الصواب السديد ؛ لأن أخا الأم إنما يكون خالا إذا كانت الأمومة من طريق النسب ، وأما إذا كانت على سبيل التشبيه

__________________

(١) الانتصار : ٩٩.

(٢) المغني (لابن قدامة) ، ١١ : ٢٨٩.

(٣) المغني (لابن قدامة) ، ١١ : ١٧٤.

(٤) الانتصار : ١٥٩.

٢٠٨

والاستعارة فالقياس غير مطرد فيها ، ولهذا لا يسمى آباء أزواج النبيّ أجدادا لنا ، ولا أخواتهن لنا خالات ، ولا يجري القياس في هذا الموضع مجراه في النسب.

وكيف اختص بالخؤولة معاوية دون كلّ إخوة أزواج النبيّ؟ وهلا وصف محمّد بن أبي بكر وعبد الله بن عمر بالخؤولة إن كان القياس مطردا؟ ولكن العصبية تعمي وتصم (١).

ـ (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) [الأحزاب : ١٠].

[إن سأل سائل فقال] كيف يجوز أن تبلغ القلوب الحناجر مع كونهم أحياء ، ومعلوم أنّ القلب إذا زال عن موضعه المخلوق فيه مات صاحبه؟ وعن أيّ شيء زاغت الأبصار؟ وبأيّ شيء تعلّت ظنونهم بالله تعالى؟

الجواب : قيل له في هذه الآية وجوه :

منها : أن يكون المراد بذلك أنّهم جبنوا وفزع أكثرهم لمّا أشرف المشركون عليهم ، وخافوا من بوائقهم وبوادرهم ، ومن شأن الجبان عند العرب إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته ، ولهذا يقولون للجبان : انتفخ سحره ، أي رئته ، وليس يمتنع أن تكون الرئة إذا انتفخت رفعت القلب ، ونهضت به إلى نحو الحنجرة. وهذا التأويل قد ذكره الفرّاء وغيره ، ورواه الكلبيّ عن أبي صالح ابن عبّاس.

ومنها : أنّ القلوب توصف بالوجيب والاضطراب في أحوال الجزع والهلع ؛ قال الشاعر :

كأنّ قلوب أدلّائها

معلقة بقرون الظّباء (٢)

__________________

(١) الرسائل ، ٤ : ٦٥.

(٢) الأدلاء : جمع دليل ؛ والبيت في وصف فلاة مخيفة ، ذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص ٤٨٨ ، ونسبه إلى المرار ، وقال في شرحه : «يريد أن القلوب تنزو وتجب ؛ فكأنّها معلقة بقرون الظباء ؛ لأن الظباء لا تستقر ؛ وما كان على قرونها فهو كذلك».

٢٠٩

وقال امرؤ القيس :

ولا مثل يوم في قداران ظلته

كأنّي وأصحابي علي قرن أعفرا (١)

ويروى : «في قدار ظللته» ؛ أراد المبالغة في وصف نفسه وأصحابه بالقلق والاضطراب ومفارقة السّكون والاستقرار ؛ وإنّما خصّ الظّبي ؛ لأنّ قرنه أكثر تحرّكا واضطرابا ؛ لنشاطه ومرحه وسرعته.

وقد قال بعض الناس : إنّ امرأ القيس لم يصف شدّة أصابته في هذا البيت فيليق قوله : «على قرن أعفرا» بالتأويل المذكور ؛ بل وصف أماكن كان فيها مسرورا متنعّما ؛ ألا ترى إلى قوله قبل هذا البيت بلا فصل :

ألا ربّ يوم صالح قد شهدته

بتاذف ذات التلّ من فوق طرطرا

فيكون معنى قوله : «على قرن اعفرا» على هذا الوجه ، أنّه كان على مكان عال مشرف ؛ شبّهه لارتفاعه وطوله بقرن الظبي ؛ وهذا القول لابن الأعرابيّ والأول للأصمعيّ ؛ فأمّا قول الآخر :

ألا قلّ خير الشّام كيف تغيّرا

فأصبح يرمي النّاس عن قرن أعفرا

فلا يحتمل إلّا الشدة والحال المذمومة ، ويجوز أنّ يريد أن الناس فيه غير مطمئنين بل هم منزعجون قلقون ؛ كأنّهم على قرن ظبي ، ويحتمل أنّه يطعنهم بقرن ظبيّ ، كقولك : رماه بداهية ، ويكون معنى «عن» هاهنا معنى الباء ، فقال : «عن قرن أعفرا» وهو يريد بقرن أعفرا ، وقد ذكر في هذا البيت الوجهان معا ، فيكون معنى الآية على هذا التأويل أنّ القلوب لمّا اتصل وجيبها واضطربت بلغت الحناجر لشدة القلق.

ومنها : أن يكون المعنى : كادت القلوب من شدة الرّعب والخوف تبلغ

__________________

(١) ديوانه : ١٠٦ ، قداران : قرية بالشام ؛ وأعفر ؛ أراد قرن ظبي أعفر. وفي حواشي بعض النسخ : «في نسخة الوزير الكامل أبي القاسم المغربي رحمه‌الله : «قذاران» ، بالذل المعجمة وفتح القاف ، وضب عليه».

٢١٠

الحناجر ، وان لم تبلغ في الحقيقة ، فألقى ذكر «كادت» لوضوح الأمر فيها ، ولفظة «كادت» هاهنا للمقاربة ؛ مثل قول قيس بن الحطيم :

أتعرف رسما كاطّراد المذاهب

لعمرة وحشا غير موقف راكب (١)

ديار الّتي كادت ونحن على مني

تحلّ بنا لو لا نجاء الرّكائب

معناه : قاربت أن تحلّ بنا ، وان لم تحلل في الحقيقة.

وقوله : «غير موقف راكب» فيه وجهان : أحدهما : أنه ليس بموضع يقف فيه راكب لخلوّه من الناس ووحشته ، والآخر : أن يكون أراد أنّه وحش ؛ إلّا أن راكبا واقف به ، يعني نفسه.

وقال نصيب :

وقد كدت يوم الحزن لمّا ترنّمت

هتوف الضّحى محزونة بالترنّم

أموت لمبكاها أسى إنّ لوعتي

ووجدي بسعدى شجوه غير منم

معنى المنجم : المقلع.

وقال ذو الرّمة :

وقفت علي ربع لميّة ناقتي

فما زلت أبكي عنده وأخاطبه (٢)

وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه

تكلّمني أحجاره وملاعبه

وكل هذا معنى «كاد» فيه المقاربة.

ومتى أدخلت العرب على «كاد» جحدا ، فقالوا : ما كاد عبد الله يقوم ، ولم يكد عبد الله يقوم ؛ كان فيه وجهان :

أجودهما : قام عبد الله بعد إبطاء ولأي ، ومثله قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) (٣) ؛ أي بعد إبطاء وتأخير ، لأنّ وجدان البقرة عسر عليهم.

__________________

(١) ديوانه : ١٠٠ ، والرسم : ما شخص من آثار الديار بعد البلى ، والمذاهب ؛ جمع مذهب ؛ وهي جلود تجعل فيها خطوط فيرى بعضها في إثر بعض ، وأطرادها : تتابعها.

(٢) ديوانه : ٣٥.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٧١.

٢١١

وروي أنّهم أصابوها ليتيم لا مال له غيرها ، فاشتروها من وليّه بملء جلدها ذهبا ، فقال تعالى : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ، إمّا لأنّهم لم يقفوا عليها ، أو لغلائها وكثرة ثمنها.

والوجه الآخر في قولهم : ما يكاد عبد الله يقوم ، أي ما يقوم عبد الله ، وتكون لفظة يكاد على هذا المعنى مطّرحة لا حكم لها ، وعلى هذا يحمل أكثر المفسرين قوله تعالى : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) ، أي لم يرها أصلا ؛ لأنّه جلّ وعزّ لمّا قال : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) (١) كأنّ بعض هذه الظلمات يحول بين العين وبين النظر إلى اليد وسائر المناظر ؛ ف (يَكَدْ) على هذا التأويل زيدت للتوكيد ، والمعنى : إذا أخرج يده لم يرها.

وقال قوم : معنى الآية : إذا أخرج يده رآها بعد إبطاء وعسر ؛ لتكاثف الظلمة ، وترادف الموانع من الرؤية ؛ ف (يَكَدْ) على هذا الجواب ليست بزائدة.

وقال آخرون : معنى الآية إذا أخرج يده لم يرد أن يراها ، لأنّ الّذي شاهده من تكاثف الظلمات أيأسه من تأمّل يده ، وقرّر في نفسه أنه لا يدركها ببصره. وحكي عن العرب : أولئك أصحابي الذين أكاد أنزل عليهم ، أي أريد أن أنزل عليهم ؛ قال الشاعر :

كادت وكدت وتلك خير إرادة

لو عاد من لهو الصّبابة ما مضى (٢)

أي أرادت وأردت ، وقال الأفوه الأوديّ :

فإن تجمّع أوتاد وأعمدة

وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا

أي أرادوا.

وقال بعضهم : معنى قوله تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) (٣) ، أي أردنا ليوسف.

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٤٠.

(٢) ديوانه : ١٠ (ضمن مجموعة الطرائف).

(٣) سورة يوسف ، الآية : ٧٦.

٢١٢

وقال الكلبيّ ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : معناه كذلك صنعنا ليوسف.

ومما يشهد لمن جعل لفظة (يَكَدْ) زائدة في الآية قول الشاعر :

سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه

فما إن يكاد قرنه يتنفّس

أي فما إن يتنفّس قرنه ، و «يكاد» مزيدة للتوكيد ، وقال حسّان :

وتكاد تكسل أن تجئ فراشها

في جسم خرعبة وحسن قوام

معناه وتكسل أن تجئ فراشها ، وقال الآخر :

وألّا ألوم النّفس فيما أصابني

وألّا أكاد بالذي نلت أنجح

أي لا أنجح بالذي نلت ؛ ولو لم يكن الأمر على هذا لم يكن البيت مدحا.

وروى عبد الصمد بن المعذّل بن غيلان ، عن أبيه ، عن جدّه غيلان قال : قدم علينا ذو الرّمة الكوفة ، فأنشدنا بالكناسة ـ وهو على راحلته ـ قصيدته الحائية ؛ التي يقول فيها :

إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح (١)

فقال له عبد الله بن شبرمة (٢) : قد برح يا ذا الرّمة ، ففكّر ساعة ثمّ قال :

إذا غيّر النّأي المحبّين لم أجد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح

قال : فأخبرت أبي بما كان من قول ذي الرّمة واعتراض ابن شبرمة عليه ، فقال : أخطأ ذو الرّمة في رجوعه عن قوله الأوّل ، وأخطأ ابن شبرمة في اعتراضه عليه ؛ هذا كقوله عزوجل : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) ، أي لم يرها.

فأمّا قوله عزوجل : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) (٣) ، فيحتمل أن يكون

__________________

(١) ديوانه : ٧٨.

(٢) حواشي بعض النسخ : ت ، ف : «هو شبرمة بن الطفيل» بكسر الطاء وسكون الفناء ، الذى يقول :

ويوم كظلّ الرّمح قصّر طوله

دم الزّقّ عنّا واصطفاق المزاهر

والبيت من أبيات ثلاثة ، ذكرها أبو تمام في الحماسة ـ بشرح التبريزي ٣ / ٢٣٦.

(٣) سورة طه ، الآية : ١٥.

٢١٣

المعنى : أريد أخفيها لكي تجزى كلّ نفس بما تسعى. ويجوز أن تكون زائدة ويكون المعنى إنّ الساعة آتية أخفيها لتجزى كلّ نفس.

وقد قيل فيه وجه آخر : وهو أن يتمّ الكلام عند قوله تعالى : (آتِيَةٌ أَكادُ) ، ويكون المعنى : أكاد آتي بها ، ويقع الابتداء بقوله : (أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ) ؛ وممّا يشهد لهذا الوجه قول ضابئ البرجميّ :

همتت ولم أفعل وكدت وليتني

تركت علي عثمان تبكي حلائله (١)

أراد : وكدت أقتله ، فحذف الفعل لبيان معناه.

وروي عن سعيد بن جبير أنّه كان يقرأ : (أَكادُ أُخْفِيها) ، [بفتح الألف] فمعنى أخفيها على هذا الوجه أظهرها ؛ قال عبدة بن الطبيب يصف ثورا :

يخفي التّراب بأظلاف ثمانية

في أربع مسّهنّ الأرض تحليل (٢)

أراد أنّه يظهر التراب ويستخرجه بأظلافه ، وقال امرؤ القيس :

فإن تدفنوا الدّاء لا نخفه

وإن تبعثوا الحرب لا نقعد (٣)

أي لا نظهره ؛ وقال النابغة :

تخفي بأظلافها حتّى إذا بلغت

يبس الكثيب تداعى التّرب فانهدما (٤)

وقد روى أهل العربية : أخفيت الشيء يعني سترته ، وأخفيته بمعنى أظهرته ، وكأنّ القراءة بالضمّ تحتمل الأمرين : الإظهار والستر ، والقراءة بالفتح لا تحتمل

__________________

(١) الشعر والشعراء : ٣١٠.

(٢) من قصيدة مفضلية ٢٦٨ ـ ٢٩٣ بشرح ابن الأنباري. يصف شدّة عدو الثور ، وأنه يثير الغبار بأظلاف ثمانية وأربع قوائم ، مقدار مسهن الأرض تحليل ، أي قول الرجل في يمينه إن شاء الله. وفي حواشي بعض النسخ ؛ التحليل ضدّ التحريم ؛ يقال حللته تحليلا وتحلة ؛ وتقول لم أفعل ذلك إلّا تحلة القسم ؛ أي القدر الّذي لا أحنث معه ، ولم أبالغ فيه ؛ ثمّ توسع فيه ؛ فقيل لكلّ شيء لم يبالغ فيه تحليل ؛ يقال ضربته تحليلا.

(٣) مختار الشعر الجاهلي : ١٣١.

(٤) البيت ليس في ديوانه.

٢١٤

غير الإظهار ؛ وإذا كانت بمعنى الإظهار كان الكلام في «كاد» واحتمالها للوجوه الثلاثة التي ذكرناها كالكلام فيها إذا كانت بمعنى الستر والتغطية.

فإن قيل : فأيّ معنى لقوله : إنّي أسترها لتجزى كل نفس بما تسعى ، وأظهرها على الوجهين جميعا؟ وأيّ فائدة في ذلك؟

قلنا : الوجه في هذا ظاهر ، لأنّه تعالى إذا ستر عنّا وقت الساعة كانت دواعينا إلي فعل الحسن والقبيح متردّدة ، وإذا عرّفنا وقتها بعينه كنا ملجئين إلى التوبة ، بعد مقارفة الذنوب ونقض ذلك الغرض بالتكليف واستحقاقّ الثواب به ، فصار ما أريد به من المجازاة للمكلّفين بسعيهم ، واتصال ثواب أعمالهم يمنع من اطلاعهم على وقت انقطاع التكليف عنهم.

فأما إذا كانت لفظة «أخفيها» بمعنى الإظهار فوجهه أيضا واضح ؛ لأنه تعالى إنّما يقيم القيامة ، ويقطع التكليف ليجازى كلّا باستحقاقه ، ويوفّي مستحق الثواب ثوابه ، ويعاقب المسيء باستحقاقه ، فوضح وجه قوله تعالى : (أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) على المعنيين جميعا.

[أقول] وجدت أبا بكر محمد بن القاسم الأنباري يطعن على جواب من أجاب في قوله : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) بأنّ معناه كادت تبلغ الحناجر ، ويقول : «كاد» لا تضمر ، ولا بدّ من أن يكون منطوقا بها ، ولو جاز ضميرها لجاز : قام عبد الله بمعنى كاد عبد الله يقوم ، فيكون تأويل قام عبد الله لم يقم عبد الله ؛ لأنّ معنى كاد عبد الله يقوم لم يقم ، وهذا الذي ذكره غير صحيح. ونظّنّ أنّ الذي حمله على الطّعن في هذا الوجه حكايته له عن ابن قتيبة ، لأنّ من شأنه أن يرّد كل ما يأتي به ابن قتيبة ، وإن تعسّف في الطعن عليه. والذي استبعده غير بعيد ؛ لأنّ «كاد» قد تضمر في مواضع يقتضيها بعض الكلام وإن لم تكن في صريحه ؛ ألا ترى أنّهم يقولون : أوردت على فلان من العتاب والتوبيخ والتقريع ما مات عنده ، وخرجت نفسه ، ولمّا رأى فلان فلانا لم يبق فيه روح ، وما أشبه

٢١٥

ذلك ؛ ومعنى جميع ما ذكرناه المقاربة ، ولا بدّ من إضمار «كاد» فيه؟ وقال جرير :

إنّ العيون التي في طرفها مرض

قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا (١)

وإنّما المعنى أنّهن كدن يقتلننا ؛ وهذا أكثر في الشعر والكلام من أن نذكره.

فأمّا قوله : «يحيين قتلانا» فالأظهر في معناه أنّهن لم يزلن يفعلن ما قاربنا عنده الموت والقتل من الصدود والهجر وما أشبه ذلك ، وسمّى هذه الأمور حياة كما سمّى أضدادها قتلا ، وقد قيل إنّ معنى «يحيين قتلانا» أنّهن لم يدين قتلانا ، من الدّية ، لأنّ دية القتيل عند العرب كالحياة له ، وقد روى : «ثم لم يجنينّ قتلانا» ، وهذه رواية شاذة لم تسمع من عالم ولا محصّل ومعناها ركيك ضعيف ؛ وإذا كان الأمر على ما ذكرناه لم يمتنع أن يقال : قام فلان بمعنى كاد يقوم ، إذا دلّت الحال على ذلك ؛ كما يقال : مات بمعنى كاد يموت.

فأمّا قوله : «فيكون تأويل قوله : قام عبد الله ، لم يقم عبد الله» فخطأ ؛ لأنّه ليس معنى كاد يقوم إنّه لم يقم كما ظنّ بل معناه. أنّه قارب القيام ودنا منه ، فمن قال : قام عبد الله وأراد كاد يقوم ؛ فقد أفاد ما لا يفيده لم يقم.

وأمّا قوله تعالى : (زاغَتِ الْأَبْصارُ) فمعناه زاغت عن النظر إلى كلّ شيء فلم تلتفت إلّا إلى عدوها ، ويجوز أن يكون المراد ب (زاغَتِ) ، أي جارت ومالت عن القصد في النظر دهشا وتحيّرا.

فأمّا قوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) ، معناه أنّكم تظنّون مرّة أنّكم تنصرون وتظهرون على عدوّكم ، ومرّة أنّكم تبتلون وتمتحنون بالتخلية بينكم وبينهم.

ويجوز أيضا أن يريد الله تعالى أنّ ظنونكم اختلفت ، فظنّ المنافقون منكم خلاف ما وعدكم الله تعالى به من النصر ، وشكّوا في خبره عزوجل كما قال تعالى حكاية عنهم : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) ، فظنّ المؤمنون ما طابق وعد الله

__________________

(١) ديوانه : ٥٩٥.

٢١٦

تعالى لهم كما حكى عزوجل عنهم في قوله : (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ).

وكلّ ما ذكرناه واضح في تأويل الآية وما تعلّق بها (١).

ـ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) [الأحزاب : ٢١].

اعلم أنّه لا خلاف بين الأمّة في الرجوع إلى أفعاله عليه‌السلام في أحكام الحوادث ، كالرجوع إلى أقواله ، فيجب أن يكون كلّ واحد من الأمرين حجّة ، والمعتمد إنّما هو على هذا الإجماع الظاهر الّذي لا شبهة فيه ، دون الأخبار المرويّة في هذا الباب ، فهي مع الكثرة أخبار آحاد. وقد يجوز أن يستدلّ على ذلك بقوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٢) وبقوله تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ) (٣).

واعلم أنّ التأسّي به عليه‌السلام إنّما يكون فيما يعلم حكمه بفعله ، دون ما لم يكن له هذا الحكم. وإذا فعل عليه‌السلام فعلا على جهة الامتثال ؛ فحكمنا فيه كحكمه ، وماله فعله هو الّذي له نفعله ، فلا تأسّي به عليه‌السلام في ذلك ، كما أنّا لا نتأسّى به في العقليّات لهذه العلّة وما يفعله ابتداء شرع ، ففعله هو الحجّة فيه ، فالتأسّي به عليه‌السلام في ذلك. فأمّا ما يفعله عليه‌السلام بيانا لمجمل فله شبهان ؛ لأنّه من حيث كان امتثالا لدليل سابق ، يشبه ما يفعله امتثالا ، ومن حيث تضمّن بيان صفات وكيفيّات لهذه العبادات ، كالصلاة والطهارة وغيرهما ؛ جرى مجرى ابتداء الشرع ، فالتأسّي به إنّما هو في الكيفيّة والصفة اللّتين فعله عليه‌السلام هو الحجّة فيهما. هذا كلّه فيما يفعله عليه‌السلام على جهة العبادة ، أو ما يجري مجراها. وأمّا المباحات الّتي تخصّه عليه‌السلام كالأكل والنوم فخارج من هذا الباب. فأمّا صغائر الذّنوب ، فإنّا لا نجوّزها على الأنبياء عليهم‌السلام فلا نحتاج إلى استثنائها ، كما يحتاج إلى ذلك من جوّز الصغائر عليهم (٤).

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٣٢١.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٢١.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ١٥٣.

(٤) الذريعة ، ٢ : ٥٧٦.

٢١٧

[واستدلّ بالآيتين أيضا على أن أفعاله عليه‌السلام على الوجوب ، قال السيّد :]

ويقال لهم في قوله : (فَاتَّبِعُوهُ) هذه الآية قد بيّنّا أنّها توجب التأسّي به عليه‌السلام ، وأنّ التأسّي لا بدّ فيه من اعتبار وجه الفعل ، وما يفعله عليه‌السلام ندبا لا نكون متّبعين له فيه بأن نفعله واجبا ، بل نكون مخالفين له ، فالآية دليل لنا على هذا الترتيب.

ويقال لهم في قوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) هذه الآية أيضا تدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه ، والكلام على الآيتين واحد في اعتبار شرط التأسّي فيهما ، فبطل تعلّق مخالفينا بها (١).

ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩)) [الأحزاب : ٢٨ ـ ٢٩].

[قيل :] إن التخيير باطل لا يقع به فرقة وكذلك التمليك. وهذا سهو من قائله ؛ لأنّ فقهاء الشيعة الإمامية يفتون بجواز التخيير ، وأنّ الفرقة تقع به ، مشحونة به أخبارهم ورواياتهم عن أئمتهم عليهم‌السلام متظافرة فيه.

وقد تبيّنوا في مصنّفاتهم بقية هذا التخيير ، فقالوا : إذا أراد الرجل أن يخيّر امرأة اعتزلها شهرا ، وكان ذلك على طهر من غير جماع في مثل الحال التي لو أراد أن يطلّقها فيها طلّقها ، ثم خيّرها فقال لها : قد خيّرتك أو قد جعلت أمرك إليك ، ويجب أن يكون قولك بشهادة ، فإن اختارت نفسها من غير أن تتشاغل بحديث من قول أو فعل كان يمكنه أن لا تفعله ، صحّ اختيارها.

وإن اختارت بعد تشاغلها بفعل لم يكن اختيارها ماضيا ، فإن اختارت في جواب قوله لها ذلك وكانت مدخولة وكان تخييره إيّاها عن غير عوض أخذه منها ، كانت كالمطلّقة الواحدة التي هي أحقّ برجعتها في عدّتها ، وإن كانت غير مدخول بها فهي تطليقة بائنة ، وإن كان تخييره إيّاها عن عوض أخذه منها ، فهي

__________________

(١) الذريعة ، ٢ : ٥٨٣.

٢١٨

بائن ، وهي أملك بنفسها. وإن جعل الاختيار إلى وقت بعينه ، فاختارت قبله ، جاز اختيارها ، وإن اختارت بعده لم يجز.

وروى ابن بابويه عن عمر بن أذينة ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : إذا خيّرها وجعل (١) أمرها بيدها في غير قبل عدّة من غير أن يشهد شاهدين فليس بشيء ، فإن خيّرها وجعل (٢) أمرها بيدها بشهادة شاهدين في قبل عدّتها فهي بالخيار ما لم يفترقا ، فإن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحقّ برجعتها ، وإن اختارت زوجها فليس بطلاق (٣).

ولم نذكر هذا الخبر احتجاجا بأخبار الآحاد التي لا حجّة في مثلها. وإنّما ؛ أوردناه ليعلم أنّ المذهب في جواز التخيير بخلاف ما حكي ، والروايات في هذا الباب كثيرة ظاهرة ، ولو لا الإطالة لذكرناها.

وقد ذكر أبو الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمّي رحمه‌الله : إنّ أصل التخيير هو أنّ الله تعالى أنف لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مقالة قالتها بعض نسائه ، وهي قول بعضهن : أيرى محمد أنّه إذا طلّقنا لا نجد أكفاءنا من قريش يتزوجّنا ، فأمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعتزل نساءه تسعة وعشرين ليلة فاعتزلهن ، ثمّ نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩)) فاخترن الله ورسوله ، فلم يقع الطلاق ، ولو اخترن أنفسهن لبن ، انقضت الحكاية من ابن بابويه (٤).

ولست أدري ما السبب في إنكار من أنكر المتخيّر للمرأة ، وهل هو إلّا توكيل في الطلاق ، فالطلاق ممّا يجوز الوكالة ، فإن فرّق بين أن يوكل غيرها في طلاقها ويجعل إليه إيقاع فرقتها ، وبين أن يوكّل نفسها في ذلك (٥).

ـ (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ

__________________

(١ ـ ٢) في المصدر «أو جعل».

(٣) من لا يحضره الفقيه ، ٣ : ٣٣٥.

(٤) نفس المصدر ، ٣ : ٣٣٤.

(٥) الرسائل ، ١ : ٢٤١.

٢١٩

الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣].

[فيها أمور :

الأوّل : كيف ترك حجر أزواج النبيّ في أيديهن ، مع أن أبا بكر روى متفرّدا بأن الأنبياء لا يورثون وما تركوه صدقة ، وبذلك استند في أخذه فدك عن يد فاطمة سلام الله عليها؟] أجاب القاضي : «فأمّا حجر أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّمإ ؛ تركت في أيديهن ؛ لانها كانت لهن ، ونصّ الكتاب يشهد بذلك ، وهو قوله : «وقرن في بيوتكن» وروى في الاخبار ان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم ما كان له من الحجر على نسائه وبناته (١).

[قال السيّد : فأمّا استدلاله بهذه الآية على ان حجر أزواج النبيّ كانت لهن] فمن عجيب الاستدلال ؛ لأن هذه الاضافة لا تقتضي الملك ، بل العادة جارية فيها بأنّها تستعمل من جهة السكنى ، ولهذا يقال : «هذا بيت فلان ومسكنه» ولا يراد بذلك الملك ، وقد قال الله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) (٢) ولا شبهة في انّه تعالى أراد منازل الأزواج التي يسكنون فيها زوجاتهم ، ولم يرد بهذه الاضافة الملك.

فأمّا ما رواه من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسم حجره على بناته ونسائه فمن أين له إذا كان هذا الخبر صحيحا أن هذه القسمة على جهة التملّك دون الإسكان والإنزال؟ ولو كان قد ملكهن ذلك لوجب أن يكون ظاهرا مشهورا (٣).

[الثاني : كيف دفن أبو بكر وعمر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته وقد منع الله تعالى لكلّ من ذلك في حال حياته فكيف بعد الممات بقوله تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) (٤)].

__________________

(١) المغني ، ٢٠ : ٣٣٤.

(٢) سورة الطلاق ، الآية : ١.

(٣) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٤ : ١٠٤.

(٤) سورة الأحزاب ، الآية : ٥٣.

٢٢٠