تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

وقد يحكي العربي عن الفارسي كلاما مرتّبا مهذّبا ما نطق به الفارسي وإنّما أشار إلى معناه.

فقد زال التعجب من الموضعين معا ، وأيّ شيء أحسن وأبلغ وأدلّ على قوّة البلاغة وحسن التصرّف في الفصاحة من أن تشعر نملة لباقي النمل بالضرر لسليمان وجنده بما تفهم به أمثالها عنها ، فتحكي هذا المعنى الذي هو التخويف والتنفير بهذه الألفاظ المونقة والترتيب الرائق الصادق. وإنّما يضلّ عن فهم هذه الأمور وسرعة الهجوم عليها من لا يعرف مواقع الكلام الفصيح ومراتبه ومذاهبه (١).

ـ (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢)) [النمل : ٢٠ ـ ٢٢].

ما يحيل لكون هدهد سليمان عليه‌السلام عاقلا من طريقة العقول؟ ليسوغ الانصراف عن ظواهر ما حكاه الله تعالى عنه من الأقوال والأفعال الدالّة بظاهرها القوي أنّه ذو عقل يساوي عقول المكلفين.

وأقوى ذلك قول سليمان عليه‌السلام : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) وهذا وعيد عظيم لا يجوز توجّهه إلى غير ملوم على الخطأ ، المقصور فهمه عن فهم المكلّفين.

وكيف يجوز أن يوجب عليه مثل ذلك؟ لعدم البرهان المبين ، وهو الحجّة الواضحة التي يقيم عذره ، ويسقط الملامة عنه ، وقد كان له أن يذبحه من غير هذا الشرط على مقتضى ما أجاب به سيدنا «حرسه الله تعالى» من قبل ، أنّ ذلك كان مباحا له.

فلو لا أنّ العذاب هاهنا والذبح جاريان مجرى العقاب ، لما اشترطه في وجوبهما عليه عدم البرهان ، وفي سقوطهما عند حصوله.

__________________

(١) الرسائل ، ١ : ٣٥٥.

١٨١

وهذا يدلّ على أنّه ذو عقل يوجب التكليف له ، ولو لا ذلك ما حسن هذا الوعيد العظيم على هذا الشرط والترتيب.

ويدلّ على ذلك أيضا أنّ سليمان عليه‌السلام أهلّه لحمل كتابه والإعادة عليه بما يراه من القوم وما يقولون بقوله : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) (١) ولو أمن أحدنا من يقصر عقله عن عقل المكلّفين على مثل هذا المهم العظيم لكان سفيها.

وقوله من قبل : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) إلى قوله : (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) وما في هذا القصص من جودة اعتباره وحسن تدبيره ، كقوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) الآية.

فهل يسوغ الانصراف عن هذه الظواهر الغريبة بغير دلالة عقلية تحيل أن يعطي الله سبحانه العقل حيوانا مثله ، وما أولاه «كبت الله أعداءه» يذكر ما عنده في ذلك إن شاء الله.

الجواب :

إنّا قد كنّا ذكرنا في جواب المسائل الاولى الواردة في معنى ما حكي عن النملة والهدهد ما قد عرف ووقف عليه. ونحن نجيب الآن عمّا في هذا السؤال المستأنف ، ونزيل هذه الشبهة المعترضة ، وأوّل ما نقوله :

إنّ في الناس من ذهب إلى أنّه لا يجوز أن يكون الهدهد وما أشبهه من البهائم كامل العقل ، وهو على ما هو عليه من الهيئة والبنية ، وعدّ ذلك في جملة المستحيل وهذا ليس بصحيح [و] لا دلالة عقلية تدلّ على ذلك.

ومن أين لنا أن بنية قلب الهدهد وما جرى مجراه لا تحتمل العلوم التي هي كمال العقل ، وإذا كان العقل من قبل (٣) العلوم والاعتقادات ، وقلب البهيمة يحتمل الاعتقادات لا محالة ، بل كثيرا من العلوم وإن لم يكن تلك العلوم عقلا.

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٢٨.

(٢) سورة النمل ، الآية : ٢٥.

(٣) كذا والظاهر «قبيل».

١٨٢

فأيّ فرق بين العلم الذي هو عقل ، وبين العلم الذي ليس بعقل في احتمال القلب له؟ وما احتمل الجنس الذي هو الاعتقاد ، لا بدّ أن يكون محتملا للنوع الذي هو العلوم.

فإن قيل لنا : على هذا فإذا جوّزتم أن يكون البهائم ـ وهي على ما هي عليه ـ في قلوبها علوم هي كمال العقل ، والتكليف تابع لكمال العقل ، فألّا جوزتم أن تكون مكلّفة وهي على ما هي عليه ، كما جوّزتم أن تكون عاقلة.

قلت : الصحيح أن نقول : إنّ ذلك جائز لو لا الدلالة على خلافه ، والمعوّل في ذلك على إجماع المسلمين على أنّ البهائم ليست بكاملة العقول ولا مكلّفة وهذا أيضا معلوم من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا روي عنه عليه‌السلام أنّه قال : «جرح العجماء جبار» (١). وإنّما أراد أنّ جنايات البهائم لا شيء فيها.

ولا اعتبار بقول طائفة من أهل التناسخ بخلاف ذلك ؛ لأنّ أصحاب التناسخ لا يعدّون من المسلمين ، ولا ممّن يدخل قوله في جملة الإجماع ، لكفرهم وضلالهم وشذوذهم من البين.

وإنّما قلنا : إنّ الهدهد الذي خاطبه سليمان عليه‌السلام وأرسله بالكتاب لم يكن عاقلا ؛ لأنّ اسم الهدهد في لغة العرب وعرف أهلها اسم لبهيمة ليست بعاقلة ، كما أنّه اسم لما كان على صورة مخصوصة وهيئة معينة.

فلو كان ذلك الهدهد عاقلا لما سمّاه الله تعالى ، وهو يخاطبنا باللغة العربية هدهدا ، لأنّ هذا الاسم وضع لما ليس بعاقل ، وإجراؤه على من هو عاقل خروج عن اللغة ، فأحوجنا اتّباع هذا الظاهر إلى أن نتأوّل ما حكى عن هذا الهدهد من المحاورة ، ونبيّن كيفية انتسابه إلى ما ليس بعاقل.

وقد قلنا في ذلك وجهين ذكرناهما في جواب المسائل الاولى :

أوّلهما : أن ليس يكون ما وقع منه قول ، ولا نطق بهذا الخطاب المذكور ،

__________________

(١) نهاية ابن الأثير ، ٣ : ١٨٧.

١٨٣

وإنّما كان منه ما يدلّ على معنى هذا الخطاب ، أضيف الخطاب إليه مجازا ، وهو على مذهب العرب معروف ، قد امتلأت به أشعارها وكلامها ، فمنه قول الشاعر :

امتلأ الحوض وقال قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني

ونحن نعلم أنّ الحوض لا يقول شيئا ، وأنّه لمّا امتلأ ولم يبق فيه فضل لزيادة ، صار كأنه قائل : حسبي فلم يبق فيّ فضل لشيء من الماء.

وقد تحاوروا هذا في قول الشاعر :

وأحصت لذي بال حين رأيته

وكبر للرحمن حين رآني

فقلت له أين الذي عهدتهم

بحينك في خصب وطيب زمان

فقال حصل واستودعوني بلادهم

ومن ذا الذي يبقى على الحدثان

له بهذه المعاني المحكية عند رؤيته خاليا من أهله ، حكى ما استفاده من هذه المعاني عنه توسّعا وتفاصحا.

والوجه الآخر : أن يكون وقع من الهدهد كلام منظوم له هذه المعاني المحكية عنه بالهام الله تعالى له ذلك ، على سبيل المعجزة لسليمان عليه‌السلام كما جعل من معجزته فهمه لمنطق الطير وأغراضها في أصواتها.

وليس بمنكر أن يقع الكلام الذي فيه بعض الأغراض ممّن ليس بعاقل ولا مكلّف. ألا ترى أنّ الصبي الذي لم يبلغ الحلم ولا دخل في التكليف قد يتكلّم بكلام فيه أغراض مفهومة وكذلك المجنون؟

وليس يجب إذا حكى الله تعالى عن الهدهد ذلك الكلام المرتب المتسق أن يكون الهدهد نطق على هذا الترتيب والتنضيد ، بل يجوز أن يكون نطق بما له ذلك المعنى ، فحكاه الله تعالى بلفظ فصيح بليغ مرتّب مهذّب.

وعلى هذا الوجه يحكي العربي عن الفارسي ، والفارسي عن العربي ، وإن كان الفارسي لا ينطق بالعربية.

وعلى هذا الوجه حكى الله تعالى عن الأمم الماضية من القبط وغيرهم ، وعن موسى عليه‌السلام وفرعون ـ ولغتهما لغة القبط ـ ما حكاه من المراجعات

١٨٤

والمحاورات ، وهم لم ينطقوا بهذه اللغة ، وإنّما نطقوا بمعانيها بلغتهم ، فحكاه الله تعالى باللغة العربية وعفتها وقدسها.

وهذا مزيل العجب من نطق الهدهد بذلك الكلام المرتّب ؛ لأنّه لا يمتنع أن يكون ما نطق به بعينه ، وإنّما نطق بماله معناه.

فإن قيل : فقد رجعتم في الجوابين معا عن مطلق القرآن ؛ لأنّ حمل القول المحكي على أنّ المراد به ما ظهر من العلامات والدلالات ، على ما أنشدتموه من الشعر مجاز غير حقيقة ، وكذلك إضافة القول المترتّب إلى من لم يقله من ترتيبه ، وإنّما قال ما له معناه أيضا مجاز ، فقد هربتم من مجاز إلى مجاز ، من أنّكم امتنعتم من أن تسمّوا هدهدا عاقلا كاملا بمخالفة اللغة ، وأنّه عدول عن مقتضاها ، فما أجبتم به أيضا بهذه الصفة.

قلنا : الفرق بين الأمرين واضح ؛ فإنّ العادة قد جرت للعرب بما ذكرناه في الجواب الأوّل من المجاز ، وهو في كلامهم وأشعارهم ظاهر شائع ، حتى كاد يلحق بالحقيقة ، وما جرت عادتهم باسم الهدهد وما أشبهه من البهائم شخصا عاقلا مكلّفا على سبيل الإفادة ولا التلقيب ، فعدلنا عن مجاز [غير] معهود ولا مألوف إلى مجاز معهود مألوف.

وأمّا الجواب الثاني فلا نسلم أنّه مجاز ، ولا فيه من الاستعارة ؛ لأنّ من حكى معاني كلام غيره بلغة أخرى ، أو على ترتيب آخر بعد أن لا يتجاوز تلك المعاني ولا يتعداها ، وإن عبّر عنها بغير تلك العبارة لا يقول أحد : انّه متجوز ولا مستعير ، فبان الفرق بين الموضعين.

فإن قيل : قد شبهتم شيئا وبما لا يشبهه ؛ لأن القائل :

امتلأ الحوض وقال قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني

إنّما مراده امتلاء حتى لو كان ممن يقول لقال كذا ، وكذلك الجبل إنّما حكي عنه ما لو كان قائلا لقاله.

وقوله :

وشكى إليّ بعبرة وتحمحم

١٨٥

أي فهمت من عبرته وحمحمته التألم والشكوى ، فأين نظير ذلك في الهدهد.

قلنا : مثل هذا قائم في الحكاية عن الهدهد ؛ لأنّ سليمان عليه‌السلام لمّا رأى أنّ الهدهد إنّما ورد إليه من مدينة سبأ حكي عنه ما لو كان قائلا لقاله من أحوالها وصفة ملكها ، ومعلوم أنّ الأمر كذلك ؛ لأنّ الهدهد لو كان قائلا لقال ـ وقد عاين ذلك الملك ـ : «إنّني علمت ما لم تعلم وأنّي وجدت امرأة تملكهم ولها عرش عظيم» (١) والعرش هاهنا هو الملك أو الكرسي الذي حكيناه.

وقد جاء في القرآن وأخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك نظائر كثيرة ، فمن ذلك قوله تعالى حكاية عن السماء والأرض : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٢) والمعنى لو كانتا ممّا يقولان لقالتا.

وقوله جلّ اسمه : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٣) أنّها لو كنّ يشفقن ويأبين لأبين ويشفقن.

وقوله : «لو كتبت القرآن في أهاب ثم ألقي في النار لما احترق» (٤) وعلى هذا معناه وتقديره : لو كانت النار لا تحرق شيئا لجلالته وعظيم قدره لكانت لا تحرقه.

ولا يجعل على هذا الوجه سليمان عليه‌السلام مستفيدا من الهدهد خبر سبأ ، بل كان سليمان عليه‌السلام بذلك عالما قبل حضور الهدهد ، فلمّا حضر الهدهد بعد غيبته وعلم أنّه من تلك البلدة ورد ، أضاف إليه من القول والخبر ما لو كان مخبرا لقاله ، كما قيل في الحوض والجبل.

فإن قيل : ألّا جوزتم أن يكون الله تعالى فعل في الهدهد كلاما هذه صفته ، وكذلك في النملة.

__________________

(١) النمل : ٢٣ والآية كذا : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ).

(٢) سورة فصلت ، الآية : ١١.

(٣) سورة الأحزاب ، الآية : ٧٢.

(٤) النهاية لإبن الأثير ١ / ٨٣.

١٨٦

قلنا : إضافة القول إليهما دونه تعالى يمنع من ذلك ، والقائل هو فاعل القول دون محلّه.

فأمّا قوله : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) فالعذاب هو الألم والضرر ، وليس [يجري] مجرى العقاب الذي لا يكون إلّا على سبب متقدّم ولا يكون مبتدءا. ألا ترى أنّهم يقولون ابتدأه بالعذاب ، ولا يقولون ابتدأه بالعقاب؟ وقد يبيح الله تعالى من إيلام البهائم ما تضمّن هو العوض عنه ، كما أباح ركوبها والحمل عليها وأن ألمها ويثق (١) عليها وأباح ذبحها.

وقد روي أنّ العذاب الذي ذكره سليمان عليه‌السلام إنّما كان نتف ريشه.

وليس قوله : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) وعيدا على ما جرى في المسألة ؛ لأن القائل قد يقول وهو غير متوعّد : إن كان كذا ذبحت شاتي ، وإن لم يطر طائري إلى الموضع الفلاني ذبحته ؛ لأنّه مخيّر في أوقات هذا الذبح المباح ، وكان عليه‌السلام يخبر عن ذبح الهدهد أو نتف ريشه إن لم يعلم من حاله ما يصرفه عن هذا الداعي ، فلمّا علم وروده من تلك الجهة ، انصرف عن داعي الذبح أو الايلام. ومعنى (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي يأتي بأمر يصرفني عمّا عزمت عليه ، فكأنّه حجّة وسلطان.

وسليمان عليه‌السلام لم يجعل على الحقيقة الهدهد رسولا متحمّلا لكتاب ، ولا قال له : اذهب بكتابي هذا [و] ألقه إليهم ، ثمّ تولّ فانظر ما ذا يرجعون ، بل لمّا ظهر منه عليه‌السلام ما فيه معاني هذه الحكاية وفوائدها ، جاز على مذهب العرب أن يضاف إليه أنّه قال ذلك.

ألا ترى أنّ أحدنا قد يكتب كتابا مع طائر ، ويرسله إلى بعض البلدان ، ليعرف أخبار تلك البلدة وأحوالها ، فيجوز أن يقول هذا ويحكي عنه غيره : أنّه أرسل الطائر ، وقال [له] : عرّفني ما في ذلك البلد وصف لي أحوال كذا وأخبار كذا ، ويجعل ما هو غرضه كأنّه ناطق به وما يوصل به إلى هذا الغرض ، كأنّه رسول مخاطب بالتي سئل.

__________________

(١) كذا في الأصل.

١٨٧

ولذلك يقول الفصيح منهم ركبت فرسي أو جملي ، فقلت له : اذهب بي إلى البلد الفلاني وأسرع بي إليه وهو ما قال شيئا ، وأنّ المعنى ما ذكرناه.

ومن أنس بفصيح كلام العرب ولطيف إشاراتها وسرائر فصاحاتها ، تمّهدت هذه الأجوبة التي ذكرناها تولية وتحقّقها لمطابقة طريقة القوم ومذاهبهم (١).

ـ (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) [النمل : ٢٨].

أنظر التوبة : ٥٥ من الأمالي ، ١ : ٤٨٨.

ـ (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل : ٣٥].

أنظر القيامة : ٢٢ ، ٢٣ من الملخص ، ٢ : ٢٥٧.

ـ (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ...) [النمل : ٨٨].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

__________________

(١) الرسائل ، ١ : ٤٢٣.

١٨٨

سورة القصص

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ...) [القصص : ٤].

أنظر البقرة : ٢٥٥ من الذخيرة : ٥٨١.

ـ (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ...) [القصص : ٨].

أنظر يونس : ٨٨ من التنزيه : ١٠٦.

ـ (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦)) [قصص : ١٥ ، ١٦].

فإن قيل : فما الوجه في قتل موسى عليه‌السلام للقبطيّ وليس يخلو من أن يكون مستحّقا للقتل أو غير مستحقّ ، فإن كان مستحقا فلا معنى لندمه عليه‌السلام ، وقوله : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (١) وقوله : (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (٢) ، وإن كان غير مستحقّ فهو عاص في قتله ، وما بنا حاجة إلى أن نقول : إنّ القتل لا يكون صغيرة لأنّكم تنفون الصغير والكبير من المعاصي عنهم عليهم‌السلام.

الجواب : قلنا : ممّا يجاب به عن هذا السؤال إنّ موسى عليه‌السلام لم يعتمد القتل ولا أراده ، وإنّما اجتاز فاستغاث به رجل من شيعته على رجل من عدوّه بغى عليه وظلمه وقصد إلى قتله ، فأراد موسى عليه‌السلام أن يخلّصه من يده ويدفع عنه مكروهه ، فأدّى ذلك إلى القتل من غير قصد إليه ، فكلّ ألم يقع على سبيل

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ١٥.

(٢) سورة القصص ، الآية : ١٦.

١٨٩

المدافعة للظالم من غير أن يكون مقصودا فهو حسن غير قبيح ولا يستحقّ عليه العوض به ، ولا فرق بين أن تكون المدافعة من الإنسان عن نفسه ، وبين أن يكون عن غيره في هذا الباب ، والشرط في الأمرين أن يكون الضرر غير مقصود ، وأن يكون القصد كلّه إلى دفع المكروه والمنع من وقوع الضرر ، فإن أدّى ذلك إلى ضرر فهو غير قبيح.

ومن العجب ، أنّ «أبا علي الجبّائيّ» ذكر هذا الوجه في تفسيره ، ثمّ نسب مع ذلك موسى عليه‌السلام إلى أنّه فعل معصية صغيرة ، ونسب معصيته إلى الشيطان ، وقد قال في قوله : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي في هذا الفعل الّذي لم تأمرني به ، وندم على ذلك وتاب إلى الله منه ؛ فيا ليت شعري ، ما الّذي فعل بما لم يؤمر به ، وهو إنّما دافع الظالم ومانعه ، ووقعت الوكزة منه على وجه الممانعة من غير قصد. ولا شبهة في أنّ الله تعالى أمره بدفع الظلم عن المظلوم ، فكيف فعل ما لم يؤمر به؟ وكيف يتوب من فعل الواجب؟ وإذا كان يريد أن ينسب المعصية إليه فما الحاجة به إلى ذكر المدافعة والممانعة ، وله أن يجعل الوكزة مقصودة على وجه تكون المعصية به صغيرة؟

فإن قيل : أليس لا بدّ أن يكون قاصدا إلى الوكزة وإن لم يكن مريدا بها إتلاف النفس؟

قلنا : ليس يجب ما ظننته ، وكيف يجعل الوكزة مقصودة؟ وقد بيّنا الكلام علي أن القصد كان إلى التخليص والمدافعة ، ومن كان إنّما يريد المدافعة لا يجوز أن يقصد إلى شيء من الضرر ، وإنّما وقعت الوكزة وهو لا يريدها ، إنّما أراد التخليص ، فأدّى ذلك إلى الوكزة والقتل.

ووجه آخر : وهو أنّ الله تعالى كان عرّف موسى عليه‌السلام استحقاق القبطيّ للقتل بكفره ، وندبه إلى تأخير قتله إلى حال التمكّن ، فلمّا رأى موسى عليه‌السلام منه الإقدام على رجل من شيعته تعمّد قتله تاركا لما ندب إليه من تأخير قتله.

فأما قوله : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) ففيه وجهان :

١٩٠

أحدهما : أنّه أراد أنّ تزيين قتلي له وتركي لما ندبت إليه من تأخيره وتفويتي ما استحقه عليه من الثواب ، من عمل الشيطان.

والوجه الآخر : أنّه يريد أنّ عمل المقتول من عمل الشيطان ، مفصحا بذلك عن خلافه لله تعالى واستحقاقه للقتل.

وأمّا قوله : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) ، فعلى معنى قول آدم عليه‌السلام (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١) والمعنى أحد وجهين : إمّا على سبيل الانقطاع والرجوع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير عن حقوق نعمه وإن لم يكن هناك ذنب ، أو من حيث حرّم نفسه الثواب المستحقّ بفعل الندب.

وأمّا قوله : (فَاغْفِرْ لِي) فإنّما أراد به : «فاقبل منّي هذه القربة والطاعة والانقطاع». ألا ترى أنّ قبول الاستغفار والتوبة يسمّى غفرانا؟ وإذا شارك هذا القبول غيره في معنى استحقاق الثواب والمدح به جاز أن يسمّى بذلك ، ثمّ يقال لمن ذهب إلى أنّ القتل منه عليه‌السلام كان صغيرة : ليس يخلو من أن يكون قتله متعمّدا وهو مستحقّ للقتل ، وقتله عمدا وهو غير مستحقّ ، أو قتله خطأ ، وهو مستحقّ. والقسم الأول يقتضي أن لا يكون عاصيا جملة والثاني لا يجوز مثله على النبي عليه‌السلام ؛ لأنّ قتل النفس عمدا بغير استحقاق لو جاز أن يكون صغيرة على بعض الوجوه جاز ذلك في الزنا وعظائم الذنوب ، فإن ذكروا في الزنا وما أشبهه التنفير ، فهو في القتل أعظم. وإن كان قتله خطأ غير عمد وهو مستحقّ أو غير مستحق ، ففعله خارج من باب القبيح جملة. فما الحاجة إلى ذكر الصغيرة (٢)؟.

[انظر أيضا البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧ ، رسالة انقاذ البشر من الجبر والقدر].

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٢٣.

(٢) تنزية الأنبياء والأئمّة : ١٠٠.

١٩١

ـ (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) [القصص : ١٨].

فإن قيل : كيف يجوز لموسى عليه‌السلام أن يقول لرجل من شيعته يستصرخه : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ)؟.

الجواب : إنّ قوم موسى عليه‌السلام كانوا غلاظا جفاة ، ألا ترى إلى قولهم بعد مشاهدة الآيات لما رأوا من يعبد الأصنام : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) وإنّما خرج موسى عليه‌السلام خائفا على نفسه من قوم فرعون بسبب قتله القبطي ، فرأى ذلك الرجل يخاصم رجلا من أصحاب فرعون فاستنصر موسى عليه‌السلام ، فقال له عند ذلك : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) وأراد : إنّك خائب في طلب ما لا تدركه وتكلّف ما لا تطيقه ، ثمّ قصد إلى نصرته كما نصره بالأمس على الأوّل ، فظنّ أنّه يريده بالبطش لبعد فهمه ، فقال له : (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (١). فعدل عن قتله ، وصار ذلك سببا لشيوع خبر القبطيّ بالأمس (٢).

ـ (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص : ٢٦].

فإن قيل : فما الوجه في عدول شعيب عليه‌السلام عن جواب ابنته إلى قوله لموسى عليه‌السلام : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) وهي لم تسأل النكاح ولا عرضت به ، فترك إجابتها عن كلامها وخرج إلى شيء لم يجر ما يقتضيه.

الجواب : إنّها لمّا سألته أن يستأجره ومدحته بالقوة والأمانة ، كان كلامها دالّا على الترغيب فيه والتقريب منه والمدح له بما يدعو إلى إنكاحه ، فبذل له النكاح الّذي يقتضي غاية الاختصاص ، فما فعله شعيب عليه‌السلام في غاية المطابقة لجوابها ولما يقتضيه سؤالها (٣).

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ١٩.

(٢) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٠٣.

(٣) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٩٧.

١٩٢

ـ (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القصص : ٢٧].

فان قيل : ما معنى قول شعيب عليه‌السلام وكيف يجوز في الصداق هذا التخيير والتفويض؟ وأيّ فايدة للبنت فيما شرط هو لنفسه وليس يعود عليها من ذلك نفع؟.

الجواب : قلنا : يجوز أن تكون الغنم كانت لشعيب عليه‌السلام ، وكانت الفايدة باستيجار من يرعاها عائدة عليه ، إلّا أنّه أراد أن يعوّض بنته عن قيمة رعيها فيكون ذلك مهرا لها ؛ وأمّا التخيير فلم يكن إلّا ما زاد على ثماني حجج ولم يكن فيما شرطه مقترحا تخييرا ، وإنّما كان فيما تجاوزه وتعدّاه.

ووجه آخر : أنّه يجوز أن تكون الغنم كانت للبنت وكان الأب المتولّي لأمرها والقابض لصداقها ؛ لأنّه لا خلاف أنّ قبض الأب مهر بنته البكر البالغ جائز ، وأنه ليس لأحد من الأولياء ذلك غيره ، وأجمعوا أنّ بنت شعيب عليه‌السلام كانت بكرا.

ووجه آخر : وهو أن يكون حذف ذكر الصداق ، وذكر ما شرطه لنفسه مضافا إلى الصداق ؛ لأنّه جائز أن يشترط الولي لنفسه ما يخرج عن الصداق. وهذا الجواب يخالف الظاهر ؛ لأنّ قوله تعالى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) [القصص : ٢٧] يقتضي ظاهره أنّ أحدهما جزاء على الآخر.

ووجه آخر : وهو أنّه يجوز أن يكون من شريعته عليه‌السلام العقد بالتراضيّ من غير صداق معيّن ، ويكون قوله : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) على غير وجه الصداق ، وما تقدّم من الوجوه أقوى (١).

ـ (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ...) [القصص : ٥٦]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٩٨.

١٩٣

ـ (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص : ٧٣].

أنظر البقرة : ٢٠٢ من الأمالي ، ١ : ٣٧٤.

ـ (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [القصص : ٧٦]

أنظر الأنبياء : ٣٧ من الأمالي ، ١ : ٤٤١.

ـ (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].

[إن سأل سائل عن معنى هذه الآية] وقوله تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) (١).

وقوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢). وما شاكل ذلك من آي القرآن المتضمّنة لذكر الوجه.

الجواب : قلنا : الوجه في اللغة العربية ينقسم إلى أقسام :

فالوجه : المعروف المركّب فيه العينان من كلّ حيوان.

والوجه أيضا : أوّل الشيء وصدره ؛ ومن ذلك قوله تعالى : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) (٣) أي أوّل النهار ؛ ومنه قول الربيع بن زياد :

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار (٤)

أي غداة كلّ يوم. وقال قوم : وجه نهار : موضع.

والوجه : القصد بالفعل ؛ من ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (٥) ؛ معناه : من قصد بأمره وفعله إلى الله سبحانه ، وأراده بهما. وكذلك قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) (٦) ؛ وقال الفرزدق :

__________________

(١) سورة الإنسان ، الآية : ٩.

(٢) سورة الرحمن ، الآية : ٢٧.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٧٢.

(٤) الحماسة ـ بشرح المرزوقي : ٩٩٥ ؛ وفي بعض النسخ : «فليأت ساحتنا» ؛ وهي رواية الحماسة ؛ وهو مالك بن زهير العبسي قتل في بني فزارة ؛ فرثاه الربيع بأبيات منها هذا البيت.

(٥) سورة لقمان ، الآية : ٢٢.

(٦) سورة النساء ، الآية : ١٢٥.

١٩٤

وأسلمت وجهي حين شدّت ركائبي

إلي آل مروان بناة المكارم

أي جعلت قصدي وإرادتي لهم ، وأنشد الفرّاء :

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل

أي القصد ؛ ومنه قولهم في الصلاة : وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ؛ أي قصدت قصدي بصلاتي وعملي ؛ وكذلك قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) (١).

والوجه : الاحتيال للأمر ؛ من قولهم كيف الوجه لهذا الأمر؟ وما الوجه فيه؟ أي ما الحيلة؟

والوجه : المذهب والجهة والناحية ، قال حمزة بن بيض الحنفيّ :

أيّ الوجوه انتجعت؟ قلت لهم :

لأيّ وجه إلّا إلى الحكم (٢)

متى يقل صاحبا سرادقه :

هذا ابن بيض بالباب يبتسم

والوجه : القدر والمنزلة ؛ ومنه قولهم : لفلان وجه عريض ، وفلان أوجه من فلان ، أي أعظم قدرا وجاها ، ويقال : أوجهه السلطان إذا جعل له جاها ؛ قال امرؤ القيس :

ونادمت قيصر في ملكه

فأوجهني وركبت البريدا (٣)

والوجه : الرئيس المنظور إليه ؛ يقال : فلان وجه القوم ، وهو وجه عشيرته.

ووجه الشيء : نفسه وذاته ؛ قال أحمد بن جندل السّعديّ :

ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة

فأفلت منها وجهه عتد نهد (٤)

__________________

(١) سورة الروم ، الآية : ٤٣.

(٢) الأغاني : ١٥ / ١٤.

(٣) اللسان (وجه) : وهو من أبيات أربعة في الأغاني : ٨ / ١٩٦ (طبعة دار الكتب المصرية).

(٤) حفزنا : طعنا. ويقال فرس عتد ، بفتح التاء وكسرها : إذا كان شديدا تام الخلق سريع الوثبة ، ليس فيه اضطراب ولا رخاوة والنهد من نعت الخيل : الجسيم المشرف. والحوفزان هو الحارث بن شريك طعنه قيس بن عاصم يوم جدود ؛ والمشهور في ذلك قول سوار بن حيان المنقريّ : ـ

١٩٥

أراد أفلته ونجّاه ومنه قولهم : إنّما أفعل ذلك لوجهك ، ويدلّ أيضا على الوجه يعبّر به عن الذات قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)) (١) ، وقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩)) (٢) ، لأن جميع ما أضيف إلى الوجوه في ظاهر الآي ، من النظر ، والظنّ ، والرّضا لا يصحّ إضافته على الحقيقة إليها وإنّما يضاف إلى الجملة ، فمعنى قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ؛ أي كلّ شيء هالك إلّا هو ، فكذلك قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧))؛ لمّا كان المراد بالوجه نفسه لم يقل «ذي الجلال» كما قال : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٣) : لما كان اسمه غيره.

ويمكن في قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) وجه آخر ؛ وقد روي عن بعض المتقدّمين ، وهو أن يكون المراد بالوجه ما يقصد به إلى الله تعالى ويوجّه نحو القربة إليه جلّت عظمته ؛ فيقول : لا تشرك بالله ، ولا تدع إلها غيره ؛ فإنّ كلّ فعل يتقرّب به إلى غيره ، ويقصد به سواه فهو هالك باطل ؛ وكيف يسوغ للمشبّهة أن يحملوا هذه الآية والتي قبلها على الظاهر! أو ليس ذلك يوجب أنّه تعالى يفني ويبقى وجهه : وهذا كفر وجهل من قائله.

فأما قوله تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) (٤) ، وقوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) (٥) ، وقوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) (٦) ؛ فمعلوم على أن هذه الأفعال مفعولة له ؛ ومقصود بها ثوابه ، والقربة إليه ، والزلفة عنده.

فأما قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٧) ، فيحتمل أن يراد به : فثمّ

__________________

ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة

سقته نجيعا من دم الجوف اسكلا

وحمران قسرا أنزلته رماحنا

فعالج غلا في ذراعيه مقفلا

وانظر شرح المفضليات : ٤٧٠.

(١) سورة القيامة ، الآيات : ٢٢ ـ ٢٥.

(٢) سورة الغاشية ، الآيتان : ٨ ، ٩.

(٣) سورة الرحمن ، الآية : ٧٨.

(٤) سورة الإنسان ، الآية : ٩.

(٥) سورة الليل ، الآية : ٢٠.

(٦) سورة الروم ، الآية : ٣٩.

(٧) سورة البقرة ، الآية : ١١٥.

١٩٦

الله ، لا على معنى الحلول ، ولكن على معنى التدبير والعلم ، ويحتمل أن يراد به : فثمّ رضا الله وثوابه والقربة إليه.

ويحتمل أن يكون المراد بالوجه الجهة ، ويكون الإضافة بمعنى الملك والخلق والإنشاء والإحداث ؛ لأنّه عزوجل قال : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ؛ أي أنّ الجهات كلّها لله تعالى وتحت ملكه ؛ وهذا واضح بيّن بحمد الله (١).

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٥٥٤.

١٩٧

سورة العنكبوت

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) [العنكبوت : ١٧].

أنظر الأنبياء : ٢ من الملخص ، ٢ : ٤٢٣.

ـ (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت : ٤٨]

[ان سأل سائل فقال :] ما الذي يجب أن يعتقد في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هل كان يحسن الكتابة وقراءة الكتب أم لا؟.

الجواب :

وبالله التوفيق الذي يجب اعتقاده في ذلك التجويز لكونه عليه‌السلام عالما بالكتابة وقراءة الكتب ، ولكونه غير عالم بذلك ، من غير قطع على أحد الأمرين.

وإنّما قلنا ذلك ؛ لأنّ العلم بالكتابة ليس من العلوم التي يقطع على أنّ النبيّ والإمام عليهما‌السلام لا بدّ من أن يكون عالما بها وحائزا لها ؛ لأنّا إنّما نقطع في النبيّ والإمام على أنّهما لا بدّ أن يكون كلّ واحد عالما بالله تعالى وأحواله وصفاته ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، وبجميع أحوال الديانات وبسائر أحكام الشريعة التي يؤدّيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحفظها الإمام عليه‌السلام ويتقدّمها ، حتى لا يشذّ على كلّ واحد منهما من ذلك الشيء يحتاج فيه إلى استفتاء غيره ، كما يذهب المخالفون لنا.

أمّا ما عدا ذلك من الصناعات والحرف ، فلا يجب أن يعلم نبي أو إمام

١٩٨

شيئا من ذلك. والكتابة صنعة كالنساجة والصياغة ، فكما لا يجب أن يعلم ضروب الصناعات ، فكذلك الكتابة.

وقد دللنا على هذه المسألة ، واستقصينا الجواب عن كلّ ما يسأل عنه فيها في مسألة مفردة أمليناها جوابا لسؤال بعض الرؤساء عنه ، وانتهينا إلى أبعد الغايات.

وقلنا : إنّ إيجاب ذلك يؤدّي إلى إيجاب العلم بسائر المعلومات الغائبات والحاضرات ، وأن يكون كلّ واحد من النبي والإمام محيطا بمعلومات الله تعالى كلّها.

وبيّنا أنّ ذلك يؤدّي إلى أن يكون المحدث عالما لنفسه كالقديم تعالى ؛ لأنّ العلم الواحد لا يجوز أن يتعلّق بمعلوم على جهة التفصيل ، وكلّ معلوم مفصّل لا بدّ له من علم مفرد يتعلّق به ، وأنّ المحدث لا يجوز أن يكون عالما لنفسه ، ولا يجوز أن يكون أيضا وجود ما لا نهاية له من المعلوم ، ويبطل قول من ادعى أنّ الإمام محيط بالمعلومات.

فإن قالوا : الفرق بين الصناعات وبين الكتابة ، أنّ الكتابة قد تتعلّق بأحكام الشرع ، وليس كذلك باقي الصناعات.

قلنا : لا صناعة من نساجة أو بناء أو غيرهما إلّا وقد يجوز أن يتعلّق به حكم شرعي كالكتابة.

ألا ترى أن من استأجر بناءا على مخصوص ، وأيضا النساجة قد يجوز أن يختلف ، فيقول الصانع : قد وفيت العمل الذي استؤجرت له ، ويقول المستأجر : ما وفيت بذلك.

فمتى لم يكن الإمام عالما بتلك الصناعات ومنتهيا إلى أبعد الغايات لم يمكنه أن يحكم بين المختلفين.

فإن قيل : يرجع إلى أهل تلك الصناعة فيما اختلفا فيه.

قلنا : في الكتابة مثل ذلك سواء.

١٩٩

وبيّنا في تلك المسألة التي أشرنا إليها ، بأنّ هذا يؤدي إلى أنّ علم الإمام تصديق الشهادة أو كذبه فيما يشهد به ؛ لأنّه إذا جاز أن يحكم بشهادة مع تجويز كونه كاذبا ...

وإلّا جاز أن يحكم بقول ذي الصناعات في قيم المتلفات وأروش الجنايات وكلّ شيء اختلف فيه فيما له تعلّق بالصناعات وإن جاز الخطأ على المقوّمين. وبيّنا أن ارتكاب ذلك يؤدّي إلى كلّ جهالة وضلالة.

فإن قيل : أليس قد روى أصحابكم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم الحديبية لما كتب معينة بين سهيل بن عمرو كتاب مواعدة ، وجرى من سهيل ما جرى من إنكار ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة ، وامتنع أمير المؤمنين عليه‌السلام ممّا اقترح سهيل كتب عليه‌السلام في الكتاب.

قلنا : هذا قد روي في أخبار الآحاد وليس بمقطوع عليه ، وإنّما أنكرنا القطع ونحن مجوزون ـ كما ذكرنا ـ أن يكون عليه‌السلام كان يحسن الكتابة ، كما يجوز أن لا يكون يحسنها.

فإن قيل : أليس الله تعالى يقول : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ).

قلنا : إنّ هذا الآية إنّما تدلّ على أنّه عليه‌السلام ما يحسن الكتابة قبل النبوّة وإلى هذا يذهب أصحابنا ، فإنّهم يعتمدون أنّه عليه‌السلام ما كان يحسنها قبل البعثة ، وأنّه تعلّمها من جبرئيل بعد النبوّة ، وظاهر الآية تقتضي ذلك ؛ لأنّ النفي تعلّق بما قبل النبوّة دون ما بعدها ؛ ولأنّ التعليل أيضا يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوّة ؛ ولأنّ المبطلين والمشككين إنّما يرتابون في نبوّته عليه‌السلام لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة وأمّا بعد النبوّة فلا تعلّق له بالريبة والتهمة.

فإن قيل : من أين يعلم أنّه عليه‌السلام ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة ، وإذا كان عندكم أنّه قد أحسنها بعد النبوّة ، ولعل هذا العلم كان متقدّما.

فإن قلت : فلم نعلم أنّه عليه‌السلام ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة بهذه الآية.

٢٠٠