تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

سورة الفرقان

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ ...) [الفرقان : ١٠]

أنظر مريم : ٢٨ ، ٢٩ من الأمالي ، ٢ : ١٧٠.

ـ (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) [الفرقان : ١٥]

[إن سأل سائل فقال : كيف] أدخل لفظة «أفعل» فيما لم يشتركا في الصفة؟

[الجواب] ذلك أنّ الكلام قد يخرج كثيرا في لسان العرب على حسب اعتياد المخاطب ، وإذا كان العامل أعمال أهل النار والموثّر لها على ما يعقبه الجنّة ، كأنّه قد اعتقد أنّ الذي عمل له خير ممّا لم يعمل له ، جاز أن يقال : الذي اعتقدته وعملت له خيرا أنّ كذا وكذا ، وقد قيل في ذلك أنّ لفظة «أفعل» يقتضي ما ذكرناه إذا كانت خيرا ، فأمّا إذا خرجت مخرج التقريع والتهديد ، جاز أن يراد بها خلاف ذلك على جهة المجاز (١).

[انظر أيضا الفرقان : ١٥ من التنزيه : ٨٢].

ـ (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) [الفرقان : ١٩].

أنظر غافر : ١٨ من الذخيرة : ٥٠٤.

ـ (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣].

ويوصف تعالى بأنه يقدم على الفعل فهو قادم بمعنى عمد ، قال الله تعالى :

__________________

(١) الملخص ، ٢ : ٢١٩.

١٦١

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) ، والقادم من سفره متعمّدا للعود يوصف بذلك. ولا على هذا أنه قد يسمّى قادما من سفره وان كان نائما أو مغمى عليه ؛ لأن ذلك مجاز وحقيقته قدم به وأقدم من سفره ، كما يسمّون من سير به ولا يشعر سائرا مجازا ، فنقلوا اسم الفاعل فيه إليه مجازا (١).

ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) [الفرقان : ٣٢].

[سئل] ما القول عنده فيما ذهب إليه أبو جعفر ابن بابويه رضى الله عنه من أنّ القرآن نزل جملة واحدة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يعلم به جملة واحدة ، وانصرف على قوله سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) الآية ، إلى أنّ العلم به جملة واحدة ، انتفى على الذين حكى الله سبحانه عنهم هذا لا عنه عليه‌السلام بقول الله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (٢).

وذلك على مقتضى ثبوت هذه الصفة للعموم المستغرق يدلّ على ما ذهب إليه ، إذ ظاهره أقوى من الظاهر المتقدّم. ولو تكافئا في الظاهر ، لوجب تجويز ما ذهب إليه ، إلّا أن يصرف عنه دليل قاطع يحكم على الآيتين جميعا ، وليس للعقل في ذلك مجال ، فلا بدّ من سمع لا يدخله الاحتمال.

ويلزم تجويز ما ذهب إليه أيضا على مقتضى ثبوت هذه الصورة مشتركة بين العموم والخصوص على سواء.

وقد جاءت روايات إن لم يوجب القطع بهذا الجائز أوجبت ترجيحه ونحوها ، يقتضي أنّ الله سبحانه أنزل القرآن على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جملة واحدة ، ثم كان جبرئيل عليه‌السلام يأتيه عن الله سبحانه ، بأن يظهر في كلّ زمان ما يقتضيه الحوادث والعبادات المشروعة فيه ، وأشهد على ذلك بقوله تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٣).

__________________

(١) الذخيرة : ٥٩٤.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٨٥.

(٣) سورة طه : ١١٤.

١٦٢

فإن يكن القطع بذلك صحيحا على ما ذهب إليه أبو جعفر رحمه‌الله أنعم بذكره وتصرّفه ، وإن يكن عنده باطلا تطوّل بالإبانة عن بطلانه وكذب روايته ، وإن كان الترجيح له أولى ذكره ، وإن كان الصحيح عنده تكافىء الجائزين نظره إن شاء الله تعالى.

[قال :] الجواب :

أمّا إنزال القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وقت واحد أو في أوقات مختلفة ، فلا طريق إلى العلم به إلّا السمع ؛ لأنّ البيانات العقلية لا تدلّ عليه ولا تقتضيه. وإذا كان الغرض بإنزال القرآن أن يكون علما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعجزا لنبوّته وحجّة في صدقه ، فلا حجّة في هذا الغرض بين أن ينزل مجتمعا أو متفرّقا.

وما تضمّنه من الأحكام الشرعية فقد يجوز أن تكون مترتّبة في أزمان مختلفة ، فيكون الاطلاع عليها والاشعار بها مترتّبين في الأوقات بترتيب العبادات.

وكما أنّ ذلك جائز ، فجائز أيضا أن ينزّل الله تعالى جملة واحدة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن كانت العبادات التي فيه تترتّب وتختصّ بأوقات مستقبلة وحاضرة.

والذي ذهب إليه أبو جعفر ابن بابويه رحمه‌الله من القطع على أنّه أنزل جملة واحدة ، وإن كان عليه‌السلام متعبّدا بإظهاره وأدائه متفرّقا في الأوقات. إن كان معتمدا في ذلك على الأخبار المروية التي رواها فتلك أخبار آحاد لا توجب علما ولا تقتضي قطعا ، وبأزائها أخبار كثيرة أشهر منها وأكثر ، تقتضي أنّه أنزل متفرّقا ، وأنّ بعضه نزل بمكّة وبعضه بالمدينة ، ولهذا نسب بعض القرآن إلى أنّه مكّي وبعضه مدني.

وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتوقّف عند حدوث حوادث ، كالظهار وغيره ، على نزول ما ينزل إليه من القرآن ، ويقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أنزل إلى في هذا شيء.

ولو كان القرآن أنزل جملة واحدة لما جرى ذلك ، ولكان حكم الظهار

١٦٣

وغيره ممّا يتوقّف فيه معلوما له ، ومثل هذه الأمور الظاهرة المنتشرة لا يرجع عنها بأخبار الآحاد خاصة.

فأما القرآن نفسه فدالّ على ذلك ، وهو قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) ولو كان أنزل جملة واحدة لقيل في جوابهم قد أنزل على ما اقترحتم ، ولا يكون الجواب كذلك (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً).

وفسّر المفسّرون كلّهم ذلك بأن قالوا : المعنى إنّا أنزلناه كذلك أي متفرّقا يتمهل على أسماعه ، ويتدرج إلى تلقّيه.

والترتيل أيضا إنّما هو ورود الشيء في أثر الشيء ، وصرف ذلك إلى العلم به غير صحيح ؛ لأنّ الظاهر خلافه.

ولم يقل القوم لو لا أعلمنا بنزوله جملة واحدة ، بل قالوا : لو لا أنزل إليك جملة واحدة ، وجوابهم إذا كان أنزل كذلك أن يقال : قد كان الذي طلبتموه ، ولا يحتج لإنزاله متفرّقا بما ورد بنزوله في تمام الآية.

فأمّا قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) فإنّما يدلّ على أنّ جنس القرآن نزل في هذا الشهر ، ولا يدلّ على نزول الجميع فيه.

ألا ترى أنّ القائل يقول : كنت أقرأ اليوم القرآن ، وسمعت فلانا يقرأ القرآن ، فلا يريد جميع القرآن على العموم ، وإنّما يريد الجنس.

ونظائره في اللغة لا تحصى ، ألا ترى أنّ العرب يقول : هذه أيّام آكل فيها اللحم ، وهذه أيام آكل فيها الثريد ، وهو لا يعني جميع اللحم وأكل الثريد على العموم ، بل يريد الجنس والنوع.

وقد استقصيت هذه النكتة في مواضع كثيرة من كلامي.

فأمّا قوله تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (١) فلا ندري من أيّ وجه دلّ على أنّه أنزل جملة واحدة وقد كان أنّه رحمه‌الله يبيّن وجه

__________________

(١) سورة طه ، الآية : ١١٤.

١٦٤

دلالته على ذلك. وهذه الآية بأن تدلّ على أنّه ما أنزل جملة واحدة أولى ؛ لأنّه تعالى قال : (قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) وهذا يقتضي أنّ في القرآن منتظرا ما قضى الوحي به وقوع منه ، فإنّ نزول ذلك على أنّ المراد به قبل أن يوحى إليك بأدائه ، فهو خلاف الظاهر.

وقد كنا سئلنا إملاء تأويل هذه الآية قديما ، فأملينا فيها مسألة مستوفاة ، وذكرنا عن أهل التفسير فيها وجهين ، وضممنا إليهما وجها ثالثا تفرّدنا به (١).

وأحد الوجهين المذكورين فيها : أنّه كان عليه‌السلام إذا نزل عليه الملك بشيء من القرآن قرأه مع الملك المؤدي له إليه قبل أن يستتمّ الأداء حرصا منه عليه‌السلام على حفظه وضبطه ، فأمر عليه‌السلام بالتثبّت حتى ينتهي غاية الأداء ، لتعلّق الكلام بعضه ببعض.

والوجه الثاني : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهي أن يبلغ شيئا من القرآن قبل أن يوحى إليه بمعناه وتأويله وتفسيره.

والوجه الذي انفردنا به : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهي عن أن يستدعي من القرآن ما لم يوح إليه به ؛ لأنّ ما فيه مصلحة منه لا بدّ من إنزاله وإن لم يستدع ؛ لأنّه تعالى لا يدخّر المصالح عنهم وما لا مصلحة فيه لا ينزله على كلّ حال ، فلا معنى للاستدعاء ولا تعلّق للآية بالموضع الذي وقع فيه (٢).

ـ (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) [الفرقان : ٤٨].

[فيها أمران :]

[الأوّل : قال الناصر رحمه‌الله :] «إن وقعت النجاسة في ماء كثير لم ينجس ، ما لم يتغيّر أحد أوصافه ، والكثير ما بلغ قلّتين فصاعدا».

قد اختلف الفقهاء في هذه المسألة :

فقالت الشيعة الإماميّة : إنّ الماء الكثير لا ينجس بحلول النجاسة فيه إلّا بأن يغيّر لونه أو طعمه أو رائحته.

__________________

(١) تقدّم في سورة طه.

(٢) الرسائل ، ١ : ٤٠١.

١٦٥

وحدّ الكثير عندهم ما بلغ كرّا فصاعدا.

وحدّ الكرّ ما وزنه ألف ومائتا رطل بالرطل المدنيّ ، والرطل المدنيّ مائة وخمسة وتسعون درهما ...

دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً).

وقد علمنا أنّ الماء الكثير إذا خالطته نجاسة فلم يتغيّر أحد أوصافه ، لم يخرجه من أن يكون منزلا من السماء ومن أن يكون مستحقّا لهذا الوصف ، فيجب أن يكون الحكم المقترن بهذا الاسم (لازما له ما لزمه هذا الاسم).

وقد روى أصحاب الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا» (١).

وروت الشيعة الإمامية عن أئمّتها عليهم‌السلام بألفاظ مختلفة ، ووجوه مختلفة : أنّ الماء إذا بلغ كرّا لم ينجّسه ما يقع فيه من نجاسة ، إلّا بأن يغيّر أحد أوصافه.

وأجمعت الشيعة الإماميّة على هذه المسألة (٢) ، وإجماعها هو الحجّة فيها.

وأمّا الكلام في تصحيح الحدّ الذي ذكرناه من الكرّ وتعيّنه بالأرطال ، فالحجّة في صحّته إجماع الإماميّة عليه وإجماعها هو الحجّة (٣).

[الثاني : قال الناصر رحمه‌الله :] «سؤر السّباع نجس».

الصحيح عندنا أنّ سؤر جميع البهائم من ذوات الأربع والطيور ـ ما خلا الكلب والخنزير ـ طاهر يجوز الوضوء به.

ويكره سؤر ما يأكل الجيف والميتة من هذه الجملة ، وكذلك يكره سؤر الجلّال ... دليلنا على كراهية سؤر ما ذكرناه وجواز الوضوء ، قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً).

وقوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) ، وقد علمنا أنّ

__________________

(١) انظر النهاية ، ٤ : ١٦٢.

(٢) انظر الكافي ، ٣ : ٢ ح ٢.

(٣) الناصريات : ٦٨.

١٦٦

شرب البهائم منه لا يخرجه من أن يكون منزّلا من السماء ، فيجب بقاؤه على أصل الطهارة (١).

[انظر أيضا المقدّمة الثانية ، الأمر السادس].

ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [الفرقان : ٦٢].

أنظر النور : ٥٥ من الشافي ، ٤ : ٣٦ : و ٤٥.

ـ (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) [فرقان : ٧١].

أي عظيما مقبولا (٢).

ـ (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ...) [الفرقان : ٧٧]

أنظر الزخرف : ٨٦ من الأمالي ، ٢ : ٣٠٦.

__________________

(١) الناصريات : ٨١.

(٢) الرسائل ، ٤ : ٢٤١.

١٦٧

سورة الشعراء

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ : إلى ٢٤٧.

ـ (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) [الشعراء : ٥]

أنظر الأنبياء : ٢ من الملخص ، ٢ : ٤٢٣.

ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [الشعراء : ٧].

[إن سأل سائل] روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لمّا افتتح خيبر وقعوا في الثوم فأكلوه ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أكل هذه البقلة الخبيثة فلا يقربنّ مسجدنا حتّى يذهب ريحها (١).

وقد قال الله عزوجل : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) وما سمّاه الله تعالى كريما كيف يصحّ أن يسمّى خبيثا.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لجابر بن سليمان : يا جابر لا تسبنّ شيئا ، فكان جابر لا يسبّ شيئا. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للثوم «البقلة الخبيثة» ضرب من السبّ.

الجواب : إعلم أنّ أخبار الأحاد غير معلوم ولا مقطوع على صحّتها ، والصدق فيها أقلّ كثيرا من الكذب. وإنّما يجب أن نتأوّل من الأخبار ما علمناه وقطعنا على صحّته ، وجائز كونه كذبا.

غير أنّا نخرج له وجها تطوّعا ، وهو أن يريد عليه‌السلام بالخبيثة المنتنة الريح ،

__________________

(١) صحيح البخاري ، ١ : ٢٠٧.

١٦٨

ومعلوم أنّ المجاور لمن أكل الثوم يتأذّى برائحته شديدا ، فنهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آكلها من دخول المساجد ؛ لئلا يؤذّي أهله والمصلّين فيه.

وليس ينافي وصف هذا النبات بأنّه كريم وصفه بأنّه منتن الرائحة ؛ لأنّ معنى كريم أنّه دال على الله تعالى ، وأنّه لطف في مصالح كثيرة دينية ، وهذا المعنى لا ينافي نتن الريح.

ألا ترى أنّ الله قد وصف كلّ ما خلقه بالحسن والتمام والاحكام ، وممّا خلق القرد والخنزير وكثير من الخلق الذي يستقذر ، وذلك لا ينافي الحسن والحكمة وإن نفر كثير من الطباع عنها.

ويمكن وجه آخر : وهو أن يريد بقوله تعالى (كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) الخصوص دون العموم. والوجه الأوّل أقوى (١).

ـ (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣)) [الشعراء : ١٠ ـ ١٣].

فإن قيل : كيف جاز لموسى عليه‌السلام وقد قال تعالى : (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أن يقول في الجواب : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣)) وهذا استعفاء عن الرسالة.

الجواب : أنّ ذلك ليس باستعفاء كما تضمّنه السؤال ، بل كان عليه‌السلام قد أذن له في أن يسأل ضمّ أخيه في الرسالة إليه قبل هذا الوقت ، وضمنت له الإجابة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) (٢) إلى قوله : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ) (٣) فأجابه الله تعالى إلى مسألته بقوله : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٤). وهذا يدلّ على أنّ ثقته بالإجابة إلى مسألته الّتي قد تقدّمت ، وكان مأذونا له فيها. فقال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢)

__________________

(١) الرسائل ، ٣ : ١٢٥.

(٢) سورة طه ، الآيتان : ٩ ، ١٠.

(٣) سورة طه ، الآيتان : ٢٩ ـ ٣٠.

(٤) سورة طه ، الآية : ٣٦.

١٦٩

وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) شرحا لصورته وبيانا عن حاله المقتضية لضمّ أخيه إليه في الرسالة ، فلم يكن مسألته إلّا عن أذن وعلم وثقة بالإجابة (١).

ـ (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠)) [الشعراء : ١٩ ، ٢٠]

فإن قيل : فما معنى قول فرعون لموسى عليه‌السلام : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) إلى قوله عليه‌السلام : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) وكيف نسب عليه‌السلام الضلال إلى نفسه ، ولم يكن عندكم في وقت من الأوقات ضالّا؟.

الجواب : قلنا : أمّا قوله : (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) فإنّما أراد به من الكافرين لنعمتي ، فإنّ فرعون كان المربي لموسى عليه‌السلام إلى أن كبر وبلغ ، ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عنه : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) (٢).

وأمّا قول موسى عليه‌السلام (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) ، فإنّما أراد به الذاهبين عن أنّ الوكزة تأتي على النفس ، أو أنّ المدافعة تفضي إلى القتل. وقد يسمّى الذاهب عن الشيء أنّه ضالّ ويجوز أيضا أن يريد أنّني ضللت عن فعل المندوب إليه من الكفّ عن القتل في تلك الحال والفوز بمنزلة الثواب (٣).

ـ (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [الشعراء : ٣٢] (٤).

[إن سأل سائل فقال : ما تقولون في هذه الآية حكاية عن موسى عليه‌السلام] وقال في موضع آخر : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) (٥).

والثّعبان هو الحيّة العظيمة الخلقة ، والجانّ الصغير من الحيّات ، فكيف اختلف الوصفان والقصة واحدة؟ وكيف يجوز أن تكون العصا في حالة واحدة بصفة ما عظم خلقه من الحيّات ، وبصفة ما صغر منها؟ وبأيّ شيء تزيلون التناقض عن هذا الكلام؟

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٠٤.

(٢) سورة الشعراء ، الآية : ١٩.

(٣) تنزية الأنبياء والأئمّة : ١٠٣.

(٤) سورة الشعراء ، الآية : ٣٢.

(٥) سورة القصص ، الآية : ٣١.

١٧٠

الجواب : أوّل ما نقوله : إنّ الذي ظنّه السائل من كون الآيتين خبرا عن قصة واحدة باطل ، بل الحالتان مختلفتان ؛ فالحال [التي أخبر عن العصا فيها بصفة الجانّ] كانت في ابتداء النبوّة ، وقبل مصير موسى عليه‌السلام إلى فرعون ، والحال التي صار العصا عليها ثعبانا كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة ؛ والتلاوة تدلّ على ذلك ؛ وإذا اختلفت القصّتان فلا مسألة.

على أن قوما من المفسّرين قد تعاطوا الجواب على هذا السؤال : إمّا لظنّهم أنّ القصة واحدة ، أو لاعتقادهم أنّ العصا الواحدة لا يجوز أن تنقلب في حالين : تارة إلى صفة الجانّ ، وتارة إلى صفة الثعبان ؛ أو على سبيل الاستظهار في الحجّة ، وأنّ الحال لو كانت واحدة على ما ظنّ لم يكن بين الآيتين تناقض ؛ وهذا الوجه أحسن ما تكلّفوا الجواب لأجله ؛ لأنّ الأولين لا يكونان إلّا عن غلط أو غفلة ، وذكروا وجهين تزول بكلّ واحد منهما الشبهة من تأويلها :

أحدهما : أنّه تعالى إنّما شبّهها بالثعبان في إحدى الآيتين لعظم خلقها ، وكبر جسمها ، وهول منظرها ؛ وشبّهها في الآية الأخرى بالجانّ لسرعة حركتها ونشاطها وخفّتها ؛ فاجتمع لها ـ مع أنّها في جسم الثعبان وكبر خلقه ـ نشاط الجانّ ، وسرعة حركته ؛ وهذا أبهر في باب الإعجاز ، وأبلغ في خرق العادة ؛ ولا تناقض معه بين الآيتين ؛ وليس يجب إذا شبّهها بالثعبان أن يكون لها جميع صفات الثعبان ، وإذا شبّهها بالجانّ أن يكون لها جميع صفاته ، وقد قال الله تعالى : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) (١). ولم يرد تعالى أنّ الفضّة قوارير على الحقيقة ؛ وإنّما وصفها بذلك لأنّه اجتمع لها صفاء القوارير وشفوفها ورقّتها ، مع أنّها من فضّة ؛ وقد تشبّه العرب الشيء بغيره في بعض وجوهه ؛ فيشبّهون المرأة بالظّبية وبالبقرة ونحن نعلم أنّ في الظباء والبقر من الصّفات ما لا يستحسن أن يكون في النساء ، وإنّما وقع التشبيه في صفة دون صفة ، ومن وجه دون وجه.

__________________

(١) سورة الإنسان ، الآيتان : ١٥ ، ١٦.

١٧١

والجواب الثاني : أنّه تعالى لم يرد بذكر الجانّ في الآية الأخرى الحيّة ؛ وإنّما أراد أحد الجنّ ؛ فكأنّه تعالى خبّر بأنّ العصا صارت ثعبانا في الخلقة وعظم الجسم ؛ وكانت مع ذلك كأحد الجنّ في هول المنظر وإفزاعها لمن شاهدها ؛ ولهذا قال تعالى : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ).

ويمكن أن يكون في الآية تأويل آخر استخرجناه ؛ إن لم يزد على الوجهين الأوّلين لم ينقص عنهما ؛ والوجه في تكلّفنا له ما بيّناه من الاستظهار في الحجّة ، وأنّ التناقض الذي توهّم زائل على كل وجه ؛ وهو أنّ العصا لمّا انقلبت حيّة صارت أولا بصفة الجانّ وعلى صورته ، ثمّ صارت بصفة الثّعبان على تدريج ، ولم تصر كذلك ضربة واحدة ؛ فتتفق الآيتان على هذا التأويل ، ولا يختلف حكمهما ، وتكون الآية الأولى تتضمّن ذكر الثعبان إخبارا عن غاية حال العصا ، وتكون الآية الثانية تتضمّن ذكر الحال الّتي ولّى موسى فيها هاربا ؛ وهي حال انقلاب العصا إلى خلقة الجانّ ؛ وإن كانت بعد ذلك الحال انتهت إلى صورة الثعبان.

فإن قيل على هذا الوجه : كيف يصحّ ما ذكرتموه مع قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ؛ وهذا يقتضي أنّها صارت ثعبانا بعد الإلقاء بلا فصل؟

قلنا : تفيد الآية ما ظنّ ؛ وإنّما فائدة قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ) الإخبار عن قرب الحال التي صارت فيها بتلك الصّفة ، وأنّه لم يطل الزّمان في مصيرها كذلك ، ويجري هذا مجرى قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (١) ؛ مع تباعد ما بين كونه نطفة وكونه خصيما مبينا ، وقولهم : ركب فلان من منزله فإذا هو في ضيعته ، وسقط من أعلا الحائط فإذا هو في الأرض ؛ ونحن نعلم أنّ بين خروجه من منزله وبلوغه ضيعته زمانا ، وأنّه لم يصل إليها إلّا على تدريج ؛ وكذلك الهابط من الحائط ؛ وإنّما فائدة الكلام الإخبار عن تقارب الزّمان ؛ وأنه لم يطل ولم يمتدّ (٢).

__________________

(١) سورة يس ، الآية : ٧٧.

(٢) الأمالي ، ١ : ٥٢.

١٧٢

ـ (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [الشعراء : ٨٧]

أنظر البقرة : ٢٨٦ من الأمالي ، ٢ : ١١٤.

ـ (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) [الشعراء : ٩٤].

ومعناه فكبّوا ، كقولك : «فتّحت الأبواب» إذا أردت تكثير الفعل. ويجوز أن يكون المعنى : ألقوا على وجوههم فيها.

ويمكن أيضا أن يكون اشتقاق «كبكب» من المتكبب ، وهو المجتمع المتلون (١).

ـ (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) [الشعراء : ٩٩]

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ١٣٧]

أنظر الأنبياء : ٢ من الملخص ، ٢ : ٤٢٣.

ـ (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦)) [الشعراء : ١٦٥ ، ١٦٦].

أنظر البقرة : ٢٢٣ من الانتصار : ١٢٥.

ـ (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ١٨٤].

أنظر النور : ٤٣ ، ٤٤ من الأمالي ، ٢ : ٢٦٠.

ـ (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٥].

أنظر البقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

__________________

(١) الرسائل ، ٤ : ٥٤.

١٧٣

سورة النّمل

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [النمل : ١٦].

[ههنا أمران :

الأوّل : إن سأل سائل فقال :] ما القول في الأخبار الواردة في عمدة كتب من الأصول والفروع بمدح أجناس من الطير والبهائم والمأكولات والأرضين ، وذمّ أجناس منها كمدح الحمام والبلبل والقنبر والحجل والدّرّاج وما شاكل ذلك من فصيحات الطير ؛ وذمّ الفواخت والرّخم ؛ وما يحكى من أنّ كلّ جنس من هذه الأجناس المحمودة ينطق بثناء على الله تعالى وعلى أوليائه ، ودعاء لهم ، ودعاء على أعدائهم ؛ وأنّ كلّ جنس من هذه الأجناس المذمومة ينطق بضدّ ذلك من ذمّ الأولياء عليهم‌السلام ، وكذمّ الجرّيّ (١) وما شاكله من السمك ، وما نطق به الجرّي من أنّه مسخ بجحده الولاية ، وورود الآثار بتحريمه لذلك ؛ وكذم الدّبّ والقرد والفيل وسائر المسوخ المحرّمة ؛ وكذمّ البطّيخة التي كسرها أمير المؤمنين عليه‌السلام فصادفها مرّة فقال : «من النار إلى النار» ، ورمى بها من يده ، ففار من الموضع الذي سقطت فيه دخان ؛ وكذمّ الأرضين السّبخة ، والقول بأنّها جحدت الولاية أيضا. وقد جاء في هذا المعنى ما يطول شرحه ؛ وظاهره مناف لما تدلّ العقول عليه من كون هذه الأجناس مفارقة لقبيل ما يجوز تكليفه ، ويسوغ أمره ونهيه.

__________________

(١) الجرّيّ : ضرب من السماك.

١٧٤

وفي هذه الأخبار التي أشرنا إليها أنّ بعض هذه الأجناس يعتقد الحقّ ويدين به ، وبعضها يخالفه ؛ وهذا كلّه مناف لظاهر ما العقلاء عليه.

ومنها ما يشهد أنّ لهذه الأجناس منطقا مفهوما ، وألفاظا تفيد أغراضا ، وأنّها بمنزلة الأعجميّ والعربيّ اللذين لا يفهم أحدهما صاحبه ، وأنّ شاهد ذلك من قول الله سبحانه فيما حكاه عن سليمان عليه‌السلام : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١). وكلام النملة أيضا ممّا حكاه سبحانه ، وكلام الهدهد واحتجاجه وجوابه وفهمه.

والجواب : [قلنا :] وبالله التوفيق :

إعلم أنّ المعوّل فيما يعتقد على ما تدلّ الأدلّة عليه من نفي وإثبات ؛ فإذا دلّت الأدلة على أمر من الأمور وجب أن نبني كلّ وارد من الأخبار إذا كان ظاهره بخلافه عليه ؛ ونسوقه إليه ، ونطابق بينه وبينه ، ونجلّي ظاهرا إن كان له ، ونشرط إن كان مطلقا ، ونخصّه إن كان عامّا ، ونفصّله إن كان مجملا ؛ ونوفّق بينه وبين الأدلّة من كل طريق اقتضى الموافقة وآل إلى المطابقة ؛ وإذا كنّا نفعل ذلك ولا نحتشمه في ظواهر القرآن المقطوع على صحّته ، المعلوم وروده ؛ فكيف نتوقّف عن ذلك في أخبار آحاد لا توجب علما ؛ ولا تثمر يقينا! فمتى وردت عليك أخبار فأعرضها على هذه الجملة وابنها عليها ؛ وافعل فيها ما حكمت به الأدلّة ، وأوجبته الحجج العقلية ؛ وإن تعذّر فيها بناء وتأويل وتخريج وتنزيل ؛ فليس غير الإطراح لها ، وترك التعريج عليها ؛ ولو اقتصرنا على هذه الجملة لاكتفينا فيمن يتدبّر ويتفكّر.

وقد يجوز أن يكون المراد بذمّ هذه الأجناس من الطير أنّها ناطقة بضد الثناء على الله وبذمّ أوليائه ، ونقص أصفيائه معناه ذمّ متّخذيها ومرتبطيها ، وأنّ هؤلاء المغرين بمحبّة هذه الأجناس واتّخاذها هم الذين ينطقون بضدّ الثناء على الله ، ويذمّون أولياءه وأحبّاءه ؛ فأضاف النطق إلى هذه الأجناس ، وهو لمتّخذيها أو

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ١٦.

١٧٥

مرتبطيها ؛ للتجاور والتقارب ، وعلى سبيل التجوّز والاستعارة ؛ كما أضاف الله في القرآن السؤال إلى القرية ؛ وإنّما هو لأهل القرية ، وكما قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) (١) ؛ وفي هذا كلّه حذوف. وقد أضيف في الظاهر الفعل إلى من هو في الحقيقة متعلّق بغيره ؛ والقول في مدح أجناس من الطير ، والوصف لها بأنّها تنطق بالثناء على الله تعالى والمدح لأولياءه يجري على هذا المنهاج الذي نهجناه.

فإن قيل : كيف يستحقّ مرتبط هذه الأجناس مدحا بارتباطها ، ومرتبط بعض آخر ذمّا بارتباطه ؛ حتى علّقتم المدح والذمّ بذلك؟

قلنا : ما جعلنا لارتباط هذه الأجناس حظّا في استحقاق مرتبطيها مدحا ولا ذمّا ؛ وإنّما قلنا : إنّه غير ممتنع أن تجري عادة المؤمنين الموالين لأولياء الله تعالى والمعادين لأعدائه بأن يألفوا ارتباط أجناس من الطير. وكذلك تجري عادة بعض أعداء الله تعالى باتّخاذ بعض أجناس الطير فيكون متّخذ بعضها ممدوحا ؛ لا من أجل اتّخاذه ؛ لكن لما هو عليه من الاتّخاذ الصحيح ؛ فيضاف المدح إلى هذه الأجناس وهو لمرتبطيها ، والنطق بالتسبيح والدعاء الصحيح إليها وهو لمتّخذها تجوّزا واتّساعا. وكذلك القول في الذمّ المقابل للمدح.

فإن قيل : فلم نهي عن اتّخاذ بعض هذه الأجناس إذا كان الذمّ لا يتعلّق باتّخاذها ، وإنّما يتعلّق ببعض متّخذيها لكفرهم وضلالهم؟.

قلنا : يجوز أن يكون في اتّخاذ هذه البهائم المنهيّ عن اتخاذها وارتباطها مفسدة ، وليس يقبح خلقها في الأصل لهذا الوجه ؛ لأنّها خلقت لينتفع بها من سائر وجوه الانتفاع سوى الارتباط والاتّخاذ الذي لا يمتنع تعلّق المفسدة به.

ويجوز أيضا أن يكون في اتّخاذها هذه الأجناس المنهيّ عنها شؤم وطيرة ؛ فللعرب في ذلك مذهب معروف. ويصحّ هذا النهي أيضا على مذهب من نفى

__________________

(١) سورة الطلاق ، الآيتان : ٨ ـ ٩.

١٧٦

الطيرة على التحقيق ؛ لأنّ الطّيرة والتشاؤم ـ وإن كان لا تأثير لهما على التحقيق ـ فإنّ النفوس تستشعر ذلك ، ويسبق إليها ما يجب على كل حال تجنّبه والتوقّي عنه ؛ وعلى هذا يحمل معنى قوله عليه‌السلام : «لا يورد ذو عاهة على مصحّ».

فأمّا تحريم السمك الجرّي وما أشبهه فغير ممتنع لشيء يتعلّق بالمفسدة في تناوله ؛ كما نقول في سائر المحرّمات. فأمّا القول بأن الجرّيّ نطق بأنّه مسخ لجحده الولاية فهو ممّا يضحك منه ويتعجّب من قائله ، والملتفت إلى مثله.

فأمّا تحريم الدبّ والقرد والفيل فكتحريم كلّ محرّم في الشريعة ، والوجه في التحريم لا يختلف ؛ والقول بأنّها ممسوخة إذا تكلّفنا حملناه على أنّها كانت على خلق حميدة غير منفور عنها ، ثمّ جعلت على هذه الصّور الشّنيئة على سبيل التنفير عنها ، والزيادة في الصّدّ عن الانتفاع بها ؛ لأنّ بعض الأحياء لا يجوز أن يكون غيره على الحقيقة. والفرق بين كل حيين معلوم ضرورة ، فكيف يجوز أن يصير حيّ حيا آخر غيره؟ وإذا أريد بالمسخ هذا فهو باطل ، وإن أريد غيره نظرنا فيه.

وأمّا البطيخة فقد يجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه‌السلام لما ذاقها ونفر عن طعمها ؛ وزادت كراهيّته له قال : «من النار وإلى النار» ؛ أي هذا من طعام أهل النار ، وما يليق بعذاب أهل النار ، كما يقول أحدنا ذلك فيما يستوبئه ويكرهه.

ويجوز أن يكون فوران الدخان عند الإلقاء لها على سبيل التصديق ، لقوله عليه‌السلام : «من النار وإلى النار» وإظهار معجز له.

وأمّا ذمّ الأرضين السّبخة ، والقول بأنّها جحدت الولاية ؛ فمتى لم يكن محمولا معناه على ما قدّمناه من جحد هذه الأرض وسكّانها الولاية لم يكن معقولا ؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ).

وأمّا إضافة اعتقاد الحقّ إلى بعض البهائم واعتقاد الباطل والكفر إلى بعض آخر فممّا تخالفه العقول والضرورات ؛ لأنّ هذه البهائم غير عاقلة ولا كاملة ولا

١٧٧

مكلّفة ، فيكف تعتقد حقّا أو باطلا! وإذا ورد أثر في ظاهره شيء من هذه المحالات ؛ إما اطّرح أو تؤوّل على المعنى الصحيح. وقد نهجنا طريق التأويل ، وبيّنا كيف التوصّل إليه.

فأمّا حكايته تعالى عن سليمان عليه‌السلام : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) فالمراد به أنّه علّم ما يفهم به ما ينطق به الطير ؛ وتتداعى في أصواتها وأغراضها ومقاصدها ؛ بما يقع منها من صياح ؛ على سبيل المعجزة لسليمان عليه‌السلام.

فأمّا الحكاية عن النملة بأنّها قالت : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ) (١) فقد يجوز أن يكون المراد به أنّه ظهر منها دلالة القول على هذا المعنى ؛ وأشعرت باقي النمل ؛ وخوّفتهم من الضرر بالمقام ، وأنّ النجاة في الهرب إلى مساكنها ؛ فتكون إضافة القول إليه مجازا واستعارة ؛ كما قال الشاعر :

وشكا إليّ بعبرة وتحمحم (٢)

وكما قال الآخر :

وقالت له العينان سمعا وطاعة

ويجوز أيضا أن يكون وقع من النملة كلام ذو حروف منظومة ـ كما يتكلّم أحدنا ـ يتضمّن المعاني المذكورة ، ويكون ذلك معجزة لسليمان عليه‌السلام ؛ لأنّ الله تعالى سخّر له الطّير ، وأفهمه معاني أصواتها على سبيل المعجز له. وليس هذا بمنكر ؛ فإنّ النطق بمثل هذا الكلام المسموع منّا لا يمتنع وقوعه ممّن ليس بمكلّف ولا كامل العقل ؛ ألا ترى أنّ المجنون ومن لم يبلغ الكمال من الصبيان قد يتكلّمون بالكلام المتضمّن للأغراض ؛ وإن كان التكليف والكمال عنهم زائلين.

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ١٨.

(٢) لعنترة العبسي : من المعلقة ص ٢٠٤ ـ بشرح التبريزي :

فازورّ من وقع القنا بلبانه

والتحمحم : صوت مقطع ليس بالصهيل.

١٧٨

والقول فيما حكي عن الهدهد يجري على الوجهين اللذين ذكرناهما في النملة ؛ فلا حاجة بنا إلى إعادتهما.

وأمّا حكاية أنّه قال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١) ، وكيف يجوز أن يكون ذلك في الهدهد وهو غير مكلّف ولا يستحقّ مثله العذاب.

فالجواب : أنّ العذاب اسم للضّرر الواقع ، وإن لم يكن مستحقّا ؛ وليس يجري مجري العقاب الذي لا يكون إلّا جزاء على أمر تقدّم. وليس بممتنع أن يكون معنى «لأعذّبنّه» أي لأؤلمنّه ، ويكون الله تعالى قد أباحه الإيلام له ؛ كما أباحه الذبح له لضرب من المصلحة ، كما سخّر له الطير يصرفها في منافعه وأغراضه ؛ وكلّ هذا لا ينكر في نبيّ مرسل تخرق له العادات ؛ وتظهر على يده المعجزات ؛ وإنّما يشتبه على قوم يظنّون أنّ هذه الحكايات تقتضي كون النملة والهدهد مكلّفين ؛ وقد بيّنّا أنّ الأمر بخلاف ذلك (٢).

[الثاني : استدلّ القاضي بذيل الآية أي قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ) الآية على ان سليمان ورث داود علمه دون ماله وإلّا لم يكن لهذا القول تعلّق بالأوّل.

قال السيّد : أما استدلاله هذا] فليس بشيء يعوّل عليه ؛ لأنّه لا يمتنع أن يريد أنّه ورث المال بالظاهر والعلم بهذا المعنى من الاستدلال ، فليس يجب إذ دلّتنا الدلالة في بعض الألفاظ على معنى المجاز أن نقتصر بها عليه ، بل يجب أن نحملها على الحقيقة التي هي الأصل إذا لم يمنع من ذلك مانع ، على أنّه لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة ثم يقول : إنا مع ذلك علمنا منطق الطير ، ويشير بالفضل المبين إلى العلم والمال جميعا ، فله بالأمرين جميعا فضل على من لم يكن عليهما وقوله : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، يحتمل المال كما يحتمل العلم فليس بخالص ما ظنّه (٣).

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ١٨.

(٢) الأمالي ، ٢ : ٢٩٣.

(٣) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامة ، ٤ : ٧٩.

١٧٩

ـ (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [النمل : ١٨].

هذه المسألة تضمّنت الاعتراض على تأويلنا السابق فيما حكاه تعالى عن النملة والهدهد بقوله.

أمّا الكلام فيما يخصّ الهدهد فقد استقصيناه في جواب المسائل الواردة في عامنا هذا ، وأجبنا عن كلّ شبهة ذكرت فيه ، ولا معنى لإعادته (١).

فأمّا الاستبعاد في النملة أن تنذر باقي النمل بالانصراف عن الموضع ، والتعجّب من فهم النملة عن الأخرى ، ومن أن يخبر عنها بما نطق القرآن به ، من قوله : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٢).

فهو في غير موضعه ؛ لأنّ البهيمة قد تفهم عن الأخرى بصوت يقع منها ، أو فعل كثيرا من أغراضها. ولهذا نجد الطيور وكثيرا من البهائم يدعو الذكر منها الأنثى بضرب من الصوت ، يفرق بينه وبين غيره من الأصوات التي لا تقتضي الدعاء.

والأمر في ضروب الحيوانات وفهم بعضا عن بعض مرادها وأغراضها بفعل يظهر أو صوت يقع ، أظهر من أن يخفى ، والتغابي عن ذلك مكابرة.

فما المنكر على هذا أن يفهم باقي النملة من تلك النملة التي حكي عنها ما حكى ، الانذار والتخويف فقد نرى مرارا نملة تستقبل أخرى وهي متوجهة إلى جهة ، فإذا حاذتها وباشرتها عادت عن جهتها ورجعت معها؟

وتلك الحكاية البليغة الطويلة لا تجب أن تكون النملة قائلة لها ولا ذاهبة إليها ، وأنّهما لمّا خوّفت من الضرر الذي أشرف النمل عليه ، جاز أن يقول الحاكي لهذه الحال تلك الحكاية البليغة المرتّبة ؛ لأنّها لو كانت قائلة ناطقة ومخوّفة بلسان وبيان لما قالت إلّا مثل ذلك.

__________________

(١) يعني بذلك جواب المسائل الطرابلسيات الأولى لكنّه مفقود ويأتي في تفسير الآية : ٢٢ الجواب عن اعتراض آخر أورد على ما أجاب به هناك فانتظر.

(٢) سورة النمل ، الآية : ١٨.

١٨٠