تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

الذي يذهب إليه أصحابنا أنّ الكفاءة في الدين معتبرة ؛ لأنّه لا خلاف بين الأمّة في أنّه لا يجوز أن يزوّج المرأة المسلمة المؤمنة بالكفّار.

وأمّا الكفاءة في النسب فليست شرطا في النكاح ، ولم يختلف الفقهاء في أنّ عدم الكفاءة لا يبطل النكاح إلّا ما حكي عن ابن الماجشون (١) ، فإنّه ذهب إلى أنّها شرط في صحّته ... والذي يحتاج إليه أن يدلّ على أنّه لا اعتبار بالنسب في الكفاءة وصحّة العقد ، والذي يدلّ على ذلك الإجماع المتكرّر ذكره.

وأيضا ما روي من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد ولم يكن كفؤا لها ، لأنّه مولى وهي حرة عربية (٢).

وأيضا ما روي من أنّ سلمان خطب إلى عمر بنته فأنعم له بذلك وكان سلمان عجميا (٣) ، فدلّ على أنّ الكفاءة في النسب غير معتبرة.

وأيضا قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) وكلّ ظاهر في القرآن يقتضي الأمر بالنكاح هو خال من الاشتراط في النسب.

فإن قيل : هو أيضا خال من اشتراط الدين.

قلنا : إنّما اشترطنا الدين بالدليل والاجماع ، وإلّا فالظاهر لا يقتضي اشتراطه (٤).

[الثاني :] وممّا ظنّ إنفراد الإمامية به ، وشنّع عليهم لأجله القول بأنّ الشهادة ليست بشرط في النكاح ، وقد وافق داود في ذلك (٥) ، وقال مالك : إذا لم يتواصوا بالكتمان صحّ النكاح وإن لم يحضروا الشهود (٦) ؛ وباقي الفقهاء جعلوا الشهادة في النكاح شرطا (٧) والحجّة لقولنا إجماع الطائفة ، وأيضا فانّ الله

__________________

(١) المجموع ، ١٦ : ١٨٥.

(٢) أحكام القرآن (للجصّاص) ، ٢ : ١٢٨.

(٣) المبسوط ، ٥ : ٢٣.

(٤) الناصريات : ٣٢٧.

(٥) نيل الأوطار ، ٦ : ١٢٧.

(٦) قال في الرسائل ١ : ٢٣٧ قال مالك : وشرط النكاح أن لا يتواصوا بأعلم يصحّ وإن حضر الشهود وان لم يتواصوا بالكتمان صحّ وان لم يحضر الشهود.

(٧) المغني (لابن قدامة) ، ٧ : ٣٣٩.

١٤١

تعالى أمر بالنكاح في مواضع كثيرة من الكتاب ولم يشرط بالشهادة ، ولو كانت شرطا لذكرت ، على أنّ أبا حنيفة عنده أنّ كلّ زيادة في القرآن توجب النسخ (١) ، فلو زاد الشهادة لكان ذلك نسخا للكتاب ، والكتاب لا ينسخ بأخبار الآحاد.

وممّا يمكن أن يعارض المخالف به ما رووه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «إنّ النساء عندكم عوار أخذتموهنّ بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» (٢) ، وليس هاهنا كلام يستباح به فرج المرأة غير قول المزوّج قد زوّجت وقول المتزوّج قد تزوجت وظاهر هذا الكلام يقتضي أنّ الاستباحة حصلت بهذا الكلام بلا شرط زائد من شهادة ولا غيرها.

فإن قيل : إنّما أراد بكلمة الله قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) وما جرى مجراه من الألفاظ المبيحة للعقد على النساء؟

قلنا : تحليل الفرج لم يحصل بهذا القول ، ولو كان حاصلا به لاستغنى عن العقد والايجاب والقبول في الاباحة ، وإنّما آيات القرآن استفيد (٣) منها الاذن فيما يقع به التحليل والاباحة وهو العقد والايجاب والقبول.

فان احتجوا بما يروونه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «لا نكاح إلّا بولي وشاهدي عدل» (٤) ، فالجواب عنه : أنّ هذا الخبر واحد ، وهو مع ذلك مطعون في طريقه ، والزهري (٥) قد أنكره ، ومداره عليه وفي تضعيفه وجوه كثيرة لا نطوّل بذكرها ، ومع ذلك فانّ النفي داخل في اللفظ على النكاح ، والمراد حكمه ؛ وليس هم بأن يحملوه على نفي الصحة والأجزاء بأولى منّا إذا حملناه على نفي الفضل والكمال (٦) ، وأجريناه مجرى قوله عليه‌السلام : لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد ، ولا صدقة وذو رحم محتاج (٧).

__________________

(١) المحصول ، ١ : ٥٦٤.

(٢) المبسوط (للسرخسي) ، ٥ : ٥٩.

(٣) يستفاد خ ل.

(٤) سنن البيهقي ، ٧ : ١٢٤ ، ١٢٦.

(٥) المغني (لابن قدامة) ، ٨ : ٣٣٨.

(٦) قال في الرسائل ١ / ٢٣٧ : فكانه قال : لا نكاح فاضلا إلّا بوليّ وشهود.

(٧) الانتصار : ١١٨ وراجع أيضا الرسائل : ١ / ٢٣٦. والناصريات : ٣١٩.

١٤٢

ـ (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) [النور : ٣٣].

وممّا انفردت به الإمامية أنّه لا يجوز أن يكاتب العبد الكافر ، وأجاز باقي الفقهاء ذلك (١) ، وقد دللنا على نظير هذه المسألة في مسائل العتق والتدبير ، وما دللنا به هناك هو دليل في هذا الموضع (٢).

ويمكن أن يستدل على ذلك أيضا بقوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) فلا يخلو المراد بالخير أن يكون المال أو الصناعة وحسن التكسّب على ما قاله الفقهاء أو المراد به الخير الذي هو الدين والإيمان ، ولا يجوز أن يراد بذلك المال ولا المكتسب ؛ لأنّه لا يسمّى الكافر والمرتد إذا كانا موسرين أو متكسبين ، خيّرين ، ولا أنّ فيهما خيرا ؛ ويسمّى ذو الإيمان والدين خيرا ، وإن لم يكن موسرا ولا متكسبا ، فالحمل على ما ذكرناه أولى ، ولو تساوت المعاني في الاحتمال لوجب الحمل على الجميع (٣).

ـ (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥].

ويوصف تعالى بأنه «منوّر» على وجهين : أحدهما : أنه تعالى فاعل النور ، والآخر : بمعنى أنه ناصب للدلالة على الحق.

ولا يوصف تعالى بأنه «نور» على سبيل الحقيقة ، وقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) معناه أنه منوّرها ، أو فاعل لأهل السماوات والأرض من الدلالة والبيان ما يستضيؤن به ، كما يستضاء بالنور (٤).

ـ (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)) [النور : ٤٠]

أنظر الأحزاب : ١٠ من الأمالي ، ١ : ٣٢١.

__________________

(١) أحكام القرآن (للجصّاص) ، ٣ : ٣٢٢.

(٢) راجع الانتصار : ١٦٨ و ١٦٩ و ١٧٢.

(٣) الانتصار : ١٧٤.

(٤) الذخيرة : ٥٩٥.

١٤٣

ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤)) [النور : ٤٣ ـ ٤٤].

[أقول :] أمّا قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) فالمراد : ألم تعلم ؛ وإن كان هذا اللفظ مشتركا بين الإدراك والعلم ؛ وإنّما اختصّ هنا بالعلم دون الإدراك ؛ لأنّ إضافة إزجاء السحاب وتأليفه وجميع ما ذكر في الآية إلى الله تعالى ممّا لا يستفاد بالإدراك ؛ وإنّما يعلم بالأدلّة.

فأمّا قوله تعالى : (يُزْجِي سَحاباً) فمعناه يسوق ؛ ولا بدّ أن يلحظ في هذا الموضع السوق الضعيف الرفيق ؛ يقال منه : أزجى يزجى إزجاء ، وزجّى يزجّي تزجية ، إذا ساق ؛ ومنه إزجاء الكسير من الإبل إذا سقته سوقا رفيقا حتّى يسير ؛ ومنه قوله تعالى : (بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) (١) أي مسوقة شيئا بعد شيء على ضعف وقلّة ، قال عديّ بن الرقاع :

تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه

قلم أصاب من الدّواة مدادها (٢)

وقال الأعشى :

الواهب المائة الهجان وعبدها

عوذا تزجّي خلفها أطفالها (٣)

أراد بالعوذ الحديثة النتاج ؛ ومعنى «تزجّي» أي تسوق أطفالها وراءها سوقا رفيقا ؛ لأنّها تحنّ فتتبع أطفالها ؛ وقال مالك بن الرّيب المازنيّ :

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة

بوادي الغضى أزجي القلاص النّواجيا (٤)

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨٨.

(٢) الطرائف الأدبية : ٨٨ ؛ والضمير في «تزجي» يعود إلى ظبية ترتعي ومعها شادنها ، وأغنّ : في صوته غنة ؛ وهو الصوت الرخيم يخرج من الخياشيم ، والروق هنا : القرن ؛ وإبرته : طرفه المحدد.

(٣) ديوانه : ٢٥.

(٤) جمرة الأشعار : ٢٩٦.

١٤٤

والسحاب : جمع سحابة ؛ ولهذا قال : (يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) ، أي بين كلّ سحابة وأخرى ، ولو كان هاهنا أيضا اسما للجنس لجاز ؛ لأنّ الجنس يوصل بعضه ببعض ، ويؤلّف بعضه ببعض ؛ وإنّما لا يصحّ ذلك في العين الواحدة.

فأمّا الرّكام فهو الذي جعل بعضه فوق بعض ؛ ومنه قوله تعالى : (سَحابٌ مَرْكُومٌ) (١) ؛ وقوله تعالى (فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) (٢).

فأمّا الودق فهو المطر ؛ يقال ودق يدق ودقا ؛ وكلّ ما قطر منه ماء أو رشح فهو وادق ؛ ويقال : استودقت الفرس والأتان إذا حنّت إلى الفحل واستدعت ماءه ؛ ويقال أيضا : أودقت ؛ وأتان وديق وودوق ؛ إذا أرادت إنزال الفحل الماء فيها.

وخلال الشيء : خروقه وفروجه ؛ وقد قرىء : «من خلله» بغير ألف.

فأمّا قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) فإنّني وجدت جميع المفسّرين على اختلاف عباراتهم يذهبون إلى أنّه أراد أنّ في السماء جبالا من برد ؛ وفيهم من قال : ما قدره قدر جبال ؛ قال : يراد به مقدار جبال من كثرته.

وأبو مسلم بن بحر الأصبهانيّ خاصّة انفرد في هذا الموضع بتأويل طريف ؛ وهو أن قال : الجبال ما جبل الله من برد ، وكلّ جسم شديد مستحجر فهو من الجبال ؛ ألم تر إلى قوله تعالى في خلق الأمم : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) (٣) والناس يقولون : فلان مجبول على كذا.

ووجدت أبا بكر محمّد بن الحسن بن مقسم النحويّ يقول في كتابه المعروف بالأنوار : «وأمّا (مِنْ) الأولى ؛ والثانية فبمعنى حدّ التنزيل ؛ ونسبته إلى الموضع الذي نزّل منه ؛ كما يقال : جئتك بكذا ، ومن بلد كذا ؛ وأمّا الثالثة فبمعنى التفسير والتمييز ، لأنّ الجبال تكون أنواعا في ملك الله تعالى ؛ فجاءت (مِنْ) لتمييز البرد من غيره ؛ وتفسير معنى الجبال التي أنزل منها. وقد يصلح في

__________________

(١) سورة الطور ، الآية : ٤٤.

(٢) سورة الأنفال ، الآية : ٣.

(٣) سورة الشعراء ، الآية : ١٨٤.

١٤٥

مثل هذا الموضع من الكلام أن يقال : «من جبال فيها برد» بغير «من» ، يترجم برد عن جبال ؛ لأنّها مخلوقة من برد ، كما يقال : الحيوان من لحم ودم ، والحيوان لحم ودم ؛ ب «من» وبغير «من».

ووجدت علي بن عيسى الرمانيّ يقول في تفسيره : إنّ معنى (مِنْ) الأولى ابتداء الغاية ؛ لأنّ السماء ابتداء الإنزال ، والثانية للتبعيض ؛ لأنّ البرد بعض الجبال التي في السماء ، والثالثة لتبيين الجنس ؛ لأنّ جنس الجبال جنس البرد».

وهذه التفاسير على اختلافها غير شافية ولا كافية ؛ وأنا أبيّن ما فيها من خلل ، ثمّ أذكر ما عندي أنّه الصحيح :

أمّا من جعل في السماء جبال برد ، أو ما مقداره مقدار الجبال ـ على اختلاف عباراتهم ـ فيدخل عليه أن يبقي عليه قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ) بغير مفعول ؛ ولا ما يتعلّق به ؛ لأنّ تقدير الكلام على هذه التفاسير : وينزّل من جبال برد في السماء ؛ فما الشيء الذي أنزل به! فما تراه مذكورا في الآية ؛ والكلام كلّه خال منه على هذا التأويل.

فأمّا أبو مسلم فيلزمه هذا الكلام بعينه ، ويلزمه زائدا عليه أنّه جعل الجبال اسما للبرد نفسه ؛ من حيث كان مجبولا مستحجرا.

وهذا غلط ؛ لأنّ الجبال وإن كانت في الأصل مشتقّة من الجبل والجمع فقد صارت اسما لذي هيئة مخصوصة.

ولهذا لا يسمّي أحد من أهل اللغة كلّ جسم ضمّ بعضه إلى بعض ـ مع استحجار أو غير استحجار ـ بأنّه جبل ، ولا يخصّون بهذا اللفظ إلّا أجساما مخصوصة.

وليس يعترض على هذه التأويلات التي ذكرناها ما يظنّه بعض الناس من أنّه لا يجوز أن يكون في السماء جبال برد ، أو ما قدره قدر الجبال من البرد ؛ لأنّ ذلك غير ممتنع ولا مستحيل.

فإن قالوا : كيف لا تهوي تلك الجبال من البرد؟.

١٤٦

قلنا : يمسكها الله تعالى ، ويسكّنها كما يمسك الأرض والفلك.

وإنّما ينكر هذا أصحاب الطبائع ، الذين لا يقرّون بالخالق جلّت عظمته ، فيذكرون في سبب وقوف الأرض المركز وهو لا يعقل ؛ ولو أثبتوا الصانع جلّت عظمته نسبوا سكون الأرض إليه ، واستغنوا عن تكلّف ما لا يعقل ولا يفهم.

والأولى في تفسير هذا الموضع أن تكون «من» الأولى والثانية لابتداء الغاية ، والثالثة زائدة لا حكم لها ؛ ويكون تقدير الكلام : وينزّل من جبال في السماء بردا ، فزاد «من» كما يزاد في قولهم : ما في الدار من أحد ، وكم أعطيتك من درهم! وما لك عندي من حقّ ؛ وما أشبه ذلك.

وعلامة زيادتها في هذه المواضع أنّك إذا أخرجتها أو ألغيتها كان الكلام مستقلّا لا يتغيّر معناه ، وجرى قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) مجرى قول القائل : كم حملت لك من الكوفة من سوقها من ثوب! والمعنى : كم حملت لك من سوق الكوفة ثوبا!.

والأولى أن يريد بلفظة «السّماء» هنا ما علا من الغيم وارتفع فصار سماء لنا ؛ لأنّ سماء البيت وسماوته ما ارتفع منه ؛ ولأنّ السحاب لا يكون في السماء التي هي الفلك للكواكب ؛ وإنّما هو تحته ، وأراد بالجبال التشبيه ، لأنّ السحاب المتراكب المتراكم تشبّهه العرب بالجبال والجمال ؛ وهذا شائع في كلامها ، كأنّه تعالى قال : وينزّل من السحاب الذي يشبه الجبال في تراكمه بردا ؛ قد ظهر على هذا التأويل مفعول صحيح ل «ننزّل» ولا مفعول لهذا الفعل على التأويلات المتقدّمة.

فإن قيل : إذا جاز أن تجعلوا (مِنْ) الأخيرة زائدة حتى يكون المنزّل هو البرد ، فألّا جعلتم (مِنْ) الثانية هي الزائدة ، ويكون تقدير الكلام : وننزّل من السماء جبالا من برد!.

قلنا : ليس يشبه البرد في نزوله الجبال على وجه ولا سبب ؛ والسّحاب المتراكم يشبه الجبال ، وقد جرت عادة العرب بتشبيهه بها ، فيجب أن تكون الثانية غير زائدة لما ذكرناه ، وتكون الأخيرة زائدة ؛ وإلّا بقيتا بلا مفعول ؛ ولأنّه

١٤٧

تعالى قال : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) ، وما رأينا أحدا من المفسّرين لهذه الآية ـ على اختلافهم وذكر أكثرهم كلّ ما تقتضيه وجوه الإعراب في آيات القرآن ـ تعرّض لذكر المفعول ، ولا قال : إنّه ظاهر ولا مقدّر محذوف يدلّ الكلام عليه. وهذا على كلّ حال تقصير ظاهر.

فأمّا قوله تعالى : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) فالمراد به : فيصيب بضرره من يشاء ، ويصرف ضرره عمّن يشاء ؛ فإنّ العادة جارية بأنّ البرد يصيب أرضا ويتعدّى ما يجاورها ويلاصقها.

فأمّا قوله تعالى : (يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) فسنا البرق ضوءه ، وهو مقصور ، وسناء المجد والشرف ممدود ، والهاء في «برقه» راجعة إلى البرد أو السحاب ؛ فقد جرى ذكر كلّ واحد منهما ؛ ويجوز إضافة البرق إليهما.

فأمّا قوله : (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) وقد قرىء «يذهب» بضمّ الياء ؛ فالمراد به أنّ البرق من شدّة ضوئه يكاد يذهب بالعيون ؛ لأنّ النظر إلى ماله شعاع شديد يضرّ بالعين ؛ كعين الشمس وما أشبهها ؛ والقراءة بفتح الهاء أجود مع دخول الباء ؛ تقول العرب : ذهبت بالشيء ؛ فإذا أدخلوا الألف أسقطوا الباء فقالوا : أذهبت الشيء ؛ بغير بإء.

فأمّا قوله (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) فإنّما أراد أنّه يأتي بكلّ واحد منهما بدلا من صاحبه ، ومعاقبا له ؛ لما في ذلك من المصلحة والمنفعة.

فأمّا قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) فإنّما أراد بالعبرة العظة والاعتبار ، وروي عن الحسن أنّه قال : إنّما أراد ذوي أبصار القلوب لا العيون ؛ لأنّ العين لا تضاف إليها العبرة والعظة.

وقال الكلبيّ : لأولي الأبصار في الدين. وردّ قوم على الكلبيّ بأن قالوا : لو أراد ذلك لقال : لأولي البصائر ، لأنّ الدين يقال : فيه بصيرة لا بصر.

والأولى أن يكون المراد بالأبصار هاهنا العيون ، لأنّ بالعيون ترى هذه العجائب التي عدّدها الله تعالى ، ثمّ يكون الاعتبار والعظة في القلب بها ، ويكون

١٤٨

من لا موعظة له ولا اعتبار كأنّه لا بصر له ؛ من حيث لم ينتفع ببصره ، فجعل أولي الأبصار هم أولي الاعتبار من حيث انتفع أولو الاعتبار بأبصارهم ، وإن لم ينتفع صمّا وبكما وعميا ؛ من حيث أشبهوا بإعراضهم عن الفكر والتأمّل والاعتبار من لا جوارح له. وهذا بيّن لمن تأمّله (١).

ـ (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [النور : ٤٥].

أنظر البقرة : ٣١ من الرسائل ، ٣ : ١١٢.

ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) [نور : ٥٥].

[حكى القاضي استدلال شيخه «أبي عليّ» بهذه الآية على أن أبا بكر يصلح للإمامة ، قال :] فلم نجد هذا التمكين والاستخلاف في الأرض الذي وعده الله من آمن وعمل صالحا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا في أيّام أبي بكر وعمر ؛ لأنّ الفتوح كانت في أيّامهم وأبو بكر فتح بلاد العرب ، وصدرا من بلاد العجم. وعمر فتح مدائن كسرى وإلى حد (٢) خراسان والشام ومصر [ثمّ كان من عثمان فتح ناحية المغرب] (٣) وخراسان وسجستان وغيرها ، وإذا كان التمكين والاستخلاف الذي تضمنته الآية لهؤلاء الأئمة وأصحابهم علمنا أنّهم محقّون ، فلو لم يكن لهؤلاء لم يصحّ ؛ لأنّه لم يكن لغيرهم الفتوح ، ولو كان لغيرهم أيضا لوجب كون الآية متناولة للجميع (٤) وقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (٥) ولو كان الأمر على ما يقوله كثير من الإمامية أنّهم ارتدّوا بعد نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخالفوا النصّ الجلي لما كانوا خير أمة ؛ لأنّ أمّة موسى لم يرتدّوا بعد موسى بل كانوا متمسّكين به مع يوشع».

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٢٦٠. وراجع أيضا الرسائل ، ٤ : ١٨.

(٢) في المغني «إلى جهة».

(٣) ما بين المعقوفتين ساقط من «المغني».

(٤) العبارة في «المغني» ناقصة ومشوشة.

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١١٠.

١٤٩

وقال حاكيا عن أبي علي : «وكيف يتصوّر عاقل مع عظم حال الإسلام عند موت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكون الجميع ينقادون لأبي بكر ولا ينكرون إمامته ، وقد نصّ رسول الله نصّا ظاهرا على واحد بعينه فلا يتّخذه أحد إماما ولا يذكرون ذلك. ولو جاز ذلك لجاز أن يكون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولد ولا نصّ عليه ، ولم يذكر ذلك وكيف يكونون مرتدّين مع أنّه تعالى أخبر أنّه جعلهم (أُمَّةً وَسَطاً) وكيف يصحّ مع قوله عزوجل : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (١) وكيف يقول تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) (٢) وكيف يصحّ ذلك مع قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (٣) الآية ، فشهد بمدحهم وبأنّهم غيظ الكفّار ، ونحن نعلم أنّه لا يغيظ الكفّار بستّة نفر على ما يقوله الإمامية ، وكيف يصحّ ما قالوه مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خير الناس قرني ثمّ الذين يلونهم» وكلّ ذلك يبيّن بطلان قولهم : إنه لم يصلح للإمامة ، وإنه مشكوك في فضله وإيمانه ، ...» (٤).

[يقال له] فأوّل ما في ذلك أن الآية مشروطة بالإيمان ، فيجب على من ادّعى تناولها القوم أن يبيّن إيمانهم بغير الآية وما يقتضيه ظاهرها ، ثمّ المراد بالاستخلاف هاهنا ليس هو الإمامة والخلافة على ما ظنّوه ، بل المعنى فيه بقاؤهم في أثر من مضى من الفرق وجعلهم عوضا منهم وخلفا.

ومن ذلك قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) (٥) وقوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (٦) وقوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) (٧) وقد ذكر أهل التأويل في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ١٠٠.

(٢) سورة الحديد ، الآية : ١٠.

(٣) سورة الفتح ، الآية : ٢٩.

(٤) المغني ، ٢٠ : ٣٢٦.

(٥) سورة فاطر ، الآية : ٣٩.

(٦) سورة الأعراف ، الآية : ١٢٩.

(٧) سورة الأنعام ، الآية : ١٣٣.

١٥٠

أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) (١) أن المراد به كون كلّ واحد منهما خلف صاحبه ، وأنشدوا في ذلك قول زهير بن أبي سلمى :

بها العين والآرام يمشين خلفة

وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجثم (٢)

وهذا الاستخلاف والتمكين في الدين لم يتأخّر إلى أيّام أبي بكر وعمر على ما ظنّه القوم بل كان في أيّام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قمع الله أعداءه ، وأعلى كلمته ، ونشر رايته ، وأظهر دعوته ، وأكمل دينه ، ونعوذ بالله أن نقول : إنّ الله لم يكن أكمل دينه لنبيّه في حياته حتى تلافى ذلك متلاف بعد وفاته ، وليس كلّ التمكين هو كثرة الفتوح والغلبة على البلدان ؛ لأن ذلك يوجب أن دين الله تعالى لم يتمكّن إلى اليوم لعلمنا ببقاء ممالك الكفرة كثيرة لم يفتحها المسلمون ، ولأنه أيضا يوجب أن الدين تمكّن في أيّام معاوية ومن بعده من بني أميّة أكثر من تمكّنه في أيّام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر ؛ لأنّ بني أميّة افتتحوا بلادا لم تفتتح قبلهم.

ثمّ يقال له : من أي وجه أوجبت كون التمكين فيمن ادّعيت؟ فإن قال : لأني لم أجد هذا التمكين والاستخلاف إلّا في أيّامهم ، وقد بيّنا ما في ذلك ، وذكرنا أن التمكين كان متقدّما وكذلك الاستخلاف على المعنى الذي ذكرناه ، وإن قال : لأنا لم نجد من خلف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقام مقامه إلّا من ذكرته.

قيل له : أليس قد بيّنا أن الاستخلاف هاهنا يحتمل غير معنى الإمامة فلم حملته على الإمامة؟ وبعد فإن حمله على المعنى الذي ذكرناه أقرب إلى مذهبك وأجرى على أصولك ؛ لأنّه إذا حملته على الإمامة لم يعم جميع المؤمنين وإذا حمل على المعنى الذي ذكرناه عمّ جميع المؤمنين.

وبعد ، فإذا سلم لك أن المراد به الإمامة لم يتمّ ما ادّعيته إلّا بأن تدلّ من

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية : ٦٢.

(٢) البيت من المعلقة والعين ـ بالكسر ـ : بقر الوحش ، والآرام : الظبآء واحدها ريم بالفتح ، وخلفة واحدة بعد واحدة ، والاطلاء جمع طلا وهو ولد الظبي الصغير ، والمجثم : الموضع الذي يجثم فيه الطائر ، أو بمعنى الجثوم ـ مصدر ـ أراد إن الدار اقفرت حتّى صارت مجثما لضروب الوحش.

١٥١

غير جهة الآية على أنّ أصحابك كانوا أئمّة على الحقيقة ، وخلفاء للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى تتناولهم الآية.

فإن قال : دليلي على تناولها لهم قول أهل التفسير.

قيل له ، ليس كل أهل التفسير قال ما ادّعيت ؛ لأن ابن جريح (١) روى عن مجاهد في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٢) قال : هم أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وروي عن ابن عبّاس رضي الله عنه وغيره قريب من ذلك ، وقد تأوّل هذه الآية علماء أهل البيت صلوات الله عليهم وحملوها على وجه معروف ، فقالوا : هذا التمكين والاستخلاف وإبدال الخوف بالأمن إنّما يكون عند قيام المهدي عليه‌السلام (٣) ، فليس على تأويلك إجماع من المفسّرين ، وقول بعضهم ليس بحجّة.

فأمّا تعلقه بقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (٤) وإنّهم لو كانوا خالفوا النص الجلي لم يكونوا خير أمّة أخرجت للناس ، فقد تقدّم من كلامنا على هذه الآية وكلامه أيضا على من استدلّ بها على صحّة الإجماع ، فإنه ضعف الاستدلال بها ، بما فيه كفاية ، لكنّا نقول له هاهنا : ألست تعلم أن هذه الآية لا تتناول جميع الأمة ؛ لأن ما اشتملت عليه من الأوصاف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرهما ليس موجودا في جميع الأمة.

فإن قال : هي متوجهة إلى الجميع كان علمنا بأن أكثرهم لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر دافعا لقوله ، وإن اعترف بتوجهها إلى البعض. قيل له : فما المانع على هذا أن يكون الدافع للنصّ بعض الأمة ممن لم تتوجّه إليه الآية.

فإن قال : إنّما بنيت كلامي على أن الأمة كلّها لم تصل بدفع النصّ فلهذا استشهدت بالآية؟

__________________

(١) هو عبد الملك بن جريح المكّي الأموي بالولاء من المفسّرين في أوائل القرن الثاني.

(٢) سورة النور ، الآية : ٥٥.

(٣) انظر مجمع البيان ٧ : ٢٦٧.

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١١٠.

١٥٢

قيل له : ومن هذا الذي يقول : إن الأمة كلّها ضلّت بدفع النصّ حتّى يحتاج إلى الاستدلال عليه ، وقد مضى في هذا المعنى عند الكلام في النصّ ما فيه كفاية.

فإن قال : فأيّ فضل يكون لهذه الأمّة على الأمم قبلها إذا كان أكثرها قد ضلّ وخالف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويجب أن يكون أمّة موسى أفضل منهم وخيرا ؛ لأنّهم لم يرتدّوا بعد موسى عليه‌السلام.

قيل له : أمّا لفظة «خير» وهي عندنا وعندك تبنى على الثواب والفضل ، وليس يمتنع أن يكون من لم يخالف النصّ من الأمّة أكثر ثوابا وأفضل عملا من الأمم المتقدّمة وإن كان في جملة المسلمين من عدل عن النصّ ، وليس بمنكر أن يكون من قلّ عدده أكثر ثوابا ممن كثر عدده ، ألا ترى أن أمّتنا بلا خلاف أقلّ عددا من أمم الكفر ، ولم يمنع هذا عندك من أن يكونوا خير أمّة ولم يعتبر بقلّتهم وكثرة غيرهم ، فكذلك لا يمنع ما ذكرناه من كون أهل الحق خيرا من سائر الأمم المتقدّمين وإن كانوا بعض الأمّة أقلّ عددا ممّن خالفهم ، على انّك تذهب إلى أن قوما من الأمّة ارتدّوا بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطوائف من العرب رجعوا عن أديانهم حتّى قوتلوا على الردة ، ولم يكن هذا في أمّة موسى وعيسى عليهما‌السلام ، ولم يوجب ذلك أن تكون أمّة موسى وعيسى عليهما‌السلام خيرا من أمّتنا ولا مانع من أن تكون أمّتنا خيرا منهم ، وإن كان من تقدّم قد سلم من الردّة بعد نبيّه ولم تسلم أمّتنا من ذلك. فظهر أنه لا معتبر في الردّة ، بل المعتبر بالفضل وزيادة الجزاء على الأعمال.

فأما قوله : «كيف ينقادون لأبي بكر وقد نصّ عليه‌السلام على غيره» فقد مضى في هذا من الكلام ما لا طائل في إعادته (١).

وقوله : «لو جاز ذلك لجاز أن يكون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولد نصّ عليه ولم يذكر ذلك» فقد مضى في هذا الجنس من الكلام الكثير (٢) ، على أنا نقول له : إنّما

__________________

(١) راجع الشافي ، ٢ : ١٢٦ أيضا تفسير الآية ٨٧ و ٨٨ من سورة «طه» في هذا الكتاب.

(٢) راجع في ذلك «الشافي» ترى الوصف بالكثرة في محلّه.

١٥٣

تكون المعارضة بولد لم يذكر ولم ينقل النصّ عليه ، في مقابلة من قال بنصّ لم يذكره ذاكر ، ولم ينقله ناقل ، وهذا ما لم نقل به نحن ولا أحد (١) ، وإنّما يكون عروضا لنصّ مذكور معروف تذهب إليه طائفة من الأمّة منتشرة في البلاد ، والقول بنصّ على ولد له بهذه الصورة يجري مجراها (٢) ومعلوم فقد ذلك.

ثمّ يقال له : إذا جرى عندك القول بالنصّ الذي تذهب إليه مجرى النصّ على الولد فلم كان أحد الأمرين معلوما نفيه (٣) لكلّ عاقل ضرورة ، والآخر تختلف فيه العقلاء وتصنف فيه الكتب ، وتنتحل له الأدلّة ، وهذا يدلّ على افتراق الأمرين وبعد ما بينهما.

فأما قوله : «فكيف يكونون مرتدين مع أنه تعالى أخبر أنه جعلهم (أُمَّةً وَسَطاً) (٤) فقد مضى أيضا من الكلام في هذه الآية عند استدلاله بها في صحّة الإجماع ما فيه كفاية (٥) ، والكلام فيها يقرب من الكلام على قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وجملة الأمر أنّه تعالى نعتهم بأنّهم خيار ، وهذا نعت لا يجوز أن يكون لجميعهم ، بل يتناول بعضهم ووصف بعضهم بأنّه خيار لا يمنع من ردّة بعض آخر.

فأمّا قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (٦) فلنا في الكلام عليه وجهان : أحدهما : أن ننازع في أنّ السبق هاهنا السبق إلى الاسلام ، والوجه الآخر : أن نسلم ذلك فنبيّن أنّه لا حجّة في الآية على ما ادّعوه ، والوجه الأوّل بيّن ؛ لأنّ لفظة «السابقين» في الآية مطلق غير مضاف ، ويحتمل أن يكون مضافا إلى إظهار الإسلام ، واتباع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل المراد به السبق إلى الخيرات والتقدّم في فعل الطاعات ، ويكون قوله : «الأولون» تأكيدا لمعنى السبق ، كما

__________________

(١) يريد الذاهبين إلى النصّ.

(٢) يعني إذا كان النصّ على ولد له بالصورة التي يذهب إليها القائلون بالنصّ فإنّه يجري هذا المجرى ولكن ذلك مفقود.

(٣) أي النصّ على الولد.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ١٤٣.

(٥) راجع تفسير الآية في هذا الكتاب.

(٦) سورة التوبة ، الآية : ١٠٠.

١٥٤

يقولون : فلان سابق في الفضل إلى الخيرات سابق فيؤكّدون باللفظين المختلفين ، وقد قال الله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١)) (١) وقال تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) (٢).

فإن قيل : إذا كان المراد ما ذكرتم فأي معنى لتخصيص المهاجرين والأنصار ولو لا أنّه أراد السبق إلى الاسلام.

قلنا : لم نخصّ المهاجرين والأنصار دون غيرهم ؛ لأنه تعالى قال : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) (٣) ، وهو عام في الجميع ، على أنه لا يمتنع أن يخصّ المهاجرين والأنصار بحكم هو لغيرهم ، إمّا لفضلهم وعلوّ قدرهم أو لغير ذلك من الوجوه.

فأمّا الوجه الثاني فالكلام فيه أيضا بيّن ؛ لأنّه إذا سلم أن المراد بالسبق هو السبق إلى إظهار الاسلام فلا بدّ من أن يكون مشروطا بالاخلاص في الباطن ؛ لأنّ الله تعالى لا يعد بالرضا من أظهر الاسلام ولم يبطنه ، فيجب أن يكون الباطن معتبرا ومدلولا عليه فيمن يدّعي دخوله تحت الآية حتّى يتناوله الوعد بالرضا ، وممّا يشهد بأن الإخلاص مشروط مع السبق إلى إظهار الإسلام قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) فشرط الإحسان الذي لا بدّ أن يكون مشروطا في الجميع على أنّ الله تعالى قد وعد الصابرين والصادقين بالجنان ، فقال : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٤) وقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)) (٥) ولم يوجب ذلك أن يكون كلّ صابر وصادق مقطوعا له بالجنّة ، بل لا بدّ من شروط مراعاة ، فكذلك القول في السابقين ، على أنه لا

__________________

(١) سورة الواقعة ، الآيتان : ١٠ ، ١١.

(٢) سورة فاطر ، الآية : ٣٢.

(٣) سورة التوبة ، الآية : ١٠٠.

(٤) سورة المائدة ، الآية : ١١٩.

(٥) سورة البقرة ، الآيات : ١٥٥ ـ ١٥٧.

١٥٥

يخلو المراد بالسابقين من أن يكون هو الأول الذي لا أول قبله أو يكون من سبق غيره وإن كان مسبوقا ، والوجه الأول هو المقصود ؛ لأنّ الوجه الثاني يؤدّي إلى أن يكون جميع المسلمين سابقين إلّا الواحد الذي لم يكن بعده إسلام أحد ، ومعلوم خلاف هذا ، فلم يبق إلّا الوجه الأول ولهذا أكّده تعالى بقوله : «الأوّلون» لأنّ من كان قبله غيره لا يكون أولا بالإطلاق ، ومن هذه صفته بلا خلاف أمير المؤمنين عليه‌السلام وحمزة وجعفر وخبّاب بن الأرت وزيد بن ثابت وعمار ، ومن الأنصار سعد بن معاذ وأبو الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فأمّا أبو بكر ففي تقدّم إسلامه خلاف معروف (١) فعلى من ادّعى تناول الآية أن يدلّ أنه من السابقين (٢).

فأمّا قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) (٣) الآية فالاعتبار وهو بمجموع الأمرين يعني القتال والانفاق ، ومعلوم أن أبا بكر لم يقاتل قبل الفتح ولا بعده ، وهذا القدر يخرجه من تناول الآية ، ثمّ في إنفاقه خلاف قد بيّنا من قبل الكلام فيه وأشبعناه ، على أنّه لو سلّم لأبي بكر إنفاق وقتال ـ على بعدهما ـ لكان لا يكفي في تناول الآية له ؛ لأنّه معلوم أن الله تعالى لا يمدح ولا يعد بالجنّة على ظاهر الانفاق والقتال ، وإن كان الباطن بخلافه ، ولا بدّ من اعتبار الباطن والنيّة والقصد إلى الله تعالى بالفعل ، فعلى من ادّعى تناول الآية لمن ظهر منه إنفاق وقتال أن يدل على حسن باطنه وسلامة غرضه ، وهذا لا يكون مفهوما من الآية ولا بدّ من الرجوع فيها إلى غيرها.

فأما قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (٤) الآية فأوّل ما يقال فيها أنّ الألف واللّام إذا لم تفد الاستغراق بظاهرها من غير دليل ، لم يكن للمخالف متعلّق بهذه الآية ؛ لأنها حينئذ محتملة للعموم وغيره على سواء وقد بيّنا أن الصحيح غير ذلك ، وأن هذه الألفاظ مشترك الظاهر ، ودلّلنا عليه في غير

__________________

(١) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ١٣ : ٢١٥.

(٢) راجع تفسير هذه الآية أيضا في الرسائل ، ٣ : ٨٦.

(٣) سورة الحديد ، الآية : ١٠.

(٤) سورة الفتح ، الآية : ٢٩.

١٥٦

موضع ، ولو سلّمنا مذهبهم في العموم أيضا لم نسلم أما قصدوه ؛ لأن قوله تعالى : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) لا يعدو أحد أمرين : أحدهما : من كان في عصره وزمانه وصحبته ، والآخر : من كان على دينه وملّته ، والأول يقتضي عموم أوصاف الآية وما تضمّنته من المدح لجميع من عاصره وصحبه عليه‌السلام ، ومعلوم أن كثيرا من هؤلاء كان منافقا خبيث الباطن لا يستحقّ شيئا من المدح ولا يليق به هذه الأوصاف ، فثبت أن المراد بالذين معه من كان على دينه ومتمسكا بملّته ، وهذا يخرج الظاهر من يد المخالف وينقض غرضه في الاحتجاج به ؛ لأنا لا نسلم له أنّ كلّ من كان بهذه الصفة فهو ممدوح مستحق لجميع صفات الآية ، وعليه أن يبيّن أن من خالفناه فيه له هذه الصفة حتى يحصل له التزاحم ، وليس لهم أن يقولوا : نحن نحمل اللّفظ (١) على الصّحبة والمعاصرة ، ونقول إن الظاهر والعموم يقتضيان حصول جميع الصفات لكلّ معاصر مصاحب إلّا من أخرجه الدليل ، فالذي ذكرتم ممّن يظهر نفاقه وشكه نخرجه بدليل ؛ وذلك أنها إذا حملت على الصحبة والمعاصرة وأخرج بالدليل بعض من كان بهذه الصفة كانت الآية مجازا ؛ لأنا إنّما نتكلّم الآن على أن العموم هو الحقيقة والظاهر ، ومتى حملناها على أن المراد بها من كان على دينه عمّت كلّ من كان بهذه الصفة ، فكانت الآية حقيقة على هذا الوجه ، وصار ذلك أولى مما ذكروه ، وليس لهم أن يقولوا : إنّ الظاهر من لفظة «معه» يقتضي الزمان والمكان دون المذهب والاعتقاد ؛ لأنا لا نسلم ذلك ، بل هذه اللفظة مستعملة في الجميع على سواء ، ولهذا يحسن استفهام من قال : فلان مع فلان عن مراده ، وقد يجوز أن يكون في أصل اللغة للمكان أو الزمان ، ويكون العرف وكثرة الاستعمال قد أثر في احتمالها لما ذكرناه ، على إنا لو سلّمنا ذلك أيضا لكان التأويلان جميعا قد تعادلا في حصول وجه من المجاز في كل واحد منهما ، وليس المخالف بأن يعدل إلى تأويله هربا من المجاز الذي في تأويلنا بأولى ممن عكس ذلك ، وعدل

__________________

(١) أي (وَالَّذِينَ مَعَهُ).

١٥٧

عن تأويله للمجاز الذي فيه ، وإذا تجاذب التأويلان وتعادلا بطل التعلّق بالظاهر ، ولم يكن في الآية دليل للمخالف على الغرض الذي قصده ، على انا قد بيّنا فيما تقدّم ما يقتضي خروج القوم عن مثل هذه الآية ؛ لأن الشدّة على الكفّار إنّما تكون ببذل النفس في جهادهم والصبر على ذلك ، وأنه لا حظّ لمن يعنون فيه.

فأمّا قوله : «فكيف يغتاظ الكفّار من ستّة نفر» فأوّل ما فيه أنه بني من حكاية مذهبنا على فساد ، فمن الذي قال له منا : إنّ المتمسكين بالحق بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا ستّة أو ستين أو ستمائة؟ ومن الذي حصر له عددهم؟ وليس يجب إذا كنا نذهب إلى أنّهم قليل بالإضافة إلى مخالفيهم أن يكونوا ستّة ؛ لأنّا نقول جميعا إن المسلمين بالإضافة إلى أمم الكفر قليل ، وليس هم ستّة ولا ستّة آلاف ، على أنه قد فهم من قوله «والذين معه» ما ليس مفهوما من القول ؛ لأنّه حمله على من عاصره وكان في حياته ، وليس الأمر على ما توهّم ؛ لأن المراد بذلك من كان على دينه وملّته وسنّته إلى أن تقوم الساعة ، وهؤلاء ممن يغيظ الكفار بلا شبهة ، على إنا لو سلّمنا أن المراد به من كان في حياته في عصره لم يلزم أيضا ما ظنّه ؛ لأنّه قد قتل ومات في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الهجرة وبعدها ممّن كان على الحقّ عدد كثير وجم غفير يغيظ بعضهم الكفار فضلا عن كلّهم (١).

ـ (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) [النور : ٦١]

أنظر البقرة : ١٧٧ من الأمالي ، ١ : ٢٠٧.

ـ (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ...) [النور : ٦١]

أنظر البقرة : ٧٤ من الأمالي ، ٢ : ٥٠.

ـ (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور : ٦٣].

[استدلّ بآيات قرآنية على أنّ الأمر دالّ على الوجوب لغة] (٢).

__________________

(١) الشافي في الإمامة ، ٤ : ٣٦ و ٤٥.

(٢) الذريعة ، ١ : ٣٦.

١٥٨

فأوّلها ذيل هذه الآية ؛ قالوا : لأنّ قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ، والتحذير يقتضي وجوب الامتثال.

وثانيها قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) (١).

وثالثها قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٢).

ورابعها قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (٣).

وخامسها قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) (٤).

ويقال لهم في أوّل ما تعلّقوا به من القرآن : أوّل ما نقوله : أنّه لو ثبت في القرآن أو السنّة ما يدلّ على وجوب المأمور به ، لم يكن ذلك نافعا لمخالفنا ، ولا ضارّا لنا ؛ لأنّنا لا ننكر على الجملة أن يدلّ دليل على وجوب الأمر ، وإنّما ننكر أن يكون ذلك يجب بوضع اللّغة. وإنّما نتكلّم فيما استدلّوا به من قرآن أو سنّة على وجوب الأمر ، لا لأنّه إن صحّ قدح فيما أصّلناه ، وإنّما نتكلّم فيه لأنّه لا يدلّ على المقصود. وهذه جملة يجب أن تكون محصّلة مراعاة.

ثمّ نقول : اقتران الوعيد بهذا الأمر هو الدلالة على وجوبه ، فمن أين لكم أنّ الأمر المطلق يدلّ على الوجوب.

ثمّ إنّ المراد ظاهر ، وهو أنّه أراد الخلاف على الرسول عليه‌السلام على سبيل جحد النبوّة ، بدلالة أوّل الآية بقوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ) ، وهذا إنكار على من لم يلتزم الانقياد له لأجل النبوّة ، ولا محالة إنّ خلافه على هذا الوجه كفر.

وبعد ، فإنّ مخالفة الأمر هو ضدّ الموافقة ، وفعل ما ندب إليه على وجه الوجوب مخالفة له ، كما أنّ فعل ما أوجبه مقصودا به إلى الندب مخالفة أيضا ،

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٦٥.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٣٦.

(٣) سورة النساء ، الآية : ٥٩.

(٤) سورة الجن ، الآية : ٢٣.

١٥٩

والآية تضمّنت التحذير من المخالفة فمن أين لهم وجوب ما أمر به ، حتّى يكون من فعله على غير هذا الوجه مخالفا. فعلم أنّ ظاهر الآية مشترك بيننا وبينهم ، وأنّه لا حجّة فيها لهم (١).

ويقال لهم فيما تعلّقوا به ثانيا : ليس المراد بالقضاء هيهنا الأمر المطلق ، بل الإلزام ، كما نقول : قضى القاضي بكذا وكذا ، بمعنى حكم وألزم ، ولهذا لا تسمّى الفتوى قضاء.

والكلام فيما تعلّقوا به ثالثا ، كالكلام في هذه الآية ، فلا معنى لإعادته.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به رابعا ، من قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) إنّ هذا أمر ، والخلاف فيه نفسه ، فكيف يستدلّ به على نفسه. والطاعة هي امتثال الأمر ، وقد بيّنّا أنّ الطاعة تدخل في الندب والإيجاب جميعا ، فكيف يعقل من الظاهر أحدهما.

وأيضا ؛ فإنّ الطاعة هي امتثال الأمر على الوجه الّذي تعلّق به الأمر إمّا بإيجاب أو ندب ، حسبما مضى من الكلام في المخالفة ، فمن أين لهم أن أمره على الوجوب ، حتّى يكون من فعله على هذا الوجه مطيعا له ، وإلّا كان على الندب ، وطاعته إنّما هي فعله على هذا الوجه.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به خامسا : إنّا قد بيّنّا أن المعصية قد تدخل في الندب كما تدخل في الواجب ، وأنّه قد يكون عاصيا لمخالفة الأمر على وجه لا يستحقّ به الوعيد ، فيجب أن تحمل الآية لأجل الوعيد على مخالفة الأمر الواجب (٢).

__________________

(١) راجع أيضا الذريعة ، ٢ : ٥٨٣.

(٢) الذريعة ، ١ : ٦٦.

١٦٠