تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

أُمْنِيَّتِهِ) ؛ لأنّ بغرور الشيطان ووسوسته أضيف إلى تلاوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم يرده بها. وكلّ هذا واضح بحمد الله تعالى (١).

ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج : ٧٧].

[فيها أمور :

الأوّل : قال الناصر رحمه‌الله :] «الطمأنينة بعد الاستواء من الركوع والسجود واجبة». هذا صحيح وهو مذهب أصحابنا ... دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المتقدّم ، ما روي من قوله عليه‌السلام في خبر رفاعة : «ثمّ ليكبر وليركع حتى يطمئنّ راكعا» ثمّ قال في آخر الخبر : «فإذا فعل ذلك فقد تمّت صلاته» (٢).

فجعل تمام الصلاة يتعلّق بالطمأنينة في الركوع.

فإن قالوا : قال الله تعالى : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)» والركوع في اللغة هو الانحناء ، والطمأنينة ليست مشروطة في تعلّق الاسم.

قلنا : إنّما أوجب الله تعالى الركوع إيجابا مطلقا ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين كيفية السجود في الخبر الذي ذكرناه (٣).

[الثاني : قال الناصر رحمه‌الله :] «السجود على سبعة أعضاء شرط في صحّة الصلاة».

هذا صحيح وهو مذهبنا ... دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع الذي راعيناه ، ما رواه ابن عباس قال : «أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسجد على سبع ؛ يديه وركبتيه وأطراف أصابعه وجبهته» (٤) ... فإن تعلقوا بقوله : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا).

وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأعرابي : «ثمّ اسجد» (٥).

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٥١.

(٢) جامع الأصول ، ٥ : ٤٢٠.

(٣) الناصريات : ٢٢٣.

(٤) صحيح البخاري ، ٣ : ٣٨٣ مع اختلاف يسير.

(٥) جامع الأصول ، ٥ : ٤٢٠.

١٢١

فالجواب عن ذلك : أنّ ذلك كلّه كالمجمل ، لم يبين فيه كيفية السجود ، والخبر الّذي رويناه قد ثبت فيه كيفيّة السجود فهو أولى (١).

[الثالث :] وممّا انفردت به الإمامية : القول بأن من وطئ أمته وهي حائض أن عليه أن يتصدق بثلاثة أمداد من طعام على ثلاث مساكين. وخالف باقي الفقهاء في ذلك.

دليلنا بعد الإجماع المتردّد ، أنا قد علمنا أن الصدقة برّ وقربة وطاعة لله تعالى فهي داخلة تحت قوله تعالى : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) ، وأمره بالطاعة فيما لا يحصى من الكتاب ، وظاهر الأمر يقتضي الإيجاب في الشريعة ، فينبغي أن تكون هذه الصدقة واجبة بظاهر القرآن ، وإنّما يخرج بعض ما يتناوله هذه الظواهر عن الوجوب ويثبت له حكم الندب بدليل قاد إلى ذلك ولا دليل هاهنا يوجب العدول عن الظاهر (٢).

[الرابع :] وممّا انفردت به الإمامية القول : بأن من نام عن صلاة العشاء الآخرة حتّى يمضي النصف الأوّل من الليل وجب عليه أن يقضيها إذا استيقظ وأن يصبح صائما كفارة عن تفريطه ، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك.

دليلنا على صحّة قولنا : ـ بعد الإجماع الذي يتردّد ـ الطريقة الّتي ذكرناها قبل هذه المسألة بلا فصل من قوله تعالى : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) وأمره جلّ وعزّ بالطاعة على الترتيب الذي بيّنّاه (٣).

[الخامس :] وممّا ظنّ انفراد الإمامية به القول بوجوب العقيقة وهي الذبيحة الّتي تذبح عن المولود ذكرا كان أو أنثى. وخالف باقي الفقهاء في ذلك فقال الشافعي ومالك : مستحبّة (٤) ، وقال أبو حنيفة ليست بمستحبة (٥) ، وحكي عن الحسن البصري القول بوجوبها وهو مذهب أهل الظاهر (٦) وهذه موافقة للإمامية.

دليلنا بعد الإجماع المتردّد أن العقيقة نسك وقربة بلا خلاف وإيصال منفعة

__________________

(١) الناصريات : ٢٢٥.

(٢) الانتصار : ١٦٥.

(٣) الانتصار : ١٦٥.

(٤) اختلاف الفقهاء (للطحاوي) ، ١ : ٨٩ ـ ٩٠.

(٥ ـ ٦) المغني (لابن قدامة) ، ١١ : ١٢٠.

١٢٢

إلى المساكين وتدخل في عموم قوله تعالى : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) وما أشبه هذه الآية من الأمر بالطاعات والقربات ، وظاهر الأمر في الشريعة يقتضي الوجوب.

فإن قيل : على الاستدلال بقوله تعالى : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) في هذا الموضع وأشباهه من المسائل الّتي استدللنا بهذا العموم فيها : ما أنكرتم من فساد الاستدلال بذلك من جهة أن الخير لا نهاية له ، ومحال أن يوجب الله تعالى علينا ما لا يصحّ أن نفعله ، وإذا لم يصحّ إيجاب الجميع وليس البعض بذلك أولى من البعض بطل الاستدلال بالآية.

قلنا : لا شبهة في أنّ إيجاب ما لا يتناهى لا يصحّ غير أنّا نفرض المسألة فنقول : قد ثبت أن من عقّ دفعة واحدة عن ولده يكون فاعلا لخير وفعل المرّة صحيح غير محال فيجب تناول الآية له ، وهكذا نفرض في كلّ مسألة. وموضع استدلالنا بعموم هذه الآية على وجوب شيء من العبادات والقربات وأن نعين على ما يصحّ تناول الإيجاب له ثم ندخله في عموم الآية.

ويمكن أن نذكر للمخالف على سبيل المعارضة بما يروونه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في المولود : «أهريقوا عنه دما» (١) ، وفي خبر آخر : «يعقّ عن الغلام شاتان» (٢).

وعن عائشة أنها قالت : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أن نعقّ عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة» (٣).

وروي عن ابن عبّاس : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقّ عن الحسن والحسين صلّى الله عليهما كبشا كبشا» (٤) فجمع عليه‌السلام في إيجاب العقيقة بين القول والفعل.

وليس لهم أن يتعلّقوا بما يروونه عن النبيّ عليه وآله السلام من قوله : «ليس في المال حقّ سوى الزكاة» (٥).

__________________

(١) صحيح البخاري ، ٧ : ١٠٩.

(٢) جامع الأصول ، ٨ : ٣١٥.

(٣) جامع الأصول ، ٨ : ٣١٦.

(٤) جامع الأصول ، ٨ : ٣١٦.

(٥) سنن ابن ماجة ، ١ : ٥٧٠.

١٢٣

وبما روي عنه عليه وآله السلام من قوله : «من أحبّ أن ينسك عن المولود فلينسك عن الغلام بشاتين ، وعن الجارية بشاة» (١) فعلّق ذلك بالمحبّة ، وما كان واجبا لا يعلّق بالمحبّة.

وبما يروونه عن فاطمة صلوات الله عليها قالت : «يا رسول الله أعقّ عن ابني الحسن؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إحلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضّة» (٢) ، ولو كانت واجبة لأمرها عليها‌السلام بها.

والجواب عن ذلك كلّه : أنّ هذه أخبار آحاد تنفردون بها ولا نعرف عدالة رواتها ولا صفاتهم وبإزائها من الأخبار الّتي تقدّمها ننفرد برواياتها ما لا يحصى وما تنفردون أيضا بروايته ما قد ذكرنا بعضه.

ولو عدلنا عن هذا كلّه وسلّمت هذه الأخبار من كلّ قدح وجرح أوجبت غالب الظنّ أليس من مذهبنا أنّ أخبار الآحاد لا توجب العمل في الشريعة بها؟ وإنّما جاز لنا أن نعارضهم بأخبار الآحاد ، لأنّهم بأجمعهم يذهبون إلى وجوب العمل بأخبار الآحاد.

ثمّ نستظهر متبرّعين بذكر تأويل هذه الأخبار. أمّا الخبر الأوّل فلا دلالة لهم فيه ؛ لأنّه نفي أن يكون في المال حقّ سوى الزكاة والعقيقة عند من أوجبها تجب في ذمّة الوالدين لا في المال.

وأمّا الخبر الثاني فلا حجّة فيه ؛ لأنّه إنّما علّق الفضل في ذلك بالمحبّة لا الأصل والفضل في أن يعقّ بشاتين وقد تجزئ الواحدة ويجري مجرى ذلك قول القائل من أحبّ أن يصلّي فليصلّ في المساجد وفي الجماعات ، وإنّما يريد الفضل وإن كان أصل الصلاة واجبا.

وأمّا الخبر الثالث فغير ممتنع أن يكون عليه‌السلام عتق عنه أو عزم على أن يتولّى ذلك فعدل عن أمرها بذلك إلى قربة أخرى لهذه العلّة (٣).

__________________

(١) جامع الأصول ، ٨ : ٣١٤.

(٢) سنن البيهقي ، ٩ : ٣٠٤.

(٣) الانتصار : ١٩١.

١٢٤

ـ (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...) [الحجّ : ٧٨].

[هنا مسألتان :]

[الاولى :] وممّا انفردت به الإمامية القول : بأنّ من تمضمض لطهارة فوصل الماء إلى جوفه لا شيء عليه من قضاء ولا غيره ، وإن فعل ذلك لغير طهارة من تبردّ بالماء أو غيره فعليه القضاء خاصة ولا غيره ...

والحجّة في مذهبنا الاجماع المتكرّر ، ويمكن أن يتعلّق في ذلك بقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، وكلّ الحرج أن يأمرنا بالمضمضة والاستنشاق في الصوم ، ويلزمنا القضاء إذا سبق الماء إلى أجوافنا من غير تعمّد ، ولا يلزم على ذلك التبرّد بالمضمضة ؛ لأنّ ذلك مكروه في الصوم والامتناع منه أولى فلا حرج عليه فيه (١).

[الثانية :] وممّا إنفردت به الإمامية القول : بأنّ من صام من شهر الثاني يوما أو أكثر من صيام الشهرين المتتابعين وأفطر من غير عذر كان مسيئا. وجاز له أن يبني على ما تقدم من غير استيناف ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك دليلنا بعد الاجماع الذي المتكرّر قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (٢) ، وقد علمنا أنّ إلزام من ذكرناه الاستيناف مشقّة شديدة ، وحرج عظيم (٣).

ـ (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [الحج : ٧٨].

أنظر النساء : ١١٥ من الشافي ، ١ : ٢١٦.

__________________

(١) الانتصار : ٦٤ و ٦٥ وراجع أيضا الناصريات : ٢٩٤ وأضاف هناك : «إن من فعل دواعي الوطي التي يقترن بها الإنزال فانزل غير مستدع للإنزال لم يفطر».

(٢) سورة النساء ، الآية ٢٨.

(٣) الانتصار : ١٦٧.

١٢٥

سورة المؤمنون

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦)) [المؤمنون : ٥ ـ ٦].

[وفيها أمور : الأوّل :] اعلم أنّ في الشافعيّة (١) من يلحق [هذه الآية] بالمجمل و [كذا] قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) (٢) من حيث خرج الكلام مخرج المدح في إحدى الآيتين ، ومخرج الذم في الأخرى.

وهذا باطل ؛ لأنّه لا تنافي بين وجه المدح والذّمّ وبين ما يقتضيه العموم من الحكم الشامل ، وإذا كان الرجوع في دلالة العموم إلى ظاهر اللفظ فبكونه مدحا أو ذمّا لا يتغيّر الظاهر ، كما أن قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) عموم وغير مجمل ، وإن كان القصد به الزجر والتخويف ، من حيث لا تنافي بين ذلك وبين عموم الحكم ، فكذلك الأوّل (٣).

[الثاني : انظر البقرة : ٢٧٥ من الانتصار : ١٧٦].

[الثالث : انظر النساء : ٢٤ المسألة الثانية من الانتصار : ١٠٩].

[الرابع : ممّا عاب به النظام امير المؤمنين عليه‌السلام من الأحكام الّتي ادعى انه خالف فيها جميع الأمّة ، بيعه أمّهات الأولاد.

والجواب :] أمّا بيع أمّهات الأولاد فلم يسر فيهنّ إلّا بنصّ الكتاب وظاهره ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما

__________________

(١) نسبه الآمدي إلى الشافعي نفسه ، الأحكام ، ٣ : ٣٨٤.

(٢) سورة التوبة ، الآية : ٣٤.

(٣) الذريعة ، ١ : ٣٤٥.

١٢٦

مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧)) ولا شبهة في أن أمّ الولد يطؤها سيّدها بملك اليمين ؛ لأنها ليست زوجة ولا هو عاد في وطئها إلى ما لا يحلّ ، وإذا كانت مملوكة مسترقة بطل ما يدعونه من أن ولدها أعتقها ، ويبيّن ذلك أيضا أنه لا خلاف في أن لسيّدها أن يعتقها. ولو كان الولد قد أعتقها لما صح ذلك ؛ لأن عتق المعتق محال.

وهذه الجملة توضح عن بطلان ما يروونه من أن ولدها أعتقها ، ثمّ يقال لهم أليس هذا الخبر لم يقتض أن لها جميع أحكام المعتقات ؛ لأنه لو اقتضى ذلك لما جاز أن يعتقها السيّد ، ولا أن يطأها إلّا بعقد ، وإنّما اقتضى بعض أحكام المعتقات. فلا بدّ من مزيل فيقال لهم : فما أنكرتم من أن مخالفكم يمكنه أن يستعمله أيضا على سبيل التخصيص كما استعملتموه ، فنقول انه لو أراد بيعها لم يجز إلّا في دين ، وعند ضرورة ، وعند موت الولد. فكأنها يجري مجرى المعتقات فيما لا يجوز بيعها فيه ، وان لم يجز من كلّ وجه كما أجريتموها مجراهن في وجه دون آخر (١).

ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) [المؤمنون : ١٧].

استدلّ جمهور المسلمين على أنّ السماوات سبع وأنّ الأرضين سبع ، [بهذه الآية] وبقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) (٢).

قالوا : وجاءت الأخبار بشرح ما في السماوات سماء سماء. واحتجّوا بأنّها غير كروية بقوله : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) (٣) وبقوله : (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥)) (٤).

__________________

(١) تنزيه الأنبياء : ٢١٣. انظر تفصيل الكلام في نقد الأخبار الواردة في ذلك في الانتصار : ١٧٦ إلى ١٨٢.

(٢) سورة الطلاق ، الآية : ١٢.

(٣) سورة الانبياء ، الآية : ٣٢.

(٤) سورة الطور ، الآيتان : ٤ ، ٥.

١٢٧

قالوا : وليس يجوز أن يكون ما هو فوقنا يحاذي أقدامنا ، ولا أن يحول بيننا وبين الأرض التي تحتنا.

قالوا : وقد وافقنا الفلاسفة على أنّ السماء فوقنا ، والفوق لا يكون مقابلا لطرف الأقدام.

واحتجّوا في أنّ الأرض مسطوحة بقول الله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) (١) والبساط لا يكون كرويا ولا معادلا ذات تحديب ، وقال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٢) أي بسطها ، وقال : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) (٣) وهذا انّما هو احتجاجهم على أهل الملّة وإبانة عن البيت الذي زعموا أنّ الفلك والارض غير كريين لا على من خالف الإسلام (٤).

ـ (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١)) [المؤمنون : ٩١].

أنظر البقرة : ٢٠٢ من الأمالي ، ١ : ٣٧٤ والبقرة : ٢٥٥ من الذخيرة : ٥٨١.

ـ (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ...)

[المؤمنون : ١١٧].

أنظر آل عمران : ٢١ من الأمالي ، ١ : ٢٣٣ والإسراء : ٧٠ من الرسائل ، ٢ : ١٦٤ والأعراف : ١٤٦ من الأمالي ، ١ : ٣٠٤.

__________________

(١) سورة نوح ، الآية : ١٩.

(٢) سورة النازعات ، الآية : ٣٠.

(٣) سورة النبأ ، الآية : ٦.

(٤) الرسائل ، ٣ : ١٤٠.

١٢٨

سورة النّور

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ...) [النور : ٢].

[فيها أمور : الأوّل :] وممّا ظنّ انفراد الإمامية به وأهل الظاهر يوافقونهم فيه ، القول : بأنّه يجمع على الزاني المحصن بين الجلد والرجم ، يبدأ بالجلد ويثني بالرجم ، وداود مع أهل الظاهر يوافقونهم على ذلك (١) ، وخالف باقي الفقهاء وقالوا : لا يجتمع الجلد والرجم بل يقتصر في المحصن على الرجم (٢) ، دليلنا على ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة ، وأيضا لا خلاف في استحقاق المحصن الرجم ، وإنّما الخلاف في استحقاق الجلد ، والذي يدلّ على إستحقاقه إياه قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (٣) والمحصن يدخل تحت هذا الاسم فيجب أن يكون مستحقا للجلد ، وكأنّه تعالى قال : اجلدوهما لأجل زناهما ، وإذا كان الزنا علّة في استحقاق الجلد وجب في المحصن ، كما وجب في غيره ، واستحقاقه للرجم غير مناف لاستحقاقه للجلد ؛ لأنّ إجتماع الاستحقاقين لا يتنافى ، وليس يمكنهم أن يدّعوا دخول الجلد في الرجم ، كما يدّعون دخول المسح في الغسل ؛ لأنّ من المفهوم أنّه متميّز منه وغير داخل فيه.

فإن قالوا هذه الآية محمولة على الأبكار ، قلنا : هذا تخصيص بغير دليل ، فان عوّلوا في تخصيصه على ما رووه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : فان اعترفت فارجموها (٤) ولم يذكر الجلد.

__________________

(١) المغني (لابن قدامة) ، ١٠ : ١٢٤.

(٢) المجموع ، ٢٠ : ٧.

(٣) سورة النور ، الآية : ٢.

(٤) صحيح البخاري ، ٨ : ٢٠٨.

١٢٩

قلنا : هذا أولا خبر واحد غاية حاله ـ إذا سلم من كلّ قدح ـ أن يوجب الظنّ ، وأخبار الآحاد لا يخصّ بها ظواهر الكتاب الموجبة للعلم ، وإذا سلّمناه فليس فيه أكثر من خلّو الخبر من ذكر الجلد ، وذلك لا يسقط وجوبه ، ألا ترى أنّهم كلّهم يدفعون استدلال من استدلّ على أنّ الشهادة في النكاح ليست بواجبة بأن يقول : إنّ الله تعالى ذكر النكاح في مواضع من الكتاب ، ولم يذكر الشهادة في آيات النكاح ، ولا شرطها بأن يقولوا عدم ذكر الشهادة في آيات النكاح لا يدلّ على أنّها ليست بواجبة ، وما سبيل المحتجّ بذلك إلّا كسبيل من قال : إنّ الوضوء ليس بواجب ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها (١) ، ولم يذكر الوضوء ولم يشرطه هاهنا ، ولم يدلّ نفي إشتراطه على نفي وجوبه.

فإن احتجّ المخالف بما رواه قتادة ، عن سمرة عن الحسن بن محمد أنّ جابرا قال : كنت فيمن رجم ماعزا ولم يجلده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) فالجواب عن ذلك : أنّ هذا أيضا خبر واحد لا يخصّص به ظواهر الكتاب الموجبة للعلم ، وقد طعن في هذا الخبر ؛ لأنّ قتادة دلسه ، وقال عن سمرة ولم يقل : حدثني ، وبعد فإنّ هذه شهادة بنفي ولا يتعلّق إلّا بعلمه ، كأنّه قال : لم أعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جلده ، وفقد علمه بذلك لا يدلّ على أنّه لم يكن ، وغير ممتنع أن يجلده من حيث لا يعلم ، فظاهر الخبر أنّ جابر عني بقوله : كنت فيمن رجم ماعزا ، ولم يجلده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما أراد لم يجلده في المجلس الذي رجم فيه ؛ لأنّه قال : «كنت فيمن رجم ولم يجلده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ولو كان قصده إلى نفي الجلد على كلّ حال لم يكن في قوله : «كنت فيمن رجم» معنى ؛ ألا ترى أنّ رجلا لو قال : ما أكل عمرو الطعام وهو يريد منذ ثلاثة أيّام لم يجز أن يقوي قوله : فانّي كنت معه طول البارحة فلم يطعم ، وإنّما يحسن هذا القول منه إذا كان يريد نفي أكله مدّة ملازمته له.

__________________

(١) سنن ابن ماجة ، ١ : ٢٢٨ ح ٦٩٨.

(٢) المغني (لابن قدامة) ، ١٠ : ١٢٥.

١٣٠

وقد قيل : إنّ غاية ما في الخبر أنّ ظاهره يقتضي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما باشر جلده بنفسه ، وذلك لا يدلّ على أنّه لم يأمر غيره بجلده.

والقول في الخبر الذي يرويه نافع عن ابن عمر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجم اليهوديين ولم يجلدهما (١) يجري مجرى الكلام في هذا الخبر ، على أنّ هذا الخبر الذي رووه معارض بما يروونه هم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : الثيّب بالثيّب تجلد مائة والرجم (٢) (٣) ، وهذا يعارض رواياتهم ويسقط الرجوع عن ظاهر الكتاب بها ، وإذا كان هذا موجودا في رواياتهم فما ترويه الشيعة من ذلك لا يحصى كثرة من اجتماع الجلد والرجم (٤).

[الثاني :] وممّا انفردت به الإمامية القول : بأنّ الإحصان الموجب في الزاني الرجم هو أن يكون له زوجة ؛ أو ملك يمين يتمكّن من وطئها متى شاء من غير حايل عن ذلك بغيبة ؛ أو مرض منهما ، أو حبس دونه ، سواء كانت الزوجة حرّة ، أو أمة ملّية ، أو ذمّية ، لأنّ هذه الصفات إذا ثبتت فهو مستغن بالحلال عن الحرام ، ونكاح المتعة عندنا لا يحصن على أصحّ الأقوال ؛ لأنّه غير دائم ومعلق بأوقات محدودات ، وفرّقوا بين الغيبة والحيض ؛ لأنّ الحيض لا يمتدّ وربّما امتدّت الغيبة ، ولأنّه قد يتمتّع من الحائض بما دون موضع الحيض وليس كذلك الغيبة ... دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه : بعد إجماع الطائفة أنّ الإحصان اسم شرعي تحته حكم شرعي بغير شبهة ، ولا خلاف في أنّ الحرّ المسلم إذا كان عنده زوجة ، كذلك يتمكّن من وطئها بغير مانع عنه ؛ فإنّه محصن (٥).

[الثالث :] والشافعي ومن وافقه من أبي يوسف ومحمد ، يجرون اللواط مجرى الزنا في جميع الأحكام ، فيا ليت شعري من أين لهم ذلك؟ وكيف حكموا فيه بحكم الزنا؟ واسم الزنا لا يتناوله في الشرع ، فإن قالوا اسم الزنا وإن لم يتناوله فاسم الفاحشة عامّ في اللواط والزنا ، قلنا : إنّما علّق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) سنن ابن ماجة ، ٢ : ٨٥٤ ح ٢٥٥٦.

(٢) سنن ابن ماجة ، ٢ : ٨٥٢ ح ٢٥٥٠.

(٣) الوسائل ، ١٨ : ٣٤٨ و ٣٤٩ ح ٧ ، ٨ ، ٩ ، ١٥.

(٤) الانتصار : ٢٥٤.

(٥) الانتصار : ٢٥٨ و ٢٥٩.

١٣١

الأحكام المخصوصة بأسم الزنا ، فلمّا لم يقع عليه هذا الاسم المعيّن لم يتعلّق به الأحكام واسم الفاحشة ، وإن عمّ اللواط فهو يعمّ الزنا ، والسرقة ، وكلّ القبائح فيجب أن يجعل (١) بجميع هذه الجنايات أحكام الزنا ؛ لأنّ اسم الفاحشة يقع عليها ، قال الله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) (٢) وإنّما أراد جميع القبائح والمعاصي.

[الرابع :] وممّا ظنّ إنفراد الإمامية به وأهل الظاهر يوافقونها فيه القول : بأنّ للامام والحكّام من قبله أن يحكموا بعلمهم في جميع الحقوق والحدود من غير إستثناء ، وسواء علم الحاكم ما علمه وهو حاكم أو علمه قبل ذلك ، وقد حكي أنّه مذهب لأبي ثور (٣).

وخالف باقي الفقهاء في ذلك ... (٤)

والذي يدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه ـ زائدا على الاجماع المتردد ـ قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (٥) ، وقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٦) ، فمن علمه الإمام سارقا أو زانيا قبل القضاء أو بعده ، فواجب عليه أن يقضي فيه بما أوجبته الآية من إقامة الحدود ، وإذا ثبت ذلك في الحدود فهو ثابت في الأموال ، لأنّ من أجاز ذلك في الحدود أجازه في الأموال ، ولم يجزه أحد من الأمّة في الحدود دون الأموال.

فإن قيل : لم زعمتم أنّه أراد بقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) من علمتموه كذلك ، دون أن يكون أراد من أقرّ عندكم بالسرقة ، أو زنا ، أو شهد عليه الشهود.

قلنا : من أقرّ بزنا أو شهد عليه الشهود لا يجوز أن يطلق القول بأنّه زان ، وكذلك السارق ، وإنّما حكمنا فيهما بالأحكام المخصوصة اتّباعا للشرع ، وإن

__________________

(١) يحصل لجميع خ ل.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٣٣.

(٣) المغني (لابن قدامة) ، ١١ : ٤٠٠.

(٤) الانتصار : ٢٣٦.

(٥) سورة النور ، الآية : ٢.

(٦) سورة المائدة ، الآية : ٣٨.

١٣٢

جوّزنا أن يكونا ما فعلا شيئا من ذلك ، والزاني في الحقيقة من فعل الزنا ، وعلم ذلك منه.

وكذلك السارق فحمل الآيتين على العلم أولى من حملهما على الشهادة والإقرار ... (١)

ووجدت لابن الجنيد كلاما في هذه المسألة غير محصّل (٢) ؛ لأنّه لم يكن في هذا دلالة ، ولا إليه دراية ، يفرّق بين علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشيء وبين علم خلفائه وحكامه ، وهذا غلط منه ؛ لأنّ علم العالمين بالمعلومات لا يختلف ، فعلم كلّ واحد بمعلوم بعينه كعلم كلّ عالم به ، وكما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام إذا شاهدا رجلا يزني أو يسرق فهما عالمان بذلك علما صحيحا ، وكذلك من علم مثل ما علماه من خلفائهما ، والتساوي في ذلك موجود ، ووجدته يستدلّ على بطلان الحكم بالعلم بأن يقول : وجدت الله تعالى قد أوجب للمؤمنين فيما بينهم حقوقا أبطلها فيما بينهم وبين الكفّار والمرتدين ، كالمواريث والمناكحة وأكل الذبائح ، ووجدنا الله تعالى قد اطلع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على من كان يبطن الكفر ويظهر الاسلام ، وكان يعلمه ولم يبيّن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحوالهم لجميع المؤمنين فيمتنعوا من مناكحتهم وأكل ذبائحهم ، وهذا غير معتمد ؛ لأنّا أولا لا نسلّم له أنّ الله تعالى قد أطلع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مغيب المنافقين وكلّ من كان يظهر الإيمان ويبطن الكفر من أمّته ، فإن استدلّ على ذلك بقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٣) فهذا لا يدلّ على وقوع التعريف وإنّما يدلّ على القدرة عليه.

ومعنى قوله : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي ليستقر ظنّك ، أو وهمك من غير ظنّ ، ولا يقين. ثمّ لو سلمنا على غاية مقترحة أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اطلع على البواطن لم يلزم ما ذكره ؛ لأنّه غير ممتنع أن يكون تحريم المناكحة والموارثة وأكل الذبائح إنّما يختص بمن أظهر كفره وردّته دون من أبطنها ، وأن تكون المصلحة

__________________

(١) الانتصار : ٢٤١.

(٢) مختلف الشيعة ، ٨ : ٤٠٦.

(٣) سورة محمّد ، الآية : ٣٠.

١٣٣

التي يتعلّق بها التحريم والتحليل اقتضت ما ذكرناه ، فلا يجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبيّن أحوال من أبطن الردّة والكفر لأجل هذه الأحكام التي ذكرناها ، لأنّها لا تتعلّق بالمبطن وإنّما تتعلّق بالمظهر.

وليس كذلك الزنا ، وشرب الخمر ، والسرقة ؛ لأنّ الحدّ في هذه الأمور يتعلّق بالمبطن والمظهر على سواء ، وإنّما يستحقّ بالفعلية التي يشترك فيها المعلن والمسرّ (١).

ـ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)) [النور : ٤ ، ٥].

[فيها أمران : الأوّل : أن سأل سائل فقال :] هل الاستثناء بالتوبة عائد إلى جميع الجمل ، ومؤثّر فيها ، أو هو مختصّ بما يليه.

قلنا : إنّ القاذف عندنا إذا تاب وكذّب نفسه في القذف تقبل شهادته ، وهذا إنّما قلناه بدليل هو غير ظاهر الاستثناء ؛ لأنّا قد بيّنّا أن تعقّب الاستثناء للجمل لا يجب القطع على عوده إليها أجمع إلّا بدلالة ، وقد أجمعت الإماميّة على الحكم الّذي ذكرناه في الآية ، وإجماعهم حجّة ، على ما دللنا عليه في غير موضع ، ولو لم يثبت ذلك وثبت أنّ إجماع المؤمنين حجّة بالآيات ، أو بغيرها على ما يذهب إليه مخالفونا ، لكان إجماع الإماميّة هو الحجّة ؛ لأنّ الحقّ فيهم ، والمؤمنون هم ، ولمّا أجمعوا على أن الاستثناء بالتوبة يزيل اسم الفسق ، وهذا لا خلاف بين أحد فيه ، وأجمعوا أيضا على أنّه يفيد حكم قبول الشهادة ، قلنا به ، ولمّا لم يجمعوا على أن التوبة تزيل الحدّ ، وتسقطه ، لم نجعل الاستثناء راجعا إلى إقامة الحدّ خاصة.

وممّا يمكن الاستدلال به على قبول شهادة القاذف بعد توبته ـ لا من جهة الإجماع الّذي أشرنا إليه ـ كلّ ظاهر في القرآن يقتضي قبول شهادة الشاهدين

__________________

(١) الانتصار : ٢٤٢.

١٣٤

العدلين ، مثل قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (١) وقوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) (٢) وكلّ هذا يتناول القاذف بعد توبته ، وإذا تناوله ، صار هذا العموم بظاهره دليلا على أنّ اشتراط التوبة وإن كان متأخّرا فهو عائد إلى قبول الشهادة ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ استثناء التوبة في آخر الكلام يقتضي وجوب تعليقه بما يليه ، ويجب التوقّف عن رجوعه إلى ما يصحّ عوده إليه من الجمل المتقدّمة إلّا بدليل ، فظاهر الآيات الّتي تلوناها يقتضي قبول شهادة القاذف بعد التوبة لتناول الظاهر له ، فيقطع بذلك على عود الاستثناء إليه ، لا من حيث الظاهر.

ويمكن أيضا أن يستدلّ على أن الاستثناء راجع إلى قبول الشهادة بقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) ومعلوم أنّ التوبة كافية في إسقاط حكم الفسق ، وأنّ إصلاح العمل ليس بشرط في ذلك ، وهو شرط في قبول الشهادة ، فيجب أن يعود الاستثناء أيضا إلى قبول الشهادة.

فإن قيل : قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لا يليق إلّا بإسقاط عقاب الفسق ، دون قبول الشهادة.

قلنا : وصفه تعالى بالغفران والرحمة ممّا يستحقّه جل اسمه على كلّ حال ، ولا يحتاج فيه إلى مطابقة بعض ما يتعقّبه من الكلام.

على أنّ الرحمة هي النعمة ، والله تعالى منعم بالأمر بقبول شهادة التائب من القذف بعد أن كانت مردودة ، والغفران في الأصل مأخوذ من الغفر الّذي هو الستر ، ومنه المغفر ؛ لأنّه ساتر ، وإنّما سمّي الإسقاط للعقاب غفرانا ، من حيث كان الساتر للشيء المخفي له كأنّه مزيل له ، وماح لرسمه ، والله تعالى إذا أمرنا بقبول شهادة التائب من القذف ، فقد أسقط ما كان تعبّد به قبل التوبة من ردّ شهادته ، وأزاله ، وهذا كلّه بيّن (٣).

[الثاني :] واصل هو أوّل من أظهر المنزلة بين المنزلتين ؛ لأنّ الناس كانوا

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢.

(٢) نفس المصدر.

(٣) الذريعة ، ١ : ٢٦٩.

١٣٥

في أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال : كانت الخوارج تسمّيهم بالكفر والشرك ، والمرجئة تسمّيهم بالإيمان ، وكان الحسن وأصحابه يسمّونهم بالنفاق ، فأظهر واصل القول بأنّهم فسّاق غير مؤمنين ، ولا كفّار ، ولا منافقين.

وكان عمرو بن عبيد من أصحاب الحسن وتلاميذه ، فجمع بينه وبين واصل ليناظره فيما أظهر من القول بالمنزلة بين المنزلتين ، فلمّا اتفقوا على الاجتماع ذكر أنّ واصلا أقبل ومعه جماعة من أصحابه إلى حلقة الحسن ، وفيها عمرو بن عبيد جالس ، فلمّا نظر إلى واصل ، وكان في عنقه طول واعوجاج قال : أرى عنقا لا يفلح صاحبها! فسمع ذلك واصل فلمّا سلّم عليه قال له : يابن أخي ، إنّ من عاب الصنعة عاب الصانع ، للتعلّق الذي بين الصانع والمصنوع ؛ فقال له عمرو بن عبيد : يا أبا حذيفة ، قد وعظت فأحسنت ، ولن أعود إلى مثل الذي كان مني.

وجلس واصل في الحلقة ، وسئل أن يكلّم عمرا فقال واصل لعمرو : لم قلت : إنّ من أتى كبيرة من أهل الصلاة استحقّ اسم النفاق؟ فقال عمرو : لقول الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (١) ، ثمّ قال في موضع آخر : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٢) ، فكان كلّ فاسق منافقا ؛ إذ كانت ألف المعرفة ولام المعرفة موجودتين في الفاسق ؛ فقال له واصل : أليس قد وجدت الله تعالى يقول : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٣) ، وأجمع أهل العلم على أنّ صاحب الكبيرة استحقّ اسم ظالم ، كما استحقّ اسم فاسق ؛ فألّا كفّرت صاحب الكبيرة من أهل الصلاة بقول الله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤) ، فعرّف بألف ولام التعريف اللتين في قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) كما قال في القاذف : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، فسميّته منافقا لقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ)! فأمسك عمرو ، ثمّ قال له واصل : يا

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٤.

(٢) سورة التوبة ، الآية : ٦٧.

(٣) سورة المائدة ، الآية : ٤٥.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٢٥٤.

١٣٦

أبا عثمان ؛ أيّما أولى أن يستعمل في أسماء المحدثين من أمّتنا ما اتفق عليه أهل الفرق من أهل القبلة ، أو ما اختلف فيه؟ فقال عمرو : بل ما اتفقوا عليه أولى ، فقال له واصل : ألست تجد أهل الفرق على اختلافهم يسمّون صاحب الكبيرة فاسقا ، ويختلفون فيما عدا ذلك من أسمائه ؛ لأنّ الخوارج تسمّيه مشركا فاسقا ، والشيعة تسمّيه كافر نعمة فاسقا! قال سيّدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه : يعني بالشيعة الزّيدية ـ والحسن يسمّيه منافقا فاسقا ، والمرجئة (١) تسمّيه مؤمنا فاسقا؟ فاجتمعوا على تسميته بالفسق ، واختلفوا فيما عدا ذلك من أسمائه ، فالواجب أن يسمّى بالاسم الذي اتّفق عليه وهو الفسق ؛ لاتّفاق المختلفين عليه ، ولا يسمّى بما عدا ذلك من الأسماء التي اختلف فيها ، فيكون صاحب الكبيرة فاسقا ، ولا يقال فيه : إنّه مؤمن ولا منافق ، ولا مشرك ولا كافر نعمة ، فهذا أشبه بأهل الدين.

فقال له عمرو بن عبيد : ما بيني وبين الحقّ عداوة ، والقول قولك ، فليشهد عليّ من حضر أنّي تارك المذهب الذي كنت أذهب إليه ؛ من نفاق صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ، قائل بقول أبي حذيفة في ذلك ، وأنّي قد اعتزلت مذهب الحسن في هذا الباب. فاستحسن الناس هذا من عمرو.

وقيل : إنّ اسم الاعتزال اختصّت به هذه الفرقة لاعتزالهم مذهب الحسن بن أبي الحسن في تسمية مرتكب الكبيرة من أهل الصلاة بالنفاق ؛ وحكي غير ذلك.

وقيل : إن قتادة بعد موت الحسن البصري كان يجلس مجلسه ، وكان هو وعمرو بن عبيد جميعا رئيسين متقدّمين في أصحاب الحسن ، فجرت بينهما نفرة ، فاعتزل عمرو مجلس قتادة ، واجتمع عليه جماعة من أصحاب الحسن ، فكان قتادة إذا جلس مجلسه سأل عن عمرو وأصحابه فيقول : ما فعل المعتزلة؟ فسمّوا بذلك.

قال سيّدنا الشريف المرتضى ذو المجدين أدام الله علوه : أمّا ما ألزمه واصل بن عطاء لعمرو بن عبيد أوّلا فسديد لازم ، وأمّا ما كلّمه به ثانيا فغير

__________________

(١) بعض النسخ : «المرجئة في القديم غير الذين لا يؤيدون العقاب ؛ بل هم الذين كان يؤخرون عليا عليه‌السلام من غيره من الصحابة ؛ والإرجاء : التأخير».

١٣٧

واجب ولا لازم ؛ لأنّ الإجماع وإن لم يوجد في تسمية صاحب الكبيرة بالنفاق أو غيره من الأسماء كما وجد في تسميته بالفسق فغير ممتنع أن يسمّى بذلك لدليل غير الإجماع ، ووجود الإجماع في الشيء ، وإن كان دليلا على صحّته ، فليس فقده دليلا على فساده ؛ وواصل إنّما ألزم عمرا أن يعدل عن التسمية بالنفاق للاختلاف فيه ، ويقتصر على التسمية بالفسق للاتّفاق عليه ، وهذا باطل ، ولو لزم ما ذكره للزمه أن يقال : قد اتّفق أهل الصلاة على استحقاق صاحب الكبيرة من أهل القبلة الذمّ والعقاب ، ولم يتّفقوا على استحقاقه التخليد في العقاب ، أو نقول إنّهم اجمعوا على استحقاقه العقاب ، ولم يجمعوا على فعل المستحق به ، فيجب القول بما اتفقوا عليه ، ونفي ما اختلفوا فيه.

فإذا قيل استحقاقه للخلود ، أو فعل المستحقّ به من العقاب ، وان لم يجمعوا عليه ، فقد علم بدليل غير الإجماع ؛ قيل له مثل ذلك فيما عوّل عليه ، وبطل على كلّ حال أن يكون الاختلاف في القول دليلا على وجوب الامتناع منه ، وهذا ينتقض بمسائل كثيرة ذكرها يطول.

على أنّ المقدمة التي قدّمها لا تشبه ما ألزم عليها ، لأنّ الإجماع أولى من الاختلاف فيما يتعارض ويتقابل ، والإجماع والاختلاف في الموضع الذي كلّم عليه واصل عمرا في مكانين ؛ لأنّ الإجماع هو على تسميته بالفسق ، والاختلاف هو في تسميته بما عداه من الأسماء ، فلا تعارض بينهما ؛ وله أن يأخذ بالإجماع في موضعه ، ويعوّل فيما الاختلاف فيه على دلالة غير الإجماع ، لأنّ فقد الإجماع من القول لا يوجب بطلانه (١).

ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [النور : ٢٠]

أنظر يوسف : ٢٤ من التنزيه : ٧٣.

ـ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤].

اعلم أن الله تعالى وان كان عالما بجميع المعلومات وغير مستفيد بالمسائلة

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ١٧٧.

١٣٨

والمواقفة علما ، فليس يمتنع أن يكون في ذلك أغراض وفوائد يفعل لأجلها ؛ لأن بالمحاسبة والمسائلة وشهادة الجوارح تنكشف حال أهل الجنّة وحال أهل النار ، ويتميّز كلّ فريق من صاحبه ، فيسّر بذلك أهل الجنّة والثواب ، ويشتدّ إليه سكونهم وبه انتفاعهم ، ويغتمّ به أهل العقاب ويعظم لأجله انزعاجهم وقلقهم بانتظار وقوع العقاب بهم. وغير ممتنع أن يكون في العلم بذلك والتوقّع له في أحوال التكليف زجر عن القبيح ، وبعث في فعل الواجب.

وقد نطق القرآن بالمحاسبة (١) ، واجتمعت الأمّة على وقوعها ، فلا وجه للشكّ فيها ، وكذلك نشر المصحف (٢) ، وشهادة الجوارح.

غير أن المسألة وان كانت عامّة فإنّها مترتّبة ، فتكون للمؤمنين سهلة خفيفة لا إيلام فيها ، وللكافر على سبيل المناقشة والتبكيت والتهجين ، وقد فصل القرآن بتصريحه بين الحسابين.

وأمّا كيفيّة شهادة الجوارح ، فقيل إن الله تعالى بناها بنية حيّ منفصل فتشهد بذلك. وقيل : إنّه تعالى يفعل الشهادة فيها ، وأضافها إلى الجوارح مجازا.

وفي الوجه الأوّل من المجاز مثل ما في الثاني ؛ لأن الأوّل يقتضي أن اليد والرجل خرجت من كونها يدا ورجلا إذا بنيت بنية حيّ منفصل ، والظاهر إضافة الشهادة إلى الجوارح.

وقد قيل : إن الشهادة وقعت من العاصي نفسه ، وأحوج إلى أن يشهد بما فعل ويقرّبه ، وبنى الله تعالى جوارحه بنيّة يمكن أن يستعمل في الكلام ، ويكون آلة فيه.

ويقوي هذا الوجه قوله تعالى : (تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) ، ومعلوم أن شهادة اللسان هي فعل صاحب اللسان ، وكذلك باقي الجوارح ، وقد يقول أحدنا لغيره : «أقرّ لسانك بكذا» وإنّما الإقرار بالحيّ ، وكلّ هذا جائز.

__________________

(١) مثل آية ٤٠ سورة رعد.

(٢) مثل آية ١٠ سورة تكوير.

١٣٩

ويمكن أن يكون ذلك عبارة عن وضوح الأمر في لزوم الحجّة لهم والعلم بما فعلوه وكسبوه ، فعبّر عن قوّة العلم بشهادة الجوارح ، كما يقول العربي : «شهدت عيناك بكذا وأقرّت بأنّك فعلت كذا» ، وإنما يريد العلم الّذي ذكرنا. والله أعلم بمراده.

فأمّا الموازين (١) فذهب قوم إلى أنها عبارة عن العدل والتسوية الصحيحة والقسمة المنصفة ، كما يقولون : «أفعال فلان موزونة» و «كلامه بميزان» ، وهذا الوجه أشبه بالفصاحة.

وذهب قوم آخرون إلى أن المراد به الميزان ذو الكفتين ، وأن الأعمال وان لم توزن في نفسها فالصحف المكتوب فيها هذه الأعمال يصحّ الوزن عليها.

وقيل : يجعل النور في احدى الكفّتين علامة للرجحان ، والظلمة في الأخرى علامة للنقصان.

والوجه في حسن ذلك وحسن ما تقدّمه من شهادة الجوارح ما قدّمنا ذكره في وجه حسن المحاسبة والمواقفة.

وأمّا الصراط فقيل : إنّه طريق أهل الجنّة وأهل النار ، وانه يتّسع لأهل الجنّة ويتسهّل سلوكه لهم ، ويضيق على أهل النار ويشقّ سلوكه حتّى يتعثروا ، ولا يجوز أن يكون شاقّا على الجميع كما يقوله الجهّال.

وقيل أيضا : إنّ المراد به الحجج والأدلّة المفرقة بين أهل الجنّة وأهل النار ، والمميّزة بينهم (٢).

ـ (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [نور : ٣٢].

[فيها أمران :

الأوّل : قال الناصر رحمه‌الله :] «الكفاءة معتبرة في النكاح والكفؤ في الدين وفي النسب روايتان» (٣).

__________________

(١) مثل آية ٩ سورة الأعراف.

(٢) الذخيرة : ٥٣٠.

(٣) أفاد في البحر : أنهما قولان للناصر في اعتبار الكفاءة النسب وعدمه ، ٣ : ٤٩.

١٤٠